الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

فأما من ذهب إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب ، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل ، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب ؛ فقال : لأن الأصل في قولك هذا أبوه «هذا أبوه» فاستثقلت الضمة على الواو ، فنقلت إلى ما قبلها (١) ، وبقيت الواو على حالها ، فكان فيه نقل بلا قلب ، والأصل في قولك رأيت أباه «رأيت أبوه» فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ؛ فكان فيه قلب بلا نقل ، والأصل في قولك مررت بأبيك «مررت بأبوك ، فاستثقلت الكسرة على الواو ، فنقلت إلى ما قبلها (٢) ، فقلبت الواو ياء لسكونها (٣) وانكسار ما قبلها ، فكان فيه نقل وقلب.

وأما من ذهب إلى أن الباء حرف الإعراب ، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات ؛ فقال : لأن الباء تختلف عليها الحركات في حالة الرفع والنصب والجر كما تختلف حركات الإعراب على سائر حروف الإعراب ؛ فدل على أن الباء حرف الإعراب [١٠] ، وأن هذه الحركات ـ التي هي الضمة والفتحة والكسرة ـ حركات إعراب ، وإنما أشبعت فنشأت عنها هذه الحروف ـ التي هي الواو والألف والياء ـ فالواو عن إشباع الضمة ، والألف عن إشباع الفتحة ، والياء عن إشباع الكسرة ، وقد جاء ذلك كثيرا في استعمالهم ، قال الشاعر في إشباع الضمة :

[٦] لله يعلم أنّا في تلفّتنا

يوم الفراق إلى إخواننا صور

______________________________________________________

[٦] أنشد ابن منظور هذين البيتين في اللسان (ش ر ى) وأنشد أولهما في (ص ور) من غير عزو ، وأنشدهما ابن جني في سر الصناعة (١ / ٢٩) من غير عزو أيضا ، وأنشدهما الرضي ، وقد شرحهما البغدادي في الخزانة (١ / ٥٨ بولاق) ولم يعزهما ، وكلهم يروي البيتين ببعض اختلاف في بعض ألفاظهما ، وسننبه عليه ، وصور : جمع أصور ، وهو وصف فعله صور يصور صورا ـ على مثال فرح يفرح فرحا ـ ومعناه المائل العين ، وروى ابن منظور «وأنني حوثما يشرى الهوى بصرى» وحوثما : لغة في حيثما ، و «يشرى» مضارع أشراه إلى ناحية كذا بمعنى أماله ، وهو بمعنى «يثنى» في رواية المؤلف ، يريد أنه كان دائم التلفت إلى أحبابه يوم الفراق ، وأنه كان يتجه في التفاته إلى الجهة التي يسلكها أحبته ، ومحل الاستشهاد قوله «فأنظور» فإنه أراد «فأنظر» لكنه لما كان محتاجا إلى الواو في القافية أشبع الضمة التي على الظاء فنشأت الواو.

وأقول : قال أبو الطيب المتنبي :

ويطعمه التوراب قبل فطامه

ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل ـ

__________________

(١) حكى العلامة ابن مالك في شرح التسهيل أنك إذا قلت «هذا أبو زيد» فأصله «أبو زيد» بفتح الباء وضم الواو للإعراب ، ثم أتبعت الباء للواو فضمت ، فصار الباء والواو جميعا مضمومين ، ثم استثقلت الضمة على الواو فحذفت ، وهذا أدق مما ذكره المؤلف ؛ قالوا : لأن نقل الحركة إلى حرف متحرك غير معهود ، ويقال مثل ذلك في حالة الجر.

 (٢) انظر الهامش ٢ في ص ١١.

٢١

وأنّني حيثما يثني الهوى بصري

من حيثما سلكوا أدنو فأنظور

أراد «فأنظر» فأشبع الضمّ ، فنشأت الواو ، وقال الآخر :

[٧] هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا

من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع

أراد «لم تهج» ، وقال الآخر :

[٨] * كأنّ في أنيابها القرنفول*

______________________________________________________

وضبط الشراح قوله «التوراب» بفتح التاء وسكون الواو ، ثم راحوا ينددون بها ويقولون : إنه يخترع لكلام العرب أوزانا لم يقولوها ، ولو أنهم ضبطوا الكلمة بضم التاء لوجدوا لها مساغا ونظائر في كلام من يحتجون بكلامه ويخرجونه ، فإن العرب يقولون «التراب» بضم التاء بزنة الغراب ، ثم إذا أشبعت التاء نشأت واو مثل واو «أنظور».

[٧] نسب جماعة هذا البيت إلى أبي عمرو بن العلاء ، يقوله للفرزدق الشاعر ، وكان الفرزدق قد هجاه ثم اعتذر له ، والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٤٤) و «زبان» بفتح الزاي وتشديد الباء اسم رجل ، وقد ذكر المجد في القاموس جماعة ممن تسموا بهذا الاسم منهم أبو عمرو بن العلاء المازني النحوي اللغوي المقرىء قيل : هذا اسمه ، وقيل : بل لقبه واسمه العريان أو يحيى ، والاستشهاد به في قوله «لم تهجو» فإن حق العربية عليه أن يقول «لم تهج» بحذف الواو التي هي لام الفعل ، لأن الفعل المضارع المعتل اللام يجزم بحذف لامه ، وللعلماء في تخريج مثل ذلك رأيان : أولهما أن هذه الواو هي لام الفعل التي يحذفها جمهرة العرب من المضارع في حالة الجزم ، ولم يحذفها هذا الشاعر اكتفاء بحذف الحركة كما يصنع في الفعل الصحيح الآخر ، والرأي الثاني هو الذي ذكره المؤلف هنا ، وتلخيصه أن الواو التي هي لام الكلمة قد حذفت ، وأما هذه الواو فإنها واو أخرى نشأت عن إشباع ضمة الجيم ، نظير الواو في «أنظور» في الشاهد السابق ، وانظر الشاهدين ١١ و ١٧.

[٨] ـ هذا بيت من الرجز المشطور ، وقد أنشد ابن منظور في اللسان (ق ر ن ف ل) رجزين كل واحد منهما يشتمل على هذا البيت مع مغايرة طفيفة ، أما أول الرجزين فقول الراجز :

وا ، بأبي ثغرك ذاك المعسول

كأن في أنيابه القرنفول

وأما الثاني فقول الآخر :

خود أناة كالمهاة عطبول

كأن في أنيابها القرنفول

و «القرنفول» هو القرنفل الذي ورد في قول امرىء القيس :

إذا التفتت نحوي تضوّع ريحها

نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

يريد الراجز أن يصف ثغر هذه الجارية الناعمة التي يتغزل فيها بأنه طيب الريح جميل النكهة ، ومحل الاستشهاد فيه قوله «القرنفول» فإن أصل الكلمة «القرنفل» فلما اضطر إلى الواو لإقامة الوزن الذي بنى عليه رجزه أشبع ضمة الفاء فنشأت الواو عن هذا الإشباع.

٢٢

أراد «القرنفل» وقال الشاعر في إشباع الفتحة :

[٩] وأنت من الغوائل حين ترمى

ومن ذمّ الرّجال بمنتزاح

أراد «بمنتزح» فأشبع الفتحة فنشأت الألف ، وقال الآخر :

[١٠] أقول إذ خرّت على الكلكال

يا ناقتا ما جلت من مجال

أراد «الكلكل» ، وقال الآخر :

[١١] إذا العجوز غضبت فطلّق

ولا ترضّاها ولا تملّق

______________________________________________________

[٩] هذا البيت من كلام ابن هرمة ، واسمه إبراهيم بن علي ، شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، وهو من كلمة يرثي فيها ابنه ، وقد أنشده ابن منظور (ن ز ح) ونسبه إليه ، وأنشده ابن جني في سر الصناعة (١ / ٢٩) وقال قبل إنشاده «وأنشدنا أبو علي لابن هرمة يرثي ابنه» اه ، و «منتزاح» مصدر ميمي فعله «انتزح ينتزح» أي بعد ، وتقول «أنت بمنتزح من كذا» تريد أنت ببعد منه ، أو أنت في مكان بعيد منه ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بمنتزاح» فإن أصله «بمنتزح» لكنه لما اضطر لإقامة وزن البيت أشبع فتحة الزاي فنشأت من هذا الإشباع ألف.

[١٠] هذان بيتان من الرجز المشطور ، وقد أنشدهما ابن منظور (ك ل ل) من غير عزو. و «الكلكال» والكلكل : الصدر من كل شيء ، وقيل : هو باطن الزور ، وقيل : هو ما بين الترقوتين ، وقوله «يا ناقتا» هو ناقة مضاف لياء المتكلم ، وقد قلب الكسرة التي قبل الياء فتحة ثم قلب الياء ألفا ، وقد جاء في لسان العرب «يا ناقتي» على الأصل ، والاستشهاد بالبيت في قوله «الكلكال» فإن أصله «الكلكل» كما هو الوارد في قول امرىء القيس :

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

لكن الراجز لما اضطر أشبع فتحة الكاف الثانية فنشأت عن هذا الإشباع ألف ، كما أن راجزا آخر ـ وهو منظور بن مرثد الأسدي ـ اضطر إلى تضعيف اللام الأخيرة فقال :

كأن مهواها على الكلكلّ

موضع كفي راهب يصلي

[١١] هذان بيتان من الرجز المشطور ، وقد أنشدهما ابن منظور (ر ض ى) من غير عزو ، وقوله «لا ترضاها» معناه لا تتطلب رضاها ، وقوله «لا تملق» أصله لا تتملق ، فحذف إحدى التاءين ، ومعناه لا تتكلف الملق لها ، والاستشهاد به في قوله «ولا ترضاها» فقد كان من حق العربية عليه أن يقول «ولا ترضها» فيكون الفعل المضارع مجزوما بلا الناهية ، وعلامة جزمه حذف الألف ، وللعلماء في هذه الألف قولان : أحدهما : أن هذه الألف هي لام الكلمة التي كان يجب عليه حذفها للجازم ، لكنه اكتفى بحذف الحركة كما يكتفي بحذف الحركة في الفعل الصحيح الآخر ، والقول الثاني : أن لام الفعل قد حذفت كما هو مقتضى الجزم ، وهذه الألف ناشئة عن إشباع فتحة الضاد ، فالفعل مجزوم بحذف الألف والفتحة قبلها دليل عليها ، وقد ذكرنا هذين الرأيين في شرح الشاهد (رقم ٧) وانظر أيضا الشاهد ١٧.

ونظير هذين البيتين قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :

وتضحك مني شيخة عبشمية

كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا ـ

٢٣

أراد «ولا ترضّها» ، وقال عنترة :

[١٢] ينباع من ذفرى غضوب جسرة

زيّافة مثل الفنيق المكدم

أراد «ينبع». وقال الشاعر في إشباع الكسرة :

[١٣] تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف

______________________________________________________

فإن قوله «كأن لم تري» يجري فيه الرأيان اللذان ذكرناهما ، ويزيد هذا البيت وجها ثالثا ، وحاصله أن قوله «تري» بفتح التاء والراء وسكون الياء ، وهذه الياء هي ياء المؤنثة المخاطبة ، وليست لام الكلمة ولا ألف إشباع ، وكأنه بعد أن ذكر ضحكها منه التفت إليها فقال مخاطبا لها : كأنك لم تري قبل هذه المرة أسيرا يمانيا.

[١٢] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ لعنترة بن شداد العبسي ، من قصيدته المعلقة المشهورة ، وهو من شواهد الرضي ، وقد شرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٥٩) وقوله «ينباع» معناه ينبع ، تقول «نبع الماء ، والعرق ، ونحوهما ، ينبع» من باب فتح يفتح ، ويأتي أيضا من بابي نصر وضرب ـ إذا خرج ، والذفرى ـ بكسر الذال وسكون الفاء ـ العظم الذي خلف الأذن ، و «غضوب» هي الناقة و «جسرة» الطويلة العظيمة الجسم ، و «زيافة» هي السريعة السير ، و «الفنيق» الفحل المكرم الذي لا يؤذي لكرامته على أهله ، و «المكدم» الفحل القوي ، وقالوا «بعير مكدم» يريدون أنه غليظ شديد ، وقالوا أيضا «قدح مكدم» يريدون أن زجاجه غليظ ، والاستشهاد به في قوله «ينباع» فإن أصله ـ على ما قال المؤلف ـ ينبع ، مثل يقطع ويفتح ، فلما اضطر لإقامة الوزن أشبع فتحة الباء فنشأت عن هذا الإشباع ألف ، وعلى هذا يكون وزن ينباع يفعال ، وهذا أحد وجهين للنحاة في هذه الكلمة ، والثاني أن الياء ياء المضارعة كما في الرأي الأول ، لكن النون التي بعدها ليست أصلا ، ولكنها زائدة ، والحروف الأصلية هي الباء وما بعدها ، وأصل هذه الألف ياء ، فقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فوزن ينباع على هذا ينفعل ، مثل ينقاد وينداح ، وهذا بعيد لا يقره الاشتقاق ولا المعنى المراد.

ونظير هذه الشواهد التي أثرها المؤلف لإشباع الفتحة حتى تنشأ ألف قول الراجز :

أعوذ بالله من العقراب

الشائلات عقد الأذناب

أراد «العقرب» فأشبع فتحة الراء فنشأت ألف ، ومثله قول الراجز الآخر وأنشده ابن منظور (د ر ه م).

لو أن عندي مائتي درهام

لجاز في آفاقها خاتامي

أراد «مائتي درهم» فأشبع فتحة الهاء فنشأت ألف ، ومثل ذلك في قوله «خاتامي» فإنه أراد «خاتمي» فأشبع فتحة التاء فتولدت ألف ، ونظيره قول الراجز الآخر ، وأنشده ابن منظور أيضا (خ ت م) لبعض بني عقيل :

لئن كان ما حدثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشمس باديا

وأركب حمارا بين سرج وفروة

وأعر من الخاتام صغرى شماليا

أراد أن يقول «وأعر من الخاتم» فأشبع فتحة التاء فتولدت من ذلك الإشباع ألف.

[١٣] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب ، وقد أنشده ابن منظور (ص ر ف ـ د ر ه م)

٢٤

أراد «الدراهم» و «الصيارف» فأشبع الكسرة فنشأت الياء ، ويحتمل أن يكون الدراهيم جمع درهام ، ولا يحتمل الصياريف هذا الاحتمال ، وقال الآخر :

[١٤]كأنّي بفتخاء الجناحين لقوة

على عجل منّي أطأطىء شيمالي

أراد «شمالي» ، وقال الآخر :

[١٥]لمّا نزلنا نصبنا ظلّ أخبية

وفار للقوم باللّحم المراجيل

______________________________________________________

منسوبا له ، وأنشده ابن جني في سر الصناعة (١ / ٢٨) وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠) وهو من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٥٦٧ بتحقيقنا) والأشموني (رقم ٦٨٩ بتحقيقنا) وابن عقيل (رقم ٢٥٣ بتحقيقنا) وقوله «تنفي» معناه تطرد وتبعد ، و «يداها» أي يدا الناقة التي يصفها ، و «هاجرة» هي الوقت حين ينتصف النهار ويشتد الحر ، و «تنقاد» أحد مصادر نقد الدراهم ينقدها نقدا ؛ إذا ميز رديئها من جيدها ، و «الصياريف» جمع صيرف ـ بوزن جعفر ـ وهو الخبير بالنقد الذي يبادل على بعضه ببعض. والاستشهاد به في قوله «الدراهيم» و «الصياريف» فإن الأصل الدراهم والصيارف ، فأشبع كسرة الهاء في الدراهم وكسرة الراء في الصيارف فتولدت عن كل إشباع منهما ياء ، وهذا تام الدلالة في الصياريف ، أما في الدراهيم فقد يقال : إنه جمع درهام لا درهم ـ كما نبه إليه المؤلف ـ فالإشباع والتوليد في المفرد ، والخطب في ذلك سهل ، ونظير ذلك قول ابن مقبل :

قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة

حتى ألمت بنا يوما ملمات

فقلت والمرء تخطيه عطيته

أوفى عطيته إياي ميئات

أراد أن يقول «مئات» فأشبع كسرة الميم فتولدت ياء ، وقد استباح الشعراء المحدثون لأنفسهم أن يرتكبوا مثل هذه الضرورات فقال أحد الخالديين شاعري سيف الدولة الحمداني :

خولتنا شمسا وبدرا أشرقت

بهما لدينا الظلمة الحنديس

فإنه أراد أن يقول «الحندس» فأشبع كسرة الدال فتولدت ياء ، والحندس : الشديد الظلام.

[١٤] هذا البيت لامرىء القيس بن حجر الكندي ، وقد أنشده ابن منظور (ش م ل). وقوله «فتخاء الجناحين» هي العقاب اللينة الجناح ، وذلك أسهل لطيرانها ، و «لقوة» بفتح اللام أو كسرها ، مع سكون القاف فيهما ـ هي الخفيفة السريعة. يصف ناقته التي ارتحلها بالسرعة ، فشبهها بالعقاب. والاستشهاد بالبيت في قوله «شيمالي» فإن أصلها شمالي ، فلما اضطر لإقامة الوزن أشبع كسرة الشين فتولدت ياء ، وهذه إحدى روايتين في هذه الكلمة في هذا البيت ، والرواية الأخرى «أطأطىء شملالي» والشملال لغة في الشمال ، ومن العلماء من يجعل الشيمال بالياء لغة أخرى في الشمال ، ومن العلماء من ينكر أنها لغة ويذهب إلى ما ذهب المؤلف إليه من أن الشاعر اضطر فأشبع الكسرة ، والخطب في ذلك سهل ؛ فإن الذي أثبتها لغة اعتمد على قول هذا الشاعر أو مثله ممن يستشهد بقوله.

[١٥] هذا البيت لعبدة بن الطبيب ، من قصيدة له ثابتة في المفضليات (المفضلية ٢٦) وقد أنشد هذا البيت ابن عبد ربه في العقد الفريد (١ / ١٩٢) وله عنده قصة ، والأخبية : جمع خباء

٢٥

أراد «المراجل» ، وقال الآخر :

[١٦]لا عهد لي بنيضال

أصبحت كالشّنّ البال

أراد «بنضال» ، وقال الآخر :

[١٧]ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

______________________________________________________

بوزن كساء وأكسية ، ورداء وأردية ـ والمراجيل : جمع مرجل ، وهو القدر التي يطبخ فيها الطعام ، يقول : إنهم حين حطوا رحالهم أسرعوا فنحروا الذبائح وأوقدوا عليها ففارت قدورهم باللحم ، يصف أنفسهم بالكرم ، والاستشهاد بالبيت في قوله «المراجيل» فإنّ أصله المراجل ؛ لأنه جمع مرجل على وزن منبر ، ولكنه لما اضطر أشبع كسرة الجيم فتولدت عنها ياء.

[١٦] هذان بيتان من الرجز ، وقد أنشدهما ابن منظور (ن ض ل) غير معزو ، والنيضال : مصدر «ناضلة يناضله» إذا باراه في الرمي ، و «الشن» القربة الصغيرة ، والبال : أي البالي.

ومحل الاستشهاد بهذا الشاهد قوله «بنيضال» فإنه مصدر ناضله كما بيّنا لك ، والأصل أن يقول «بنضال» كما تقول : قاتل قتالا ومقاتلة ، ولكنه لما اضطر أشبع كسرة النون فتولدت ياء ، وهذا الذي حكاه المؤلف في هذه الكلمة هو رأي أبي العباس ثعلب ، وأما سيبويه فإنه ذهب إلى أن مصدر الفعل الذي على فاعل كقاتل وشارك يأتي على فعال بكسر الفاء غالبا ، وربما جاء على فيعال بزيادة ياء بعد الفاء تقابل الألف الزائدة في الفعل لئلا يكونوا قد تركوا من حروف الفعل شيئا.

[١٧] هذا البيت من كلام قيس بن زهير بن جذيمة العبسي ، وقد أنشده ابن منظور (أ ت ى) منسوبا إليه ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٤٣) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٢٠) وفي مغني اللبيب (رقم ١٥٦ بتحقيقنا) والأنباء : جمع نبأ ، وهو كالخبر وزنا ومعنى ، وقيل : النبأ خاص بذي الشأن من الأخبار ، وتنمى : تزيد وتكثر ، وهو من بابي ضرب ونصر ، واللبون : الإبل ذوات اللبن ، وبنو زياد : هم الكملة من الرجال الربيع وعمارة وقيس وأنس ، بنو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسي ، وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية ، وكان قيس بن زهير قد طرد إبلا للربيع بن زياد في قصة مشهورة. والاستشهاد بالبيت في قوله «ألم يأتيك» فإن «يأتي» فعل مضارع معتل الآخر ، وقد دخل عليه الجازم ، وجمهرة العرب يجزمونه بحذف حرف العلة ـ وهو هنا الياء ـ فيقولون «ألم يأتك» وللعلماء في هذه الياء رأيان أحدهما : أنها لام الفعل ، وأن الشاعر اكتفى بحذف الحركة كما يفعل مع الفعل الصحيح الآخر ؛ فيكون «يأتي» مجزوما وعلامة جزمه السكون ، والرأي الثاني : أن الشاعر جزم «يأتي» بحذف حرف العلة كما يصنع جمهرة العرب ، إلا أنه اضطر لإقامة الوزن فأشبع كسرة التاء فتولدت عنها ياء ، فهذه الياء ياء الإشباع وليست لام الكلمة ، وهذا الرأي الأخير هو الذي ذهب إليه المؤلف ، قال ابن منظور «وأما قول قيس بن زهير العبسي ألم يأتيك ... فإنّما أثبت الياء ولم يحذفها للجزم ضرورة ، ورده إلى أصله ، قال المازني : ويجوز في الشعر أن تقول : زيد يرميك برفع الياء ، ويغزوك برفع الواو ، وهذا قاضي

٢٦

أراد «ألم يأتك» فأشبع الكسرة فنشأت الياء.

وإشباع الحركات حتى تنشأ عنها هذه الحروف كثير في كلامهم (١) ، فكذلك هاهنا.

وهذا القول ظاهر الفساد ؛ لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات ، وأما في حال اختيار الكلام فلا يجوز ذلك بالإجماع ، وهاهنا بالإجماع تقول في حال الاختيار : هذا أبوك ، ورأيت أباك ، ومررت بأبيك ؛ وكذلك سائرها ، فدلّ على أنها ليست للإشباع عن الحركات ، وأن الحركات ليست للإعراب ، على ما سنبين في الجواب عن كلمات الكوفيين.

أما الجواب عن كلمات الكوفيّين : أما قولهم «إن هذه الحركات تكون حركات إعراب في حال الإفراد فكذلك في حال الإضافة» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن حرف الإعراب في حال الإفراد هو الباء ؛ لأن اللام التي هي الواو من «أبو» لما حذفت من آخر الكلمة صارت العين التي هي الباء بمنزلة اللام في كونها آخر الكلمة ؛ فكانت الحركات عليها حركات إعراب ، فأما في حال الإضافة فحرف الإعراب هو حرف العلة ؛ لأنهم لما أرادوا أن يجعلوا اختلاف الحروف بمنزلة اختلاف الحركات ردّوا اللام في الإضافة ؛ ليدلوا على أن من شأنهم الإعراب بالحروف توطئة لما يأتي من باب التثنية والجمع ، وإذا كان حرف الإعراب هو حرف العلّة لم تكن هذه الحركات على الباء في حال الإضافة حركات إعراب ؛ لأن حركات الإعراب لا تكون في حشو الكلمة ، وصار هذا بمنزلة تاء التأنيث إذا

______________________________________________________

بالتنوين ، فتجري الحرف المعتل مجرى الحرف الصحيح من جميع الوجوه في الأسماء والأفعال جميعا لأنه الأصل» اه. وكلام المازني هو الرأي الأول الذي ذكرناه لك ، وقد ذكرنا مثلهما في شرح الشاهدين ٧ و ١١ فتأمل والله يرشدك.

__________________

(١) وربما عكسوا ذلك ، فقطعوا المدة وحذفوا حرف العلة اكتفاء بالحركة المناسبة له ، ومن ذلك ما أنشده سيبويه (١ / ٩) :

كنواح ريش حمامة نجدية

ومسحت باللثتين عصف الإثمد

فإنه أراد أن يقول «كنواحي ريش حمامة» فحذف الياء اعتمادا على الكسرة التي قبلها أن تدل عليها ، ومثل قول الشاعر ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ١٨) :

في كلت رجليها سلامى واحده

كلتاهما قد قرنت بزائده

فإنه أراد أن يقول «في كلتا رجليها» فحذف الألف ، واكتفى بالفتحة التي قبلها أن تكون مرشدا إليها ، وقد أنشد المؤلف هذا البيت لما قلنا في المسألة (رقم ٦٢) وذكر معه نظائر ، وأعاده مع أمثاله في المسألة (رقم ٧٢) فارتقب ما يجيء هناك.

٢٧

اتصلت ببناء الاسم نحو قائم وقائمة فإنها تصير حرف الإعراب ؛ لأنها صارت آخر الكلمة وتخرج [١٢] ما قبلها عن تلك الصفة ؛ لأنه قد صار بمنزلة حشو الكلمة ؛ فكذلك هاهنا ، وبل أولى ؛ فإن تاء التأنيث زائدة على بناء الاسم وليست أصلية ، وحرف العلة هاهنا أصليّ في بناء الاسم وليس زائدا ، وإذا ترك ما قبل الزائد حشوا فلأن يترك ما قبل الأصليّ حشوا كان ذلك من طريق الأولى.

وأما قولهم «إن الحركة التي تكون إعرابا للمفرد في حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابا له في حال الإضافة نحو : هذا غلام ، وهذا غلامك» قلنا : إنما تكون الحركة فيهما واحدة إذا كان حرف الإعراب فيهما واحدا ، نحو «هذا غلام ، وهذا غلامك» وقد بيّنا اختلاف حرف الإعراب فيهما ؛ فلا يقاس أحدهما على الآخر ، وإن ادّعوا أن حرف الإعراب فيهما واحد ـ على خلاف التحقيق من مذهبهم ـ وزعموا أن الحرف للإعراب وليس بلام الكلمة ، وأنه والحركة مزيدان للإعراب ، فقد بيّنا أن ذلك لا نظير له في كلامهم ، وأن أحدهما زيادة بغير فائدة ، وأوضحنا فساده بما يغني عن الإعادة.

وأما قولهم «تغيّر الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر يدلّ على أنها حركات إعراب» قلنا : هذا لا يدل على أنها حركات إعراب ؛ لأنها إنما تغيرت توطئة للحروف التي بعدها ؛ لأنها من جنسها ، كما قلنا في الجمع السالم نحو «مسلمون ومسلمين» فإن ضمة الميم في الرفع تتغير إلى الكسرة في حال الجر والنصب ، وليس ذلك بإعراب ، وإنما جعلت الضمة توطئة للواو ، والكسرة توطئة للياء ، فكذلك هاهنا ، وإذا بطل أن تكون هذه الحركات حركات إعراب ، وأجمعنا على أن هذه الحروف ـ التي في الواو والألف والياء ـ تدل على الرفع والنصب والجر الذي هو جملة الإعراب ؛ فلا حاجة إلى أن يكون معربا من مكان آخر.

وأما قولهم «إنما أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلة حروفها» قلنا : هذا ينتقض بغد ويد ودم ؛ فإنها قليلة الحروف [و] لا تعرب في حال الإضافة إلا من مكان واحد.

وأما قولهم «ليزيدوا بالإعراب في الإيضاح والبيان» قلنا : الإيضاح والبيان قد حصل بإعراب واحد ، فصار الإعراب الزائد لغير فائدة ، والحكم لا يزيد شيئا لغير فائدة ؛ فوجب أن تكون معربة من مكان واحد كسائر ما أعرب من الكلام ، والله أعلم.

٢٨

[١٣] ٣

مسألة

[القول في إعراب المثنى والجمع على حدّه](١)

ذهب الكوفيّون إلى أن الألف والواو والياء في التثنية والجمع بمنزلة الفتحة والضمة والكسرة في أنها إعراب ، وإليه ذهب أبو علي قطرب بن المستنير ، وزعم قوم أنه مذهب سيبويه ، وليس بصحيح. وذهب البصريون إلى أنها حروف إعراب. وذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المبرد وأبو عثمان المازني إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ، ولكنها تدل على الإعراب. وذهب أبو عمر الجرمي إلى أن انقلابها هو الإعراب ، وحكى عن أبي إسحاق الزّجّاج أن التثنية والجمع مبنيان ، وهو خلاف الإجماع.

أما الكوفيّون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنها إعراب كالحركات أنها تتغير كتغير الحركات ، ألا ترى أنك تقول : قام الزّيدان ، ورأيت الزيدين ، ومررت بالزيدين. وذهب الزيدون ، ورأيت الزيدين ، ومررت بالزيدين ، فتتغير كتغير الحركات ، نحو «قام زيد ، ورأيت زيدا ، ومررت بزيد» وما أشبه ذلك ، فلما تغيرت كتغير الحركات دل على أنها إعراب بمنزلة الحركات ، ولو كانت حروف إعراب لما جاز أن تتغير ذواتها عن حالها ؛ لأن حروف الإعراب لا تتغير ذواتها عن حالها ، فلما تغيرت تغير الحركات دلّ على أنها بمنزلتها ؛ ولهذا سماها سيبويه حروف الإعراب ؛ لأنها الحروف التي أعرب الاسم بها ، كما يقال : حركات الإعراب ـ أي الحركات التي أعرب الاسم بها ـ والذي يدلّ على ذلك أنه جعل الألف في التثنية رفعا فقال : يكون في الرفع ألفا ، وجعل الياء فيها جرا فقال : يكون في الجر ياء مفتوحا ما قبلها ، وجعل الياء أيضا نصبا حملا على الجر فقال :

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الرضي على كافية ابن الحاجب (٢ / ١٦٠) وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل (ص ٦٣ و ٥٨٨ أوربة) وشرح الأشموني (١ / ٤٤ ـ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (١ / ٨٠ بولاق) وتصريح الشيخ خالد (١ / ٧٧ بولاق).

٢٩

ويكون في النصب كذلك ، وهكذا جعل الواو والياء في الجمع رفعا وجرا ونصبا ، والرفع والجر والنصب لا يكون إلا إعرابا ؛ فدلّ على أنها إعراب.

قالوا : ولا يجوز أن يقال «إن هذا يؤدي إلى أن يكون معربا لا حرف إعراب له وهذا لا نظير له ، وذلك لا يجوز» لأنا نقول هنا : إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف ؛ لأن الحركة تدخل في الحرف ، بخلاف ما إذا كان معربا بالحرف ، لأن [١٤] الحرف لا يدخل في الحرف ، والذي يدل على ذلك الخمسة الأمثلة ـ وهي : يفعلان ، وتفعلان ، ويفعلون ، وتفعلون ، وتفعلين يا امرأة ـ فإنها لما كانت معربة بالحرف لم يكن لها حرف إعراب ، ألا ترى أن النون علامة الرفع كالضمة في تضرب؟ وإذا جاز أن تكون هذه الخمسة الأمثلة معربة ولا حرف إعراب لها لأن إعرابها بالحرف فكذلك هاهنا يجوز أن يكون الاسم في التثنية والجمع معربا ولا حرف إعراب له ؛ لأن إعرابه بالحرف.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها حروف إعراب وليست بإعراب لأن هذه الحروف إنما زيدت للدلالة على التثنية والجمع؟ ألا ترى أن الواحد يدل على مفرد ؛ فإذا زيدت هذه الحروف دلت على التثنية والجمع؟ فلما زيدت بمعنى التثنية والجمع صارت من تمام صيغة الكلمة التي وضعت لذلك المعنى ؛ فصارت بمنزلة التاء في قائمة والألف في حبلى ، وكما أن التاء والألف حرفا إعراب فكذلك هذه الحروف هاهنا.

وأما من ذهب إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ولكنها تدل على الإعراب فقال : لأنها لو كانت إعرابا لما اختلّ معنى الكلمة بإسقاطها كإسقاط الضمة من دال زيد في قولك «قام زيد» وما أشبه ذلك ، ولو أنها حروف إعراب كالدال من «زيد» لما كان فيها دلالة على الإعراب ، كما لو قلت «قام زيد» من غير حركة ، وهي تدل على الإعراب ؛ لأنك إذا قلت «رجلان» علم أنه رفع ؛ فدل على أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ، ولكنها تدل على الإعراب.

وهذا القول فاسد ، وذلك لأن قولهم «إن هذه الحروف تدل على الإعراب لا يخلو : إما أن تدل على إعراب في الكلمة ، أو في غيرها ؛ فإن كانت تدل على إعراب في الكلمة فوجب أن تقدر في هذه الحروف ، لأنها أواخر الكلمة ، فيؤول هذا القول إلى أنها حروف الإعراب كقول أكثر البصريين ، وإن كانت تدل على إعراب في غير الكلمة فوجب أن تكون الكلمة مبنيّة ، وليس من مذهب أبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد وأبي عثمان المازني أن التثنية والجمع مبنيّان.

٣٠

وأما من ذهب إلى أن انقلابها هو الإعراب فقد أفسده بعض النحويين من وجهين ؛ أحدهما : أن هذا يؤدي إلى أن يكون الإعراب بغير [١٥] حركة ولا حرف ، وهذا لا نظير له في كلامهم. والوجه الثاني : أن هذا يؤدي إلى أن يكون التثنية والجمع في حال الرفع مبنيين ؛ لأن أول أحوال الاسم الرفع ولا انقلاب له ، وأن يكونا في حال النصب والجر معربين ؛ لانقلابهما. وليس من مذهب أبي عمر الجرمي أن التثنية والجمع مبنيان في حال من الأحوال.

وأما من ذهب إلى أنهما مبنيان فقال : إنما قلت ذلك لأن هذه الحروف زيدت على بناء المفرد في التثنية والجمع ، فنزّلا منزلة ما ركب من الاسمين نحو «خمسة عشر» وما أشبهه.

وهذا القول أيضا يفسد من وجهين ؛ أحدهما : أن التثنية والجمع وضعا على هذه الصيغة لأن يدلّا على معنييهما من التثنية والجمع ، وإنما يفرد المفرد في الحكم لوجود لفظه ، وإذا كان كذلك لم يجر أن يشبّها بما ركب من شيئين منفصلين كخمسة عشر وما أشبهه ، والوجه الثاني : أنهما لو كانا مبنيين لكان يجب أن لا يختلف آخرهما باختلاف العوامل فيهما ؛ لأن المبني ما لا يختلف آخره باختلاف العوامل فيه ، فلما اختلف هاهنا آخر التثنية والجمع باختلاف العوامل فيهما دل على أنهما معربان لا مبنيان.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنها هي الإعراب كالحركات بدليل أنها تتغير تغيّر الحركات» فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن القياس كان يقتضي أن لا تتغير كقراءة من قرأ : (إنَّ هذان لساحران) على لغة بنى الحارث بن كعب ، إلا أنهم عدلوا عن هذا القياس لإزالة اللّبس ، ألا ترى أنك لو قلت «ضرب الزيدان العمران» لوقع الالتباس ، وليس هذا بمنزلة المقصور في نحو «ضرب موسى عيسى» ؛ لأن المقصور يزول عنه اللبس بالوصف والتوكيد ؛ لأنه ليس من شرط وصف المقصور أن يكون مقصورا ، وكذلك التوكيد ؛ بخلاف المثنى والمجموع ؛ لأنه من شرط وصف المثنى أن يكون مثنى ، ومن شرط وصف المجموع أن يكون مجموعا (١) ، وكذلك التوكيد ، فبان الفرق بينهما ؛ والذي يدل على أن هذه الأحرف ليست إعرابا كالحركات أنها لو كانت هي الإعراب كالحركات لكان يجب أن لا يخلّ سقوطها بمعنى الكلمة كما لو

__________________

(١) لكن لا يلزم أن يكون وصف جمع المذكر جمعا مذكرا ؛ بل يجوز أن يكون جمع تكسير نحو «هؤلاء الزيدون الأفاضل» فيزول عنه اللبس بالوصف ، وزواله بالتوكيد ظاهر ؛ فلم يتم الفرق.

٣١

سقطت الحركات ؛ لأن سقوط الإعراب لا يخلّ بمعنى الكلمة ، ألا ترى أنك لو أسقطت الضمة والفتحة والكسرة من [١٦] الاسم نحو «قام زيد ، ورأيت زيد ، ومررت بزيد» لم يخلّ بمعنى الاسم ، ولو أسقطت الألف والواو والياء من التثنية والجمع لأخلّ بمعنى التثنية والجمع؟ فلما أخلّ سقوط هذه الحروف بمعنى التثنية والجمع بخلاف الحركات دلّ على أنها ليست بإعراب كالحركات.

والوجه الثاني : أن هذه الحروف إنما تغيرت في التثنية والجمع ؛ لأن لهما خاصية لا تكون في غيرهما استحقّا من أجلها التغيير ، وذلك أن كل اسم معتل لا تدخله الحركات ـ نحو «رحى ، وعصا ، وحبلى ، وبشرى» ـ له نظير من الصحيح يدل على مثل إعرابه ، فنظير رحى وعصا : جمل وجبل ، ونظير حبلى وبشرى : حمراء وصحراء ، وأما التثنية وهذا الجمع الذي على حدها ، فلا نظير لواحد منهما إلا بتثنية أو جمع ، فعوضا من فقد النظير الدالّ على مثل إعرابها تغيّر هذه الحروف فيهما.

والوجه الثالث : أن هذا ينتقض بالضمائر المتصلة والمنفصلة ؛ فإنها تتغير في حال الرفع والنصب والجر ، وليس تغيرها إعرابا ، ألا ترى أنك تقول في المنفصلة «أنا ، وأنت» في حال الرفع ، و «إياي ، وإياك» في حال النصب ، وتقول في المتصلة «مررت بك» فتكون الكاف في موضع جر وهي اسم مخاطب ، و «رأيتك» فتكون في موضع نصب ، وتقول «قمت ، وقعدت» فتكون التاء في موضع رفع ، فتتغير هذه الضمائر في هذه الأحوال وإن لم يكن تغيرها إعرابا.

وأما قولهم «إن سيبويه سماها حروف الإعراب» قلنا : هذا حجة عليكم ؛ لأن حروف الإعراب هي أواخر الكلم ، وهذه الحروف هي أواخر الكلم ؛ فكانت حروف الإعراب ، قولهم «إنما سماها حروف الإعراب ، لأنها التي أعرب الاسم بها ، كما تقول : حركات الإعراب» قلنا : هذا خلاف الظاهر ؛ فإن الظاهر في اصطلاح النحويين أنه إذا أطلق حرف الإعراب إنما يطلق على آخر حرف من الكلمة ، نحو الدال من «زيد» والراء من «عمرو» لا على الحرف الذي يكون إعرابا للكلمة ، ألا ترى أن الخمسة الأمثلة أعربت بالحرف ، ولا حرف إعراب لها؟

وأما قولهم «إنه جعل الألف والواو والياء في التثنية والجمع رفعا وجرا ونصبا إلى آخر ما ذكروه» قلنا : معنى قوله «يكون في الرفع ألفا ، ويكون في الجر ياء ، وفي النصب كذلك» أي أنه يقع موقع المرفوع ، وإن لم يكن مرفوعا ، [١٧] ويقع موقع المجرور وإن لم يكن مجرورا ، ويقع موقع المنصوب وإن لم يكن منصوبا ، كما يقال : ضمير المرفوع ، وضمير المنصوب ، وضمير المجرور ، وإن لم يكن

٣٢

شيء منها مرفوعا ولا منصوبا ولا مجرورا ، وإنما المرفوع والمنصوب والمجرور ما يقع موقعها من الأسماء المعربة ؛ فكذلك هذه الحروف تقع موقع ما يحلّ فيه الإعراب وإن لم يكن فيها إعراب لوقوعها موقع ما يحل فيه الإعراب إذا وجد ، وصار هذا كقول علماء العربية «حروف الزوائد عشرة يجمعها لا أنسيتموه» وإن كانت هذه الحروف قد تقع زائدة وأصلية ، ألا ترى أن اللام أصلية في «جبل ، وجمل» كما هي زائدة في «زيدل ، وعبدل» وكذلك سائرها ، ثم سمّيت بذلك لأن الحروف الزوائد لا تخرج عنها ، فكذلك هاهنا ؛ فدلّ على أنها حروف الإعراب ، والذي يدل على أنها ليست هي الإعراب أنا لو قلنا إنها هي الإعراب لأدّى إلى أن يكون معرب لا حرف إعراب له ، وهذا لا نظير له.

قولهم : «هذا إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف» قلنا : لا نسلم ، بل الأصل في كل معرب أن يكون له حرف إعراب ، سواء كان معربا بالحركة أو معربا بالحرف ، فأما الخمسة (١) أمثلة فمنهم من ذهب إلى أن لها حرف إعراب وهي الألف في «يفعلان» والواو في «يفعلون» والياء في «تفعلين» فعلى هذا لا نسلم ، ولئن سلمنا على المذهب المشهور فإنما أعربت ولا حرف إعراب لها على خلاف الأصل ، وذلك لأنا لو قدّرنا لها حرف إعراب لم يخل : إما أن يكون اللام ، أو الضمير ، أو النون ؛ بطل أن يكون حرف الإعراب اللام ؛ لأن من الإعراب الجزم ؛ فلو جعلناه اللام لوجب أن يسكن في حالة الجزم ؛ فكان يؤدي إلى أن يحذف ضمير الفاعل (٢) ، وذلك لا يجوز ، وبطل أيضا أن يكون الضمير حرف الإعراب ؛ لأن الضمير في الحقيقة ليس جزءا من الفعل ، وإنما هو اسم قائم بنفسه في موضع رفع ؛ لأنه فاعل ؛ فلا يجوز أن يكون إعرابا لكلمة أخرى ، وعلى هذا تخرج الألف والواو والياء في تثنية الأسماء وجمعها ؛ فإنها حروف لا تقوم بنفسها ولا موضع لها من الإعراب ؛ فجاز أن تكون حروف الإعراب ، وبطل أن تكون النون حرف الإعراب ؛ لأنها ليست كحرف من الفعل ، وإنما هي بمنزلة [١٨] الحركة التي هي الضمة ، ولهذا تحذف في الجزم والنصب ، ولا يخلّ حذفها بمعنى الفعل ، ولو كانت حرف الإعراب لما حذفت مع تحركها ، ولأخلّ حذفها بمعنى الفعل ، ولكان الإعراب جاريا عليها ؛ فلذلك لم يجز أن تكون حرف الإعراب ، وعلى هذا تخرج الألف والواو والياء في التثنية والجمع ؛ فإنها بمنزلة حروفها ، ويختلّ معناهما بحذفها ؛ فلذلك جاز أن تكون حروف الإعراب على ما بينّا ، والله أعلم.

__________________

(١) هذا التعبير غير جائز عند البصريين والكوفيين جميعا ؛ والصواب أن يقال «فأما خمسة الأمثلة».

(٢) للتخلص من التقاء الساكنين : اللام حالة الجزم ، والألف أو الواو أو الياء اللائي هن ضمائر الفاعلين.

٣٣

٤

مسألة

[هل يجوز جمع العلم المؤنث بالتاء جمع المذكر السالم؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أن الاسم الذي آخره تاء التأنيث إذا سميت به رجلا يجوز أن يجمع بالواو والنون ، وذلك نحو طلحة وطلحون ، وإليه ذهب أبو الحسن ابن كيسان ، إلّا أنه يفتح اللام فيقول الطّلحون ـ بالفتح ـ كما قالوا «أرضون» حملا على أرضات ، وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا : إنه يجوز جمعه بالواو والنون وذلك لأنه في التقدير جمع طلح ؛ لأن الجمع قد تستعمله العرب على تقدير حذف حرف من الكلمة ، قال الشاعر :

[١٨]* وعقبة الأعقاب في الشّهر الأصم*

فكسّره على ما لا هاء فيه ، وإذا كانت الهاء في تقدير الإسقاط جاز جمعه بالواو والنون كسائر الأسماء المجموعة بالواو والنون ؛ والذي يدل على صحة مذهبنا أنا أجمعنا على أنك لو سميت رجلا بحمراء أو حبلى لجمعته بالواو والنون فقلت «حمراؤون ، وحبلون» ولا خلاف أن ما في آخره ألف التأنيث أشد تمكنا في التأنيث مما في آخره تاء التأنيث ؛ لأن ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها ، ولم تخرج الكلمة من تذكير إلى تأنيث ، وتاء التأنيث ما صيغت الكلمة عليها وأخرجت الكلمة من التذكير إلى التأنيث ، ولهذا المعنى قام التأنيث بالألف في منع الصرف مقام شيئين ، بخلاف التأنيث بالتاء ، وإذا [١٩] جاز أن يجمع بالواو والنون ما في

______________________________________________________

[١٨] لم أقف لهذا البيت ـ مع طويل البحث ـ على نسبة ، ولا تكملة ، ولا وجدت أحدا أثر غيره المؤلف ، والاستشهاد به في قوله «الأعقاب» فإنه جمع عقبة بعد تقدير سقوط التاء فيصير مثل قفل ، وهو يجمع على أقفال.

__________________

(١) هذه المسألة تأتي في أثناء مباحث جمع المذكر السالم في المراجع التي ألمعنا إليها.

٣٤

آخره ألف التأنيث ـ وهي أوكد من التاء ـ فلأن يجوز ذلك فيما آخره التاء كان ذلك من طريق الأولى.

وأما ابن كيسان فاحتج على ذلك بأن قال : إنما جوّزنا جمعه بالواو والنون وذلك لأن التاء تسقط في الطّلحات ، فإذا سقطت التاء وبقي الاسم بغير تاء جاز جمعه بالواو والنون ، كقولهم «أرض وأرضون» وكما حركت العين من أرضون بالفتح حملا على أرضات فكذلك حركات العين من «الطّلحون» حملا على الطّلحات ؛ لأنهم يجمعون ما كان على «فعلة» من الأسماء دون الصفات على «فعلات».

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على امتناع جواز هذا الجمع بالواو والنون وذلك لأن في الواحد علامة التأنيث ، والواو والنون علامة التذكير ، فلو قلنا إنه يجوز أن يجمع بالواو والنون لأدّى ذلك إلى أن يجمع في اسم واحد علامتان متضادتان ، وذلك لا يجوز ، ولهذا إذا وصفوا المذكر بالمؤنث فقالوا «رجل ربعة» جمعوه بلا خلاف فقالوا «ربعات» ولم يقولوا : ربعون ، والذي يدل على صحة هذا القياس أنه لم يسمع من العرب في جمع هذا الاسم أو نحوه إلا بزيادة الألف والتاء ، كقولهم في جمع طلحة «طلحات» وفي جمع هبيرة «هبيرات» قال الشاعر :

[١٩] رحم الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطّلحات

ولم يسمع عن أحد العرب أنهم قالوا الطلحون ولا الهبيرون ، ولا في شيء من هذا النحو بالواو والنون ، فإذا كان هذا الجمع مدفوعا من جهة القياس معدوما من جهة النقل فوجب أن لا يجوز.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه في التقدير جمع طلح» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن الجمع إنما وقع على جميع حروف الاسم ، لأنا إيّاه نجمع ، وإليه نقصد ، وتاء التأنيث من جملة حروف هذا الاسم ؛ فلم ننزعها عنه قبل الجمع وإن كان اسما لمذكر ؛ لئلا يكون بمنزلة ما سمّي به ولا علامة فيه ، فالتاء في جمعه مكان التاء في واحده.

______________________________________________________

[١٩] هذا البيت من كلام عبيد الله بن قيس الرقيات ، من كلمة له يقولها في طلحة بن عبد الله ابن خلف الخزاعي ، وقد أنشده ابن منظور (ط ل ح) وقد اختلف في سبب تسميته «طلحة الطلحات» فقيل : كان كريما وإنه زوج مائة عربي بمائة عربية وأمهرهن من ماله ، فولد لكل واحد ولد فسماه طلحة ، فأضيف إليهم ؛ لأن يده كانت السبب فيهم ، وقيل : بل لأن أمه صفية بنت الحارث بن طلحة ، واسم عمها طلحة ، واسم أخيها طلحة ، فلما اكتنفه هؤلاء الطلحات أضافوه إليهم.

٣٥

وأما ما استشهدوا به من قوله :

* وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم* [١٨]

فهو مع شذوذه وقلته فلا تعلق له بما وقع الخلاف فيه ؛ لأن جمع التصحيح ليس على قياس جمع التكسير ليحمل عليه.

وأما قولهم «إنا أجمعنا على أنك لو سميت [٢٠] رجلا بحمراء وحبلى لقلت في جمعه : حمراؤون وحبلون ـ إلى آخر ما قدّروا» قلنا : إنما جمع ما في آخره ألف التأنيث بالواو والنون لأنها يجب قلبها إلى بدل ، لأنها صيغت عليها الكلمة ، فنزلت منزلة بعضها ، فلم تفتقر إلى أن تعوّض بعلامة تأنيث الجمع ، بخلاف التاء ، فإنها يجب حذفها إلى غير بدل ، لأنها ما صيغت عليها الكلمة ، وإنما هي بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم ، فجعلت علامة تأنيث الجمع عوضا منها.

وأما قول ابن كيسان «إن التاء تسقط في الطّلحات ، فإذا سقطت التاء جاز أن تجمع بالواو والنون» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن التاء وإن كانت محذوفة لفظا إلا أنها ثابتة تقديرا ؛ لأن الأصل فيها أن تكون ثابتة ، ألا ترى أن الأصل أن تقول في جمع مسلمة «مسلمتات» وصالحة «صالحتات» إلا أنهم لما أدخلوا تاء التأنيث في الجمع حذفوا هذه التاء التي كانت في الواحد ؛ لأنهم كرهوا أن يجمعوا بينهما ، لأن كل واحدة منهما علامة تأنيث ، ولا يجمع في اسم واحد علامتا تأنيث ، فحذفوا الأولى فقالوا «مسلمات ، وصالحات» وكان حذف الأولى أولى لأن في الثانية زيادة معنى ، ألا ترى أن الأولى تدلّ على التأنيث فقط ، والثانية تدل على التأنيث والجمع ، وهي حرف الإعراب ، فلما كان في الثانية زيادة معنى كان تبقيتها وحذف الأولى أولى ، فهي وإن كانت محذوفة لفظا إلا أنها ثابتة تقديرا ؛ فصار هذا بمنزلة ما حذف لالتقاء الساكنين ؛ فإنه وإن كان محذوفا لفظا إلا أنه ثابت تقديرا ، فكذلك هاهنا. وإذا كانت التاء المحذوفة هاهنا في حكم الثابت فينبغي أن لا يجوز أن تجمع بالواو والنون كما لو كانت ثابتة.

والذي يدلّ على فساد ما ذهب إليه فتح العين من قوله «الطّلحون» لأن الأصل في الجمع بالواو والنون أن يسلم فيه لفظ الواحد في حروفه وحركاته ، والفتح قد أدخل في جمع التصحيح تكسيرا.

فأما قوله «إن العين حركت من أرضون بالفتح حملا على أرضات» قلنا : لا نسلم ، وإنما غير فيه لفظ الواحد ؛ لأنه جمع على خلاف الأصل ؛ لأن الأصل في الجمع بالواو والنون أن يكون لمن يعقل ، ولكنهم لما جمعوه بالواو والنون غيّروا

٣٦

فيه لفظ الواحد تعويضا عن حذف تاء التأنيث [٢١] منه تخصيصا له بشيء لا يكون في سائر أخواته ، مع أن هذا التعويض تعويض جواز ، لا تعويض وجوب ، ألا ترى أنهم لا يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع قدر قدرون ، فلما كان هذا الجمع في أرض على خلاف الأصل أدخل فيه ضرب من التغيير ؛ ففتحت العين منه إشعارا بأنه جمع بالواو والنون على خلاف الأصل ، فأما إذا جمع من يعقل بالواو والنون فلا يجوز أن يجعل بهذه المثابة ؛ لأن جمعه بالواو والنون بحكم الأصل لا بحكم التعويض ؛ فلا يجوز أن يدخله ضرب من التغيير كما كان ذلك في أرضون ، ويخرّج على هذا حذف التاء وفتح العين من طلحات : أما حذف التاء فلأنّ التاء الثانية صارت عوضا عنها لأنها للتأنيث كما أنها للتأنيث ، وأما أنتم فحذفتم من غير عوض ، فبان الفرق ؛ وأما فتح العين فلأجل الفصل بين الاسم والصفة ، فإن ما كان على فعلة من الأسماء فإنه يفتح منه العين نحو قصعات وجفنات ، وما كان صفة فإنه لا تحرك منه العين نحو خدلات وصعبات. وأما جمع التصحيح بالواو والنون فلا يدخله شيء من هذا التغيير ، ألا ترى أنه لا يفرق فيه بين الاسم والصفة ؛ فلا يقال في الاسم بالفتح نحو عمرون وبكرون. وإنما يقال بالسكون نحو عمرون وبكرون ، كما يقال في الصفة نحو خدلون وصعبون ؛ فبان الفرق بينهما ، والله أعلم.

٣٧

٥

مسألة

[القول في رافع المبتدأ ورافع الخبر](١)

ذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر ، والخبر يرفع المبتدأ ؛ فهما يترافعان ، وذلك نحو «زيد أخوك ، وعمرو غلامك». وذهب البصريون إلى أن المبتدأ يرتفع بالابتداء ، وأما الخبر فاختلفوا فيه : فذهب قوم إلى أنه يرتفع بالابتداء وحده ، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالابتداء والمبتدأ معا ، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالمبتدأ والمبتدأ يرتفع بالابتداء.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر يرتفع بالمبتدأ لأنّا وجدنا [٢٢] المبتدأ لا بدّ له من خبر ، والخبر لا بدّ له من مبتدأ ، ولا ينفك أحدهما من صاحبه ، ولا يتم الكلام إلا بهما ، ألا ترى أنك إذا قلت «زيد أخوك» لا يكون أحدهما كلاما إلا بانضمام الآخر إليه؟ فلما كان كل واحد منهما لا ينفك عن الآخر ويقتضي صاحبه اقتضاء واحدا عمل كل واحد منهما في صاحبه مثل ما عمل صاحبه فيه ؛ فلهذا قلنا : إنهما يترافعان ، كل واحد منهما يرفع صاحبه. ولا يمتنع أن يكون كل واحد منهما عاملا ومعمولا ، وقد جاء لذلك نظائر كثيرة ، قال الله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠] فنصب أيّاما بتدعوا ، وجزم تدعوا بأيّاما ، فكان كل واحد منهما عاملا ومعمولا ، وقال تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] فأينما منصوب بتكونوا وتكونوا مجزوم بأينما ، وقال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] إلى غير ذلك من المواضع (٢) ، فكذلك هاهنا.

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : تصريح الشيخ خالد (١ / ١٨٩ بولاق) وشرح الأشموني (١ / ٢٥٤ بتحقيقنا) وحاشية الصبان عليه (١ / ١٨٦ بولاق) وأسرار العربية للمؤلف (ص ٣١ ليدن) وابن عقيل (١ / ١٧٤ بتحقيقنا) وقد قال بعد ذكر المذاهب : «وهذا خلاف مما لا طائل فيه».

(٢) هي عند التأمل موضع واحد ، ولكن أمثلته متعددة ، ويجمع الكل أن بعض أسماء الشرط تعمل في الشرط والجواب جميعا ، والجواب أو الشرط يعمل فيها.

٣٨

قالوا : ولا يجوز أن يقال إن المبتدأ يرتفع بالابتداء ، لأنّا نقول : الابتداء لا يخلو : إما أن يكون شيئا من كلام العرب عند إظهاره ، أو غير شيء ؛ فإن كان شيئا فلا يخلو من أن يكون اسما أو فعلا أو أداة من حروف المعاني ؛ فإن كان اسما فينبغي أن يكون قبله اسم يرفعه ، وكذلك ما قبله إلى ما لا غاية له ، وذلك محال ، وإن كان فعلا فينبغي أن يقال زيد قائما كما يقال «حضر زيد قائما» وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع الأسماء على هذا الحد. وإن كان غير شيء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم ، ومتى كان غير هذه الأقسام الثلاثة التي قدمناها فهو غير معروف.

قالوا : ولا يجوز أن يقال إنّا نعني بالابتداء التّعرّي من العوامل اللفظية ، لأنّا نقول : إذا كان معنى الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية فهو إذا عبارة عن عدم العوامل ، وعدم العوامل لا يكون عاملا. والذي يدل على أن الابتداء لا يوجب الرفع أنّا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ، ولو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة ، فلما لم يجب ذلك دلّ على أن الابتداء لا يكون موجبا للرفع.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية [٢٣] لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف ، وإنما هي أمارات ودلالات ، وإذا كانت العوامل في محل الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود شيء ، ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان وأردت أن تميز أحدهما من الآخر فصبغت أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان ترك صبغ أحدهما في التمييز بمنزلة صبغ الآخر؟ فكذلك هاهنا. وإذا ثبت أنه عامل في المبتدأ وجب أن يعمل في خبره ، قياسا على غيره من العوامل ، نحو «كان» وأخواتها و «إنّ» وأخواتها و «ظننت» وأخواتها ، فإنها لما عملت في المبتدأ عملت في خبره ، فكذلك هاهنا.

وأما من ذهب إلى أن الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا : لأنا وجدنا الخبر لا يقع إلا بعد الابتداء والمبتدإ ؛ فوجب أن يكونا هما العاملين فيه ، غير أن هذا القول وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أنه لا يخلو من ضعف ، وذلك لأن المبتدأ اسم ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل ، وإذا لم يكن له تأثير في العمل ، والابتداء له تأثير ، فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له.

والتحقيق فيه عندي أن يقال : إن الابتداء هو العامل في الخبر بواسطة

٣٩

المبتدأ ؛ لأنه لا ينفكّ عنه ، ورتبته أن لا يقع إلا بعده ، فالابتداء يعمل في الخبر عند وجود المبتدأ ، لا به ، كما أن النار تسخّن الماء بواسطة القدر والحطب ، فالتسخين إنما حصل عند وجودهما ، لا بهما ؛ لأن التسخين إنما حصل بالنار وحدها ، فكذلك هاهنا ، الابتداء وحده هو العامل في الخبر عند وجود المبتدإ ، إلا أنه عامل معه ؛ لأنه اسم ، والأصل في الأسماء أن لا تعمل.

وأما من ذهب إلى أن الابتداء يعمل في المبتدإ ، والمبتدأ يعمل في الخبر ، فقالوا : إنما قلنا إن الابتداء يعمل في المبتدإ ، والمبتدأ يعمل في الخبر دون الابتداء ؛ لأن الابتداء عامل معنوي ، والعامل المعنوي ضعيف ؛ فلا يعمل في شيئين كالعامل اللفظي.

وهذا أيضا ضعيف ؛ لأنه متى وجب كونه عاملا في المبتدإ وجب أن يعمل في خبره ؛ لأن خبر المبتدأ يتنزل منزلة الوصف ، ألا ترى أن الخبر هو المبتدأ في المعنى ، كقوله [٢٤] «زيد قائم ، وعمرو ذاهب» أو منزّل منزلته ، كقوله «زيد الشمس حسنا ، وعمرو الأسد شدة» أي يتنزل منزلته ، وكقولهم «أبو يوسف أبو حنيفة» أي يتنزّل منزلته في الفقه ، قال الله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي تتنزّل منزلتهن في الحرمة والتحريم ؛ فلما كان الخبر هو المبتدأ في المعنى ، أو منزلا منزلته تنزل منزلة الوصف ؛ لأن الوصف في المعنى هو الموصوف. ألا ترى أنك إذا قلت «قام زيد العاقل ، وذهب عمرو الظريف» أن العاقل في المعنى هو زيد ، والظريف في المعنى هو عمرو؟ ولهذا لما تنزل الخبر منزلة الوصف كان تابعا للمبتدإ في الرفع ؛ كما تتبع الصفة الموصوف ، وكما أن العامل في الوصف هو العامل في الموصوف ، سواء كان العامل قويّا أو ضعيفا ، فكذلك هاهنا.

وأما قولهم «إن المبتدأ يعمل في الخبر» فسنذكر فساده في الجواب عن كلمات الكوفيين.

أما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنهما يترافعان ؛ لأن كل واحد منهما لا بدّ له من الآخر ولا ينفكّ عنه» قلنا : الجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أن ما ذكرتموه يؤدّي إلى محال ، وذلك لأن العامل سبيله أن يقدّر قبل المعمول ، وإذا قلنا إنهما يترافعان وجب أن يكون كل واحد منهما قبل الآخر ، وذلك محال ، وما يؤدي إلى المحال محال.

والوجه الثاني : أن العامل في الشيء ما دام موجودا لا يدخل عليه عامل غيره ؛ لأن عاملا لا يدخل على عامل ، فلما جاز أن يقال : «كان زيد أخاك ، وإن

٤٠