الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

زيدا أخوك ، وظننت زيدا أخاك» بطل أن يكون أحدهما عاملا في الآخر.

وأما ما استشهدوا به من الآيات فلا حجة لهم [فيه] من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنا لا نسلم أن الفعل بعد أيّاما وأينما مجزوم بأيّاما وأينما ، وإنما هو مجزوم بأن ، وأيّاما وأينما نابا عن إن لفظا ، وإن لم يعملا شيئا.

والوجه الثاني : أنا نسلم أنها نابت عن إن لفظا وعملا ، ولكن جاز أن يعمل كل واحد منهما في صاحبه لاختلاف عملهما ، ولم يعملا من وجه واحد ؛ فجاز أن يجتمعا ويعمل كل واحد منهما في صاحبه ، بخلاف ما هنا.

والوجه الثالث : إنما عمل كل واحد منهما في صاحبه لأنه عامل ؛ فاستحق أن يعمل ، وأما هاهنا فلا خلاف أن المبتدأ والخبر نحو [٢٥] : «زيد أخوك» اسمان باقيان على أصلهما في الاسمية ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل ؛ فبان الفرق بينهما.

وأما قولهم «إن الابتداء لا يخلو من أن يكون اسما أو فعلا أو أداة ـ إلى آخر ما قرروا» قلنا : قد بيّنا أن الابتداء عبارة [عن التعري] عن العوامل اللفظية.

وقولهم «فإذا كان معنى الابتداء هو التعرّي عن العوامل اللفظية فهو إذا عبارة عن عدم العوامل ، وعدم العوامل لا يكون عاملا» قلنا : قد بيّنا وجه كونه عاملا في دليلنا بما يغني عن الإعادة هاهنا ، على أن هذا يلزمكم في الفعل المضارع ؛ فإنكم تقولون «يرتفع بتعرّيه من العوامل الناصبة والجازمة» ، وإذا جاز لكم أن تجعلوا التعرّي عاملا في الفعل المضارع جاز لنا أيضا أن نجعل التعرّي عاملا في الاسم المبتدإ.

وحكي أنه اجتمع أبو عمر الجرميّ وأبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء ، فقال الفراء للجرمي : أخبرني عن قولهم «زيد منطلق» لم رفعوا زيدا (١)؟ فقال له الجرمي : بالابتداء ، قال له الفراء : ما معنى الابتداء؟ قال : تعريته من العوامل ، قال له الفراء : فأظهره ، قال له الجرمي : هذا معنى لا يظهر ، قال له الفراء : فمثله إذا ، فقال الجرمي : لا يتمثل ، فقال الفراء : ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل! فقال له الجرمي : أخبرني عن قولهم : «زيد ضربته» لم رفعتم (٢) زيدا؟ فقال : بالهاء العائدة على زيد ، فقال الجرمي : الهاء اسم فكيف يرفع الاسم؟ فقال الفراء : نحن لا نبالي من هذا ؛ فإنا نجعل كل واحد من الاسمين إذا قلت «زيد منطلق» رافعا

__________________

(١) لعل أصل العبارة «بم رفعوا زيدا؟» وكذلك «بم رفعتم زيدا؟».

٤١

لصاحبه ، فقال الجرمي : يجوز أن يكون كذلك في «زيد منطلق» لأن كل اسم منهما مرفوع في نفسه فجاز أن يرفع الآخر ، وأما الهاء في «ضربته» ففي محل النصب ، فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء : لا نرفعه بالهاء ، وإنما رفعناه بالعائد على زيد ، قال الجرمي : ما معنى العائد؟ قال الفراء : معنى لا يظهر ، قال الجرمي : أظهره ، قال الفراء ؛ لا يمكن إظهاره ، قال الجرمي : فمثله ، قال : لا يتمثل ، قال الجرمي : لقد وقعت فيما فررت منه. فحكي أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له : كيف وجدت الجرمي؟ فقال : وجدته آية ، وسئل الجرمي ، فقيل له : كيف وجدت الفراء؟ فقال : وجدته شيطانا.

وأما قولهم «إنا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ولو كان ذلك [٢٦] موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة» قلنا : أما المنصوبات فإنها لا يتصور أن تكون مبتدأة ؛ لأنها وإن كانت متقدمة في اللفظ إلا أنها متأخرة في التقدير ؛ لأن كل منصوب لا يخلو إما أن يكون مفعولا أو مشبها بالمفعول ، والمفعول لا بد أن يتقدمه عامل لفظا أو تقديرا ، فلا تصح له رتبة الابتداء ، وإذا كانت هذه المنصوبات متقدمة في اللفظ متأخرة التقدير لم يصح أن تكون مبتدأة ؛ لأنه لا اعتبار بالتقديم إذا كان في تقدير التأخير ، وأما المسكنات إذا ابتدىء بها فلا يخلو إما أن تقع مقدّمة في اللفظ دون التقدير أو تقع مقدمة في اللفظ والتقدير : فإن وقعت متقدمة في اللفظ دون التقدير كان حكمها حكم المنصوبات ؛ لأنها في تقدير التأخير.

وإن وقعت متقدمة في اللفظ والتقدير فلا تخلو : إما أن تستحق الإعراب في أول وضعها ، أو لا تستحق الإعراب في أول وضعها :

فإن كانت تستحق الإعراب في أول وضعها نحو «من ، وكم» وما أشبه ذلك من الأسماء المبنية على السكون فإنا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء ، وإنما لم يظهر في اللفظ لعلة عارضة منعت من ظهوره ، وهي شبه الحرف (١) أو تضمّن معنى الحرف.

وإن كانت لا تستحق الإعراب في أول وضعها ـ نحو الأفعال والحروف المبنية على السكون ـ فإنا لا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء ؛ لأنها لا تستحق شيئا من الإعراب في أول الوضع ، فلم يكن الابتداء موجبا لها الرّفع ؛ لأنه نوع منه.

وهذا هو الجواب عن قولهم : «إنهم يبتدئون بالحروف ، فلو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة» وعدم عمله في محل لا يقبل العمل لا يدل على عدم عمله في محل يقبل العمل ، ألا ترى أن السّيف يقطع في محلّ ولا يقطع في

__________________

(١) المراد بشبه الحرف ههنا الشبه الوضعي ، بدليل ذكره الشبه المعنوي بعده.

٤٢

محلّ آخر؟! وعدم قطعه في محل لا يقبل القطع لا يدل على عدم قطعه في محل يقبل القطع ؛ لأن عدم القطع في محل لا يقبل القطع إنما كان لنبوّه في المحل ، لا لأن السيف غير قاطع ، فكذلك هاهنا : عدم عمل الابتداء في محل لا يقبل العمل إنما كان لعدم استحقاق المعمول ذلك العمل ، لا لأن الابتداء غير صالح أن يعمل ذلك العمل ، والله أعلم.

٤٣

[٢٧] ٦

مسألة

[في رافع الاسم الواقع بعد الظرف والجار والمجرور](١)

ذهب الكوفيون إلى أن الظرف يرفع الاسم إذا تقدم عليه ، ويسمون الظرف المحلّ ، ومنهم من يسميه الصفة ، وذلك نحو قولك «أمامك زيد ، وفي الدار عمرو» وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش في أحد قوليه وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد من البصريين ، وذهب البصريون إلى أن الظرف لا يرفع الاسم إذا تقدم عليه ، وإنما يرتفع بالابتداء.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن الأصل في قولك «أمامك زيد ، وفي الدار عمرو» حلّ أمامك زيد ، وحلّ في الدار عمرو ، فحذف الفعل واكتفى بالظرف منه ، وهو غير مطلوب ، فارتفع الاسم به كما يرتفع بالفعل. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن سيبويه يساعدنا على أن الظرف يرفع إذا وقع خبرا لمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو حالا لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة الاستفهام أو حرف النفي ، أو كان الواقع بعده «أنّ» التي في تقدير المصدر ؛ فالخبر كقوله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) [سبأ : ٣٧] فجزاء مرفوع بالظرف ، والصفة كقولك «مررت برجل صالح في الدار أبوه» ، والحال كقولك «مررت بزيد في الدار أبوه» وعلى ذلك قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) [فهدى ونور] مرفوعان بالظرف لأنه حال من الإنجيل ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [المائدة : ٤٦] فعطف (مُصَدِّقاً) على حال قبله ، وما ذاك إلا الظرف ، والصلة كقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣] والمعتمد

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : مغني اللبيب لابن هشام (ص ٤٢٣ بتحقيقنا) وانظر في بعض ما ذكره المؤلف شروح الألفية في مبحث وقوع الخبر ظرفا أو جارا ومجرورا (التصريح للشيخ خالد ١ / ١٩٨ وحاشية الصبان على الأشموني ١ / ١٩٣ بولاق) وشرح الرضي على الكافية (١ / ٨٣) وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري (ص ١٠٨ أوربة).

٤٤

على الهمزة كقوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم : ١٠] ، وحرف النفي كقولك : «ما في الدار أحد» ، وأنّ كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ) [فصلت : ٣٩] فأنّ وما عملت فيه في موضع رفع بالظرف ، وإذا عمل الظرف في هذه المواضع كلها فكذلك فيما وقع الخلاف فيه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن الاسم بعده يرتفع بالابتداء لأنه قد تعرّى من العوامل اللفظية ، وهو معنى الابتداء ، فلو قدّر هاهنا عامل لم يكن إلا الظرف ، وهو لا يصلح هاهنا أن يكون عاملا لوجهين :

أحدهما : أن الأصل في الظرف أن لا [٢٨] يعمل ، وإنما يعمل لقيامه مقام الفعل ، ولو كان هاهنا عاملا لقيامه مقام الفعل لما جاز أن تدخل عليه العوامل فتقول «إن أمامك زيدا ، وظننت خلفك عمرا» ، وما أشبه ذلك ؛ لأن عاملا لا يدخل على عامل ؛ فلو كان الظرف رافعا لزيد لما جاز ذلك ، ولما كان العامل يتعداه إلى الاسم ويبطل عمله ، كما لا يجوز أن تقول «إنّ يقوم عمرا ، وظننت ينطلق بكرا» فلما تعداه العامل إلى الاسم كما قال تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً) [المزمل : ١٢] ولم يرو عن أحد من القراء أنه كان يذهب إلى خلاف النصب دل على ما قلناه.

والثاني : أنه لو كان عاملا لوجب أن يرفع به الاسم في قولك «بك زيد مأخوذ» وبالإجماع أنه لا يجوز ذلك.

اعترضوا على هذين الوجهين من وجهين :

أما الوجه الأول فاعترضوا عليه بأن قالوا : قولكم «إن العامل يتعدّاه إلى الاسم بعده» ليس بصحيح ؛ لأن المحل عندنا اجتمع فيه نصبان : نصب المحل في نفسه ، ونصب العامل ، ففاض أحدهما إلى «زيد» فنصبه.

وأما الوجه الثاني فاعترضوا عليه بأن قالوا : قولكم «إنه لو كان عاملا لوجب أن يرفع الاسم في قولك : بك زيد مأخوذ» ليس بصحيح ، وذلك لأن «بك» مع الإضافة إلى الاسم لا يفيد ، بخلاف قولنا «في الدار زيد» إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد ويكون كلاما.

وما اعترضوا به على الوجهين باطل :

أما اعتراضهم على الوجه الأول : قولهم «إنه اجتمع في المحل نصبان : نصب المحل في نفسه ، ونصب العامل» قلنا : هذا باطل من وجهين :

أحدهما : أن هذا يؤدي إلى أنه يجوز أن يكون الاسم منصوبا من وجهين ،

٤٥

وذلك لا يجوز ، ألا ترى أنك لو قلت «أكرمت زيدا وأعطيت عمرا العاقلين» لم يجز أن تنصبه على الوصف ؛ لأنك تجعله منصوبا من وجهين ، وذلك لا يجوز ، فكذلك هاهنا.

والوجه الثاني : أن النصب الذي فاض من المحل إلى الاسم لا يخلو : إما أن يكون نصب المحل ، أو نصب العامل ؛ فإن قلتم نصب الظرف فقولوا إنه منصوب بالظرف ، وهذا ما لا يقول به أحد ؛ لأنه لا دليل عليه ، وإن قلتم إنه نصب العامل فقد صح قولنا : إن العامل يتعدّاه إلى ما بعده ويبطل عمله.

وأما اعتراضهم على الوجه الثاني : قولهم «إن بك مع [٢٩] الإضافة إلى الاسم لا يفيد ، بخلاف قولك في الدار إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد» فباطل أيضا ؛ وذلك لأنه لو كان عاملا لما وقع الفرق بينهما في هذا المعنى ، ألا ترى أن قولك «ضارب زيد» لا يفيد ، و «سار زيد» يفيد ، ومع هذا فكل منهما عامل كالآخر ، فكذلك كان ينبغي أن يكون هاهنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الأصل في قولك أمامك زيد وفي الدار عمرو : حلّ أمامك زيد ، وحلّ في الدار عمرو ؛ فحذف الفعل ، واكتفى بالظرف منه» قلنا : لا نسلم ؛ أنّ التقدير في الفعل التقديم ، بل الفعل وما عمل فيه في تقدير التأخير ؛ وتقديم الظرف لا يدل على تقديم الفعل ؛ لأن الظرف معمول الفعل ، والفعل هو الخبر ، وتقديم معمول الخبر لا يدل على أن الأصل في الخبر التقديم ، ولأن المبتدأ يخرج عن كونه مبتدأ بتقديمه ، ألا ترى أنك تقول «عمرا زيد ضارب» ولا يدل ذلك على أن الأصل في الخبر التقديم وإن كان يجوز تقديمه على المعمول ، فكذلك هاهنا ، والذي يدل على أن الفعل هاهنا في تقدير التأخير والاسم في تقدير التقديم مسألتان ؛ إحداهما : أنك تقول «في داره زيد» ولو كان كما زعمتم لأدّى ذلك إلى الإضمار قبل الذكر ، وذلك لا يجوز ، والثانية : أنا أجمعنا على أنه إذا قال «في داره زيد قائم» فإن زيدا لا يرتفع بالظرف ، وإنما يرتفع عندكم بقائم ، وعندنا يرتفع بالابتداء ، ولو كان مقدّما على زيد لوجب أن لا يلغى.

وأما قولهم «إنّ الفعل غير مطلوب» قلنا : لو كان الفعل غير مطلوب ولا مقدر لأدّى ذلك إلى أن يبقى الظرف منصوبا بغير ناصب ، وذلك لا يجوز ، وسنبين فساد ذلك في موضعه.

وأما قولهم «إن سيبويه يساعدنا على أن الظرف يرفع إذا وقع خبرا لمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو حالا لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة

٤٦

الاستفهام ـ إلى غير ذلك» فإنما كان كذلك لأن هذه المواضع أولى بالفعل من غيره ، فرجح جانبه على الابتداء ، كما قلنا في اسم الفاعل إذا جرى خبرا لمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو حالا لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة الاستفهام أو حرف النفي ، فالخبر كقولك «زيد قائم أبوه» والصفة كقولك «مررت [٣٠] برجل كريم أخوه» والحال كقولك «جاءني زيد ضاحكا وجهه» والصلة كقولك «رأيت الذاهب غلامه» والمعتمد على الهمزة نحو «أذاهب أخواك» وحرف النفي نحو «ما قائم غلامك» وإنما كان ذلك لأن هذه الأشياء أولى بالفعل من غيره ؛ فلهذا غلب جانب تقديره ، بخلاف ما وقع الخلاف فيه ، والله أعلم.

٤٧

٧

مسألة

[القول في تحمّل الخبر الجامد ضمير المبتدأ](١)

ذهب الكوفيون إلى أن خبر المبتدأ إذا كان اسما محضا (٢) يتضمن ضميرا يرجع إلى المبتدأ ، نحو «زيد أخوك ، وعمرو غلامك» وإليه ذهب علي بن عيسى الرّمّانيّ من البصريين. وذهب البصريون إلى أنه لا يتضمن ضميرا.

وأجمعوا على أنه إذا كان صفة أنه يتضمن الضمير ، نحو «زيد قائم ، وعمرو حسن» وما أشبه ذلك.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يتضمن ضميرا ـ وإن كان اسما غير صفة ـ لأنه في معنى ما هو صفة ، ألا ترى أن قولك «زيد أخوك» في معنى زيد قريبك ، و «عمرو غلامك» في معنى عمرو خادمك ، وقريبك وخادمك يتضمن كل واحد منهما الضمير ، فلما كان خبر المبتدأ هاهنا في معنى ما يتحمل الضمير وجب أن يكون فيه ضمير يرجع إلى المبتدأ.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يتضمن ضميرا ، وذلك لأنه اسم محض غير صفة ، وإذا كان عاريا عن الوصفية فينبغي أن يكون خاليا عن الضمير ؛ لأن الأصل في تضمن الضمير أن يكون للفعل ، وإنما يتضمن الضمير من

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني (١ / ٢٦٠ بتحقيقنا) وحاشية الصبان عليه (١ / ١٩١ بولاق) والتوضيح للشيخ خالد (١ / ١٩١ بولاق) وشرح موفق الدين ابن يعيش (ص ١٠٦ أوربة) وشرح رضي الدين على الكافية (١ / ٨٦).

(٢) أراد المؤلف بالاسم المحض : الاسم الجامد ، ووجهه أن الاسم المشتق يتضمن معنى الفعل ، فهو مشوب برائحة الفعل ، أما الجامد فخالص للإسمية لا تشوبه شائبة الفعل ولا يتضمن معناه ، وسيتضح ذلك من كلام المؤلف غاية الاتضاح ، وقد جاءت هذه العبارة في كلام موفق الدين بن يعيش وفسرها بما ذكرنا ، في الموضع الذي دللناك عليه ، ونصه «وأما القسم الثاني ـ وهو ما لا يتحمل الضمير من الأخبار ـ وذلك إذا كان الخبر اسما محضا غير مشتق من فعل ، نحو زيد أخوك وعمرو غلامك ؛ فهذا لا يتحمل الضمير ، لأنه اسم محض عار من الوصفية» اه.

٤٨

الأسماء ما كان مشابها له ومتضمنا معناه كاسم الفاعل والصفة المشبهة به نحو «ضارب ، وقاتل ، وحسن ، وكريم» وما أشبه ذلك ، وما وقع الخلاف فيه ليس بينه وبين الفعل مشابهة بحال ، ألا ترى أنك إذا قلت «زيد أخوك» كان أخوك دليلا على الشخص الذي دل عليه زيد ، وليس فيه دلالة على الفعل ، فكذلك إذا قلت «عمرو غلامك» كان غلامك دليلا على الشخص الذي دلّ عليه عمرو ، وليس فيه دلالة على الفعل ؛ فوجب أن لا يجوز الإضمار فيه [٣١] ، كما لا يجوز في زيد وعمرو.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : قولهم «إنما قلنا إنه يتضمن الضمير وإن كان اسما محضا لأنه في معنى ما يتضمن الضمير لأن أخوك في معنى قريبك ، وغلامك في معنى خادمك» قلنا : هذا فاسد ؛ لأنه إنما جاز أن يكون قريبك وخادمك متحملا للضمير لأنه يشابه الفعل لفظا ويتضمنه معنى ، وهو الأصل في تحمل الضمائر ، ولا شبهة في مشابهة اسم الفاعل والصفة المشبهة به للفعل ، ألا ترى أن «خادم» على وزن «يخدم» في حركته وسكونه وأن فيه حروف خدم الذي هو الفعل ، وكذلك «قريب» فيه حروف قرب الذي هو الفعل ؛ فجاز أن يتضمن الضمير ، فأما أخوك وغلامك فلا شبهة في أنه لا مشابهة بينه وبين الفعل بحال ، فينبغي أن لا يتحمل الضمير ، وكونه في معنى ما يشبه الفعل لا يوجب شبها بالفعل ، ألا ترى أن حروف «أخوك ، وغلامك» عارية من حروف الفعل الذي هو قرب وخدم ؛ فينبغي أن لا يتحمل الضمير ، ألا ترى أن المصدر إنما عمل عمل الفعل نحو «ضربي زيدا حسن» لتضمنه حروفه ، فلو أقمت ضمير المصدر مقامه فقلت «ضربي زيدا حسن وهو عمرا قبيح» لم يجز وإن كان ضمير المصدر في معناه (١) ؛ لأن المصدر إنما عمل الفعل لتضمنه حروفه ، وليس في ضمير المصدر لفظ الفعل ؛ فلا يجوز أن يعمل عمله ، فكذلك هاهنا : إنما جاز أن يتحمل نحو «قريبك ، وخادمك» الضمير لمشابهته للفعل وتضمنه لفظه ، ولم يجز ذلك في نحو «أخوك» و «غلامك» لأنه لم يشابه الفعل ولم يتضمن لفظه ، والله أعلم.

__________________

(١) هذه مسألة خلافية بين الفريقين ، وما كان ينبغي أن يحتج عليهم بما هو مذهبه دون مذهبهم.

٤٩

٨

مسألة

[القول في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه](١)

ذهب الكوفيون إلى أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له نحو قولك «هند زيد ضاربته هي» لا يجب إبرازه. وذهب البصريون إلى أنه يجب إبرازه. وأجمعوا على أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على من هو له لا يجب إبرازه.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه لا يجب [٣٢] إبرازه في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له أنه قد جاء عن العرب أنهم قد استعملوه بترك إبرازه فيه إذا جرى على غير من هو له ، قال الشاعر :

[٢٠] وإنّ امرأ أسرى إليك ودونه

من الأرض موماة وبيداء سملق

______________________________________________________

[٢٠] هذان البيتان من كلام الأعشى ميمون بن قيس ، وقد أنشد أولهما رضي الدين في باب الحال ، وأنشدهما معا في باب الضمير ، وانظر الخزانة (١ / ٥٥١) وقد أنشدهما ابن منظور (ح ق ق) منسوبين إليه. و «أسرى» سار ليلا ، وموماة : أي صحراء واسعة ، والبيداء : هي الصحراء أيضا ، سموها بذلك لأن سالكها يبيد فيها ، أي يهلك ، وسموها أيضا مفازة من الفوز تفاؤلا لسالكها بأن ينجو من الهلكة ، وسملق : أي قفر لا نبات فيها ، ويقال للرجل : أنت حقيق أن تفعل كذا ، وأنت محقوق أن تفعله ، ويقال للمرأة : أنت حقيقة لذلك ، وأنت محقوقة أن تفعلي ذلك ، ومعنى ذلك أنت جديرة وخليقة وحرية ، والمراد أنه يلزمك فعله لأن فعله حق من الحقوق التي لزمتك. والاستشهاد به في قوله «لمحقوقة» فإن هذه الكلمة وقعت خبرا لإن في أول البيتين ، وهذا الخبر جار على غير مبتدئه ، نعني أنه وصف لغير المبتدأ الذي وقع هو خبرا عنه ، ومع ذلك لم يبرز الضمير معه ، ولو أبرزه لقال : لمحقوقة أنت ، وما أشبه ذلك ، فلما لم يبرزه دل على أن إبرازه ليس بضربة لازب ، وسيأتي للمؤلف فيما يلي إخراج هذا الشاهد عن أصل المسألة فيجعل قوله لمحقوقة مبتدأ خبره المصدر المؤول من «أن تستجيبي» أو مبتدأ و «أن تستجيبي» فاعل أغنى عن خبر المبتدأ وسننبه على ذلك هناك.

__________________

(١) انظر نفس المراجع التي ذكرناها لك في المسألة السابقة ؛ فإن هذه المسألة من تتمة المسألة السابقة.

٥٠

لمحقوقة أن تستجيبي دعاءه

وأن تعلمي أنّ المعان موفّق

فترك إبراز الضمير ، ولو أبرزه لقال «محقوقة أنت» وقال الآخر :

[٢١] يرى أرباقهم متقلّديها

كما صدىء الحديد على الكماة

فترك إبرازه ، ولو أبرزه لقال «متقلديها هم» فلما أضمره ولم يبرزه دلّ على جوازه ، ولأن الإضمار في اسم الفاعل إنما جاز إذا جرى على من هو له لشبه الفعل ، وهو مشابه له إذا جرى على غير من هو له ، كما إذا جرى على من هو له ؛ فكما جاز الإضمار فيه إذا جرى على من هو له فكذلك يجوز إذا جرى على غير من هو له.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجب إبرازه فيه إذا جرى على غير من هو له أنا أجمعنا على أن اسم الفاعل فرع على الفعل في تحمل الضمير ؛ إذ كانت الأسماء لا أصل لها في تحمل الضمير ، وإنما يضمر فيما شابه منها الفعل كاسم الفاعل نحو «ضارب ، وقاتل» والصفة المشبهة به نحو «حسن ، وشديد» وما أشبه ذلك ؛ فإذا ثبت أن اسم الفاعل فرع على الفعل فلا شك أن المشبه بالشيء يكون أضعف منه في ذلك الشيء ، فلو قلنا إنه يتحمل الضمير في كل حالة ـ إذا جرى على من هو له ، وإذا جرى على غير من هو له ـ لأدّى ذلك إلى التسوية بين الأصل والفرع ، وذلك لا يجوز ؛ لأن الفروع أبدا تنحطّ عن درجة الأصول ، فقلنا : إنه إذا جرى على غير من هو له يجب إبراز الضمير ؛ ليقع الفرق بين الأصل والفرع.

ومنهم من تمسك بأن قال : إنما قلنا يجب إبراز الضمير فيه إذا جرى على غير من هو له لأنا لو لم نبرزه لأدى ذلك إلى الالتباس ، ألا ترى أنك لو قلت «زيد أخوه ضارب» وجعلت الفعل لزيد ولم تبرز الضمير لأدى ذلك إلى أن يسبق إلى فهم السامع أن الفعل للأخ دون زيد ، ويلتبس عليه ذلك؟ ولو أبرزت الضمير لزال هذا الالتباس ؛

______________________________________________________

[٢١] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة ولا تكملة ، ولا وجدت من أنشده غير المؤلف. والأرباق : جمع ربق ـ بكسر الراء وقد تفتح ، والباء ساكنة ـ وأصله الحبل والحلقة التي تشد بها الغنم الصغار لئلا ترضع ، ومتقلديها : أي جاعليها في أعناقهم في موضع القلادة ، والكماة : جمع كمي ، وهو الشجاع المتكمي ، أي المستتر الذي غطى وجهه ، وكانوا يفعلون ذلك إذا كان عليهم ثارات ، مخافة أن يتلمس أحد أعدائهم غفلتهم فيفتك بهم ، والاستشهاد في البيت بقوله «متقلديها» فإن هذه الكلمة قد وقعت في هذا البيت مفعولا ثانيا لترى ، وأنت خبير أن أصل المفعول الثاني لأرى خبر مبتدأ ، وأن المفعول الأول هو مبتدأ ذلك الخبر ، وأنت ترى أن الخبر جار على غير مبتدئه ، لأن «متقلديها» وصف للابسي ما عبر عنه بالأرباق ، لا للأرباق نفسها ، ومع ذلك لم يبرز معه الضمير ، ولو أبرزه لقال «متقلديها هم» فدل ذلك على أن إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير من هو له ليس واجبا لا معدى عنه.

٥١

فوجب إبرازه ؛ لأنه به يحصل إفهام السامع ورفع الالتباس ؛ ويخرج [٣٣] على هذا إذا جرى على من هو له ؛ فإنه إنما لم يلزمه إبراز الضمير لأنه لا التباس فيه ، ألا ترى أنك لو قلت «زيد ضارب غلامه» لم يسبق إلى فهم السامع إلا أن الفعل لزيد ؛ إذ كان واقعا بعده فلا شيء أولى به منه ، فبان بما ذكرنا صحة ما صرنا إليه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما البيت الأول وهو قوله :

* لمحقوقة أن تستجيبي دعاءه* [٢٠]

فلا حجّة لهم فيه ؛ لأنه محمول عندنا على الاتّساع والحذف ، والتقدير فيه : لمحقوقة بك أن تستجيبي دعاءه (١) ، وإذا جاز أن يحمل البيت على وجه سائغ في العربية فقد سقط الاحتجاج به.

وأما البيت الثاني ، وهو قول الآخر :

* ترى أرباقهم متقلّديها* [٢١]

فلا حجّة لهم فيه أيضا ؛ لأن التقدير فيه ترى أصحاب أرباقهم ، إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية ، وقال تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ومنه قولهم «الليلة الهلال» أي : طلوع الهلال ؛ لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث.

قال الشاعر :

[٢٢] وشرّ المنايا ميّت وسط أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره

______________________________________________________

[٢٢] هذا البيت من كلام الحطيئة ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠٩). والمنايا : جمع منية ، وهي الموت ، وأصلها فعيلة بمعنى مفعولة ، وفعلها «منى الله الأمر يمنيه» على مثال قضاه يقضيه ، ومعناه قدره وهيأ له الأسباب ، سمى الموت بذلك لأنه من تقدير الله تعالى ، والحاضر : الحي العظيم أو القوم ، وقال ابن سيده : هو الحي إذا حضروا الدار التي بها مجتمعهم ، ومنه قول الشاعر :

في حاضر لجب بالليل سامره

فيه الصواهل والرايات والعكر

__________________

(١) يريد أن قول الشاعر «لمحقوقة» ليس خبر «إن» على ما ذكر الكوفيون حتى يكون جاريا على غير من هو له وليس معه ضمير بارز ، وإنما هو مبتدأ ، وقوله «أن تستجيبي» يحتمل وجهين : الأول أن يكون خبر ذلك المبتدأ ، فتكون هذه الجملة في محل رفع خبر إن ، وكأن الشاعر قد قال : لجدير بك استجابة دعائه ، فليس في «لمحقوقة» ضمير عائد على غير من جرى عليه ، والوجه الثاني : أن يكون قوله «أن تستجيبي» في تأويل مصدر مرفوع يقع نائب فاعل لمحقوقة أغنى عن خبره ، ويكون «لمحقوقة» خبر إن ، لكنه غير متحمل للضمير أصلا ، لا بارزا ولا مستترا ، لأنه قد رفع اسما ظاهرا ، غير أن هذا الاسم الظاهر ليس صريحا ، بل هو اسم مؤول من الحرف المصدري والفعل.

٥٢

أي منية ميت. وقال الآخر :

[٢٣] وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب؟

أي : كخلالة أبي مرحب ، وقال الآخر :

[٢٤]أكلّ عام نعم تحوونه

يلحقه قوم وتنتجونه؟

______________________________________________________

والاستشهاد بالبيت في قوله «ميت وسط أهله» فإن هذه الكلمة خبر عن قوله «شر المنايا» وأنت تعلم أن الخبر يجب أن يكون عين مبتدئه ، وهذا الخبر ليس عين مبتدئه ، فوجب أن يكون الكلام على تقدير مضاف يصح معه الكلام ويتم به للخبر ما وجب فيه ، والتقدير : وشر المنايا منية ميت وسط أهله ، هذا أصل الكلام ، فحذف المبتدأ وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع ارتفاعه.

[٢٣] هذا البيت من كلام النابغة الجعدي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١١٠) وقد أنشده ابن منظور (خ ل ل) ثالث ثلاثة أبيات ونسبها إليه ، والبيتان قبله هما :

أدوم على العهد ما دام لي

إذا كذبت خلة المخلب

وبعض الأخلاء عند البلاء

والرزء أروغ من ثعلب

والخلة ـ بضم الخاء ـ والخلالة ـ بفتح الخاء أو كسرها أو ضمها ـ والخلولة ، كل ذلك يقال على الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل ، تكون في عفاف الحب ودعارته ، والمخلب : من الخلابة ـ بكسر الخاء ـ وهي الخديعة باللسان ، والأخلاء : جمع خليل ، وهو الصديق ، وأبو مرحب : كنية الظل ، وهو سريع التحول ، وقيل : هي كنية عرقوب الذي يضرب به المثل في خلف الوعد ، والذي قيل فيه : مواعيد عرقوب.

والاستشهاد بالبيت في قوله «كأبي مرحب» فإن هذا الجار والمجرور خبر لأصبح ، واسمها هو قوله خلالته ، وأصل معمولي أصبح مبتدأ وخبر ، ولا يصلح أن يكون «كأبي مرحب» خبرا عن الخلالة التي هي الصداقة ؛ لأن هذا الخبر ليس هو عين المبتدأ ، فلزم أن يكون ثمة مضاف محذوف وأن أصل الكلام : أصبحت خلالته كخلالة أبي مرحب ، على نحو ما بيّناه في البيت السابق.

[٢٤] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ٦٥) ولم ينسب في أصل الكتاب ولا في شرح شواهده للأعلم ، وهو أيضا من شواهد الرضي (١ / ٨٤) وقد شرحه البغدادي في الخزانة (١ / ١٩٦) والأشموني (رقم ١٤٥) وقد نسبه قوم إلى رجل من ضبة ، ولم يعينوه ، وقال البغدادي : هو لقيس بن حصين بن يزيد الحارثي ، والنعم ـ بفتح النون والعين جميعا ـ اسم جنس لفظه مفرد ومعناه جمع ، ونظيره غنم وبقر ، قال الفراء : هو مفرد لا يؤنث ، يقال : هذا نعم وارد ، وقال الهروي : النعم والأنعام يذكران ويؤنثان ، وقال الراغب : النعم مختص بالإبل ، والأنعام يقال للإبل والبقر والغنم ، ويلقحه : مضارع ألقح الفحل الناقة ؛ إذا أحبلها ، وتنتجونه : أي تستولدونه ، يريد أنهم يكثرون من شن الغارات فيأخذون ممن يغيرون عليه النوق الحوامل فتلد عندهم. والاستشهاد بالبيت في قوله «أكل عام نعم» فإن قوله «كل عام» ظرف زمان متعلق بمحذوف يقع خبرا مقدما ، وقوله «نعم» مبتدأ مؤخر ، والنعم : اسم

٥٣

أي : إحراز نعم. وقال الآخر :

[٢٥] كأنّ عذيرهم بجنوب سلّى

نعام قاق في بلد قفار

أي : كأن عذيرهم عذير نعام. والعذير : الحال ، والحال لا يشبّه بالنعام ـ وقال الآخر :

[٢٦] قليل عيبه ، والعيب جمّ

ولكنّ الغنى ربّ غفور

______________________________________________________

من الأسماء الدالة على الذات ، ومن المقرر عند النحاة أن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن اسم الذات ، وللتخلص من ذلك قدر المؤلف مضافا هو اسم معنى يكون هو المبتدأ وأصل الكلام عنده : أكل عام إحراز نعم ، وقد تبعه في هذا التقدير ابن صاحب الألفية ، وقدره الرضي : أكل عام حواية نعم ، وقوم يقدرونه : أكل عام نهب نعم ، والخطب في ذلك سهل ؛ فإنّ هؤلاء جميعا يسيرون في فلك واحد ، وخلاصته أنه لا بدّ من تقدير مضاف يكون اسم معنى ، وهذا أحد وجهين في هذا البيت ، والوجه الثاني لأبي العباس المبرد ، وخلاصته أنه يتعين تقدير المضاف إذا كان اسم الذات الواقع مبتدأ مخبرا عنه بظرف زمان ليس له تجدد وحدوث مرة بعد مرة ، أما إذا كان له تجدد وحدوث مرة بعد مرة فلا يلزم تقدير مضاف يكون اسم معنى ، والكلام هنا من هذا القبيل ، وانظر إلى قول ابن مالك في التسهيل «ولا يغني ظرف زمان غالبا عن خبر اسم عين ، ما لم يشبه اسم المعنى بالحدوث وقتا دون وقت ، أو تنو إضافة اسم معنى إليه ، أو يعم واسم الزمان خاص أو مسؤول به عن خاص ، ويغني عن خبر اسم معنى مطلقا» اه.

[٢٥] أنشد ابن منظور هذا البيت (س ل ل) ولم ينسبه ، وأنشده في (ق وق) ونسبه إلى النابغة ، وحكى عن ابن بري نسبته إلى شقيق بن جزء بن رباح الباهلي. وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠٩) والغدير : القطعة من الماء يغادرها السيل ، أي يتركها ، فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من المغادرة على تقدير طرح الحروف الزائدة ، والعذير ـ بالعين المهملة والذال المعجمة ـ الحال ، وسلى ـ بكسر السين وتشديد اللام ـ اسم موضع بالأهواز كثير التمر ، وقاق : أي صوت ، وبلد قفار : أي خالية موحشة ، وأصل القفار جمع قفر ـ بالفتح ـ لكنه توهم سعة البلد وجعل كل جزء منها بلدا فوصف البلد ـ وهو في الأصل مفرد ـ بالجمع على هذا. والاستشهاد بالبيت في قوله «كأن عذيرهم نعام» فإن الخبر في هذه الجملة ليس هو عين المبتدأ ، ولهذا كان الكلام على تقدير مضاف يتم به كون الخبر هو المبتدأ ، وأصل الكلام : كأن عذيرهم عذير نعام ، قال ابن منظور بعد أن أنشد البيت «أراد عذير نعام ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، ومعناه أي كأن حالهم في الهزيمة حال نعام تغدو مذعورة» اه.

[٢٦] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، ولا وقفت له على سوابق أو لواحق تتصل به. والجم ـ بفتح الجيم وتشديد الميم ـ الكثير. وقد زعم المؤلف أن قول الشاعر «ولكن الغنى رب» على تقدير مضاف ، وأصل الكلام : ولكن الغنى غنى رب ، وهذا كلام فاسد من وجهين : الأول أن كلمة «رب» ههنا معناها المصلح ، فإنك تقول «رب فلان الشيء

٥٤

[٣٤] أي : ولكن الغنى غنى رب غفور ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

والشواهد على هذا النحو أكثر من أن تحصى ؛ فعلى هذا يكون قد أجرى قوله «متقلديها» ـ وهو اسم الفاعل ـ على ذلك المحذوف ، فلا يفتقر إلى إبراز الضمير.

وأما قولهم «إن الإضمار في اسم الفاعل إنما كان لشبه الفعل وهو يشابه الفعل إذا جرى على غير من هو له» قلنا : فلكونه فرعا على الفعل وجب فيه إبراز الضمير هاهنا ؛ لئلا يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع ، ولما يؤدي إليه ترك الإبراز من اللّبس على ما بيّنا ، والله أعلم

______________________________________________________

يربه» تعني أنه أصلحه ، ومن ذلك قول الشاعر :

يرب الذي يأتي من العرف أنه

إذا سئل المعروف زاد وتمما

ومعنى قول الشاعر «ولكن الغنى رب غفور» ولكن الغنى مصلح لفساد أموره ساتر لمساويه ، وهذا معنى مستقيم من غير تقدير ، والوجه الثاني : أنا نسلم جدلا أن كلمة الرب على المعنى الذي تبادر إلى ذهن المؤلف ، لكن لا نسلم مع ذلك أن الكلام يحتاج إلى تقدير المضاف ، بل تقدير المضاف يفسد المعنى ، وذلك لأن الشاعر يريد تشبيه الغنى بالرب الغفور ، والمعنى على هذا أن الناس يرون عيوب الرجل الغني قليلة ولو كانت أكثر من زبد البحر ، وذلك لأن غناه يغطي عليها ويسترها ، وتأمل ذلك جيدا ، ولا تكن أسير التقليد.

٥٥

٩

مسألة

[القول في تقديم الخبر على المبتدأ](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه ، مفردا كان أو جملة ؛ [فالمفرد] نحو «قائم زيد ، وذاهب عمرو» والجملة نحو «أبوه قائم زيد ، وأخوه ذاهب عمرو». وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه المفرد والجملة.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه مفردا كان أو جملة لأنه يؤدي إلى أن تقدّم ضمير الاسم على ظاهره ، ألا ترى أنك إذا قلت «قائم زيد» كان في قائم ضمير زيد؟ وكذلك إذا قلت «أبوه قائم زيد» كانت الهاء في أبوه ضمير زيد ؛ فقد تقدم ضمير الاسم على ظاهره ، ولا خلاف أن رتبة ضمير الاسم بعد ظاهره ؛ فوجب أن لا يجوز تقديمه عليه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما جوّزنا ذلك لأنه قد جاء كثيرا في كلام العرب وأشعارهم ؛ فأما ما جاء من ذلك في كلامهم فقولهم في المثل «في بيته يؤتى الحكم» وقولهم «في أكفانه لفّ الميت» و «مشنوء من يشنؤك» وحكى سيبويه «تميميّ أنا» فقد تقدم الضمير في هذه المواضع كلها على الظاهر ؛ لأن التقدير فيها : الحكم يؤتى في بيته ، والميت لف في أكفانه ، ومن يشنؤك مشنوء ، وأنا تميميّ ، وأما ما جاء من ذلك في أشعارهم فنحو ما قال الشاعر :

[٢٧] بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد

______________________________________________________

[٢٧] ينسب قوم هذا البيت للفرزدق همام بن غالب ، والأكثرون على أنه لا يعرف قائله مع كثرة استشهاد العلماء به في كتب النحو والبلاغة والفرائض ، وألفاظه ومعناه في غاية الوضوح. وقد استشهد به الرضي في شرح الكافية (١ / ٨٧) والأشموني في شرح الألفية (رقم ١٥٣)

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح ابن يعيش على المفصل (ص ١١٢ وما يليها ط أوربة) وشرح الرضي على الكافية (١ / ٨٧ وما يليها) وحاشية الصبان على الأشموني (١ / ٢٠٢ بولاق) وشرح الأشموني (١ / ٢٨١ وما بعدها بتحقيقنا) والتوضيح ١ / ٢٠٣ وما بعدها بولاق).

٥٦

[٣٥] ويروى «الأكارم» وتقديره : بنو أبنائنا بنونا. وقال الآخر :

[٢٨]فتى ما ابن الأغرّ إذا شتونا

وحبّ الزّاد في شهري قماح

وتقديره : ابن الأغر فتى ما إذا شتونا ، وقال الشّمّاخ :

[٢٩] كلا يومي طوالة وصل أروى

ظنون ، آن مطّرح الظّنون

______________________________________________________

وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٧١ بتحقيقنا) وفي مغني اللبيب (رقم ٧٠٢ بتحقيقنا) والاستشهاد به في قوله «بنونا بنو أبنائنا» فإن هذه الجملة اشتملت على مبتدأ وخبر ، وقد تقدم الخبر ـ وهو قوله بنونا ـ على المبتدأ ـ وهو قوله بنو أبنائنا ـ وقد استساغ الشاعر تقديم الخبر على المبتدأ مع كونهما في رتبة واحدة من التعريف وكل واحد منهما صالح للابتداء به لوجود قرينة معنوية مرشدة إلى المبتدأ وإلى الخبر ، معينة أحدهما للابتداء به والآخر للإخبار به ، وذلك أنه يريد تشبيه أبناء الأبناء بالأبناء ، في المحبة والعطف عليهم ، ولا يمكن أن يتسرب إلى فهم أحد أن غرضه تشبيه الأبناء بأبناء الأبناء ، فإن أصل المحبة والحنان والعطف للأبناء والغرض إثبات أن أبناء الأبناء مثلهم في هذه الخلال ، لا العكس.

[٢٨] هذا البيت من كلام مالك بن خالد الهذلي ، وقد أنشده ابن منظور (ق م ح) ونسبه إليه. وقوله «فتى ما» معناه فتى أي فتى ، فما هذه صفة لفتى ، والشتاء عندهم زمن الجدب والقحط ، ولهذا يكون الكرم فيه نادرا ، ومن يطعم قليلا ، وهو ممدوح أشد المدح ، وقوله «حب» هو بضم الحاء ـ مثل نعم في المدح ، وشهرا قماح ـ بضم القاف بزنة غراب أو بكسرها بزنة كتاب ـ هما كانون الأول وكانون الثاني ، سموهما بذلك لأنهما يكره فيهما شرب الماء ، وقد قالوا «قمح البعير ، وقامح» إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب ، والاستشهاد به في قوله «فتى ما ابن الأغر» فإن هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وقد تقدم فيها الخبر على مبتدئه ، ولا يجوز لك أن تجعل المتقدم ـ وهو قوله فتى ما ـ مبتدأ ، والمتأخر ـ وهو قوله ابن الأغر ـ خبرا عنه ، وذلك لأن المتقدم نكرة والمتأخر معرفة ، والأصل في المبتدأ أن يكون معرفة ولا يكون نكرة إلا بمسوغ ، والأصل في الخبر أن يكون نكرة ؛ لأنه يكون مجهولا للمخاطب حتى يفيده الكلام فائدة جديدة لم تكن عنده قبل الكلام.

[٢٩] هذا البيت للشماخ بن ضرار الغطفاني ـ كما قال المؤلف ـ وقد أنشده ابن منظور (ط ول) وأنشده ياقوت في معجم البلدان (طوالة). وطوالة ـ بضم الطاء وفتح الواو مخففة ـ قال ياقوت : موضع ببرقان فيه بئر ، وقال نصر : بئر في ديار فزارة لبني مرة وغطفان ، وأروى : من أسماء النساء ، وظنون : مظنون غير مقطوع به ، ومطرح ـ بضم الميم وتشديد الطاء مفتوحة ـ مصدر ميمي بمعنى الإطراح. والاستشهاد به في قوله «كلا يومي طوالة وصل أروى ظنون» فإن قوله «وصل أروى» مبتدأ ، وقوله «ظنون» خبر المبتدأ ، وقد تقدم المبتدأ وتأخر الخبر على ما هو الأصل فيهما ، ولكن قوله «كلا يومي طوالة» ظرف متعلق يظنون الذي هو الخبر ، وقد تقدم هذا الظرف على المبتدأ كما هو ظاهر ، وقد استقر عند النحاة أن تقديم المعمول يدل على أن العامل فيه يجوز أن يتقدم فيكون في موضع هذا المعمول ،

٥٧

ووجه الدلالة من هذا البيت هو أن قوله «وصل أروى» مبتدأ ، و «ظنون» خبره ، و «كلا يومي طوالة» ظرف يتعلق ب «ظنون» الذي هو خبر المبتدأ ، وقد تقدم معموله على المبتدأ ؛ فلو لم يجز تقديم خبر المبتدأ عليه وإلا لما جاز تقديم معمول خبره عليه ؛ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل ، ألا ترى أنك لو قلت «القتال زيدا حين تأتي» فنصبت زيدا بتأتي لم يجز ، لأنه لا يجوز أن تقدم تأتي على «حين» فتقول : القتال تأتي حين ؛ فلو كان تقديم خبر المبتدأ ممتنعا كما امتنع هاهنا تقديم الفعل لامتنع تقديم معموله على المبتدأ ؛ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل ؛ لأن المعمول تبع للعامل ، فلا يفوقه في التصرف ، بل أجمل أحواله أن يقع موقعه ؛ إذ لو قلنا إنه يقع حيث لا يقع العامل لقدّمنا التابع على المتبوع ؛ ومثال ذلك أن يجلس الغلام حيث لا يجلس السيد ، فتجعل مرتبته فوق مرتبة السيد ، وذلك عدول عن الحكمة ، وخروج عن قضية المعدلة ، وإذا ثبت بهذا جواز تقديم معمول خبر المبتدأ فلأن يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه أولى ؛ لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول ، وهذا لا إشكال فيه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : قولهم «لو جوّزنا تقديمه لأدّى ذلك إلى أن تقدّم ضمير الاسم على ظاهره» قلنا : هذا فاسد ، وذلك لأن الخبر وإن كان مقدما في اللفظ إلا أنه متأخر في التقدير ، وإذا كان مقدما لفظا متأخرا تقديرا ، فلا اعتبار بهذا التقديم في منع الإضمار ؛ ولهذا جاز بالإجماع «ضرب غلامه زيد» إذا جعلت زيدا فاعلا وغلامه مفعولا ؛ لأن غلامه وإن كان متقدما عليه في اللفظ إلا أنه في تقدير التأخير ؛ فلم يمنع ذلك من تقديم الضمير ، قال الله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] فالهاء عائدة إلى موسى وإن كان متأخرا [٣٦] لفظا ؛ لأن موسى في تقدير التقديم ، والضمير في تقدير التأخير ، قال زهير :

[٣٠] من يلق يوما على علّاته هرما

يلق السّماحة منه والنّدى خلقا

______________________________________________________

فلما تقدم الظرف وهو معمول للخبر دل على أن الخبر العامل في هذا الظرف يجوز أن يقع في الموضع الذي وقع فيه الظرف.

[٣٠] هذا البيت لزهير بن أبي سلمى المزني ـ كما قال المؤلف ـ من قصيدة يمدح فيها هرم بن سنان المري. وقوله «على علاته» المراد منه على كل حال ، ومن ذلك قول زهير أيضا :

إن البخيل ملوم حيث كان ول

كن الجواد على علاته هرم

و «السماحة» الجود والعطاء ، تقول : سمح ـ بوزن كرم ـ سماحا ، وسماحة وسموحة وهو رجل سمح : أي جواد كريم. والندى : الكرم ، والخلق : الطبيعة والسجية. والاستشهاد بالبيت في قوله «علاته» فإن هذه الهاء ضمير غيبة يعود إلى هرم ، وهو متأخر في اللفظ عن الضمير ، ونظير ذلك في البيت الآخر الذي أنشدناه ، وذلك يدل على أن العرب ما كانوا يرون بأسا في الإتيان بضمير ـ

٥٨

وقال الأعشى :

[٣١] أصاب الملوك فأفناهم

وأخرج من بيته ذا جدن

ويروى «ذا يزن».

وكذلك أجمعنا على جواز تقديم خبر «كان» على اسمها ، نحو «كان قائما زيد» وإن كان قد قدّم فيه ضمير الاسم على ظاهره ، إلا أنه لما كان في تقدير التأخير لم يمنع ذلك من تقديم الضمير ، ولهذا لو فقد هذا التقدير من التقديم والتأخير لما جاز تقديم الضمير ، ألا ترى أنه لا يجوز «ضرب غلامه زيدا» إذا جعلت غلامه فاعلا وزيدا مفعولا ؛ لأن التقدير إنما يخالف اللفظ إذا عدل بالشيء عن الموضع الذي يستحقه ؛ فأما إذا وقع في الموضع الذي يستحقه فمحال أن يقال إن النيّة به غير ذلك. وهاهنا قد وقع الفاعل في رتبته والمفعول في رتبته ، فلم يمكن أن تجعل الضمير في تقدير التأخير ، بخلاف ما إذا قلت : «ضرب غلامه زيد» فجعلت غلامه مفعولا وزيدا فاعلا ، فأما قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة : ١٢٤] فإنه وإن كان بتقدير التأخير يصير إلى قولك وإذ ابتلى ربّه إبراهيم ، فيكون إضمارا قبل الذكر كقولك : «ضرب غلامه زيدا» إلا أن بينهما فرقا ، وذلك لأن قولك «ضرب غلامه زيدا» تقدّم فيه ضمير الاسم على ظاهره لفظا وتقديرا ، وقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] تقدم فيه ضمير الاسم على ظاهره تقديرا لا لفظا ، والضمير متى تقدم تقديرا لا لفظا أو تقدم لفظا لا تقديرا فإنه يجوز ، بخلاف ما إذا تقدم عليه لفظا وتقديرا ، والله أعلم.

______________________________________________________

الغيبة قبل مرجعه في بعض المواضع ، وقد جاءوا بذلك في النثر أيضا ، ومنه قولهم في مثل «في بيته يؤتى الحكم» وقولهم «في أكفانه لف الميت» وقد ذكرهما المؤلف.

[٣١] هذا البيت من كلام أبي بصير صناجة العرب الأعشى ميمون بن قيس ـ كما قال المؤلف ـ من كلمة له ثابتة في ديوانه (ص ١٣ ط فينا) وذو يزن ـ بفتح الياء والزاي جميعا ـ ملك من ملوك حمير ، وإليه تنسب الرماح اليزنية ، ويقال : يزن اسم موضع في اليمن ، أضيف إليه ذو ، فصار معناه صاحب يزن ، وأطلق على هذا الملك ، ونظيره : ذو رعين ـ بزنة المصغر ـ وذوجدن ، أي صاحب رعين وصاحب جدن ، وهما قصران. والاستشهاد بالبيت في قوله «بيته» فإن هذه الهاء ضمير غيبة يعود إلى ذي يزن ، وهو متأخر عن الضمير ، وذلك يدل على أن العرب كانوا يرون أنه يجوز في بعض المواضع أن يكون مرجع ضمير الغائب متأخرا عن ذلك الضمير ، ومتى كانوا يرون ذلك جائزا بطل قول الكوفيين إن تقديم الخبر يشتمل على محظور وهو تقدم ضمير الغائب على مرجعه ؛ لأن الخبر يشتمل على ضمير يعود إلى المبتدأ ، وهذا واضح إن شاء الله.

٥٩

١٠

مسألة

[القول في العامل في الاسم المرفوع بعد لو لا](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «لو لا» ترفع الاسم بعدها ، نحو «لو لا زيد لأكرمتك» ، وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بالابتداء.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : [٣٧] إنما قلنا إنها ترفع الاسم بعدها لأنها نائبة عن الفعل الذي لو ظهر لرفع الاسم ؛ لأن التقدير في قولك «لو لا زيد لأكرمتك» لو لم يمنعني زيد من إكرامك لأكرمتك ، إلا أنهم حذفوا الفعل تخفيفا ، وزادوا «لا» على «لو» فصار بمنزلة حرف واحد ، وصار هذا بمنزلة قولهم «أمّا أنت منطلقا انطلقت معك» والتقدير فيه : أن كنت منطلقا انطلقت معك ، قال الشاعر :

[٣٢] أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

والتقدير فيه : أن كنت ذا نفر ، فحذف الفعل ، وزاد «ما» على أن عوضا عن

______________________________________________________

[٣٢] هذا البيت للعباس بن مرداس السلمي ، وقد أنشده سيبويه (١ / ١٤٨) وابن منظور (ض ب ع) ونسبه له ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٢٠٧) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٩٧) وابن عقيل (رقم ٧٤) وأبو خراشة : كنية خفاف بن ندبة أحد أغربة العرب ، وقد أسلم وشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حنينا ، وقيل : شهد فتح مكة. وذا نفر : يريد به ذا رهط كثير العدد ، وأصل الضبع الحيوان المعروف ثم استعير للسنة المجدبة ، يقول : إن كنت تفخر علينا بكثرة عدد قومك ، فإن لا فخر لك في ذلك ؛ لأن قومي لم تكن قلتهم بسبب موتهم في القحط والجماعة ، والاستشهاد بالبيت في قوله «أما أنت» فإن أصل هذه العبارة «أن كنت» فحذفت كان ثم عوض عنها «ما» وأدغمت ميم ما في نون أن ، فتاب هذا الحرف الذي هو ما مناب فعل هو كان ، قالوا : وإذا ناب منابه أدى ما كان الفعل يؤديه ، وقد كان هذا الفعل يرفع الاسم الذي بعده ، فما رافعة له ، وقد أوضح المؤلف هذا الكلام.

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : حاشية الصبان على الأشموني (١ / ٢٠٧ و ٤ / ٤٠ بولاق) والتصريح للشيخ خالد (١ / ٢١٢ و ٢ / ٣٣٠ بولاق) ومغني اللبيب لابن هشام (ص ٢٧٢ بتحقيقنا) وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري (ص ١١٦ أوربة) وشرح الرضي على الكافية (١ / ٩٣).

٦٠