الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

أراد «يخفي» ، وقال الآخر :

[٢٥٠] لا صلح بيني ـ فاعلموه ـ ولا

بينكم ، ما حملت عاتقي

سيفي ، وما كنّا بنجد ، وما

قرقر قمر الواد بالشّاهق

أراد «الوادي» ، وقال الآخر وهو كعب بن مالك الأنصاري :

[٢٥١] ما بال همّ عميد بات يطرقني

بالواد من هند إذ نعدو عواديها؟

______________________________________________________

[٢٥٠] أنشد الجوهري ـ وتبعه ابن منظور ـ هذين البيتين (ق م ر) ثاني وثالث ثلاثة أبيات ، ونسبها لأبي عامر ، جد العباس بن مرداس السلمي ، والبيت الأول قوله :

لا نسب اليوم ولا خلة

اتسع الخرق على الراتق

وأنشدهما ابن منظور (ودي) عن ابن سيده ، ونسبهما لأبي الربيس التغلبي ، وأنشد ابن جني ثانيهما في الخصائص (٢ / ٢٩٢) من غير عزو ، قال ابن بري : سبب هذا الشعر أن الملك النعمان بن المنذر بعث جيشا إلى بني سليم لشيء كان وجد عليهم من أجله ، وكان مقدم الجيش عمرو بن فرتنا ، فمر الجيش على غطفان ، فاستجاشوهم على بني سليم ، فهزمت بنو سليم جيش النعمان وأسروا عمرو بن فرتنا ، فأرسلت غطفان إلى بني سليم وقالوا :ننشدكم بالرحم التي بيننا إلا ما أطلقتم عمرو بن فرتنا ، فقال أبو عامر هذه الأبيات ، يقول : لا نسب بيننا وبينكم ، ولا خلة ـ أي ولا صداقة ـ بعد ما أعنتم جيش النعمان ولم تراعوا حرمة النسب الذي بيننا وبينكم ، وقد تفاقم الأمر بيننا فلا يرجى صلاحه فهو كالفتق الواسع في الثوب يتعب من يروم رتقه ، والقمر ـ بضم القاف وسكون الميم ـ جمع قمرية ، ومثاله روم ورومي وزنج وزنجي ، والقمر : ضرب من الحمام ، وقرقر : صوت ، والشاهق : أراد الجبل العالي ، ومحل الاستشهاد بالبيتين ههنا قوله «قمر الواد» فإنه أراد الوادي فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها. وفي قوله «اتسع الخرق على الراتق» شاهد آخر للنحاة ، حيث قطع همزة الوصل في قوله «اتسع» ضرورة ، وحسن ذلك كون هذه الكلمة في أول النصف الثاني من البيت ؛ لأنه بمنزلة ما يبتدأ به ، قال ابن سيده في التعليل لحذف الياء من «الواد» ما نصه : «حذف لأن الحرف لما ضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه ولم يقدر أن يتحامل بنفسه دعا إلى اخترامه وحذفه» اه. وهذا كلام ابن جني في الخصائص (٢ / ٢٩٢) وبل كلام ابن جني أصرح وأنصع. وذلك قوله «وإذا كان الحرف لا يتحامل بنفسه حتى يدعو إلى اخترامه وحذفه كان بأن يضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه فيه أحرى وأحجى ، وذلك نحو قول الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) وقوله (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) وقوله (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) وقوله :

* وما قرقر قمر الواد بالشاهق*» اه.

[٢٥١] ما بال هم : أي ما شأنه وما حاله ، وعميد : فادح موجع ، وأصله قولهم «عمده المرض يعمده» من مثال ضربه يضربه ـ إذا فدحه ، ودخل أعرابي على بعض العرب وهو مريض فقال له : كيف تجدك؟ فقال : أما الذي يعمدني فحصر وأسر ، يريد أما الذي يفدحني ويشتد عليّ ويضنيني ، ويطرقني : أي ينزل بي ليلا ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله

٣٢١

أراد «بالوادي» ، وقال أيضا :

[٢٥٢] ولكن ببدر سائلوا عن بلائنا

على النّاد ، والأنباء بالغيب تبلغ

أراد «على النادي» ، وقال الآخر :

[٢٥٣] ولا أدر من ألقى عليه رداءه

على أنّه قد سلّ عن ماجد محض

أراد «أدري» ، وقال الآخر :

[٢٥٤] فلست بمدرك ما فات منّي

بلهف ، ولا بليت ، ولا لوانّي

______________________________________________________

«بالواد» فإنه يريد بالوادي ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة قبلها ، على نحو ما ذكرناه في البيت قبله.

[٢٥٢] بدر : أراد الموضع الذي كانت فيه الغزوة المشهورة التي نصر الله فيها رسوله وأخزى الشرك وأهله ، والبلاء ـ بفتح الباء ـ الجهد والصلابة ، وأصله الاختيار والتجربة والامتحان ، تقول : بلاه يبلوه ، إذا جربه واختبره ليعرف مقدار ما عنده ، والناد ، هنا : القوم ، وأصله المكان الذي يجتمعون فيه ، والأنباء : الأخبار ، واحدها نبأ ـ بفتح النون والباء جميعا ـ ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «على الناد» فإنه يريد على النادي ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة قبلها ، على نحو ما ذكرناه من قبل.

[٢٥٣] هذا البيت من كلام أبي خراش الهذلي ، يقوله في أخيه عروة ، من أبيات رواها أبو تمام في الحماسة (انظر شرح المرزوقي ٧٨٢) وياقوت في معجم البلدان (قوسي) وقوله «ألقى عليه رداءه» كان من عادة العرب أن الرجل يمر بالقتيل فيلقي عليه ثوبه يستره به ، وفي مثل ذلك يقول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا :

لقد كفن المنهال تحت ردائه

فتى غير مبطان العشية أروعا

وقد حكي أن مجتازا اجتاز بعروة فرآه بادي العورة مصروعا ، فألقى رداءه عليه ، ويحكى أن خراشا ابن الشاعر الذي يكنى به وقع أسيرا ، وأنه نزل بآسره ضيف ، فنظر ذلك الضيف إلى خراش ـ وكان ملقى وراء البيت ـ فسأله عن حاله ونسبه ، فشرح قصته وانتسب ، فقطع إساره وخلاه ، فلما رجع رب البيت قال : أسيري أسيري ، وأراد السعي في أثره ، فوتر الضيف قوسه وحلف أنه إن تبعه رماه ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «ولا أدر» فإنه يريد ولا أدري ؛ لأن الفعل غير مجزوم ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها ، وقد روي البيت في الحماسة ومعجم البلدان وخصائص ابن جني (١ / ٧١) «ولم أدر» وعلى هذه الرواية يكون الفعل مجزوما بحذف الياء ، ولا شاهد فيه لما أراده المؤلف.

[٢٥٤] هذا البيت قد أنشده ابن منظور (ل ه ف) ولم يعزه ، وأنشده البغدادي أثناء شرح الشاهد الثالث عشر (١ / ٦٣) وهو من شواهد الأشموني (رقم ٦٧٦) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٤٤١) وقوله «بلهف» أي بقولي : يا لهفا ، وقوله «بليت» أي بقولي : يا ليتني ، وقوله «ولا لواني» أي بقولي : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، ومحل الاستشهاد ههنا

٣٢٢

أراد «بلهفا» فحذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها ، فكذلك هاهنا : حذف الواو من «ذو» اجتزاء بالضمة عنها ، وصيّرا كلمة واحدة ، وإذا كانا مركبتين من من وذو [١٧٠] التي بمعنى الذي ؛ فالذي اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد ، والصلة لا تخلو : إما أن تكون من مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل ، فإذا قلت : «ما رأيته مذ يومان» أو «منذ ليلتان» فالتقدير فيه : ما رأيته من الذي هو يومان ، فحذف «هو» الذي هو المبتدأ ، وبقي الخبر الذي هو يومان ، وحذف المبتدأ من الاسم الموصول جائز كقولك : «الذي أخوك زيد» أي : الذي هو أخوك زيد ، والذي يدل على جوازه قولهم : «ما أنا بالذي قائل لك شيئا» أي : ما أنا بالذي أنا (١) قائل لك شيئا ، وهذا كثير في كلامهم ، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضا فهو مخفوض بمن ؛ ولهذا إذا ظهرت النون في منذ كان الاختيار الخفض ، وإذا لم تظهر كان الاختيار الرفع.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مرفوع ما بعدهما لأنه خبر عنهما ، وذلك لأن مذ ومنذ معناهما الأمد ، ألا ترى أن التقدير في قولك : «ما رأيته مذ يومان ، ومنذ ليلتان» أي : أمد انقطاع الرؤية يومان ، وأمد انقطاع الرؤية ليلتان ، والأمد في موضع رفع بالابتداء ؛ فكذلك ما قام مقامه ، وإذا ثبت أنهما مرفوعان بالابتداء وجب أن يكون ما بعدهما خبرا عنهما ، وإنما بنيا لتضمنهما معنى من وإلى ، ألا ترى أنك إذا قلت : «ما رأيته مذ يومان ، ومنذ ليلتان» كان معناه : ما رأيته من أول هذا الوقت إلى آخره ، وبنيت مذ على السكون لأنه الأصل في البناء ، وبنيت منذ على الضم لأنه لما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين حركت بالضم ؛ لأن من كلامهم أن يتبعوا الضم الضم ، كما قالوا : «ردّ يا فتى» ، والشواهد على ذلك كثيرة جدا ، وقد ذكرنا ذلك في مواضعه ؛ فلا يفتقر إلى ذكره هاهنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنهما مركبتان من من وإذ» قلنا : لا نسلم ، وأيّ دليل يدل على ذلك؟ وهل يمكن الوقوف عليه إلا بوحي أو تنزيل؟ وليس إلى ذلك سبيل!.

______________________________________________________

بهذا البيت قوله «بلهف» فإن أصل الكلام : بقولي يا لهفا ، على أن اللهف مضاف إلى ياء المتكلم ثم قلبت الكسرة التي قبل ياء المتكلم فتحة وقلبت الياء ألفا ، ثم حذف هذه الألف المنقلبة عن ياء المتكلم مجتزئا بالفتحة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها ، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة.

__________________

(١) لو جعل تقديره «ما أنا بالذي هو قائل لك شيئا» لكان أحسن ، والمثال يروى في كتب النحاة «ما أنا بالذي قائل لك سوءا» وانظر ص ٣٢٤ الآتية.

٣٢٣

وقولهم : «إن من العرب من يقول في منذ منذ بكسر الميم» قلنا : أولا هذه لغية شاذة نادرة لا يعرج عليها ؛ وليس فيها حجة على أنها مركبة من من وإذ ، وإنما هي لغية نادرة بكسر كما جاءت اللغة الفصيحة المشهورة بالضم ، فهو من جملة ما جاء على لغتين الضم والكسر ، والضم أفصح ، فأما أن تدل على [١٧١] أنها مركبة من من وإذ فكلّا!.

وقولهم : «إن الرفع بعدهما يكون بتقدير فعل ، والتقدير فيه : مذ مضى يومان ، ومنذ مضى ليلتان ، اعتبارا بإذ ، والخفض يكون بعدهما اعتبارا بمن» قلنا : هذا باطل ؛ لأن الحرفين إذا ركبا بطل عمل كل واحد منهما مفردا ، وحدث حكم آخر ، كما قلنا في «لو لا ، ولوما ، وإلّا» وما أشبه ذلك ، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في مسألة الاستثناء.

وهذا هو الجواب عن قول الفراء «إنهما مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي» والذي يبطل ما ذهب إليه الفراء أن «ذو» التي بمعنى الذي إنما تستعملها طيىء خاصة ، و «منذ يومان» بالرفع مستعمل في لغة جميع العرب ، فكيف استعملت العرب قاطبة ذو بمعنى الذي مع من ـ على زعمكم ـ دون سائر المواضع؟ وهل ذلك إلا تحكم محض لا دليل عليه؟.

وقولهم : إن التقدير فيه من الذي هو يومان فحذف المبتدأ الذي هو هو ، كقولهم : الذي أخوك زيد ، أي الذي هو أخوك» قلنا : وهذا أيضا لا يستقيم ؛ لأن حذف المبتدأ من صلة الاسم الموصول لا يجوز في نحو «الذي أخوك زيد» أي : الذي هو أخوك ، وإنما يجوز ذلك جوازا ضعيفا إذا طال الكلام ؛ كقولهم : «الذي راغب فيك زيد ، وما أنا بالذي قائل لك شيئا» (١) ، وما أشبه ذلك ، على أن من النحويين من يجعل الحذف في هذا النحو أيضا شاذا لا يقاس عليه ، وإذا كان شاذا لا يقاس عليه مع طول الكلام فمع عدمه أولى ؛ فدل على فساد ما ذهب إليه ، والله أعلم.

__________________

(١) المثال الذي يذكره النحاة «ما أنا قائل لك سوءا» فلعل ما هنا مصحف عنه ، وقد تكرر هذا المثال في كلام المؤلف ، وانظر ص ٣٢٣ السابقة.

٣٢٤

٥٧

مسألة

[هل يعمل حرف القسم محذوفا بغير عوض؟]

ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض.

وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك إلا بعوض ، نحو ألف الاستفهام ، نحو قولك للرجل : «الله ما فعلت كذا» أو هاء التنبيه نحو «هالله».

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء عن العرب أنهم يلقون الواو من القسم ويخفضون بها ؛ قال الفراء : سمعناهم يقولون : «الله [١٧٢] لتفعلنّ» فيقول المجيب : «ألله لأفعلنّ» بألف واحدة مقصورة في الثانية ؛ فيخفض بتقدير حرف الخفض وإن كان محذوفا ، وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف ، حكى يونس بن حبيب البصري أن من العرب من يقول : «مررت برجل صالح إلّا صالح فطالح» أي إلا أكن مررت برجل صالح ؛ فقد مررت بطالح ، وروي عن رؤبة بن العجاج أنه كان إذا قيل له : كيف أصبحت؟ يقول «خير عافاك الله» أي بخير. قال الشاعر :

رسم دار وقفت في طلله

كدت أقضي الحياة من جلله [٢٣٨]

فخفض «رسم» بإضمار حرف الخفض ، وقال الآخر :

[٢٥٥] لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّي ، ولا أنت ديّاني فتخزوني

______________________________________________________

[٢٥٥] هذا البيت من قصيدة طويلة لذي الأصبع العدواني ، واسمه الحارث بن محرث ، يعاتب فيها ابن عم له ، وقد روى هذه القصيدة أبو علي القالي في أماليه (١ / ٢٥٩ بولاق) والمفضل الضبي (المفضلية ٣١) والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٥٥٧) وابن جني في الخصائص (٢ / ٢٨٨) ورضي الدين في باب الظروف وباب حروف الجر من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٢٢٢ و ٤ / ٢٤٣) وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٢٣٧) وابن عقيل (رقم ٤٠٨) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١١١ و ١٣٠٠) ومعنى

٣٢٥

فخفض «لاه» بتقدير اللام ، كأنه قال : لله ابن عمّك ، وقال الآخر :

أجدّك لست الدّهر رائي رامة

ولا عاقل إلّا وأنت جنيب (١) [١١٦]

ولا مصعد في المصعدين لمنعج

ولا هابط ما عنت هضب شطيب

فخفض على تقدير الباء ، كأنه قال «بمصعد» (٢) ، وقال الآخر :

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا [١١٥]

وقال الآخر ، وهو الفرزدق :

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها [١١٧]

فخفض «ناعب» بإضمار حرف الخفض ، وقال الفرزدق أيضا :

[٢٥٦] وما زرت سلمى أن تكون حبيبة

إليّ ، ولا دين بها أنا طالبه

______________________________________________________

«أفضلت» زدت في المنزلة ، والديان : الذي يملك الأمر ويتصرف فيه على مشيئته ، وتخزوني : تذلني وتقهرني ، ومحل الاستشهاد ههنا بهذا البيت قوله «لاه ابن عمك» واعلم أولا أن العرب تقول : لله أنت ، ولله درك ، ولله ابن عمك بثلاث لامات أولها لام الجرّ وثانيها لام التعريف وثالثها فاء الكلمة على أن لفظ الجلالة مأخوذ من ل ي ه أو عين الكلمة على أن اللفظ الكريم مأخوذ من أ ل ه ، هذا هو الأصل في الاستعمال العربي ، وربما قالوا «لاه أبوك» و «لاه ابن عمك» بلام واحدة فيحذفون لامين ، وقد اختلف النحاة في اللام الباقية ، فذهب سيبويه إلى أن الباقية هي اللام التي من أصل الكلمة والمحذوف لام الجر ولام التعريف ، وهذا هو الذي أراده المؤلف ، وذهب أبو العباس المبرد إلى أن الباقي هو لام الجر ، وقد حذف لام التعريف واللام التي من أصل الكلمة ، وقد فصلنا مقالة الشيخين واستدللنا للمذهبين وبيّنا أرجحهما في شرحنا على شرح الأشموني (٣ / ٢٨٦) فانظره ، وانظر المراجع التي أشرنا إليها في تخريج هذا الشاهد هنا.

[٢٥٦] هذا البيت من قصيدة للفرزدق يمدح فيها المطلب بن عبد الله المخزومي ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٤٠١) أنشده في باب تعدي الفعل وفي باب حروف الجرّ ، وأنشده شيخ النحاة سيبويه (١ / ٤١٨) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٨٧) وقوله «أن تكون حبيبة» المصدر المنسبك من أن المصدرية وما بعدها مفعول لأجله ، فأصله مجرور باللام الدالة على التعليل ، وأصل الكلام : لأن تكون حبيبة ، ثم حذفت اللام لأن حرف الجر يكثر حذفه قبل أن المصدرية وأن المؤكدة ، وقد اختلف العلماء في المصدر المنسبك بعد حذف حرف الجر : أهو مجرور بذلك الحرف المحذوف ، أم أنه انتصب على التوسع بعد حذف حرف الجر؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن المصدر مجرور بذلك الحرف المحذوف

__________________

(١) في هذين البيتين الإقواء كما هو ظاهر.

(٢) الأولى أن يقول «كأنه قال برائي رامة» وهذا هو جر المعطوف على خبر ليس المنصوب بتوهم أنه قد دخلت الباء الزائدة على الخبر.

٣٢٦

فخفض «دين» بإضمار حرف الخفض.

والذي يدل على ذلك أنكم تعملون ربّ مع الحذف بعد الواو والفاء وبل ؛ فدل على جوازه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف ، وإنما تعمل مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوض ، ولم يوجد هاهنا ، فبقينا فيما عداه على الأصل ، والتمسك بالأصل تمسك باستصحاب الحال ، وهو من الأدلة المعتبرة ، ويخرّج على هذا الجرّ إذا دخلت ألف الاستفهام [١٧٣] وها التنبيه نحو «آلله ما فعل ، وهالله ما فعلت» لأن ألف الاستفهام وها صارتا عوضا عن حرف القسم ؛ والذي يدل على ذلك أنه لا يجوز أن يظهر معهما حرف القسم ؛ فلا يقال «أوالله» ولا «ها والله» لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض ، ألا ترى أن الواو لما كانت عوضا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما ؛ فلا يجوز أن يقال : «بوالله لأفعلنّ»؟ فكذلك هاهنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقولهم «ألله لأفعلن» فإنما جاز ذلك مع هذا الاسم خاصة على خلاف القياس لكثرة استعماله ، كما جاز دخول حرف النداء عليه مع الألف واللام دون غيره من الأسماء لكثرة الاستعمال ؛ فكذلك هاهنا : جاز حذف حرف الخفض لكثرة الاستعمال مع هذا الاسم دون غيره ، فبقينا فيما عداه على الأصل. يدل عليه أن هذا الاسم يختص بما لا يكون في غيره ، ألا ترى أنه يختص بالتاء كقوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] وإن كان لا يجوز دخول التاء في غيره ، كما لا يجوز إدخال التاء

______________________________________________________

فيجعلون العطف عليه بالجر تبعا لحاله الذي هو عليه حقيقة ، وأما الذين يذهبون إلى أن المصدر بعد حذف حرف الجر صار منصوبا فيجعلون العطف عليه بالجر على أحد وجهين : الأول أنه معطوف على محل المصدر الذي كان له قبل حذف حرف الجر ، والثاني أنه معطوف على التوهم ، وكأن الشاعر بعد أن قال «أن تكون حبيبة» قد توهم أنه أدخل حرف الجر لأنه كثيرا ما يتكلم به ، فأتى بالمعطوف مجرورا ، قال ابن هشام في المغني (ص ٥٢٦ بتحقيقنا) : «وقوله :

* وما زرت ليلى أن تكون حبيبة* البيت

رووه بخفض دين عطفا على محل أن تكون ؛ إذ أصله لأن تكون ، وقد يجاب بأنه عطف على توهم دخول اللام ، وقد يعترض بأن الحمل على العطف على المحل أظهر من الحمل على العطف على التوهم ، ويجاب بأن القواعد لا تثبت بالمحتملات» اه. وقال سيبويه بعد إنشاد البيت «جره لأنه صار كأنه قال : لأن تكون» اه. وقال الأعلم : «الشاهد فيه حمل دين على معنى لأن تكون ، وجرّه» اه.

٣٢٧

في «أسنتوا» إلا في خلاف الخصب ، ولا يقال «تالرحمن» (١) ولا «تالرحيم» وكما أن ما حكاه أبو الحسن الأخفش من قوله «تربّي» لا يدل على جوازه لشذوذه وقلته ؛ فكذلك قولهم «ألله لأفعلن» لا يدل على جوازه في غيره ، واختصاص هذا الاسم بهذا الحكم كاختصاص «لات» بحين ، و «لدن» بغدوة ، و «جاءت» بحاجتك في قولهم «ما جاءت حاجتك» فإن لات لا تعمل إلّا في الحين ، ولدن لا تنصب إلا غدوة ، وجاءت لا تنصب إلا حاجتك ، كأنهم قالوا : ما صارت حاجتك ، أو كانت حاجتك ، وأدخلوا التاء على ما (٢) إذ كان ما هو الحاجة كما قال بعضهم «من كانت أمّك» فنصب الأم وأنث من حيث أوقعها على مؤنث ؛ ولأن هذا الاسم علم فجاز أن يختص بما لا يكون في غيره ؛ لأن الأسماء الأعلام كثيرا ما يعدل ببعضها عن قياس الكلام ، ألا ترى أنهم قالوا «موهب ، ومورق» ففتحوا العين وقياسها أن تكسر ، وكذلك قالوا : «حيوة» بالواو وإن كان قياسها أن تكون بالياء ، وكذلك قالوا «مزيد ، ومكوزة ، ومدين» فصححوا وإن كان القياس أن يعلوّا ؛ لأن ما كان من الأسماء على مفعل أو مفعل ؛ فإنه يعتل لمجيئة على وزن الفعل وفصل الميم له من أمثلته ، وكذلك [١٧٤] قالوا «محبب» بغير إدغام وإن كان القياس الإدغام ، وكذلك قالوا «العجّاج ، والحجّاج» بإمالة الألف وإن كان قياسها أن لا تمال ؛ لعدم شرط الإمالة من الياء والكسرة ، وهذا لأن من كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام : إما لكثرة الاستعمال ، أو تنبيه على أصل ، أو غير ذلك.

وأما احتجاجهم بما حكى يونس أن من العرب من يقول «مررت برجل صالح إلا صالح فطالح» أي «إلا أكن مررت برجل صالح فقد مررت بطالح» قلنا : هذا لغة قليلة الاستعمال بعيدة عن القياس ؛ فلا يجوز أن يقاس عليها : أما قلتها في الاستعمال فظاهر ؛ لأن أكثر العرب لا تتكلم بها ، وإنما جاءت قليلة في لغة لبعض العرب ؛ وأما بعدها عن القياس فإنك تفتقر إلى إضمار أشياء ، وحكم الإضمار أن يكون شيئا واحدا ، ألا ترى أنك إذا قلت «مررت برجل صالح إلا صالح فطالح» تقديره : إلا أكن مررت بصالح [فقد مررت بطالح] فتفتقر إلى أشياء ، وذلك بعيد عن القياس ، وهذا شبيه بقول النحويين «ما مررت بزيد فكيف أخيه» ويقول الرجل : جئتك بدرهم ، فيقول المجيب «فهلا دينار» وهذا كله رديء لا تتكلم به العرب.

__________________

(١) من النحاة من جوّز دخول التاء على «رب» مضافا للكعبة أو إلى ياء المتكلم فيقال «ترب الكعبة» ويقال «تربي لأفعلن» ومنهم من حكى دخولها على «الرحمن» فيقال «تالرحمن» ومنهم من حكى دخولها على «حياتك» فيقال «تحياتك» وكل ذلك قليل أو نادر.

(٢) المراد أنهم أنثوا الفعل المسند إلى ضمير عائد إلى ما ، مراعاة لمعنى ما. وذلك أنهم قالوا «جاءت» بتاء التأنيث ؛ لأن في جاء ضميرا مستترا يعود إلى «ما» وما هي الحاجة ؛ لأن المبتدأ والخبر شيء واحد.

٣٢٨

وأما ما روي عن رؤبة من قوله «خير عافاك الله ، أي : بخير» فهو من الشاذ الذي لا يعتد به لقلته وشذوذه ، وكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات وقد أجبنا عنها في مواضعها بما يغني عن الإعادة.

وأما إضمار ربّ بعد الواو والفاء وبل ـ وهي حروف جر ـ فإنما جاز ذلك لأن هذه الأحرف صارت عوضا عنها دالة عليها ، فجاز حذفها ، وما حذف وفي اللفظ على حذفه دلالة أو حذف إلى عوض وبدل ؛ فهو في حكم الثابت ، وقد بيّنا ذلك مستقصى في موضعه ، بخلاف هاهنا ، فإنكم جوزتم حذف حرف القسم ولا دلالة في اللفظ على حذفه ولا إلى عوض وبدل ، فبان الفرق بينهما ، والله أعلم.

٣٢٩

٥٨

مسألة

[اللام الداخلة على المبتدأ ، لام الابتداء أو لام جواب القسم؟]

ذهب الكوفيون إلى أن اللام في قولهم «لزيد أفضل من عمرو» جواب [١٧٥] قسم مقدّر ، والتقدير : والله لزيد أفضل من عمرو ، فأضمر اليمين اكتفاء باللام منها ، وذهب البصريون إلى أن اللام لام الابتداء.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن هذه اللام جواب القسم وليست لام الابتداء أن هذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب. وذلك نحو قولهم «لطعامك زيد آكل» فلو كانت هذه اللام لام الابتداء لكان يجب أن يكون ما بعدها مرفوعا ، ولما كان يجوز أن يليها المفعول الذي يجب أن يكون منصوبا.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنها لام الابتداء أنها إذا دخلت على المنصوب بظننت أوجبت له الرفع وأزالت عنه عمل ظننت ، تقول : ظننت زيدا قائما ، فإذا أدخلت على زيد اللام قلت : ظننت لزيد قائم ، فأوجبت له الرفع بالابتداء بعد أن كان منصوبا ؛ فدل على أنها لام الابتداء.

قالوا : ولا يجوز أن يقال «إن الظن محمول على القسم ؛ فاللام جواب القسم ، كقولهم : والله لزيد قائم ، لا لام الابتداء ، فإذا كانت جواب القسم فحكمها أن تبطل عمل ظننت ؛ فلهذا وجب أن يرفع زيد بما بعده ، لا بالابتداء ، وهذا لأن حكم لام القسم في كل موضع أن لا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، ولا ما بعدها فيما قبلها ؛ لأن ما بعدها من الكلام محلوف عليه ؛ فلو جعل شيء منه قبلها لزال منه معنى الحلف عليه» لأنا نقول : لا يجوز أن يكون الظن قسما ، لأنه إنما نقسم بالشيء في العادة إذا كان عظيما عند الحالف ، كقوله «والله ، والقرآن ، والنبي ، وأبي» وما أشبه ذلك مما يحلف به أهل الجاهلية والإسلام ، ومعنى الظن خارج عن هذا المعنى.

٣٣٠

فأما قولهم «جير لأذهبنّ ، وعوض لأقومن ، وكلّا لأنطلقن» فإنما أقسموا بها لأنهم أجروها مجرى حق ، والحق معظّم في النفوس ، بخلاف الظن الذي فيه معنى الشك ، وجير بمعنى نعم ، قال الشاعر :

[٢٥٧] إنّ الّذي أغناك يغنيني جير

والله نفّاح اليدين بالخير

وعوض بمعنى الدهر ، قال الشاعر :

[٢٥٨] رضيعي لبان ثدي أمّ تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرّق

______________________________________________________

[٢٥٧] هذان بيتان من مشطور الرجز ، والذي يؤخذ من كلام أهل اللغة أن «جير» تأتي على وجهين : أولهما : أن تكون حرف جواب كأجل ، ومعناهما نعم ، وعليه جاء قول الراجز :

قالت : أراك هاربا للجور

من هدة السلطان ، قلت : جير

وهي في هذا الوجه مبنية إما على الكسر كما هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، وإما على الفتح للتخفيف مثل أين وكيف ، والوجه الثاني : أن تكون بمعنى اليمين ، يقال : جير لا أفعل كذا ، ولا جير لا أفعل ذلك ، قال الجوهري : «قولهم جير لا آتيك ـ بكسر الراء ـ يمين للعرب ، ومعناها حقا» اه وأنكر ابن هشام في المغني الاستعمال الثاني ، قال (ص ١٢٠) : «جير ـ بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس ، وبالفتح للتخفيف كأين وكيف ـ حرف جواب بمعنى نعم ، لا اسم بمعنى حقا فتكون مصدرا ، ولا بمعنى أبدا فتكون ظرفا ، وإلا لأعربت ودخلت عليها أل» اه. وفي كلام ابن هشام هذا مناقشة ؛ فإنه قطع بأنها لا تكون إلا حرف جواب بمعنى نعم ، ونفى أن تكون اسما بمعنى حقا يستعمل في اليمين ، واستدل بأنها لو كانت اسما بمعنى حقا لوجب إعرابها وجاز دخول أل عليها ، وكل ذلك غير مسلم له ، أولا : لأن أثبات العلماء قد نقلوا أن العرب تستعملها بمعنى اليمين ، وقد استقر عند المحققين أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وثانيا : أنه لا يلزم من كونها تأتي اسما بمعنى حقا أن تعرب ، لأن لبنائها مع ذلك سببا معترفا به ، وبهذا السبب نفسه بنيت بعض الأسماء ، وهذا السبب هو شبهها الحرف شبها لفظيا ، فإن «جير» التي هي اسم بمعنى حقا أشبهت «جير» التي هي حرف جواب ، كما أن «حاشا» التنزيهية بنيت لشبهها حاشا الحرفية شبها لفظيا ، ولم يلزم من كونها بمعنى تنزيها أن تعرب ولا أن تدخلها أل ، وأيضا «ما» التي هي نكرة بمعنى شيء لم يلزم من أن تكون بمعنى اسم تدخل عليه أل أن تكون هي بحيث تدخل عليها أل ، وقول الراجز المستشهد بكلامه «والله نفاح اليدين بالخير» مأخوذ من قولهم «نفحه بشيء» أي أعطاه ، و «نفحه بالمال نفحا» أعطاه ، وفي الحديث «المكثرون هم المقلون إلا من نفح فيه يمينه وشماله» أي ضرب يديه فيه بالعطاء. وقال الشاعر ، وهو ابن ميادة الرماح بن أبرد يمدح الوليد بن يزيد :

لما أتيتك أرجو فضل نائلكم

نفحتني نفحة طابت لها العرب

[٢٥٨] هذا البيت من قصيدة الأعشى ميمون بن قيس التي مدح بها المحلق فرفع من شأنه ، ومطلعها :

أرقت ، وما هذا السهاد المؤرق؟

وما بي من سقم ، وما بي معشق

والبيت المستشهد به من شواهد رضي الدين في باب الظروف من شرح الكافية ، وقد شرحه

٣٣١

[١٧٦] وفي عوض ثلاث لغات : عوض بالضم ، وعوض بالفتح ، وعوض بالكسر ، وكلّا بمعنى حقّا ، قال الشاعر :

[٢٥٩] أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك؟ وكلّا ليس منك قليل

______________________________________________________

البغدادي في الخزانة (٣ / ٢٠٩) وشواهد الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه (س ٥٥٩) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٢٤٦) وابن جني في الخصائص (١ / ٢٦٥ الدار) وأنشده ابن منظور (ع وض ـ س ح م) وانظر القصيدة في ديوان الأعشى (ص ١٤٥ فينا).

واللبان ـ بكسر اللام بزنة الكتاب ـ هو اللبن ، فإن لم تنوّنه فهو مضاف إلى ثدي أم ، وإن نوّنته جررت ثدي أم على البدل أو نصبته على البدل أيضا باعتبار موضع اللبان لأنه في المعنى مفعول به لرضيعي ، أو نصبته بتقدير أعني أو نحوه ، وقوله «تحالفا» يروى مكانه «تقاسما» أي حلف كل منهما وأقسم ، أو عقدا محالفة بينهما ، والأسحم الذي تحالفا عليه : يقال هو الدم ، وكان من عادتهم أن يغمسوا أيديهم في الدم عند ما يتحالفون ، ويقال : هو الرحم ، ويقال : هو حلمة الثدي ، ويقال : هو الليل ، و «عوض» يأتي ظرفا لما يستقبل من الزمان مبنيا على الضم في محل نصب ، تقول : لا أكلمك عوض يا فتى ، تريد لا أكلمك أبدا ، ويأتي بمعنى القسم ، تقول : لا أفعل هذا عوض ، تحلف بالدهر والزمان ، وهذا المعنى هو الذي أراده المؤلف هنا. قال ابن يعيش «أما عوض فهو اسم من أسماء الدهر ، وهو للمستقبل من الزمان ، كما أن قط للماضي ، وأكثر استعماله في القسم ، تقول : عوض لا أفارقك ، أي لا أفارقك أبدا ، كما تقول : قط ما فارقتك ، وعوض مبنية لقطعها عن الإضافة ، وفيها لغتان : الفتح ، والضم ، فمن فتح فطلبا للخفة ، ومن ضم فتشبيها بقبل وبعد ... فإن أضفته أعربته ، تقول : لا أفعله عوض العائضين ، أي دهر الداهرين ، فيكون معربا ، وانتصابه على الظرف لا على حده في :

* بأسحم داج عوض لا نتفرق*

وعوض من لفظ العوض ومعناه ، وذلك أن الدهر لا يمضي منه جزء إلا ويخلفه جزء آخر ، فصار الثاني كالعوض من الأول» اه.

وأغرب ابن الكلبي فزعم أن «عوض» في بيت الأعشى اسم صنم كان لبكر بن وائل ، قال ابن هشام «واختلف في قول الأعشى :

* بأسحم داج عوض لا نتفرق*

فقيل : ظرف لنتفرق ، وقال ابن الكلبي : قسم ، وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل ، بدليل قوله :

حلفت بمائرات حول عوض

وأنصاب تركن لدى السعير

والسعير : اسم لصنم كان لعنزة ، ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت» اه.

[٢٥٩] هذا البيت ثالث تسعة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة (انظر شرح المرزوقي ص ١٣٤٠) ونسبها لابن الطثرية ، واسمه يزيد بن سلمة بن سمرة ، والطثرية أمه ، نسبت إلى طثر ، وهو حي من اليمن. يقول : أليس قليلا نظرة منك إذا حصلت لي ، ثم استدرك على نفسه ناقضا لما اعتقده ، فقال : كلا ، لا قليل منك ، ومثل هذا البيت في المعنى قول الآخر :

هل إلى نظرة إليك سبيل؟

فيروى الظما ويشفى الغليل

٣٣٢

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن هذه اللام ليست لام الابتداء ؛ لأن الابتداء يوجب الرفع ، وهذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب ، نحو قولهم «لطعامك زيد آكل» قلنا : الأصل في اللام هاهنا أن تدخل على زيد الذي هو المبتدأ ، وإنما دخلت على المفعول الذي هو معمول الخبر لأنه لما قدّم في صدر الكلام وقع موقع المبتدأ ؛ فجاز دخول اللام عليه ؛ لأن الأصل في هذه اللام أن تدخل على المبتدأ ، فإذا وقع المفعول موقعه جاز أن تدخل هذه اللام عليه كما تدخل على المبتدأ ، وإذا جاز دخول هذه اللام على معمول الخبر إذا وقع موقعه ، كقولك «إنّ زيدا لطعامك آكل» وكقول الشاعر :

[٢٦٠] إنّ امرأ خصّني عمدا مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور

وإن كان الأصل فيها أن تدخل ـ بعد نقلها عن الاسم ـ على الخبر لا على معموله ؛ لوقوعه موقعه (١) ، فكذلك يجوز دخول هذه اللام على المفعول إذا وقع موقع المبتدأ ، وإن كان الأصل فيها أن تدخل على المبتدأ ؛ لوقوعه موقعه ، والله أعلم.

______________________________________________________

إن ما قل منك يكثر عندي

وكثير ممن يحب القليل

وموطن الاستشهاد بالبيت قوله «وكلا ليس منك قليل» فإن المؤلف قد ذهب إلى أن «كلا» في هذه العبارة بمعنى حقا ، وهذا شيء قاله الكسائي ومتابعوه ، فأما سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين فقالوا : إن كلا حرف معناه الردع والزجر ، لا معنى له عندهم إلا ذلك ، وقال الكسائي : قد يخرج «كلا» عن الردع والزجر فيكون بمعنى حقا ، وقال أبو حاتم ومتابعوه : قد يخرج كلا عن معنى الردع والزجر فيكون بمعنى «ألا» الاستفتاحية ، وقال النضر بن شميل والفراء ومن تابعهما : قد يخرج كلا عن معنى الردع والزجر فيكون حرف جواب بمعنى إي ونعم ، وحمل هؤلاء على ذلك قول الله تعالى : (كَلَّا وَالْقَمَرِ) فقالوا : المراد ـ والله أعلم ـ إي والقمر.

[٢٦٠] هذا البيت من كلام أبي زبيد الطائي من كلمة يمدح فيها الوليد بن عقبة ، ويصف نعمة أنعمها عليه مع بعده وتنائيه عنه ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٨١) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٩٢٥) وقوله «خصني مودته» أراد أن يقول : خصني بمودته ، فحذف حرف الجر ، وأوصل الفعل إلى المجرور بنفسه فنصبه ، والمكفور : اسم المفعول من قولهم «كفر فلان النعمة» إذا جحدها ولم يقم بحقها من الشكر ، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله «لعندي غير مكفور» حيث أدخل لام الابتداء على الظرف ولم يدخلها على خبر إن ، وأصلها أن تدخل على خبر إن أو اسمها المتأخر عن خبرها ، فأصل الكلام هنا : لغير مكفور عندي.

__________________

(١) قوله «لوقوعه موقعه» تعليل لقوله «جاز دخول هذه اللام على معمول الخبر» ونبّهنا على ذلك لتباعد ما بينهما بما وقع اعتراضا.

٣٣٣

٥٩

مسألة

[القول في أيمن في القسم ، مفرد هو أو جمع؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أن قولهم في القسم «أيمن الله» جمع يمين. وذهب البصريون إلى أنه ليس جمع يمين ، وأنه اسم مفرد مشتق من اليمن.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن «أيمن» جمع يمين أنه على وزن أفعل ، وهو وزن يختص به الجمع ، ولا يكون في المفرد ، يدل عليه أن التقدير في قولهم «أيمن الله» أي : عليّ أيمن الله ، أي أيمان الله عليّ فيما أقسم به ، وهم يقولون في جمع يمين «أيمن» قال زهير :

[٢٦١] فتجمع أيمن منّا ومنكم

بمقسمة تمور بها الدّماء

______________________________________________________

[٢٦١] هذا البيت لزهير بن أبي سلمى كما قال المؤلف (الديوان ٧٨ ط الدار) وقد رواه ابن منظور (ق س م ـ ى م ن) والأيمن : جمع يمين ، وأراد بقوله «فتجمع أيمن منا ومنكم» تحلفون ونحلف ، وقوله «بمقسمة» هو بضم الميم وفتح السين بينهما قاف ساكنة ـ وهو الموضع يحلف فيه عند الأصنام ، ويروى «بمقسمة» بفتح الميم ـ وأراد بها القسامة ، وأصل القسامة ـ بزنة السحابة ـ أن يوجد رجل قتيلا فيجيء أولياؤه فيدعون على رجل أنه قاتله ، ولا تكون لهم بينة كاملة ، أو يوجد القتيل في محلة قوم ولا بينة على أن قاتله فلان منهم ، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينا أن فلانا قتله ، أو أن هؤلاء قتلوه ، فإن حلفوا استحقوا دية القتيل ، وإن أبوا أن يحلفوا حلف المدعى عليه وبرىء. وعلى هذا يكون المعنى في بيت زهير : تؤخذ أيمان مثل الأيمان التي تؤخذ في القسامة ، وتمار بها الدماء : أي تسيل ، والمراد دم البدن التي تنحر.

ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «أيمن» فإنه جمع يمين ، قال سيبويه : «وقالوا : يمين وأيمن ، وقالوا : أيمان فكسروها على أفعال كما كسروها على أفعل» اه. وقد كسروا يمينا على يمن ـ بضم الياء والميم جميعا ـ كما كسروا شمالا على شمل ، ومن ذلك قول زهير :

قد نكبت ماء شرج عن شمائلها

وجو سلمى على أركانها اليمن

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : التصريح للشيخ خالد (٢ / ٤٥٦) وشرح الأشموني مع حاشية الصبان (٤ / ٢٣٢) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ١٢٩٠) ولسان العرب (ى م ن).

٣٣٤

وقال الأزرق العنبري :

[٢٦٢] طرن انقطاعة أوتار محظربة

في أقوس نازعتها أيمن شملا

وقال الآخر :

[٢٦٣] * يأتي لها من أيمن وأشمل*

______________________________________________________

[٢٦٢] هذا البيت من شواهد سيبويه (٢ / ١٩٤) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ٦٣٣ و ٦٤٠) ورضي الدين في شرح الشافية ، وشرحه البغدادي (ص ١٣٣ بتحقيقنا) وقد أنشده ابن منظور (ش م ل) وكلهم نسبوه إلى الأزرق العنبري ، وهو يصف في هذا البيت طيرا ترن ، فشبه صوت طيرانها بسرعة بصوت أوتار تقطعت عند الجذب والنزع عن القوس ، فقوله «انقطاعة» مفعول مطلق يراد به التشبيه : أي طرن طيرانا ذا صوت يشبه صوت انقطاع أوتار محظربة ، والمحظربة :

المحكمة الفتل ، والأقوس : جمع قوس ، و «نازعتها أيمن شملا» يريد أن الأيمن تجذبها إلى ناحية ، والأشمل تجذبها إلى ناحية أخرى ، فهما يتنازعان في جذبها ويتغالبان عليه.

والاستشهاد به هنا في قوله «أيمن» فإنه جمع بمين ـ وهي اليد ـ فيدل ذلك على أن همزة «أيمن» همزة قطع في الأصل ، ولكنها صيرت همزة وصل تخفيفا لكثرة الاستعمال.

[٢٦٣] هذا بيت من الرجز المشطور ، وهو من كلام أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي ، وقد أنشده ابن منظور (ى م ن) وسيبويه (٢ / ٤٧ و ١٩٥) وابن يعيش في شرح المفصل (ص ١٢٩١) ويروى :

* يبري لها من أيمن وأشمل*

وبرى يبري ـ مثل رمى يرمي ـ أي تعرض ، والأيمن : جمع يمين ، وأراد جهة اليمين ، والأشمل : جمع شمال ، وأراد جهة الشمال.

قال ابن منظور في تفسير بيت الشاهد : «يقول : يعرض لها من ناحية اليمين وناحية الشمال ، وذهب إلى معنى أيمن الإبل وأشملها ، فجمع لذلك» اه.

ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «أيمن» فإن أيمنا هنا جمع يمين ، ويريد الكوفيون بالاستشهاد بهذه الأبيات الثلاثة أن المعهود في لفظ أيمن أن يكون جمع يمين ، سواء أكان بمعنى الحلف والقسم كما في البيت الأول من هذه الأبيات وهو بيت زهير (رقم ٢٦١) أم كان بمعنى اليد اليمنى كما في البيتين الثاني والثالث وهما بيت الأزرق وبيت أبي النجم (رقم ٢٦٢ و ٢٦٣) ولم يعرف أيمن مفردا ، بل لم يعرف مفرد آخر على وزن أفعل ـ بضم العين ـ وهمزة أفعل الجمع همزة قطع كأكلب وأقوس وأرهط وأفلس وما أشبه ذلك ، وإنما صيرت الهمزة في أيمن المراد به الحلف همزة وصل لكثرة الاستعمال ، ولهذا تجدها مفتوحة على ما كانت عليه وهي همزة قطع ، وعلى خلاف المعهود في همزة الوصل من أنها مكسورة. قال ابن يعيش : «وذهب الكوفيون إلى أن همزته همزة قطع ، وأنه جمع لا مفرد ، وهو جمع يمين ، كما قال العجلي :

* يبري لها من أيمن وأشمل*

وسقطت همزته في الوصل لكثرة الاستعمال» اه ، وسيأتي في شرح الشاهد الآتي بيان حجة البصريين.

٣٣٥

والأصل في همزة أيمن أن تكون همزة قطع ؛ لأنه جمع ، إلا أنها وصلت لكثرة الاستعمال ؛ وبقيت فتحتها على ما كانت عليه في الأصل ، ولو كانت ـ على ما زعمتم ـ في الأصل همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة على حركتها عندكم في الأصل. والذي يدل على أنها ليست همزة وصل أنها ثبتت في قولهم «أم الله لأفعلنّ» فتدخل الهمزة على الميم وهي متحركة ، ولو كانت همزة وصل لوجب أن تحذف لتحرك ما بعدها.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مفرد وليس بجمع يمين لأنه لو كان جمع يمين لوجب أن تكون همزته همزة قطع ، فلما وجب أن تكون همزته همزة وصل دلّ على أنه ليس بجمع يمين ، قال الشاعر :

[٢٦٤] وقد ذكرت لي بالكثيب مؤالفا

قلاص سليم أو قلاص بني بكر

______________________________________________________

[٢٦٤] هذان البيتان من كلام نصيب بن رباح ، وقد أنشد ثانيهما سيبويه (٢ / ١٤٧) وابن يعيش (ص ١٢٦٠) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ١٤٢) وابن جني في شرح تصريف المازني (١ / ٥٨) وفي سر صناعة الإعراب (١ / ١٢٠) وابن منظور (ى م ن) والخطيب القزويني في الإيضاح (رقم ٤٨٠ بتحقيقا) وصف نصيب أنه تعرض لزيارة من يحب ، فتعلل بأنه ينشد إبلا ضلت له مخافة أن ينكر عليه مجيئه وإلمامه بهم ، ومعنى «نشدتهم» سألتهم ، يقال «نشد فلان الضالة» إذا سأل عنها ، ويقال «أنشد فلان الضالة» إذا عرفها. ومحل الاستشهاد قوله «لا يمن الله» حيث ورد بهمزة وصل ؛ فدل ذلك على أن «أيمن» مفرد وليس بجمع ؛ إذ لو كان جمعا لكانت همزته همزة قطع كالهمزة في أرهط وأكلب وأرؤس وأفؤس ونحو ذلك ، قال سيبويه : «وزعم يونس أن همزة ايم موصولة ، وكذلك تفعل بها العرب ، وفتحوا الألف كما فتحوا الألف التي في الرجل ، وكذلك أيمن ، قال الشاعر :

* فقال فريق القوم لما نشدتهم ـ البيت*

اه كلامه.

قال الأعلم : «الشاهد في حذف ألف أيمن ؛ لأنها ألف وصل عنده ، فتحت لدخولها على اسم لا يتمكن في الكلام ، إنما هو مخصوص بالقسم مضمن معناه» اه.

وقال ابن هشام : «أيمن المختص بالقسم : اسم ، لا حرف ، خلافا للزجاج والرماني ، مفرد مشتق من اليمن وهو البركة ، وهمزته وصل ، لا جمع يمين وهمزته قطع ، خلافا للكوفيين ويرد مذهب الكوفيين جواز كسر همزته وفتح ميمه ، ولا يجوز مثل ذلك في الجمع من نحو أفلس وأكلب ، وقول نصيب :

* فقال فريق القوم لما نشدتهم*

البيت.

فحذف ألفها في الدرج ، ويلزمه الرفع بالابتداء ، وحذف الخبر ، وإضافته إلى اسم الله سبحانه وتعالى ، خلافا لابن درستويه في إجازة جره بحرف القسم ، ولابن مالك في جواز إضافته إلى الكعبة ولكاف الضمير ، وجوز ابن عصفور كونه خبرا والمحذوف مبتدأ ، أي قسمي أيمن الله» اه ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلى وأعلم وأعز وأكرم.

٣٣٦

فقال فريق القوم لمّا نشدتهم :

نعم ، وفريق : ليمن الله ما ندري

ويدل عليه أنهم قالوا في أيمن الله «م الله» ولو كان جمعا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفا واحدا ؛ إذ لا نظير له في كلامهم ، فدلّ على أنه ليس بجمع ، فوجب أن يكون مفردا.

وأما ما ذكروه من كونها همزة وصل لكثرة الاستعمال فسنبيّن أنه حجّة عليهم في الجواب عن كلماتهم ، إن شاء الله تعالى.

أما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه جمع يمين ، بدليل أنه على وزن أفعل ، وأفعل وزن يختص به الجمع ، ولا يكون في المفرد» قلنا : لا نسلّم ؛ بل قد جاء ذلك في المفرد ؛ فإنهم قالوا : رصاص آنك ، وهو الخالص ، وقالوا «أسنمة» اسم موضع وأكمة ، و «أشدّ» على الصحيح ، وهو منتهى [١٧٨] الشباب والقوة ، وقيل : هو الحلم ، وقيل : عشرون سنة ، وقيل : ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل : أربعون سنة.

وقولهم «الأصل في الهمزة أن تكون همزة قطع لأنه جمع يمين» قلنا : لو كانت الهمزة فيه همزة قطع لما جاز فيه كسر الهمزة فقيل «إيمن الله» لأن ما جاء من الجمع على وزن أفعل لا يجوز فيه كسر الهمزة ، فلما جاز هاهنا بالإجماع كسر الهمزة دل على أنها ليست همزة قطع.

وأما قولهم «إنها لو كانت همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة» قلنا : إنما جاءت مفتوحة ـ وإن كان القياس يقتضي أن تكون مكسورة ـ لأنهم لما كثر استعماله في كلامهم فتحوا فيه الهمزة لأنها أخف من الكسرة كما فتحوا الهمزة التي تدخل على لام التعريف ـ وإن كان الأصل فيها الكسر ـ لكثرة الاستعمال ، فكذلك هاهنا.

وأما قولهم «إن الهمزة ثبتت في قولهم أم الله لأفعلنّ مع تحرك ما بعدها» قلنا : إنما ثبتت الهمزة فيه من وجهين ؛ أحدهما : أن الأصل في الكلمة «أيمن» فالهمزة داخلة على الياء وهي ساكنة ، فلما حذفت ـ وحذفها غير لازم ـ بقي حكمها. والثاني : أن حركة الميم حركة إعراب ، وليست لازمة وتسقط في الوقف ؛ فلذلك ثبتت همزة الوصل.

والدليل على ذلك أن العرب تقول في الأحمر : «ألحمر» فلا يحذفون همزة الوصل ؛ لأن حركة اللام ليست بلازمة ، وبعض العرب يحذفون الهمزة لتحرك ما بعدها ، على أن من العرب من يقول «م الله» فيحذف الهمزة ، وفيها لغات كثيرة تنيف على عشر لغات : أيمن الله ، وإيمن الله ، وأيم الله ، وإيم الله ، وأم الله ، وم

٣٣٧

الله ، وم الله ، وم الله ، وليمن الله ، ومن الله ، ومن ربّي ، ومن ربّي. و «من» لا تدخل إلا على «ربّ» وحده ، ولا تدخل على غيره ، كما لا تدخل التاء إلا على الله في «تالله». والله أعلم.

تم الجزء الأول من كتاب «الإنصاف ، في مسائل الخلاف»

لأبي البركات الأنباري

ويليه ـ إن شاء الله تعالى ـ الجزء الثاني منه مفتتحا بالمسألة

(٦٠ ـ القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف والجار والمجرور) ،

نسأل الله تعالى أن يعين على إكماله بمنه وكرمه وفضله.

٣٣٨

الفهرس العام

٣٣٩
٣٤٠