الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

الفعل ، كما كانت الألف في اليماني (١) عوضا عن إحدى ياءي النسب ، والذي يدل على أنها عوض عن الفعل أنه لا يجوز ذكر الفعل معها ؛ لئلا يجمع بين العوض والمعوض ، ونحن وإن اختلفنا في أنّ «أن» هاهنا هل هي بمعنى إن الشرطية أو أنها في تقدير لأن فما اختلفنا في أن «ما» عوض عن الفعل ، وكذلك أيضا قولهم «إمّا لا فافعل هذا» تقديره : إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا ؛ لأن الأصل في هذا أن الرجل تلزمه أشياء ، فيطالب بها ، فيمتنع منها ، فيقنع منه ببعضها ، فيقال له «إمّا لا فافعل هذا» أي : إن لم تفعل ما يلزمك فأفعل هذا ، ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال وزيدت «ما» على «إن» عوضا عنه فصارا بمنزلة حرف واحد ، والذي يدل على أنها صارت عوضا عن الفعل أنه يجوز إمالتها فيقال «إما لا» بالإمالة كما أمالوا «بلى» و «يا» في النداء ، فلو لم تكن كافية من الفعل وإلا لما جازت إمالتها ؛ لأن الأصل في الحروف أن لا تدخلها الإمالة ، فلما جاز إمالتها هاهنا دل على أنها كافية من الفعل ، كما كانت «بلى» و «يا» كذلك ، وكذلك أيضا قالوا «من سلّم عليك فسلّم عليه ومن لا فلا تعبأ به» وتقديره : ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به ، وقال الشاعر :

[٣٣] فطلّقها فلست لها بندّ

وإلّا يعل مفرقك الحسام

أراد : وإلّا تطلقها يعل ، وكذلك قالوا «حينئذ الآن» تقديره : واسمع الآن ، ومعناه أن ذاكرا ذكر شيئا فيما مضى يستدعي في الحال مثله فقال له المخاطب «حينئذ الآن» أي : كان الذي تذكره حينئذ ، واسمع الآن ، أو دع الآن ذكره أو [٣٨] نحو ذلك من التقدير ، وكذلك قالوا «ما أغفله عنك شيئا» وتقديره : انظر شيئا ، كأن قائلا قال «ليس بغافل عني» فقال المجيب : ما أغفله عنك شيئا ، أي انظر شيئا ، فحذف. والحذف في كلامهم لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يحصى ؛

______________________________________________________

[٣٣] هذا البيت من كلام الأحوص ، واسمه محمد بن عبد الله الأنصاري ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ١٠٩٠) وأوضح المسالك (رقم ٥١٦) ومغني اللبيب (رقم ٩٠٥) وابن عقيل (رقم ٣٤٥) وقوله «طلقها» أمر من التطليق وهو فصم عروة الزواج وحل العصمة «ند» أي مكافىء ، ويروى «بكفء» وهو بضم الكاف وسكون الفاء وآخره همزة ـ المساوي في نسب وغيره مما تعتبره الشريعة صفات لازمة للتكافؤ بين الزوجين «مفرقك» المفرق ـ بزنة المجلس والمقعد ـ وسط الرأس «الحسام» السيف ، والاستشهاد به في قوله «وإلا» فإن هذه الكلمة مؤلفة من حرفين أولهما إن الشرطية ، والثاني لا النافية ، وقد حذف فعل الشرط ، وأصل الكلام : وإن لا تطلقها يعل ـ الخ.

__________________

(١) اليماني : نسبة إلى اليمن ، وأصل القياس أن يقال «يمني» بلفظ المنسوب إليه مضافا إليه ياء مشددة ، ولكنهم حذفوا إحدى الياءين وعوضوا منها ألفا بعد الميم ، ونظيره قولهم شآم في النسبة إلى الشأم.

٦١

فدل على أنّ الفعل محذوف هاهنا بعد «لو لا» وأنه اكتفى بلولا ، على ما بيّنا ؛ فوجب أن يكون مرفوعا بها.

والذي يدل على أن الاسم يرتفع بها دون الابتداء أن «أنّ» إذا وقعت بعدها كانت مفتوحة نحو قولك «لو لا أن زيدا ذاهب لأكرمتك» ولو كانت في موضع الابتداء لوجب أن تكون مكسورة ؛ فلما وجب الفتح دل على صحة ما ذهبنا إليه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يرتفع بالابتداء دون «لو لا» وذلك لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصّا ، ولو لا لا تختصّ بالاسم دون الفعل ، بل قد تدخل على الفعل كما تدخل على الاسم ، قال الشاعر :

[٣٤] قالت أمامة لمّا جئت زائرها :

هلّا رميت ببعض الأسهم السّود

لا درّ درّك ؛ إنّي قد رميتهم

لو لا حددت ولا عذري لمحدود

______________________________________________________

[٣٤] أنشد ابن يعيش هذين البيتين ، ونسبهما إلى الجموح ، وأنشدهما الرضي من غير عزو ، وشرحهما البغدادي في الخزانة ١ / ٢٢١ ، وأنشدهما ابن منظور (ع ذ ر) ونسبهما للجموح الظفري ، ثم قال : «يقال : هذا الشعر لراشد بن عبد ربه ، وكان اسمه غاويا ، فسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم راشدا» اه ، وأمامة : اسم امرأة ، والأسهم السود : يقال هي كناية عن الأسطر المكتوبة ، يعني هلا كتبت لي كتابا ، ويقال : الأسهم السود نظر مقلتيه ، وكلا هذين التفسيرين مما لا أستسيغه ، ولا هو مما يلتئم مع البيت التالي ، وحددت : معناه حرمت ومنعت وفارقني الجد والحظ ، والعذرى ـ بضم العين وسكون الذال ـ المعذرة ، واستشهاد المؤلف بهذا البيت للبصريين في قوله «لو لا حددت» حيث دخلت لو لا على الفعل ، وقد دخلت على الاسم في شواهد كثيرة ، وذلك يدل على أنها ليست مختصة بالاسم ولا هي مختصة بالدخول على الفعل ، بل تدخل على كل واحد من القبيلين ، ومتى سلم أنها ليست مختصة بأحد القبيلين لم تكن عاملة ؛ لأن من المقرر عندهم أن كل حرف مشترك لا يعمل في أحد القبيلين ، وهذا الكلام منقوض من ثلاثة أوجه : الأول : أنا لا نسلم أن «لو لا» في هذا الشاهد هي لو لا التي نقول نحن يا معشر الكوفيين إنها ترفع الاسم الذي يليها ، بل هي مؤلفة من حرفين الأول لو التي هي حرف امتناع لامتناع. والثاني لا النافية ، وهذا هو الوجه الذي ذكره المؤلف ، وسيأتي في شرح الشاهد ٣٧ كلام على هذا الوجه ، والوجه الثاني : نسلم أن «لو لا» التي في هذا الشاهد هي لو لا التي وقع الخلاف بيننا وبينكم بشأنها ، لكن لا نسلم أنها داخلة على الفعل في اللفظ والتقدير جميعا ، بل هي داخلة على الاسم عند التحقيق ، وذلك أن الكلام على تقدير أن المصدرية التي تنسبك مع هذا الفعل بالاسم ، وأصل الكلام لو لا أن حددت ، فحذف الشاعر أن وهو ينويها ، والتقدير : لو لا الحد ، أي لو لا المنع والحرمان ، وحذف أن المصدرية مع نيتها واقع في كلام العرب ، والوجه الثالث : أنا لا نسلم ما أصلتموه من القاعدة القائلة إن الحرف المشترك لا يعمل في أحد القبيلين ، فكم من الحروف المشتركة وهو عامل ، مثل ما ولا النافيتين ، وبعض الحروف المختصة لا يعمل شيئا مثل أل ، فالقاعدة غير مطردة ولا منعكسة.

٦٢

فقال «لو لا حددت» فأدخلها على الفعل ؛ فدلّ على أنها لا تختصّ ؛ فوجب أن لا تكون عاملة ، وإذا لم تكن عاملة وجب أن يكون الاسم مرفوعا بالابتداء.

والذي يدل على أنه ليس مرفوعا بلولا بتقدير لو لم يمنعني زيد لأكرمتك أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يعطف عليها بولا ؛ لأن الجحد يعطف عليه بولا ، قال الله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٢] ثم قال الشاعر :

[٣٥] فما الدّنيا بباقاة لحيّ

ولا حيّ على الدّنيا بباق

قوله «بباقاة» أراد بباقية ، فأبدل من الكسرة فتحة ، فانقلبت الياء ألفا ، وهي لغة طيّىء ، وقال الآخر :

[٣٦] وما الدّنيا بباقية بحزن

أجل ، لا ، لا ، ولا برخاء بال

فلما لم يجز أن يقال «لو لا أخوك ولا أبوك» دلّ على فساد ما ذهبوا إليه.

والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون.

وأما الجواب عن كلمات البصريين : أما [٣٩] قولهم «إن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصّا ، ولو لا حرف غير مختصّ» قلنا : نسلم أن الحرف لا يعمل إلا إذا

______________________________________________________

[٣٥] قول الشاعر «بباقاة» أراد بباقية ، اسم فاعل من البقاء ، ولغة جمهرة العرب تقتضي بقاء هذه الياء على حالها مثل راغية وثاغية وراضية وحامية ؛ لأنهم لا يقلبون الواو والياء المتحركتين ألفا إلا أن يكون ما قبلهما مفتوحا نحو سما وعدا وغدا وبدا ونحو الندى والهدى والتقى ؛ فإن انكسر ما قبلهما أو انضم سلمتا نحو العوض والحيل والسور ، وإنما يقلبها لمجرد تحركها طيّىء وحدهم ، وقد ورد عنهم في كل فعل واوي اللام أو يائي اللام وهو مكسور العين قلب واوه أو يائه ألفا فيقولون : رضا وبقى وحيا بفتح العين وقلب اللام ألفا ، وجمهور العرب يقولون : رضي وبقي وحيي بكسر العين وبقاء الياء إن كانت اللام ياء أو قلب الواو ياء لتطرفها وانكسار ما قبلها كما في نحو رضي. والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا حي ـ الخ» فإن هذه الكلمة معطوفة على قوله «فما الدنيا ـ الخ» والمعطوف عليه منفي بما ؛ فلزم إدخال حرف النفي الذي هو لا على المعطوف بعد واو العطف.

[٣٦] أصل الرخاء سعة العيش ، وفعله من أبواب كرم ودعا وسعى ورضى ، وهو راخ ورخى ، ويقولون «فلان رخي البال» يريدون أنه في نعمة وأنه واسع الحال ، والاستشهاد بهذا البيت في قوله «ولا برخاء بال» فإن هذه الكلمة معطوفة على قوله «بحزن» وقد قرن بواو العطف حرف النفي كما نرى.

٦٣

كان مختصّا ، ولكن لا نسلم أن لو لا غير مختص. قولهم «إنه يدخل على الفعل كما يدخل على الاسم ، كما قال الشاعر :

* لولا حددت ولا عذرى لمحدود* [٣٤]

فأدخلها على الفعل» قلنا : لو التي في هذا البيت ليست مركبة مع «لا» كما هي مركبة مع لا في قولك «لو لا زيد لأكرمتك» وإنما لو حرف باق على أصله من الدلالة على امتناع الشيء لامتناع غيره ، و «لا» معها بمعنى لم ؛ لأن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل ، فكأنه قال : قد رميتهم لو لم أحد ، وهذا كقوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١] أي : لم يقتحم العقبة ، وكقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] أي : لم يصدّق ولم يصلّ ، وكقول الشاعر :

[٣٧] إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا

______________________________________________________

[٣٧] أنشد هذا البيت ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٤٠٦) وقال قبل إنشاده «وقال أبو خراش الهذلي وهو يطوف بالبيت» وأنشده ابن منظور (ل م م) ونسبه إلى أمية بن أبي الصلت ، ثم قال «قال ابن بري : الشعر لأمية بن أبي الصلت ، قال : وذكر عبد الرحمن عن عمه (الأصمعي) عن يعقوب عن مسلم بن أبي طرفة الهذلي ، قال : مرّ أبو خراش يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول :

لا هم هذا خامس إن تما

أتمه الله ، وقد أتما

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك لا ألما» اه

وتقول «ألم الرجل» إذا أتى بصغار الذنوب ، مأخوذ من اللمم وهو صغار الذنوب ، والاستشهاد بالبيت في قوله «لا ألما» فإن المؤلف زعم أن لا في هذا البيت بمعنى لم ، والماضي بمعنى المضارع ، وكأن الشاعر قد قال «وأي عبد لك لم يأت بصغار الذنوب» ، والسر في ذلك هو أن النحاة يرون أن النافية إذا دخلت على فعل ماض لفظا ومعنى وجب تكرارها ، مثل ما في قوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) ومثل ما جاء في الحديث «فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» ومثل قول الهذلي «كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل» :

فإن كان الفعل ماضي اللفظ دون المعنى لم يجب التكرار ، نحو قول الشاعر :

حسب المحبين في الدنيا عذابهم

تالله لاعذبتهم بعدها سقر

فإن عذاب سقر مستقبل لا سابق ، ومن هذا الباب فعل الدعاء نحو قولهم «لا فض الله فاك» وقول الشاعر :

لا بارك الله في الغواني! هل

يبتن إلا لهن مطلب؟

فلما ورد على النحاة بيت الشاهد والبيت الذي يليه (رقم ٣٨) وقول السفاح ابن بكير اليربوعي :

من يك لاساء فقد ساءني

ترك أبينيك إلى غير راع

٦٤

وكقول الآخر :

[٣٨]* وأيّ أمر سيّىء لا فعله*

أي : لم يفعله ، فكذلك هاهنا قوله «لو لا حددت» أي لو لم أحدّ ؛ فدلّ على أن «لو لا» هذه ليست لو لا التي وقع فيها الخلاف ، فدلّ على أنها مختصة بالأسماء دون الأفعال ، فوجب أن تكون عاملة على ما بيّنا.

وأما قولهم «لو كانت لو لا هي العاملة لأن التقدير لو لم يمنعني زيد لكان فيها معنى الجحد ، فكان ينبغي أن يعطف عليها بولا : لأن الجحد يعطف عليه بولا إلى آخر ما قرّروه» قلنا : إنما لم يجز ذلك لأن «لو لا» مركبة من لو ولا ، فلما ركبتا خرجت لو من حدها ولا من الجحد ؛ إذ ركبتا فصيّرتا حرفا واحدا ؛ فإن الحروف إذا ركب بعضها مع بعض تغيّر حكمها الأول ، وحدث لها بالتركيب حكم آخر ، كما قلنا في «لو لا» بمعنى التّحضيض ، ولو ما وألّا وما أشبهه ، وكذلك هاهنا ؛ فلهذا لم يجز العطف عليها بولا ، والله أعلم.

______________________________________________________

وذلك من قبل أن لا النافية في قول الشاعر «لا ألما» وقول الآخر «لا فعله» وقول الثالث «لا ساء» قد دخلت على أفعال ماضية في اللفظ والمعنى ـ لما رأى النحاة ذلك انطلقوا يلتمسون لأنفسهم مخرجا ، فأما المؤلف فقد سمعت كلامه ، وأما قوم آخرون فقد زعموا في بعض ذلك أن «لا» مكررة في المعنى وإن لم تتكرر في اللفظ ، ومن أمثلة ذلك ما قاله الزمخشري في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال «فإن قلت : قلما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة ؛ فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت : هي متكررة في المعنى ؛ لأن المعنى : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ، ألا ترى أنه فسر العقبة بذلك» اه ، وتفسير العقبة هو قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) وذهب قوم في الشواهد التي ذكرناها إلى أنها شاذة لا يقاس عليها ولا تنبني عليها قاعدة.

[٣٨] هذا بيت من الرجز المشطور ، وقد أنشده ابن منظور (ز ن ى) ولم يعزه ، وقد استشهد به رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٢٢٨) ونسبه لشهاب بن العيف ، وهو أيضا من شواهد الكشاف في تفسير سورة البلد ، ومن شواهد مغني اللبيب (رقم ٤٠٥) وقبله قول الراجز :

لا هم إن الحارث بن جبله

زنى على أبيه ثم قتله

* وكان في جاراته لا عهد له*

وقوله «زنى على أبيه» يروى بتخفيف النون ويروى بتشديدها ، ومعناها ضيق على أبيه ، وقال ابن هشام «أصله زنى بامرأة أبيه ، فحذف المضاف ، وأناب على عن الباء» اه ، وهو تكلف لا مبرر له ، والاستشهاد بالبيت في قوله «لا فعله» حيث دخلت لا النافية على الفعل الماضي لفظا ومعنى ولم تتكرر ، والمؤلف يذكر أن لا بمعنى لم والماضي بمعنى المضارع ، على نحو ما أسلفناه لك في شرح الشاهد السابق.

٦٥

[٤٠] ١١

مسألة

[القول في عامل النّصب في المفعول](١)

ذهب الكوفيون إلى أن العامل في المفعول النصب الفعل والفاعل جميعا ، نحو «ضرب زيد عمرا». وذهب بعضهم إلى أن العامل هو الفاعل ، ونصّ هشام بن معاوية صاحب الكسائي على أنك إذا قلت «ظننت زيدا قائما» تنصب زيدا بالتاء وقائما بالظن. وذهب خلف الأحمر من الكوفيين إلى أن العامل في المفعول معنى المفعولية ، والعامل في الفاعل معنى الفاعلية.

وذهب البصريون إلى أن الفعل وحده عمل في الفاعل والمفعول جميعا.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل في المفعول النصب الفعل والفاعل وذلك لأنه لا يكون مفعول إلا بعد فعل وفاعل ، لفظا أو تقديرا ، إلا أن الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد ، والدليل على ذلك من سبعة أوجه :

الأول : أن إعراب الفعل في الخمسة الأمثلة يقع بعده نحو «يفعلان ، وتفعلان ، ويفعلون ، وتفعلون ، وتفعلين يا امرأة» ولو لا أن الفاعل بمنزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما جاز أن يقع إعرابه بعده.

والوجه الثاني : أنه يسكّن لام الفعل إذا اتصل به ضمير الفاعل ، نحو «ضربت ، وذهبت» لئلا يجتمع في كلامهم أربع حركات متواليات في كلمة واحدة ، ولو لا أن ضمير الفاعل بمنزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما سكنت لام الفعل لأجله.

والوجه الثالث : أنه يلحق الفعل علامة التأنيث إذا كان الفاعل مؤنثا ، فلولا أنه يتنزل منزلة بعضه وإلا لما ألحق علامة التأنيث ؛ لأن الفعل لا يؤنّث ، وإنما يؤنث الاسم.

__________________

(١) انظر في شرح هذه المسألة : شرح المفصل (ص ١٥٣) وشرح الكافية (١ / ١١٥) وأسرار العربية للمؤلف (ص ٣٧ ط ليدن) والتصريح للشيخ خالد الأزهري (١ / ٣٧٤ بولاق).

٦٦

والوجه الرابع : أنهم قالوا «حبّذا» فركبوا حبّ وهو فعل مع ذا وهو اسم ؛ فصارا بمنزلة شيء واحد ، وحكم على موضعه بالرفع على الابتداء.

والوجه الخامس : أنهم قالوا في النسب إلى كنت «كنتيّ» فأثبتوا التاء (١) ولو لم يتنزل ضمير الفاعل منزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما جاز إثباتها.

والوجه السادس : أنهم قالوا «زيد ظننت منطلق» فألغوا ظننت ، ولو لا أن الجملة من الفعل [٤١] والفاعل بمنزلة المفرد وإلا لما جاز إلغاؤها ؛ لأن العمل إنما يكون للمفردات لا للجمل.

والوجه السابع : أنهم قالوا للواحد «قفا» على التثنية ؛ لأن المعنى قف قف ، قال الله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤] فثنى وإن كان الخطاب لملك واحد وهو مالك خازن النار ؛ لأن المعنى : ألق ألق ، والتثنية إنما تكون للأسماء لا للأفعال ؛ فدل على أن الفاعل مع الفعل بمنزلة الشيء الواحد.

وإذا كان الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد ، وكان المفعول لا يقع إلا بعدهما ؛ دلّ على أنه منصوب بهما ، وصار هذا كما قلتم في الابتداء والمبتدأ إنهما يعملان في الخبر ؛ لأنه لا يقع إلا بعدهما. والذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون الناصب للمفعول هو الفعل وحده أنه لو كان هو الناصب للمفعول لكان يجب أن يليه ، ولا يجوز أن يفصل بينه وبينه ؛ فلما جاز الفصل بينهما دل على أنه ليس هو العامل فيه وحده ، وإنما العامل فيه الفعل والفاعل.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن الناصب للمفعول هو الفعل دون الفاعل وذلك لأنا أجمعنا على أن الفعل له تأثير في العمل ، أما الفاعل فلا تأثير له في العمل ؛ لأنه اسم ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل ، وهو باق على أصله في الاسمية ؛ فوجب أن لا يكون له تأثير في العمل ، وإضافة ما لا تأثير له في العمل إلى ما له تأثير ينبغي أن يكون لا تأثير له.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الناصب للمفعول الفعل والفاعل لأنه لا يكون إلا بعدهما ـ إلى آخر ما قرروا» قلنا : هذا لا يدل على أنهما العاملان فيه ؛ لما بيّنا أن الفاعل اسم ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل ، وبهذا يبطل قول من ذهب منهم إلى أن الفاعل وحده هو العامل ، والكلام عليه كالكلام على من ذهب من البصريين إلى أن الابتداء والمبتدأ يعملان في الخبر لهذا المعنى ،

__________________

(١) مثل ما في قول الشاعر :

فأصبحت كنتيا ، وأصبحت عاجنا

وشر خصال المرء كنت وعاجن

٦٧

وقد بيّنا فساد ذلك مستقصى في مسألة المبتدأ والخبر ؛ فلا نعيده هاهنا.

وأما قولهم «لو كان الفعل هو العامل في المفعول لكان يجب أن يليه ولا يفصل بينه وبينه» قلنا : هذا يبطل بإنّ ؛ فإنا أجمعنا على أنه يجوز أن يقال «إن في الدار لزيدا ، وإن عندك لعمرا» قال الله سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) [البقرة : ٢٤٨] وقال [٤٢] تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) [المزمل : ١٢] فنصب الاسم بإنّ وإن لم تله فكذلك هاهنا ؛ وإذا لم يلزم ذلك في الحرف ـ وهو أضعف من الفعل ؛ لأنه فرع عليه في العمل ـ فلأن لا يلزم ذلك في الفعل وهو أقوى كان ذلك من طريق الأولى ، على أنا نقول : إن الفعل قد ولي المفعول ؛ لأن الفعل لما كان أقوى من حرف المعاني صار يعمل عملين ؛ فهذا بذاته رافع للفاعل وناصب للمفعول ؛ لزيادته على حروف المعاني ؛ فتقديره تقدير ما عمل وليس بينه وبين معموله فاصل ، وإذا لم يكن بينه وبين معموله فاصل بان أنه قد وليه العامل (١) ، فدل على أن العامل هو الفعل وحده.

وأما ما ذهب إليه الأحمر من إعمال معنى المفعولية والفاعلية فظاهر الفساد ؛ لأنه لو كان الأمر كما زعم لوجب أن لا يرتفع ما لم يسمّ فاعله نحو «ضرب زيد» لعدم معنى الفاعلية ، وأن ينصب الاسم في نحو «مات زيد» لوجود معنى المفعولية ، فلما ارتفع ما لم يسمّ فاعله مع وجود معنى المفعولية وارتفع الاسم في نحو «مات زيد» مع عدم معنى الفاعلية ؛ دل على فساد ما ذهب إليه. والله أعلم.

__________________

(١) كذا ، ولعل الصواب «بان أنه قد وليه المعمول».

٦٨

١٢

مسألة

[القول في ناصب الاسم المشغول عنه](١)

ذهب الكوفيون إلى أن قولهم «زيدا ضربته» منصوب بالفعل الواقع على الهاء ، وذهب البصريون إلى أنه منصوب بفعل مقدر ، والتقدير فيه : ضربت زيدا ضربته.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء ، وذلك لأن المكنيّ ـ الذي هو الهاء العائد ـ هو الأول في المعنى ؛ فينبغي أن يكون منصوبا به ، كما قالوا «أكرمت أباك زيدا ، وضربت أخاك عمرا».

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب بفعل مقدر وذلك لأن في الذي ظهر دلالة عليه ، فجاز إضماره استغناء بالفعل الظاهر عنه ، كما لو كان متأخرا وقبله ما يدل عليه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : قولهم «إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء لأن المكنيّ هو الأول [٤٣] في المعنى ، فينبغي أن يكون منصوبا به كقولهم : «أكرمت أباك زيدا» على البدل ، وجاز أن يكون بدلا لأنه تأخر عن المبدل عنه ؛ إذ لا يجوز أن يكون البدل إلا متأخرا عن المبدل منه ، وأما هاهنا فقد تقدم زيد على الهاء ؛ فلا يجوز أن يكون بدلا منها ؛ لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه ، على أنّا نقول : إن العامل في البدل عندنا غير العامل في المبدل منه ، وإن العامل في المبدل منه على تقدير التكرير في البدل ، والذي يدل على ذلك إظهاره في البدل كما أظهر في المبدل منه ، قال الله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥] فقوله : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من قوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) فأظهر العامل في البدل كما

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : التصريح للشيخ خالد (١ / ٣٥٠ بولاق) وحاشية الصبان على الأشموني (٢ / ٥٧ وما بعدها) وشرح المفصل (ص ١٩٨ وما بعدها) وشرح الرضي على الكافية (١ / ١٤٨).

٦٩

أظهره في المبدل منه ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣] فقوله : (لِبُيُوتِهِمْ) بدل من قوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ) فأظهر العامل في البدل كما أظهره في المبدل منه ، فدلّ على أنه في تقدير التكرير ، وأن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه ، والله أعلم.

٧٠

١٣

مسألة

[القول في أولى العاملين بالعمل في التنازع](١)

ذهب الكوفيون في إعمال الفعلين ، نحو «أكرمني وأكرمت زيدا ، وأكرمت وأكرمني زيد» إلى أن إعمال الفعل الأول أولى ، وذهب البصريون إلى أن إعمال الفعل الثاني أولى.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن إعمال الفعل الأول أولى النقل ، والقياس.

أما النقل فقد جاء ذلك عنهم كثيرا ، قال امرؤ القيس :

[٣٩] فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال

______________________________________________________

[٣٩] ـ البيت كما قال المؤلف من قصيدة لامرىء القيس بن حجر الكندي ؛ مطلعها قوله :

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟

وقد استشهد بالبيت رضي الدين في باب التنازع ، وشرحه البغدادي (١ / ١٥٨) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٤١٧ بتحقيقنا) وفي شرح قطر الندى (رقم ٨١) والأشموني (رقم ٤٠٧) وسيبويه (١ / ٤١) وابن يعيش (ص ٩٥) وسيذكر المؤلف فيما يلي البيت التالي لهذا البيت من القصيدة ، و «لو» حرف شرط يدل على امتناع الشرط ، وفهم الامتناع منه كالبديهي ، فإن كل من سمع قائلا يقول «لو كان كذا» أو «لو فعل فلان كذا» فهم عدم وقوع الفعل من غير تردد ، ولهذا يصح في كل موضع استعملت فيه لو أن تعقبه بحرف الاستدراك داخلا على فعل الشرط منفيا لفظا أو معنى ، تقول «لو جاءني أكرمته ، لكنه لم يجىء» ومنه قول الشاعر :

فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت

ولكن حمد الناس ليس بمخلد

وقول الحماسي :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ، ولكنه لم يطر ـ

__________________

(١) انظر في شرح هذه المسألة : حاشية الصبان على الأشموني (٢ / ٨٧ بولاق) وتصريح الشيخ خالد (١ / ٣٨٦ بولاق) وشرح الأشموني (٢ / ٣١٠ بتحقيقنا) ، وشرح المفصل لابن يعيش (ص ٩٤ أوربة) وشرح الرضي على الكافية (١ / ٧٠).

٧١

فأعمل الفعل الأول ، ولو أعمل الثاني لنصب «قليلا» وذلك لم يروه أحد ، وقال رجل من بني أسد :

[٤٠] [٤٤]فردّ على الفؤاد هوى عميدا

وسوئل لو يبين لنا السّؤالا

______________________________________________________

ومثلهما قول الحماسي أيضا ، وهو قريط بن أنيف أحد بني العنبر :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

ثم قال بعد ذلك :

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هاهنا

وذلك أن معنى هذا البيت الأخير : لكنني لست من مازن ، ونظير هذا قول الله تعالى : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ، وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) ومن هنا تعلم أن قول الشلوبين وابن هشام الخضراوي : إن «لو» لا يدل على امتناع شرط ولا جوابه ولكنه يدل على التعليق في الماضي ـ كلام غير مستقيم ، والاستشهاد بالبيت في قوله «كفاني ولم أطلب قليل من المال» فإن المؤلف نقل عن الكوفيين أنهم زعموا أن هذا البيت من باب التنازع لتقدم فعلين على اسم واحد ، وقد أعمل الشاعر أول الفعلين ـ وهو قوله «كفاني» ـ في الاسم المتأخر فرفعه به ، والدليل على ذلك أنه لو أعمل الثاني وهو أطلب لنصب الاسم به ؛ لأنه يطلب مفعولا ، وهذا الكلام غير صحيح ؛ لأن شرط التنازع أن يكون كل واحد من العاملين المتقدمين طالبا للمعمول مع صحة المعنى على فرض عمل أيهما فيه ، وفي هذا البيت لا يتم ذلك ؛ فإنك لو قلت : لو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب ذلك القليل ، لكان كلاما متناقضا لا محصول له ، وإنما يتم معنى بيت امرىء القيس إذا قدرت لقوله «ولم أطلب» مفعولا يدل عليه البيت بعده ، وتقديره «ولم أطلب الملك» وإذا انحل البيت إلى قولك : ولو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك ، كان كلاما صحيحا مقبولا ، ولم أجد من المؤلفين من بين ذلك بيانا شافيا كافيا كابن هشام في كتابه شرح قطر الندى ، فارجع إليه إن شئت.

[٤٠] هذان البيتان من كلام المرار الأسدي ، وهما من شواهد سيبويه (١ / ٤٠) والهوى : العشق ، وعميد : أي فادح يبهظ صاحبه ويدنفه ويسقمه ، فعيل بمعنى فاعل ، وأصله قولهم «عمده المرض» أي أضناه وأوجعه ، و «نغنى» مضارع «غنى بالمكان» من مثال رضي ؛ أي أقام فيه وتوطنه ، ومنه سمي منزل القوم ومحل إقامتهم المغنى ، والخرد ـ بضم الخاء والراء جميعا ـ جمع خريدة ، وهي المرأة الحيية الطويلة السكوت ، أو هي البكر التي لم تمسس ، والخدال ـ بكسر الخاء ـ جمع خدلة ـ بفتح فسكون ـ وهي الغليظة الساق المستديرتها ، والاستشهاد بالبيتين في قوله «ونرى يقتدننا الخرد الخدالا» حيث كانت هذه العبارة من باب التنازع لتقدم فعلين هما نرى ويقتاد ، وتأخر معمول هو الخرد الخدال ، وقد أعمل الشاعر الفعل الأول في هذا المعمول بدليل أنه نصبه وأتى بضميره معمولا للفعل الثاني وهو نون النسوة ، ولو أنه أعمل الفعل الثاني لقال : نرى يقتادنا الخرد الخدال ، فيرفع المعمول على أنه فاعل ليقتاد ويحذف ضميره لكون الأول يطلب معمولا فضلة ، وهذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى ، وهو مذهب الكوفيين ، والحق أن هذه الشواهد كلها لا تدل على أكثر من أن إعمال العامل الأول جائز ، وهو ما لا يختلف فيه أحد ، فأما أولويته فلا.

٧٢

وقد نغنى بها ونرى عصورا

بها يقتدننا الخرد الخدالا

فأعمل الأول ، ولذلك نصب «الخرد الخدالا» ولو أعمل الفعل الثاني لقال : «تقتادنا الخرد الخدال» بالرفع ، وقال الآخر :

[٤١] ولمّا أن تحمّل آل ليلى

سمعت بينهم نعب الغرابا

فأعمل الأول ، ولذلك نصب الغراب ، ولو أعمل الثاني لوجب أن يرفع.

وأما القياس فهو أن الفعل الأول سابق الفعل الثاني ، وهو صالح للعمل كالفعل الثاني ، إلا أنه لما كان مبدوءا به كان إعماله أولى ؛ لقوة الابتداء والعناية به ؛ ولهذا لا يجوز إلغاء «ظننت» إذا وقعت مبتدأة ، نحو «ظننت زيدا قائما» بخلاف ما إذا وقعت متوسطة أو متأخرة ، نحو «زيد ظننت قائم ، وزيد قائم ظننت» وكذلك لا يجوز إلغاء «كان» إذا وقعت مبتدأة نحو «كان زيد قائما» بخلاف ما إذا كانت متوسطة ، نحو «زيد كان قائم» فدل على أن الابتداء له أثر في تقوية عمل الفعل.

والذي يؤيد أن إعمال الفعل الأول أولى من الثاني أنك إذا أعملت الثاني أدّى إلى الإضمار قبل الذّكر ، والإضمار قبل الذّكر لا يجوز في كلامهم.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الاختيار إعمال الفعل الثاني النقل ، والقياس.

أما النقل فقد جاء كثيرا ، قال الله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف :

______________________________________________________

[٤١] ـ تحمل آل ليلى : وضعوا حمولهم وهموا بالارتحال ، والبين ـ بالفتح ـ البعد والفراق. والاستشهاد بالبيت في قوله «سمعت ببينهم نعب الغرابا» فإن هذه العبارة من باب الاشتغال ، حيث تقدم عاملان ـ وهما سمعت ، ونعب ـ وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله الغراب ـ والأول يطلبه مفعولا لأنه استوفى فاعله ، والثاني يطلبه فاعلا لأنه فعل لازم ولم يستوف فاعله ظاهرا ، وقد أعمل الشاعر العامل الأول في هذا المعمول فنصبه به ، ولو أنه أعمل العامل الثاني لرفعه ، فكان يقول «سمعت ببينهم نعب الغراب» وقد زعم الكوفيون أن هذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى من إعمال العامل الثاني ، ولكن الحقيقة أن هذا الشاهد ونحوه يدل على جواز إعمال العامل الأول ، فأما الدلالة على أولوية ذلك فلا دلالة للبيت ولا لغيره عليه ، وورود شواهد أخرى فيها إعمال العامل الثاني دون الأول يدل على جواز إعمال الثاني ، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنها تدل على أولويته ، فليكن المقرر أن إعمال الأول جائز وإعمال الثاني جائز أيضا. وليس إعمال أحدهما بأولى من إعمال الآخر ، وستأتي لهذا الكلام بقية مع الشواهد ٤٢ و ٤٤ و ٤٨.

ونظير هذا قول رياح الزنجي :

إن الفرزدق صخرة عادية

طالت ، فليس تنالها الأجبالا

يريد طالت الأجبال ، أي غلبتها في الطول ، فليس تنالها الأجبال.

٧٣

فأعمل الفعل الثاني ، وهو أفرغ ، ولو أعمل الفعل الأول لقال : أفرغه عليه ، وقال تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] فأعمل الثاني وهو اقرءوا ، ولو أعمل الأول لقال : اقرءوه ، وجاء في الحديث «ونخلع ونترك من يفجرك» فأعمل الثاني ، ولو أعمل الأول لأظهر الضمير بدّا ، وقال الشاعر وهو الفرزدق :

[٤٢] ولكنّ نصفا لو سببت وسبّني

بنو عبد شمس من مناف وهاشم

فأعمل الثاني ، ولو أعمل الأول لقال «سببت وسبوني بني عبد شمس» بنصب «بني» وإظهار الضمير في سبني ، وقال طفيل الغنوي :

[٤٣] وكمتا مدمّاة كأنّ متونها

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

______________________________________________________

[٤٢] ـ هذا البيت كما قال المؤلف للفرزدق همام بن غالب ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٩) وابن يعيش (ص ٩٤) وهو في ديوان الفرزدق (ص ٨٤٤) ثاني بيتين ، والبيت الذي قبله هو قوله :

وليس بعدل أن سببت مجاشعا

بآبائي الشم الكرام الخضارم

وقوله فيما روى المؤلف «ولكن نصفا» أي إنصافا وعدلا ، وفي الديوان «ولكن عدلا» وقوله «بنو عبد شمس من مناف وهاشم» ليس بمستقيم ؛ فإن هاشما ليس بابن عبد شمس ، وإنما هو ابن عبد مناف ، وقد جاء الفرزدق بهذه العبارة على وجهها الصحيح مرارا ، من ذلك قوله من قصيدة يمدح فيها يزيد بن عبد الملك :

وإن لكم عيصا ألف غصونه

له ظل بيتي عبد شمس وهاشم

ومن ذلك قوله من قصيدة يهجو فيها أحد بني باهلة :

وهل في معد من كفاء نعده

لنا غير بيتي عبد شمس وهاشم

ومن ذلك قوله من قصيدة يهجو فيها باهلة وبني عامر بن صعصعة وجريرا :

ولو سئلت من كفؤ الشّمس أومأت

إلى ابني مناف عبد شمس وهاشم

والاستشهاد بالبيت في قوله «سببت وسبني بنو عبد شمس» فإن هذه العبارة من باب الاشتغال حيث تقدم فيها عاملان ـ وهما قوله سببت وقوله سبني ـ وتأخر عنهما معمول واحد هو قوله «بنو عبد شمس» والأول يطلبه مفعولا والثاني يطلبه فاعلا ، وقد أعمل فيه الثاني ، ولو أنه أعمل الأول لقال «سببت وسبوني بني عبد شمس» وهذا يدل على أن إعمال العامل الثاني في باب التنازع جائز ، ولكنه كما قلنا من قبل لا يدل على أنه أولى من إعمال العامل الأول ؛ وإذا كانت الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم قد أعمل العامل الأول في بعضها وأعمل العامل الثاني في بعضها الآخر ، فقد تكافأ العاملان في جواز الإعمال ، ولم يبق أحدهما أولى من أخيه ، فأما سبق الأول صاحبه وقرب الآخر من المعمول فلا يفيد ، فإنا نعلم أن الأفعال تعمل متقدمة على المعمول ومتأخرة عنه ، وتعمل متصلة بمعمولها ومنفصلة منه ، وذلك كله واقع في أفصح كلام ، ولهذا نرى أن الخلاف في هذه المسألة مما لا طائل له.

[٤٣] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ من قصيدة لطفيل بن كعب الغنوي ، وهو من شعراء

٧٤

[٤٥] وقال الآخر ، وهو رجل من بأهلة :

[٤٤] ولقد أرى تغنى به سيفانة

تصبي الحليم ومثلها أصباه

______________________________________________________

الجاهلية ، وقد اشتهر بوصف الخيل ، حتى قال عبد الملك بن مروان : من أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيل ، والبيت الشاهد في وصف الخيل أيضا ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٩) وشرح المفصل (ص ٩٤) والأشموني (رقم ٤١٦) والمكمت : جمع أكمت وإن لم يكن هذا المفرد مستعملا ، وإنما المستعمل «كميت» بزنة المصغر ـ قال شارح الجمل : الكميت من الأسماء المصغرة التي لا تكبير لها ، وهو مصغر أكمت تصغير الترخيم بمنزلة حميد من أحمد غير أن أكمت لم يستعمل ، والكميت : الذي لونه الحمرة يخالطها سواد ، ومدماة : شديدة الحمرة حتى كأنها قد طليت بالدم ، والمتون : جمع متن ، وهو الظهر ، وجرى : سال ، واستشعرت لون مذهب : جعلت هذا اللون شعارها ، وأصل الشعار ـ بزنة الكتاب ـ العلامة يتخذها المحارب ليعرف بها ، أو هو ما يلي الجسد من الثياب ، والمذهب ـ بزنة المكرم ـ المموه بالذهب. والاستشهاد به في قوله «جرى فوقها واستشعرت لون مذهب» فإن هذا الكلام من باب التنازع ؛ فقد تقدم عاملان ـ وهما قوله جرى وقوله استشعرت ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله لون مذهب ـ وكل واحد من هذين العاملين يطلب هذا المعمول ، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني منهما في لفظ المعمول ، ولو أعمل الأول منهما لرفع «لون مذهب» لأن الأول يطلبه فاعلا ، ولأني بضمير المعمول بارزا مع العامل الثاني ، فكان يقول : جرى فوقها واستشعرته لون مذهب.

[٤٤] هذا البيت من شواهد سيبويه أيضا (١ / ٣٩) ولم يزد في نسبته عما نقله المؤلف ، وتغنى به : مضارع «غني بالمكان يغنى ـ على مثال رضي يرضى» أي أقام ، وتصبي الحليم : تورثه الصبوة ، وهي الميل إلى شهوات الصبا وملذاته. والاستشهاد به في قوله «أرى تغنى به سيفانة» فإن هذه العبارة من باب التنازع لتقدم عاملين ـ وهما قوله أرى وقوله تغنى به ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله سيفانة ـ وأول العاملين يطلب هذا المعمول مفعولا ، وثانيهما يطلبه فاعلا ، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني في هذا المعمول ؛ بدليل مجيئه مرفوعا ، ونظير هذه الشواهد في إعمال العامل الثاني قول الشاعر :

إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب

جهارا فكن في الغيب أحفظ للود

وقول الآخر :

هوينني وهويت الغانيات إلى

أن شبت فانصرفت عنهن آمالي

وقول الآخر :

جفوني ولم أجف الأخلاء ؛ إنني

لغير جميل من خليلي مهمل

ثم نقول : قد تبين لك أن كلام العرب قد جاء بإعمال أول العاملين في لفظ المعمول المتأخر عنهما ، وبإعمال العامل الثاني في لفظه أيضا ، ومن إعمال العامل الأول الشواهد التي استدل بها الكوفيون ، ومن إعمال الثاني الشواهد التي استدل بها البصريون ؛ فليس لواحد من الفريقين أن يدعي أن الاستعمال العربي يؤيده وحده ؛ لأن الاستعمال العربي يؤيد كل واحد منهما ، وكل ما هناك أنه يبقى سؤال ، وهو هل العامل الأول أولى بالعمل

٧٥

وقال الآخر :

[٤٥] قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه

وعزّة ممطول معنّى غريمها

______________________________________________________

لكونه متقدما وقد طلب المعمول قبل أن يطلبه الثاني ، أم العامل الثاني أولى لكونه أقرب إلى المعمول ومجاورا له ، وأما العامل الأول فهو مفصول من المعمول بالعامل الثاني على الأقل؟ ولا نرى لك أن تحاول ترجيح إحدى هاتين القضيتين ؛ فإن لكل منهما مستندا من التعليل والقياس ، لا من الاستعمال العربي.

[٤٥] هذا البيت لكثير بن عبد الرحمن المشهور بكثير عزة ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٤١١) وأوضح المسالك (رقم ٢٤١) وممطول : اسم المفعول من قولك «مطل المدين دائنه يمطله ـ من باب نصر ـ» وذلك إذا لواه بدينه وسوّف في قضائه ولم يؤده ، و «معنى» اسم المفعول من قولك «عنى الأمر الفلاني فلانا ـ بتضعيف عين الفعل وهي النون هنا ـ» وذلك إذا شق عليه الأمر وكان سببا في عنائه وشقوته ، والاستشهاد في هذا البيت في موضعين : الأول في قوله «قضى كل ذي دين فوفّى غريمه» فإن هذه العبارة من باب التنازع ، فقد تقدم عاملان ـ وهما قوله «قضى» وقوله «وفّى» ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله «غريمه» ـ وكل واحد من العاملين المتقدمين يطلب المعمول المتأخر مفعولا ، وقد أعمل الشاعر المعمول الثاني منهما في لفظ المعمول ، والدليل على أنه أعمل الثاني هنا أنه لم يصل ضمير المعمول بالعامل الثاني ، لأنه لو كان قد أعمل الأول لوجب أن يقول «قضى كل ذي دين فوفاه غريمه» على أن يكون تقدير الكلام : قضى كل ذي دين غريمه فوفاه ، والموضع الثاني من موضعي استشهاد المؤلف بالبيت قوله «ممطول معنى غريمها» فإن ظاهر هذه العبارة أنها من باب التنازع ؛ لتقدم عاملين ـ وهما قوله «ممطول» وقوله «معنى» ـ وتأخر عنهما معمول واحد ـ وهو قوله «غريمها» ـ وكل واحد من هذين العاملين يطلبه نائب فاعل ؛ لأن كل واحد منهما اسم مفعول على ما بيّنا ، وأنت تعلم أن اسم المفعول يعمل عمل الفعل المبني للمجهول. وقد اغتر المؤلف بهذا الظاهر ؛ فخيل إليه أن العبارة من باب التنازع ، وأن الشاعر قد أعمل العامل الثاني ، لأنه لو كان قد أعمل العامل الأول لوجب عليه أن يقول : وعزة ممطول معنى هو غريمها ؛ فيكون «هو» نائب فاعل معنى ، وغريمها : نائب فاعل ممطول ، فإن قلت : فلماذا لا يكون في «معنى» ضمير مستتر جوازا تقديره هو ويكون هذا الضمير نائب فاعل معنى على تقدير إعمال ممطول في لفظ المعمول المتأخر؟ فالجواب على هذا أن نقول : إن قوله «وعزة» مبتدأ ، وخبره قوله «ممطول» والممطول وصف الغريم لا وصف عزة ، فقد جرى ضمير الخبر على غير مبتدئه ، وإذا جرى ضمير الخبر على غير المبتدأ وجب إبراز ذلك الضمير ، هكذا خيل للمؤلف ، وهو كلام منقوض من ثلاثة أوجه ؛ الوجه الأول : أن وجوب إبراز الضمير من الخبر إذا جرى هذا الضمير على غير مبتدئه هو مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين أنه لا يجب إبراز الضمير من الوصف إذا جرى على غير موصوفه ، كما بينه المؤلف نفسه في المسألة رقم ٨ السابقة ، وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يحتج على مذهب قوم بمذهب قوم آخرين كما هو مقرر في علم الجدل ، والوجه الثاني : أن الشاعر لو كان قد أعمل العامل الثاني لوجب

٧٦

فأعمل الثاني في هذا البيت في مكانين : أحدهما «وفّى» ولو أعمل الأول لقال : وفّاه ، والثاني «معنّى» ولو أعمل الأول لوجب إظهار الضمير بعد معنّى ؛ فيقول «وعزة ممطول معنى هو غريمها» وتقديره : وعزة ممطول غريمها معنّى هو ؛ لأنه قد جرى على عزة ، وهو فعل الغريم ؛ فقد جرى على غير من هو له ، واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له وجب إظهار الضمير فيه ، فلما لم يظهر الضمير دلّ على أنه قد أعمل الثاني ، إلا أنهم يقولون على هذا : يجوز أن يكون قد أعمل الأول ولم يظهر الضمير وذلك جائز عندنا ، وقد بيّنا فساد ذلك في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له مستقصى في موضعه.

وأما القياس فهو أن الفعل الثاني أقرب إلى الاسم من الفعل الأول ، وليس في إعماله دون الأول نقض معنى ، فكان إعماله أولى ، ألا ترى أنهم قالوا : «خشنت بصدره وصدر زيد» فيختارون إعمال الباء في المعطوف ، ولا يختارون إعمال الفعل فيه ؛ لأنها أقرب إليه منه ؛ وليس في إعمالها نقض معنى ؛ فكان إعمالها أولى.

والذي يدل على أن للقرب أثرا أنه قد حملهم القرب والجوار حتى قالوا : «جحر ضبّ خرب» فأجروا خرب على ضبّ ، وهو في الحقيقة صفة للجحر ؛ لأن الضبّ لا يوصف بالخراب ؛ فها هنا أولى.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قول امرىء القيس :

فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال [٣٩]

______________________________________________________

عليه أن يقول : وعزة ممطول هو معنى غريمها ، فيبرز الضمير المستكن في الخبر الأول لنفس السبب الذي احتج به على الكوفيين ، وهو أن الضمير المستكن في الخبر جار على غير مبتدئه ، وهذا الاحتجاج ملزم للبصريين لأنه مذهبهم وغير ملزم للكوفيين لأنهم لا يذهبون إليه كما قدمنا ، والوجه الثالث : ـ وهو مترتب على الوجهين السابقين ـ أن النحارير من العلماء كابن مالك رحمه‌الله ذهبوا إلى أن هذه العبارة ليست من باب التنازع أصلا ؛ لأنه لا يصح أن يكون الشاعر قد أعمل العامل الأول كما لا يصح أن يكون قد أعمل العامل الثاني ؛ لأنه لو أعمل أحدهما أيا كان لوجب على مذهب البصريين أن يبرز ضمير المعمول مع العامل الذي لم يعمله في لفظ المعمول لكونه جاريا على غير من هو له ، وعلى هذا يكون قوله «عزة» مبتدأ أول وقوله «غريمها» مبتدأ ثانيا ، وقوله «ممطول» خبر المبتدأ الثاني تقدم عليه ، وقوله «معنى» خبرا ثانيا للمبتدأ الثاني ، وجملة المبتدأ الثاني وخبريه في محل رفع خبر المبتدأ الأول ، ومن هذا تعلم أن الاسمين المتقدمين ـ وهما قوله «ممطول» وقوله «معنى» ـ ليسا عاملين لأنهما خبران ، والاسم المتأخر ـ وهو قوله «غريمها» ـ ليس معمولا ؛ لأنه مبتدأ ، والمبتدأ ليس معمولا لخبره إلا على قول ضعيف ، وكأن الشاعر قد قال : وعزة غريمها ممطول معنى.

٧٧

فنقول : إنما أعمل الأول منهما مراعاة للمعنى ؛ لأنه لو أعمل الثاني لكان الكلام متناقضا ، وذلك من وجهين ؛ أحدهما : أنه لو أعمل الثاني لكان التقدير فيه : كفاني قليل ولم أطلب قليلا من المال ، وهذا متناقض ؛ لأنه يخبر تارة بأن سعيه [٤٦] ليس لأدنى معيشة ، وتارة يخبر بأنه يطلب القليل ، وذلك متناقض ؛ والثاني : أنه قال في البيت الذي بعده :

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل

وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي

فلهذا أعمل الأول ولم يعمل الثاني. وأما قول الآخر :

وقد نغنى بها ونرى عصورا

بها يقتدننا الخرد الخدالا [٤٠]

فنقول : إنما أعمل الأول مراعاة لحركة الرويّ ؛ فإن القصيدة منصوبة ، وإعمال الأول جائز ، فاستعمل الجائز ليخلص من عيب القافية ، ولا خلاف في الجواز ، وإنما الخلاف في الأولى ، وكذلك أيضا قول الآخر :

[ولمّا أن تحمّل آل ليلى]

سمعت ببينهم نعب الغرابا [٤١]

يدل على الجواز ، وهو معارض بأمثاله.

وأما قولهم «إن الفعل الأول سابق فوجب إعماله للعناية به» قلنا : هم وإن كانوا يعنون بالابتداء إلا أنهم يعنون بالمقاربة والجوار أكثر ، على ما بيّنا في دليلنا.

وأما قولهم «لو أعملنا الثاني لأدّى إلى الإضمار قبل الذكر» قلنا : إنما جوزنا ها هنا الإضمار قبل الذكر لأن ما بعده يفسّره ؛ لأنهم قد يستغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف لعلم المخاطب ، قال الله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ، وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) [الأحزاب : ٣٥] فلم يعمل الآخر فيما أعمل فيه الأول استغناء عنه بما ذكره قبل ، ولعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في حكم الأول ، وقال الله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] فاستغنى بذكر خبر الأول عن ذكر خبر الثاني ؛ لعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في ذلك ، قال ضابىء البرجميّ :

[٤٦] فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

______________________________________________________

[٤٦] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ لضابىء بن الحارث البرجمي ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ٣٨) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٣٥) وفي أوضح المسالك (رقم ١٤٢) والأشموني (رقم ٢٧٤) وقوله «رحله» هو هنا بمعنى منزله ، ويروى في مكانه «رهطه» ورهط الرجل : أهله وقومه الأقربون ، و «قيار» ذكر أبو زيد في نوادره أنه اسم جمل الشاعر ، ونقل عن الخليل بن أحمد أنه اسم فرس الشاعر ، والاستشهاد بالبيت في قوله «إني وقيار لغريب»

٧٨

فاستغنى بذكر خبر الآخر عن خبر الأول ، وقال درهم بن زيد الأنصاريّ :

[٤٧] نحن بما عندنا ، وأنت بما

عندك راض ، والرّأي مختلف

______________________________________________________

حيث ذكر الشاعر إن واسمها ، ثم ذكر مبتدأ مرفوعا ، وهو قوله «وقيار» وذكر بعد ذلك خبر إن وهو قوله «لغريب» وحذف خبر المبتدأ ـ وهو قوله «وقيار» ـ لأن معرفة هذا الخبر المحذوف لا تعسر على سامع هذا الكلام ، بل هو متبادر إلى ذهنه من غير تكلف ولا مشقة ، وأصل الكلام : فإني لغريب وقيار كذلك ، أو غريب ، أو مثلي ، أو ما أشبه هذا ، ولا يجوز في هذا البيت أن يكون قوله «لغريب» خبرا لقوله «وقيار» لوجود لام الابتداء في هذا الخبر ، ولام الابتداء تدخل في خبر إن ، ولا تدخل في خبر المبتدأ إلا شذوذا ، كما لا يجوز أن يكون قوله «وقيار» معطوفا على اسم إن ، وذلك من ثلاثة أوجه : الأول : أن اسم إن منصوب ، وهذا مرفوع ، ومن شرط صحة العطف اتفاق المتعاطفين في الإعراب ، والوجه الثاني : أن الذين صح رأيهم ممن جوزوا عطف الاسم المرفوع على اسم إن المنصوب لكون اسم إن مبتدأ في الأصل والمبتدأ مرفوع ، إنما جوزوا ذلك إذا وقع الاسم المرفوع بعد استكمال إن معموليها الاسم والخبر كما في قول الشاعر :

فمن يك لم ينجب أبوه وأمه

فإن لنا الأم النجيبة والأب

فقد جاء بالاسم المرفوع ـ وهو قوله «والأب» ـ بعد أن أوفى جملة إن حقها ، والوجه الثالث : أنا لو جرينا على القول المرجوح الذي يجوز مجيء الاسم المرفوع معطوفا على اسم إن باعتبار أصله ولو لم تستوف إن معموليها ؛ لم يجز لنا في هذا البيت أن نعطف قوله «وقيار» على اسم إن ؛ لأنه لو عطف على اسم إن لوجب أن يقال : فإني وقيار بها لغريبان ، لأنه حينئذ يكون خبرا عن اثنين.

[٤٧] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ٣٨) ومغني اللبيب لابن هشام (رقم ٨٧٣) وشواهد إيضاح القزويني (رقم ٩٥ بتحقيقنا) وليس هو لدرهم بن زيد الأنصاري كما ذكر المؤلف ، ولكنه من كلام قيس بن الخطيم ، والاستشهاد به في قوله «نحن وأنت راض» فإن قوله «نحن» مبتدأ ، وخبره محذوف ، وقوله «وأنت» مبتدأ آخر ، وخبره هو قوله «راض» وقد حذف الشاعر خبر المبتدأ المتقدم لدلالة خبر المبتدأ الذي بعده عليه ، وتقدير الكلام : نحن راضون بما عندنا وأنت راض بما عندك ، ولا يجوز أن يكون قوله «راض» خبرا عن المبتدأ المتقدم وحده ، ولا أن يكون خبرا عن «نحن» و «أنت» جميعا ، لكون هذا الخبر مفردا ، ولا يخبر بالمفرد عن الجمع ، ونظير هذا البيت في حذف خبر السابق وذكر خبر الثاني قول الشاعر :

خليلي هل طب فإني وأنتما

 ـ وإن لم تبوحا بالهوى ـ دنفان؟

فإن قوله «دنفان» يتعين أن يكون خبرا عن «أنتما» ولا يجوز أن يكون خبرا لإن وحدها ، ولا أن يكون خبرا لإن والاسم المرفوع بعدها معا ، وذلك لأن «دنفان» مثنى واسم إن مفرد ، وهو مع الاسم المرفوع بعده جمع ، ولا يجوز أن يخبر بالمثنى عن المفرد ولا عن الجمع.

٧٩

[٤٧] واستغنى بذكر خبر الآخر عن ذكر خبر الأول ، وقال الفرزدق :

[٤٨] إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى

وأبى ، فكنت وكان غير غدور

فاستغنى بخبر الثاني عن الأول ، والشواهد على هذا النحو كثيرة ؛ فدلّ على جواز الإضمار هاهنا قبل الذكر ؛ لأن ما بعده يفسره ، وإذا جاز الإضمار مع عدم تقدم ذكر المظهر لدلالة الحال عليه كما قال تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] يعني الشّمس وإن لم يجر لها ذكر ، وكما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] يعني الأرض ، وكما قال الشاعر :

[٤٩] على مثلها أمضي إذا قال صاحبي :

ألا ليتني أفديك منها وأفتدي

يعني الفلاة وإن لم يجر لها ذكر ؛ لدلالة الحال ، فلأن يجوز هاهنا الإضمار قبل الذكر لشريطة التفسير ودلالة اللفظ كان ذلك من طريق الأولى ، ثم إن كان هذا ممتنعا فينبغي أن لا يجوز عندكم ، ولا خلاف بين جميع النحويين أنه جائز ، إلا فيما لا يعدّ خلافا ، فدلّ على فساد ما ذكرتموه ، والله أعلم.

______________________________________________________

[٤٨] ـ لم أجد هذا البيت في نسخ ديوان الفرزدق المطبوعة ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٨) ومفرداته ومعناه مما لا يحتاج إلى شرح ، والاستشهاد به في قوله «فكنت وكان غير غدور» فإن المؤلف قد زعم أن قوله «غير غدور» خبر لكان الثانية ، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الأولى ارتكانا على انفهام المعنى وأن السامع سيفهم أن أصل الكلام فكنت غير غدور وكان غير غدور ، فحذف خبر كان الأولى لدلالة خبر كان الثانية عليه ، فصار كما جاء في كلام الشاعر ، لكن الذي ذكره المؤلف ليس بلازم ، بل يجوز أن يكون المذكور هو خبر كان الأولى ، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الثانية لدلالة خبر الأولى عليه ، بل هذا ـ وهو أن يكون المذكور خبر كان الأولى والمحذوف هو خبر كان الثانية ـ هو الأولى ؛ لأنه هو الأكثر دورانا على ألسنة العرب وهذا في المواضع التي يحتمل الكلام فيها الوجهين جميعا كما في هذا البيت ، أما المكان الذي يتعين فيه أحد الأمرين كالشواهد السابقة فإن الكلام يحمل على ما يتعين فيه ، وهذه اللفتة ترجح مذهب الكوفيين في كون العامل المتقدم أولى بالإعمال في لفظ المعمول ، نعني فيما لو احتمل الكلام إعمال كل منهما ، فتنبه لذلك.

[٤٩] هذا البيت هو البيت التاسع والثلاثون من معلقة طرفة بن العبد البكري ، وهو من أبيات في وصف ناقته. وقوله «على مثلها» يريد على مثل هذه الناقة الموصوفة ، وأمضي : أي أسير ، وقوله «ألا ليتني أفديك منها» الضمير عائد إلى الفلاة أي الصحراء وقد أتي بضمير الفلاة وإن لم يجر لها ذكر في الكلام قبل هذا ؛ لأن المراد يفهم من سياق الكلام ، ونظيره كما قال المؤلف قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) فإن المراد ـ والله أعلم ـ حتى توارت الشمس وراء الأفق ، فأضمر في الفعل ضميرا يعود إلى الشمس وإن لم يجر لها ذكر في الكلام ارتكانا على أن السامع سيفهم المقصود ويعرف المراد من سياق الكلام ، وقول طرفة «ألا ليتني ـ الخ» واقع موقع قوله : إنا هالكون لأن السير في هذه الصحراء شاق عسير لا يتيسر لأحد أن يمضي فيه ويستمر عليه.

٨٠