الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

لم يتم إلا بذكر المضاف إليه ، ولو قلت «زيد» في قولك هذا زيد الظريف يتم الموصوف بدون ذكر الصفة ، وكنت في ذكرها مخيّرا : إن شئت ذكرتها ، وإن شئت لم تذكرها ، فبان الفرق بينهما.

وأما ما روي عن بعض العرب من قوله «واجمجمتيّ الشاميّتيناه» فيحتمل أن يكون إلحاق علامة الندبة من قياس يونس ، وعلى كل حال فهو من الشاذ الذي لا يعبأ به ولا يقاس عليه ، كقولهم «وامن حفر بئر زمزماه» وما أشبه ذلك ، والله أعلم.

٣٠١

٥٣

مسألة

[اسم لا المفرد النكرة ، معرب أو مبنيّ؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المفرد النكرة المنفي بلا معرب منصوب بها نحو «لا رجل في الدّار».

وذهب البصريون إلى أنه مبني على الفتح.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب بها لأنه اكتفى بها من الفعل ؛ لأن التقدير في قولك «لا رجل في الدّار» لا أجد رجلا في الدار ، فاكتفوا بلا من العامل ، كما تقول «إن قمت قمت ، وإن لا فلا» أي وإن لا تقم فلا أقوم ، فلما اكتفوا بلا من العامل نصبوا النكرة به ، وحذفوا التنوين بناء على الإضافة.

ومنهم من تمسك بأن قال : إنما قلنا إنه منصوب بها لأن «لا» تكون بمعنى غير ، كقولك «زيد لا عاقل ولا جاهل» أي : غير عاقل وغير جاهل ، فلما جاءت ها هنا بمعنى ليس نصبوا بها : ليخرجوها من معنى غير إلى معنى ليس [١٦٢] ويقع الفرق بينهما.

ومنهم من تمسك بأن قال : إنما أعملوها النّصب لأنهم لما أولوها النكرة ـ ومن شأن النكرة أن يكون خبرها قبلها ـ نصبوا النكرة بغير تنوين.

ومن النحويين من قال : إنه منصوب لأن «لا» إنما عملت النصب لأنها نقيضة إنّ ؛ لأن «لا» للنفي ، و «إنّ» للإثبات ، وهم يحملون الشيء على ضده ، كما يحملونه على نظيره ، إلا أن «لا» لما كانت فرعا على «إنّ» في العمل ، و «إنّ» تنصب مع التنوين نصبت «لا» من غير تنوين ؛ لينحطّ الفرع عن درجة الأصل ؛ لأن الفروع أبدا تنحط عن درجات الأصول.

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : أسرار العربية للمؤلف (ص ٩٩) وشرح الأشموني بحاشية الصبان (٢ / ٦ بولاق) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (١ / ٢٨٨ وما بعدها) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ١٢٩) وشرح رضي الدين على الكافية (١ / ٢٣٤).

٣٠٢

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه مبني على الفتح لأن الأصل في قولك «لا رجل في الدار؟» لا من رجل في الدار ؛ لأنه جواب من قال «هل من رجل في الدار؟» فلما حذفت «من» من اللّفظ وركبت مع لا تضمنت معنى الحرف فوجب أن تبنى ، وإنما بنيت على حركة لأن لها حالة تمكن قبل البناء ، وبنيت على الفتح لأنه أخف الحركات.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنما قلنا إنه منصوب بلا ؛ لأنها اكتفي بها عن الفعل» قلنا : هذا مجرد دعوى يفتقر إلى دليل ؛ ثم لو كان كما زعمتم لوجب أن يكون منوّنا.

قولهم «حذف التنوين بناء على الإضافة» قلنا : لو كان هذا صحيحا لوجب أن يطرد في كل ما يجوز إضافته من الأسماء المفردة المنونة ، فلمّا قلتم إنه يختص بهذا الموضع دون سائر المواضع دلّ على فساد ما ذهبتم إليه.

وأما قولهم «إنّ لا تكون بمعنى غير ، فلما جاءت بمعنى ليس نصبوا بها ليخرجوها من معنى غير» قلنا : ولم إذا كانت بمعنى ليس ينبغي أن ينصب بها؟ وهلّا رفعوا بها على القياس ؛ فإنهم يرفعون بها إذا كانت بمعنى ليس ، قال الشاعر :

[٢٣٠] من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح

______________________________________________________

[٢٣٠] هذا البيت من كلام سعد بن مالك القيسي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٨ و ٣٥٤) وشرح الرضي على الكافية في باب ما ولا المشبهين بليس ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٢٢٣) والزمخشري في المفصل (رقم ٢٤ بتحقيقنا) وشرح ابن يعيش (ص ١٣٤) والأشموني (رقم ٢٢٥) وأوضح المسالك (رقم ١٠٧) ومغني اللبيب (رقم ٣٩٦) وصد : أي أعرض ، والضمير في «نيرانها» يعود إلى الحرب التي ذكرها في أبيات سابقة ، وأراد من نكل عنها ولم يقتحم لظاها ، وقوله «فأنا ابن قيس» نسب نفسه إلى جده الأعلى ؛ فإنه سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ، والمراد من هذه العبارة أنا ذلك المعروف بالجراءة والنجدة والشهامة الذي طرق سمعك اسمه وعرفت عنه ما عرفت من صفات البطولة. والاستشهاد به في قوله «لا براح» حيث أعمل فيه «لا» عمل ليس ؛ فرفع بها الاسم ، وحذف خبرها ، وتقدير الكلام : لا براح لي ، وقد قال ابن هشام في شرح الشاهد ـ تبعا لابن يعيش والمبرد ـ إنه يجوز أن تكون لا نافية مهملة ، وبراح ـ على هذا ـ يكون مبتدأ ، وقد حذف خبره ، واعترض جماعة هذا الكلام بأن المعهود في لا النافية أن تعمل عمل إن أو عمل ليس ، فإن لم تعمل أحد العملين وجب تكرارها كأن تقول : لا رجل عندك ولا امرأة فلما لم تتكرر علمنا أنها عاملة ، ولما كان الاسم الذي بعدها مرفوعا علمنا أنها عملت عمل ليس ، وقد تمحل قوم فقالوا : يجوز أن تكون مهملة ولكنها لم تتكرر للضرورة وهذا كلام لا يجوز لك أن تأخذ به ؛ لأن المصير إلى الضرورة أمر لا يجوز ارتكابه إلا حين لا يكون للكلام محمل صحيح يحمل عليه.

٣٠٣

أي ليس براح ، وقال الآخر :

[٢٣١] والله لو لا أن تحسّ الطّبّخ

بي الجحيم حين لا مستصرخ

أي ليس مستصرخ هناك لنا.

وأما قولهم «إنما أعملوها النصب لأنهم لما أولوها النكرة ـ ومن شأن النكرة أن يكون خبرها مقدما عليها ـ نصبوا بها النكرة» قلنا : [١٦٣] ولم قلتم ذلك؟ وما وجه المناسبة بينه وبين النصب؟ ثم لو كان كما زعمتم وأنه معرب منصوب لوجب أن يدخله التنوين ولا يحذف منه ؛ لأنه اسم معرب ليس فيه ما يمنعه من الصّرف ، فلما منع من التنوين دلّ على أنه ليس بمعرب منصوب.

وهذا هو الجواب عن قول من ذهب إلى أنه منصوب بلا ؛ لأنها نقيضة إنّ ؛ فإنه كان ينبغي أن يكون منوّنا.

قولهم «إنّ لا لما كانت فرعا على إنّ في العمل ، وإنّ تنصب مع التنوين نصبت لا من غير تنوين ؛ لينحط الفرع عن درجة الأصل». قلنا : هذا فاسد ، وذلك لأن التنوين ليس من عمل إنّ ، وإنما هو شيء يستحقه الاسم في الأصل ، وإنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان التنوين من عمل إنّ ، ولا خلاف بين النحويين أن التنوين ليس من عملها ، وإذا لم يكن من عمل إنّ التي هي الأصل ، فلا معنى لحذفه مع «لا» التي هي الفرع لينحطّ الفرع عن درجة الأصل ؛ لأن الفرع إنما ينحطّ عن درجة الأصل فيما كان من عمل الأصل ، وإذا لم يكن من عمل الأصل ، فيجب

______________________________________________________

[٢٣١] هذان بيتان من الرجز المشطور ، وقد أنشدهما ابن منظور (ط ب خ ـ ح ش ش) ولم يعزهما إلى قائل معين ، وأنشد سيبويه كلمة الاستشهاد (١ / ٣٥٧) ولم يعزها ، ولا بينها الأعلم ولا تكلم عليها. وتقول : حش النار يحشها حشا : أي جمع لها ما تفرق من الحطب وأوقدها ، وتقول حش الحرب يحشها حشا ؛ إذا أسعرها وهيّجها ، تشبيها بإسعار النار ، قال زهير :

يحشونها بالمشرفية والقنا

وفتيان صدق لاضعاف ولا نكل

والطبخ : الملائكة الموكلون بعذاب الكفار ، والاستشهاد بالبيت في قوله «لا مستصرخ» حيث رفع الاسم الواقع بعد «لا» النافية التي بمعنى ليس ، وقد علمت مما قدمناه في شرح الشاهد السابق أن جمهرة البصريين على أنه مرفوع بلا ؛ لأنها لما شبهت بليس عملت عملها فرفعت الاسم ونصبت الخبر ، وأن أبا العباس المبرد وموفق الدين بن يعيش ـ وتبعهما ابن هشام ـ جوزوا أن تكون «لا» في مثل هذا نافية مهملة لا عمل لها ، والاسم المرفوع بعدها مبتدأ خبره محذوف ، وهذا تخريج يتفق مع مذهب الكوفيين ؛ ولكنا آثرنا لك ألا تأخذ بهذا التخريج لما بيّنا لك من أن «لا» لو كانت مهملة لوجب تكرارها ، فلما لم تتكرر في هذا الشاهد والذي قبله كان ذلك دليلا على أنها عاملة.

٣٠٤

أن يكون ثابتا مع الفرع ، كما كان ثابتا مع الأصل ، ثم انحطاطها عن درجة «إنّ» قد ظهر في أربعة أشياء :

أحدها : أن إنّ تعمل في المعرفة والنكرة ، ولا لا تعمل إلا في النكرة دون المعرفة.

والثاني أن إنّ لا تركّب مع الاسم لقوتها ، ولا تركب مع الاسم لضعفها.

والثالث : أن إنّ تعمل في الاسم مع الفصل بينها وبينه بالظرف وحرف الجر ، ولا لا تعمل مع الفصل بينها وبينه بالظرف ولا حرف الجر.

والرابع : أن إنّ تعمل في الاسم والخبر عندنا ، ولا إنما تعمل في الاسم دون الخبر عند أهل التحقيق والنظر.

فقد ظهر انحطاط لا عن درجة إنّ على ما بيّنا ، والله أعلم.

٣٠٥

٥٤

مسألة

[هل تقع «من» لابتداء الغاية في الزمان؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أنّ «من» يجوز استعمالها في الزمان والمكان.

وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز استعمالها في الزمان.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن [١٦٤] قالوا : الدليل على أنه يجوز استعمال «من» في الزمان أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب ، قال الله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] و (أَوَّلِ يَوْمٍ) من الزمان ، [و] قال الشاعر ، وهو زهير بن أبي سلمى :

[٢٣٢] لمن الدّيار بقنّة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

______________________________________________________

[٢٣٢] هذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني يمدح فيها هرم بن سنان المري ، وقد استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١٠٧٥) والرضي في شرح الكافية (٢ / ٢٩٨) وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ١٢٦) والأشموني (رقم ٥٦٧) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٣٠٠) والاستفهام في قوله «لمن الديار» للتعجب من شدة خراب هذه الديار حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف أصحابها ، والقنة : أعلى الجبل ، والحجر ـ بكسر فسكون ـ منازل ثمود عند وادي القرى من ناحية الشام ، وأقوين : أقفرن وخلون ، والحجج : جمع حجة ـ بكسر الحاء ـ وهي السنة ، والدهر : الأبد الممدود ، ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله «من حجج ومن دهر» فإن الكوفيين رووا هذه العبارة على هذا الوجه ، واستدلوا بها على أنه يجوز استعمال «من» لابتداء الغاية الزمنية كما يجوز أن تجيء لابتداء الغاية المكانية ، والبصريون ينكرون هذه الرواية ويزعمون أن الرواية الصحيحة في هذا البيت «أقوين مذحجج ومذدهر» بل إن من العلماء من أنكر أن زهيرا قال هذا البيت ، وزعم أن زهيرا بدأ قصيدته بقوله :

دع ذا وعد القول في هرم

خير البداة وسيد الحضر

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني مع حاشية الصبان (٢ / ١٨٤) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (٢ / ٩ بولاق) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ١٠٧٥) وشرح الرضي على الكافية (٢ / ٢٩٨).

٣٠٦

فدلّ على أنه جائز.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أنّ «من» في المكان نظير مذ في الزمان ؛ لأن من وضعت لتدل على ابتداء الغاية في المكان ، كما أن مذ وضعت لتدل على ابتداء الغاية في الزمان ، ألا ترى أنك تقول «ما رأيته مذ يوم الجمعة» فيكون المعنى أن ابتداء الوقت الذي انقطعت فيه الرؤية يوم الجمعة ، كما تقول «ما سرت من بغداد» فيكون المعنى ما ابتدأت بالسير من هذا المكان ، فكما لا يجوز أن تقول «ما سرت مذ بغداد» فكذلك لا يجوز أن تقول «ما رأيته من يوم الجمعة».

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] فلا حجة لهم فيه ؛ لأن التقدير فيه : من تأسيس أوّل يوم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢] والتقدير فيه : أهل القرية وأهل العير ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وقال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] وكقولهم : الجود حاتم ، والشجاعة عنترة ، والشّعر زهير ، أي : جود حاتم ، وشجاعة عنترة ، وشعر زهير ، وكقولهم «بنو فلان يطؤهم الطّريق» أي : أهل الطريق ، وقال الشاعر :

[٢٣٣] حسبت بغام راحلتي عناقا

وما هي ـ ويب غيرك ـ بالعناق

______________________________________________________

وأن حمادا الراوية لما رأى هذا البيت مطلع القصيدة ابتكر ثلاثة أبيات جعلها مقدمة لهذا المطلع ، أولها بيت الشاهد ، وبعده :

لعب الزمان بها وغيرها

بعدي سوافي المور والقطر

قفرا بمندفع النحائت من

صفوي أولات الضال والسدر

فإن سلمنا صحة الرواية التي رواها الكوفيون وسلمنا مع ذلك صحة نسبة البيت إلى زهير فتخريجه على ما ذكره المؤلف.

[٢٣٣] أنشد ابن منظور (ع ن ق) هذا البيت أول بيتين ، وأسند روايتهما لابن الأعرابي ، ونسبهما لقريط يصف الذئب فالخطاب له ، ثم أنشده وحده (ب غ م) ونسبه لذي الخرق. وبغام الناقة ـ بضم الباء وتخفيف الغين ـ صوت لا تفصح به ، وبغام الظبية : صوتها ، وقد بغمت تبغم ـ من مثال ضرب ونصر وفتح ـ بغوما ويغاما. وتقول : بغمت الرجل ؛ إذا لم تفصح له عن معنى ما تحدثه به. والراحلة ، هنا : الناقة سميت بذلك لأن صاحبها يرتحلها : أي يركبها أو يضع رحله عليها ، والعناق ـ بفتح العين وتخفيف النون ـ الأنثى من المعز.

ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «عناقا» فإنه على تقدير مضاف يتم به التشبيه ، ألا ترى أنه لا يصح تشبيه صوت الناقة بالعناق نفسها؟ وإنما يصح تشبيه صوت الناقة بصوت العناق.

٣٠٧

والتقدير فيه : بغام راحلتي بغام عناق ، وقال الآخر :

[٢٣٤] لقد خفت حتّى لا تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

والتقدير فيه : حتى لا تزيد مخافتي على مخافة وعل ، وهو من المقلوب ، وتقديره : حتى لا تزيد مخافة وعل على مخافتي ، كما قال الآخر :

[٢٣٥] [١٦٥]كانت فريضة ما تقول كما

أنّ الزّناء فريضة الرّجم

______________________________________________________

[٢٣٤] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني ، وقد أنشده ياقوت في معجم البلدان (مطارة) كما أنشده الشريف المرتضى في أماليه (ص ٢١٦) والوعل ـ بفتح الواو وكسر العين أو سكونها ؛ وفيه لغة بضم الواو وكسر العين ، وهي ضعيفة ـ تيس الجبل ، والمطارة ـ بفتح الميم ـ قال ياقوت : «يجوز أن تكون الميم زائدة فيكون من طار يطير ، أي البقعة التي يطار منها ، وهو اسم جبل» ويضاف إليه «ذو» وعاقل : أي متحصن ، وفي الحديث «ليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل» أي ليتحصنن أي يعتصم ويلتجىء إليه كما يتحصن الوعل إلى رأس الجبل. ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله «لا تزيد مخافتي على وعل» فإن الكلام فيه على تقدير مضاف : أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل ، ألا ترى أن مخافته لا تشبه بالوعل نفسه ، وإنما تشبه بمخافة الوعل؟ وقد قالوا : إن الكلام على القلب ؛ فإن الأصل : لا تزيد مخافة الوعل المعتصم بالجبل على مخافتي ، فقلب ، قال الأصمعي : «يقول : قد خفت حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي ، فلم يمكنه ، فقلب» اه. وهذا أحد توجيهين في هذا البيت ، والتوجيه الثاني : أن تكون «ما» في قوله «ما تزيد مخافتي» زائدة ، وكأنه قال : حتى تزيد مخافتي ، والاستشهاد به لما أراد المؤلف منه لا يزول على أي الوجهين.

[٢٣٥] هذا البيت قد أنشده ابن منظور (ز ن ى) ونسبه إلى الجعدي ، وأنشده الشريف المرتضى في أماليه (ص ٢١٦ ط الحلبي) والعباسي في معاهد التنصيص (ص ٨٦ بولاق) من غير عزو ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «أن الزناء فريضة الرجم» فإن هذه العبارة مقلوبة ، وأصلها «أن الرجم فريضة الزنا» وعلماء العربية يختلفون في القلب : أجائز هو أم غير جائز ، ولهم فيه ثلاثة أقوال : الأول : أنه جائز مقبول مطلقا وممن ذهب هذا المذهب السكاكي ، والثاني : أنه غير جائز ولا مقبول مطلقا ، وما وقع من ذلك في شعر الشعراء فهو من أخطائهم أوله تأويل آخر كالتأويل الذي ذكرناه في شرح الشاهد السابق (رقم ٢٣٤) والثالث : أنه إذا كان قد تضمن اعتبارا لطيفا فهو جائز مقبول ، وإن لم يتضمن اعتبارا لطيفا فهو مردود على صاحبه ، ومن أمثلة القلب قول الراجز وأنشده ابن منظور (ح ل ا) :

إن سراجا لكريم مفخره

تحلى به العين إذا ما تجهره

فقد أراد الراجز أن يقول «يحلى بالعين» فلم يستطع ، فقلب ، ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج وأنشده الخطيب القزويني في الإيضاح (ص ٧٨ بتحقيقنا) والشريف المرتضى في الأمالي (ص ٢١٦) وسيأتي مع الشاهد ٢٣٦ قريبا :

ومهمه مغبرة أرجاؤه

كأن لون أرضه سماؤه

٣٠٨

.....

______________________________________________________

فقد أراد أن يقول «كأن لون سمائه أرضه» فقلب ، ومثله قول القطامي (الإيضاح ٧٨ والمعاهد ٨٦) :

فلما أن جرى سمن عليها

كما طينت بالفدن السياعا

السمن ـ بكسر السين وفتح الميم ـ امتلاء الجسم بالشحم ، وطينت : طليت بالطين ، والفدن ـ بالتحريك ـ القصر المنيف ، والسياع ـ بزنة الكتاب ـ الطين المخلوط بالتبن ، وقد أراد أن يقول «كما طليت القصر بالسياع» فقلب ، ومثله قول حسان بن ثابت يصف الخمر :

كأن سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

السبيئة : الخمر ، وبيت رأس : بلد بالشام ، ومزاجها : ما يخلط بها ، وقد أراد أن يقول «يكون ما يمزج بها عسلا وماء ـ بجعل مزاجها اسم يكون وعسلا وماء خبرها» فقلب ، ومثله قول عروة بن الورد ، وينسب للعباس بن مرداس السلمي :

فديت بنفسه نفسي ومالي

وما آلوك إلا ما أطيق

فقد أراد أن يقول «فديته بنفسي ومالي» فقلب ، ومثله قول القطامي من قصيدته التي منها البيت السابق :

قفي قبل التفرق يا ضباعا

ولا يك موقف منك الوداعا

أراد أن يقول «ولا يك الوداع موقفا منك» فقلب ، وهو أشبه ببيت حسان ، ومثله قول الشاعر ـ وهو من أبيات سيبويه (١ / ٩٢) :

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه

وسائره باد إلى الشمس أجمع

أضاف مدخلا ـ وهو اسم الفاعل من أدخل ـ إلى الظل ، ثم نصب «رأسه» به على الاتساع والقلب ، وكان الوجه أن يقول : مدخل رأسه الظل ؛ لأن الرأس هو الداخل في الظل ؛ ومثله قول الراعي يذكر ثورا :

فصبحته كلاب الغوث يؤسدها

مستوضحون يرون العين كالأثر

الغوث : قبيلة من طيّىء ، ويؤسدها : يغريها ، ومستوضحون : فاعل يؤسدها ، وأراد «صيادون مستوضحون» فحذف الموصوف وأبقى الصفة ، والمعنى يغريها صيادون ينظرون هل يرون شيئا ، وقوله «يرون العين كالأثر» هو المقلوب ، وأصله : يرون الأثر كالعين ، ومثل ذلك كله قول ابن مقبل ، وقد أنشده ابن منظور (ه ى ب) :

ولا تهيبني الموماة أركبها

إذا تجاوبت الأصداء بالسحر

فقد أراد أن يقول «ولا أتهيب الموماة أركبها» فقلب. وقد وقع القلب في شعر المحدثين ؛ فمن ذلك قول أبي تمام الطائي :

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأري الجنى اشتارته أيد عواسل

البيت في وصف القلم ، واللعاب : الريق ، وهو ماء الفم ، والأفاعي : الحيات ، والأري ـ بفتح الهمزة وسكون الراء ـ ما لزق من عسل النحل في جوف الخلية ، والجنى ـ بوزن الفتى ـ العسل ، وإضافة الأري إليه للتخصيص ؛ لأن الأري يكون أيضا ما لزق بجوف القدر من الطبيخ ، واشتارته : أي استخرجته وقطفته ، وأيد عواسل : أي قاطفة للعسل ، وقد أراد أن يقول «لعابه لعاب الأفاعي» فقلب ، والبصريون يخرجونه على التقديم والتأخير ، ونظيره ـ

٣٠٩

تقديره : كما أن الرّجم فريضة الزّناء.

وأما قول زهير :

* أقوين من حجج ومن دهر* [٢٣٢]

فالرواية الصحيحة «مذ حجج ومذ دهر» ولئن سلمنا ما رويتموه «من حجج ومن دهر» فالتقدير فيه أيضا : من مرّ حجج ومن مرّ دهر ، كما تقول : مرّت عليه السنون ، ومرّت عليه الدهور ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما بيّنا في الآية ، وقيل : إنّ «من» هاهنا زائدة ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ؛ فإنه يجوز أن تزاد في الإيجاب ، كما يجوز أن تزاد في النفي ، ويحتج بقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٤] أي يغفر لكم ذنوبكم ، وبقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] أي يغضوا أبصارهم ، ويحتج أيضا بقول الشاعر :

ألا حيّ ندماني عمير بن عامر

إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا [٢١٠]

أراد اليوم أو غدا ، فكذلك هاهنا : التقدير في قوله «من حجج ومن دهر» أي حججا ودهرا ، فدلّ على فساد ما ذهبوا إليه ، والله أعلم.

______________________________________________________

قول حسان بن ثابت :

قبيلة ألأم الأحياء أكرمها

وأغدر الناس بالجيران وافيها

أراد أن يقول : أكرمها ألأم الأحياء ، ووافيها أغدر الناس ، فقلب ، أو قدم وأخر ، ونظيرهما البيت المشهور وقد ينسب إلى الفرزدق :

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

فقد أراد أن يقول : بنو أبنائنا بنونا ، أي مثلهم ، فقلب ، أو قدم وأخر ، وقد أطلنا عليك في الاستشهاد لهذا الموضوع فعه ولا تنسه.

٣١٠

٥٥

مسألة

[واو ربّ ، هل هي التي تعمل الجر؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أن واو ربّ تعمل في النكرة الخفض بنفسها ، وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين. وذهب البصريون إلى أن واو رب لا تعمل ، وإنما العمل لربّ مقدرة.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن الواو هي العاملة لأنها نابت عن ربّ ، فلما نابت عن ربّ وهي تعمل الخفض فكذلك الواو لنيابتها عنها ، وصارت كواو القسم ؛ فإنها لما نابت عن الباء عملت الخفض كالباء ، فكذلك الواو هاهنا :

لما نابت عن ربّ عملت الخفض كما تعمل ربّ ، والذي يدل على أنها ليست عاطفة أن حرف العطف لا يجوز الابتداء به ، ونحن نرى الشاعر يبتدىء بالواو في أول القصيدة ، كقوله :

[٢٣٦] [١٦٦] * وبلد عامية أعماؤه*

______________________________________________________

[٢٣٦] هذا بيت من مشطور الرجز ، وبعده قوله :

* كأن لون أرضه سماؤه*

وهو من كلام رؤبة بن العجاج ، وقد أنشده ابن منظور (ع م ى) وعزاه إليه ، وانظر ما ذكرناه في بحث القلب (ص ٣٧٤) والأعماء : المجاهل ، واحدها عمى ـ بوزن فتى ـ ومعنى قوله «عامية أعماؤه» أن مجاهله متناهية في العمى ، وهو باب من المبالغة مثل قولهم : ليل أليل ، وليل لائل ، ويوم أيوم ، وشعر شاعر ، كأنهم لم يجدوا ما يصفونه به إلا أن يشتقوا له وصفا من لفظه ، وكأن رؤبة قد قال أعماؤه عامية ، فقدم وأخر ، وهم قلما يأتون بهذا الضرب من المبالغة إلا على طريق الوصف كقولهم : شغل شاغل ، وليل لائل ، وما ذكرناه قريبا ، لكن رؤبة قد اضطر فقدمّ وأخّر ، وقوله «كأن لون أرضه سماؤه» من المقلوب ،

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني مع حاشية الصبان (٢ / ٢٠٢ بولاق) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (٢ / ٢٨ بولاق) وشرح المفصل لابن يعيش (ص ١١١٠ وما بعدها) وشرح الرضي على الكافية (٢ / ٣١٠).

٣١١

وكقول الآخر :

* وبلدة ليس بها أنيس* [١٦٠]

وما أشبه ذلك ؛ فدل على أنها ليست عاطفة ، فبان بهذا صحة ما ذهبنا إليه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا : إن الواو ليست عاملة ، وإن العمل لرب مقدرة ، وذلك لأن الواو حرف عطف ، وحرف العطف لا يعمل شيئا ؛ لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصا ، وحرف العطف غير مختص ؛ فوجب أن لا يكون عاملا ، وإذا لم يكن عاملا وجب أن يكون العامل ربّ مقدرة.

والذي يدل على أنها واو العطف وأن ربّ مضمرة بعدها أنه يجوز ظهورها معها ، نحو «وربّ بلد» وسنبيّن ذلك مستوفى في الجواب.

أما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنها لما نابت عن رب عملت عملها كواو القسم» قلنا : هذا فاسد ؛ لأنه قد جاء عنهم الجرّ بإضمار رب من غير عوض منها ، وذلك نحو قوله :

[٢٣٧] رسم دار وقفت في طلله

كدت أقضي الحياة من جلله

وقال الآخر :

[٢٣٨] مثلك أو خير تركت رذيّة

تقلّب عينيها إذا طار طائر

______________________________________________________

وأصله «كأن لون سمائه أرضه» وقد قدمنا كثيرا من أمثلة القلب مع شرح الشاهد (رقم ٢٣٥) ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله «وبلد» فإنه يريد «ورب بلد» وليست هذه الواو واو العطف. إذ لا معطوف عليه ، بحكم أن هذا البيت أول الأرجوزة.

[٢٣٧] هذا البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة ، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١١٠) ورضي الدين في باب حروف الجر من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ١٩٩) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ١٨٤) وفي أوضح المسالك (٣١٦) والأشموني (رقم ٥٧٩) وابن عقيل (رقم ٢٢٠) والرسم ـ بفتح الراء وسكون السين ـ ما بقي لاصقا بالأرض من آثار الديار كالرماد ونحوه ، والطلل ـ بفتح الطاء واللام جميعا ـ ما بقي شاخصا مرتفعا من آثارها كالوتد ونحوه ، وقوله «من جلله» يحتمل معنيين : أحدهما : أن يكون من قولهم «فعلت كذا من جلل كذا» أي من أجله وبسببه ، والثاني : أن يكون من قولهم «فعلت كذا من جلل كذا» أي من عظمه في نفسي ، ومحل الاستشهاد في البيت قوله «رسم دار» فإن الرواية فيه بجر الرسم ، وقد خرجها العلماء على أنه مجرور لفظا برب المحذوفة الباقي عملها ، قال ابن يعيش «أراد رب رسم دار ، ثم حذف ، لكثرة استعمالها» اه.

[٢٣٨] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ٢٩٤) وقد غير المؤلف في صدره تغييرا سننبه عليه ، وقوله «أو خير» يريد أو خير منك ، والرذية : فعيلة من قولهم «رذي البعير يرذي ـ من مثال

٣١٢

والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أيضا أنها تضمر بعد بل ، قال الشاعر :

[٢٣٩] * بل جوز تيهاء كظهر الحجفت*

______________________________________________________

فرح يفرح» إذا هزل وأعيا حتى لا يستطيع براحا ولا ينبعث ، وهو رذي والأنثى رذية ، وقال أبو زيد : الرذية الناقة المتروكة التي حسرها السفر لا تقدر أن تلحق بالركاب ، وفي حديث الصدقة «فلا يعطي الرذية ولا الشرط اللئيمة» يخاطب الشاعر ناقته ، يقول : قد تركت مثلك أو خيرا منك بعد أن أعملتها في السفر ، وأودعتها الطريق ؛ فكلما مرّ عليها طائر قلبت عينها رهبة منه وخوفا أن يقع عليها ليأكل منها. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «مثلك أو خير» حيث جر «مثلك» برب المحذوفة من غير أن يقيم الواو مقام رب ؛ فهذا يدل على أن الجر ليس بالواو ، إذ لو كان الجر بها لم تحذف ؛ لأن الأصل في حرف الجر ألا يعمل وهو محذوف لضعفه ، وإنما اغتفروا ذلك في رب لكثرة استعمالها ، هكذا زعم المؤلف ، وما ذكره من القاعدة صحيح ، ولكن الرواية في صدر هذا البيت «ومثلك رهبي قد تركت» بنصب «مثلك» أو جره ، أما نصبه فعلى أن يكون مفعولا مقدما لقوله تركت ، وأما جره فعلى أن يكون مجرورا برب المحذوفة بعد الواو ، ونظيره قول امرىء القيس بن حجر الكندي في رواية :

ومثلك بكرا قد طرقت وثيبا

فألهيتها عن ذي تمائم محول

[٢٣٩] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١٢٨١) ورضي الدين في شرح شافية الحاجب (رقم ١٠١) وابن جني في سر صناعة الإعراب (رقم ١٠٧ في ١ / ١٧٧) وفي الخصائص (١ / ٣٠٤ الدار) وقد أنشده ابن منظور (ح ج ف) ونقل عن ابن بري أنه من أرجوزة لسؤر الذئب ، والتيهاء : الصحراء يضل سالكها ، وجوزها ـ بفتح الجيم وسكون الواو ـ أي وسطها ، وإنما شبه الصحراء بظهر الترس لأنها غير ذات أعلام يهتدي بها السائر. وإنما ذكر الوسط ليشير إلى أنه لم يتهيبها وأنه توسطها ، وهذا الكلام كناية عن كونه قويا جلدا جريئا لا يهاب. وللنحاة في هذا البيت شاهدان ، أحدهما : في قوله «بل جوز تيهاء» حيث جرّ «جوز تيهاء» برب المحذوفة بعد بل ، والثاني : في قوله «الحجفت» حيث وقف على تاء التأنيث بالتاء لا بالهاء ، قال ابن منظور «يريد رب جوز تيهاء ، ومن العرب من إذا سكت على الهاء جعلها تاء فقال : هذا طلحت ، وخبز الذرت» اه. وقال ابن يعيش «من العرب من يجري الوقف مجرى الوصل فيقول في الوقف : هذا طلحت ، وهي لغة فاشية حكاها أبو الخطاب ، ومنه قولهم : وعليكم السّلام والرحمت ، ومنه قوله :

* بل جوز تيهاء كظهر الحجفت*

اه كلامه.

وقد ذكر الصاغاني أن الذين يقفون على الهاء بالتاء هم طيّىء.

ومثل هذا البيت في الجر برب المحذوفة بعد بل قول رؤبة بن العجاج :

بل بلد ذي صعد وأصباب

قطعت أخشاه بعسف جواب

٣١٣

أراد بل ربّ جوز ، ولا يقول أحد إن بل تجر. وكذلك تضمر بعد الفاء قال الشاعر :

[٢٤٠] * فحور قد لهوت بهنّ عين*

وليست نائبة عنها ، ولا عوضا منها.

والذي أعتمد عليه في الدليل على أن هذه الأحرف ـ التي هي الواو والفاء وبل ـ ليست نائبة عن ربّ ولا عوضا عنها أنه يحسن ظهورها معها ، فيقال «وربّ بلد» و «بل ربّ بلد» و «فربّ حور» ولو كانت [١٦٧] عوضا عنها لما جاز ظهورها معها ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض. ألا ترى أن واو القسم لما كانت عوضا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما ؛ فلا يقال «وبالله لأفعلنّ» وتجعلهما حرفي قسم ، وكذلك أيضا التاء ، لما كانت عوضا من الواو كما كانت الواو عوضا من الباء لم يجمع بينهما ؛ فلا يقال : «وتالله» وتجعلهما حرفي قسم ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض ، فأما قوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)

______________________________________________________

[٢٤٠] هذا صدر بيت للمتنخل الهذلي ، واسمه مالك بن عويمر ، والبيت مع بيت سابق عليه هكذا :

فإما تعرضن سليم عني

وتنزعك الوشاة أولو النباط

فحور قد لهوت بهن عين

نواعم في المروط وفي الرياط

والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١١١) والأشموني (رقم ٥٧٧) وسليم : مصغر سلمى تصغير الترخيم ، وقد حذف حرف النداء ، والحور ـ بضم الحاء ـ جمع حوراء وهي التي اشتد بياض بياض عينها واشتد مع ذلك سواد سوادها ، والعين ـ بكسر العين ـ جمع عيناء ، وهي الواسعة العين ، ويروى «قد لهوت بهن حينا» والنواعم :

جمع ناعمة ، وهي التي ترفل في النعيم ، والمروط : جمع مرط ـ بكسر الميم وسكون الراء ـ وهو الثوب من الخز ، والرياط : جمع ريط ، وهو ضرب من الثياب ، والاستشهاد بالبيت في قوله «فحور» حيث جر لفظ «حور» برب المحذوفة بعد الفاء ، ونظير ذلك في هذا قول امرىء القيس ـ في رواية ـ وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٩٤) :

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تماثم محول

قال سيبويه بعد إنشاده «أي رب مثلك ، ومن العرب من ينصبه على الفعل» اه ، أي يجعله مفعولا به تقدم على عامله ـ وهو طرقت ـ لكونه مما يتعدى إلى المفعول به ولم ينصب مفعولا ، فأما في البيت الشاهد فلا يجيء ذلك ، ونظيره أيضا قول ربيعة بن مقروم الضبي وهو من شعر الحماسة ومن شواهد الرضي (انظر الخزانة ٤ / ٢٠١) :

فإن أهلك فذي حنق لظاه

علي تكاد تلتهب التهابا

يريد فإن أهلك فرب ذي حنق ـ الخ ، يعني إن أهلك فإني كثيرا ما تركت مغيظا محنقا قد ألهبت قلبه وأشعلت نيران ضغنه بسبب ما جدلت وصرعت من ذوي قرباه مثلا.

٣١٤

[الأنبياء : ٥٧] فالواو فيه واو عطف ، وليست واو قسم ؛ فلم يمتنع أن يجمع بينها وبين تاء القسم ، فلما جاز الجمع بين الواو وربّ دل على أنها ليست عوضا عنها ، بخلاف واو القسم ، وأنها واو عطف.

وقولهم «إن حرف العطف لا يجوز الابتداء به» ، ونحن نرى الشاعر يبتدىء بالواو في أول القصيدة كقوله :

* وبلد عامية أعماؤه*» [٢٣٦]

فنقول : هذه الواو واو عطف وإن وقعت في أول القصيدة ؛ لأنها في التقدير عاطفة على كلام مقدر ، كأنه قال : ربّ قفر طامس أعلامه سلكته ، وبلد عامية أعماؤه قطعته. يصف نفسه بركوب الأخطار وقطع المفاوز والقفار ، إشعارا بشهامته وشجاعته.

وإذ قد ثبت بما ذكرناه أنها حرف عطف ؛ فينبغي أن لا تكون عاملة ، فدلّ على أن النكرة بعدها مجرورة بتقدير ربّ على ما بيّنا ، والله أعلم.

٣١٥

٥٦

مسألة

[القول في إعراب الاسم الواقع بعد «مذ» و «منذ»](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «مذ» ، و «منذ» إذا ارتفع الاسم بعدهما ارتفع بتقدير فعل محذوف. وذهب أبو زكرياء يحيى بن زياد الفرّاء إلى أنه يرتفع بتقدير مبتدأ محذوف. وذهب البصريون إلى أنهما يكونان اسمين مبتدأين ويرتفع ما بعدهما لأنه خبر عنهما ، ويكونان حرفين جارّين فيكون ما بعدهما مجرورا بهما.

أما الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أن الاسم بعدهما يرتفع بتقدير فعل محذوف أنهما مركبان من «من» و «إذ» فتغيرا عن حالهما في إفراد [١٦٨] كل واحد منهما ، فحذفت الهمزة ووصلت «من» بالذال وضمت الميم ؛ للفرق بين حالة الإفراد والتركيب. والذي يدل على أن الأصل فيهما من وإذ أنّ (٢) من العرب من يقول في منذ : «منذ» بكسر الميم ؛ فكسر الميم يدل على أنها مركبة من من وإذ ، وإذا ثبت أنها مركبة من من وإذ كان الرفع بعدهما بتقدير فعل ؛ لأن الفعل يحسن بعد إذ ؛ والتقدير : ما رأيته مذ مضى يومان ، ومنذ مضى ليلتان ، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضا كان الخفض بهما اعتبارا بمن ، ولهذا المعنى كان الخفض بمنذ أجود من مذ ؛ لظهور نون من فيها تغليبا لمن ، والرفع بمذ أجود لحذف نون من منها تغليبا لإذ ، والذي يدل على أن أصل مذ ومنذ واحد أنك لو سميت بمذ لقلت في تصغيره «منيذ» وفي تكسيره «أمناذ» فتعود النون المحذوفة ؛ لأن التصغير والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها كما نقول في تصغير منذ وتكسيره إذا سميت به.

وأما الفراء فاحتج بأن قال : إنما قلت إن الاسم يرتفع بعدهما بتقدير مبتدأ

__________________

(١) انظر في هذه المسألة شرح الأشموني مع حاشية الصبان (٢ / ١٩٨ وما بعدها) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (٢ / ٢١ وما بعدها) ومغني اللبيب لابن هشام (ص ٣٢٥ بتحقيقنا) وشرح الرضي على الكافية (٢ / ١١٠ وما بعدها) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ٥٤٥).

(٢) في ر «وإذ أنه من العرب ـ الخ».

٣١٦

محذوف ، وذلك لأن مذ ومنذ مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي ، وهي لغة مشهورة ، قال قوّال الطائي :

[٢٤١] قولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا

هلمّ فإنّ المشرفيّ الفرائض

أراد : الذي جاء ، وقال فيها أيضا :

[٢٤٢] أظنّك دون المال ذو جئت تبتغي

ستلقاك بيض للنّفوس قوابض

أراد : الذي جئت تبتغي. وقال ملحة الجرميّ :

[٢٤٣] يغادر محض الماء ذو هو محضه

على إثره إن كان للماء من محض

______________________________________________________

[٢٤١] هذا البيت أول ثلاثة أبيات لقوال الطائي ـ وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد آخر بني أمية ـ يقولها في ساع جاءهم يطلب إبل الزكاة ، وقد أثر أبو تمام في ديوان الحماسة ثلاثة الأبيات أولها هذا البيت ، وثالثها البيت الذي يليه في شواهد المؤلف (انظر ص ٦٤٠ من شرح المرزوقي) وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في باب الموصولات من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٣٦٥ و ٥١٤) والأشموني (رقم ٩٩) والساعي : هو الذي يلي جمع الزكاة من أربابها ، وهلم : اسم فعل أمر معناه أقبل وتعال ، والمشرفي : السيف ، منسوب إلى المشارف وهي قرى كانت السيوف تصنع بها ، والفرائض : جمع فريضة ، وهي ما يؤخذ من السائمة في الزكاة ، والشاعر يتهكم بالساعي الذي جاءهم يطلب الذي عليهم أداؤه من زكاة أموالهم ، وكان قومه امتنعوا عن أداء حق الله في أموالهم. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «ذو جاء» فإن «ذو» في هذه العبارة اسم موصول بمعنى الذي ، وهو صفة للمرء ، أي : قولا لهذا المرء الذي جاء يطلب زكاة أموالنا تعال ـ الخ ، والذين يستعملون «ذو» بمعنى الذي هم طيّىء.

[٢٤٢] وهذا البيت أيضا من كلمة قوال الطائي التي منها البيت السابق ، كما أشرنا إلى ذلك في شرحه ، وبيض : جمع أبيض ، وهو السيف ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «ذو جئت» فإن «ذو» اسم موصول بمعنى الذي ، وهو صفة للمال ، ومن هنا تعلم أن الطائيين يستعملون «ذو» في العقلاء كما في البيت السابق ، وفي غير العقلاء كما في هذا البيت.

[٢٤٣] هذان البيتان من كلام ملحة الجرمي ، وملحة يضبط في بعض الأمهات بضم الميم ، وفي بعضها بكسر الميم ، وجرم ـ بفتح الجيم وسكون الراء ـ من طيّىء ، والبيتان المستشهد بهما هنا هما السادس والسابع من كلمة عدتها ثمانية أبيات أثرها أبو تمام في ديوان الحماسة (انظر شرح المرزوقي ص ١٨٠٦) والمحض ـ بالفتح ـ أصله اللبن الخالص بلا رغوة ، ويستعمل في الحسب وغيره ، وقوله «إن كان للماء من محض» لأن ماء المطر من جنس واحد ، وقوله «يروي العروق ـ الخ» يريد بالباليات ما أشرف على اليبس من عروق الشجر ، ويرويها : أي يعيدها غضة مرتوية ، ورواية المرزوقي «يروي العروق الهامدات» ومحل الاستشهاد في البيت الأول من هذين البيتين قوله «ذو هو محضه» فإن «ذو» في هذه العبارة اسم موصول بمعنى الذي ، والجملة بعده من المبتدأ والخبر لا محل لها من ـ

٣١٧

يروّي العروق الباليات من البلى

من العرفج النّجديّ ذو باد والحمض

أراد : الذي هو محضه ، والذي باد. وقال سنان بن الفحل :

[٢٤٤] فإنّ الماء ماء أبي وجدّي

وبئري ذو حفرت وذو طويت

أراد : الذي حفرت والذي طويت ؛ فلما ركّبتا حذفت الواو من «ذو» اجتزاء بالضمة عنها ؛ لأنهم يجتزئون بالضمة عن الواو وبالكسرة عن الياء وبالفتحة عن الألف ، قال الشاعر :

[٢٤٥] [١٦٩]فلو أنّ الأطبّا كان حولي

وكان مع الأطبّاء الشّفاة

______________________________________________________

الإعراب صلة ، وذو صفة للماء ، والهاء في «محضه» تعود إلى السحاب يعني يترك هذا السحاب محض الماء الذي هو ـ أي الماء ـ محضه : أي خالصة السحاب وصافيته. ومحل الاستشهاد في البيت الثاني قوله «ذو باد» فإن «ذو» اسم موصول بمعنى الذي أيضا ، وقد وقع صفة للعرفج النجدي.

[٢٤٤] هذا البيت لسنان بن الفحل الطائي ، من أبيات أوردها أبو تمام أيضا في ديوان الحماسة (انظر شرح المرزوقي ص ٥٩٠) وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٤٦٤) ورضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية ، وقد شرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٥١١) والأشموني (رقم ١٠١) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٥١) وفي شرح قطر الندى (رقم ٣١) و «ذو حفرت» يريد التي حفرتها ، و «ذو طويت» أي التي طويتها ، وطي البئر : بناؤها بالحجارة ، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله «ذو حفرت وذو طويت» فإن «ذو» في هاتين العبارتين اسم موصول بمعنى التي ، ويستدل بهاتين العبارتين على ثلاثة أشياء ؛ الأول : أن «ذو» تأتي اسما موصولا ، والثاني : أنها تكون بلفظ واحد للمؤنث والمذكر ، لأن البئر مؤنثة ، والثالث : أنها تستعمل في غير العاقل كما استعملت في العاقل في الشاهد ٢٤١.

[٢٤٥] هذا الشاهد من شواهد رضي الدين في باب المضمر من شرح الكافية وقد شرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٣٨٥) ونص على أن الفراء أنشد البيت الأول في تفسيره ، ثم قال بعد كلام طويل «ولم يعزهما الفراء فمن بعده إلى أحد» وهو من شواهد جار الله في الكشاف (٢ / ٦١ بولاق) في أول تفسير سورة المؤمنين ، والأطبا : جمع طبيب ، وهو الذي يعالج الأسقام ، وقال الشاعر :

يقولون : ليلى بالعراق مريضة ،

فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

وأصله «الأطباء» كما ورد في الشطر الثاني فقصره الشاعر ، و «الشفاة» جمع شاف ، ويروى «وكان مع الأطباء الأساة» وهو جمع آس. من قولك «أسا الجرح يأسوه» إذا عالجه ليبرأ ، ويروى «وكان مع الأطباء السقاة» جمع ساق من «سقاه الدواء يسقيه» وجواب لو هو قوله «إذا ما أذهبوا ـ الخ» ومحل الاستشهاد ههنا قوله «كان حولي» فإن أصل هذه العبارة «كانوا حولي» بواو الجماعة التي تعود إلى الأطباء ، فحذف الشاعر الواو واكتفى بالضمة للدلالة ـ

٣١٨

إذا ما أذهبوا ألما بقلبي

وإن قيل الشّقاة هم الأساة

أراد «كانوا» فحذف الواو اجتزاء بالضمة. وقال الشاعر :

[٢٤٦]إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا

ولا يألوهم أحد ضرارا

______________________________________________________

عليها ، وقد قرىء في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) بضم الحاء ـ وهي قراءة طلحة بن مصرف ـ فخرجها الزمخشري على أن الأصل «قد أفلحوا المؤمنون» فحذفت الواو لدلالة الضمة عليها ، بدليل أن طلحة نفسه قرأ (قد أفلحوا المؤمنون) بالواو ، وقرىء (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) برفع أحسن ، وخرجها قوم على أن الأصل (على الذي أحسنوا) فحذفت الواو واكتفى بضم النون للدلالة عليها ، وعلى هذه القراءة وهذا التخريج يكون «الذي» مستعملا في الجمع نظير قول الآخر :

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم خالد

واستبعد ذلك ابن هشام في المغني ، ورجح تخريج الجمهور ، وحاصله أن «أحسن» أفعل تفضيل وليس فعلا ماضيا ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : تماما على الذي هو أحسن ، وقرىء (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) برفع «يتم» وخرجها قوم على أن الأصل «يتموا الرضاعة» فحذفت الواو اجتزاء بالضمة عنها ، وخرجها قوم على أن «أن» المصدرية في «أن يتم» مهملة غير عاملة النصب حملا على «ما» المصدرية أختها نظير قول الشاعر :

أن تقرآن على أسماء ويحكما

مني السّلام ، وألا تشعرا أحدا

وقد اختلفت عبارة القوم في حذف حرف المد والاجتزاء بالحركة عنه للدلالة عليه : أهو ضرورة من ضرورات الشعر أم هو لغة لبعض العرب؟ فظاهر كلام سيبويه أن ذلك ضرورة ؛ فإنه ذكر ذلك واستشهد له في «باب ما يحتمل الشعر» وصدر هذا الباب بقوله (١ / ٨) «اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام : من صرف ما لا ينصرف يشبهونه بما ينصرف من الأسماء لأنها أسماء كما أنها أسماء ، ومن حذف ما لا يحذف يشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفا» اه. وظاهر كلام الفراء أن ذلك لغة لبعض العرب ، قال «وقد تسقط العرب الواو وهي واو جمع اكتفاء بالضمة قبلها ، فقالوا في ضربوا : قد ضرب ، وفي قالوا : قد قال ، وهي في هوازن وعليا قيس» اه ، وانظر ما أشرنا إليه بعد شرح الشاهد ١٧ في المسألة الثانية.

[٢٤٦] هذا البيت مما استشهد به الفراء في تفسيره ، وتقول : ألا فلان يألو ـ بوزن سما يسمو ـ ألوا بوزن ضرب وألوا بوزن سمو ؛ إذا قصر وأبطأ فيما يريد ، يعني أن هؤلاء الناس يضرون من أرادوا ضرّه متى شاءوا ، والناس لا يقصرون ولا يتمهلون عن إيصال الضر إليهم ، ومحل الاستشهاد قوله «إذا ما شاء» فإن أصل هذه العبارة «إذا ما شاءوا» فحذف الواو ، واكتفي بضم الهمزة التي قبلها للدلالة عليها ، وحكى اللحياني عن الكسائي أن العرب تقول : أقبل يضربه لا يأل ـ بضم اللام ـ يريدون لا يألو ، فاكتفوا بالضمة عن الواو ، وحكى سيبويه أنهم يقولون : لا أدر ـ بكسر الراء ـ يريدون لا أدري ، فاكتفوا بالكسرة عن الياء.

٣١٩

أراد «شاءوا» ، وقال الآخر :

[٢٤٧] وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه

ويكنّ أعداء بعيد وداد

أراد «الغواني» ، وقال الآخر :

[٢٤٨] كفّاك كفّ لا تليق درهما

جودا ، وأخرى تعط بالسّيف الدّما

أراد «تعطي» ، وقال الآخر :

[٢٤٩]ليس تخفى يسارتي قدر يوم

ولقد يخف شيمتي إعساري

______________________________________________________

[٢٤٧] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠) والغواني : جمع غانية ، وهي المرأة التي استغنت بجمالها عن الزينة ، أو هي التي استغنت بزوجها عفة وتصونا وحصانة ، أو هي التي غنيت بمكانها : أي أقامت فيه ولم تفارقه ، وقوله «متى يشأ» قد حذف منه المفعول ، وأصل الكلام : متى يشأ صرمهن ، ويصرمنه يبتتن حبال مودته ويقطعنها. يصف النساء بالغدر وقلة الوفاء والصبر ، يقول : من كان مشغوفا بهن مواصلا لهن إذا تعرض لصرمهن سارعن إلى ذلك لتغير أخلاقهن وقلة وفائهن ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «الغوان» فقد أراد أن يقول «الغواني» فحذف الياء ضرورة ، واكتفى بالكسرة دليلا عليها.

ومثل هذا البيت قول خفاف بن ندبة السلمي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٩) :

كنواح ريش حمامة نجدية

ومسحت باللثتين عصف الإثمد

فإنه أراد «كنواحي ريش حمامة» فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها ؛ لأنها تدل عليها ، ومثله قول الآخر ، وهو أيضا من شواهد سيبويه (١ / ٩) :

فطرت بمنصلي في يعملات

دوامي الأيد يخبطن السريحا

فقد أراد أن يقول «دوامي الأيدي» فحذف الياء مجتزئا بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها.

[٢٤٨] أنشد ابن منظور هذا البيت (ل ي ق) ولم يعزه ، وتقول : فلان ما يليق بكفه درهم ـ من مثال باع يبيع ـ أي ما يحتبس وما يبقى في كفه ، وتقول فلان ما يليق درهما ـ من مثال أنال ينيل ـ أي ما يحبس وما يبقي درهما أيضا ، وقال الشاعر :

تقول ـ إذا استهلكت مالا للذة

فكيهة : هل شيء بكفيك لائق؟

يصف صاحب الشاهد رجلا بأنه جواد كريم وأنه شجاع فاتك ، ونظيره قول الآخر :

يداك يد خيرها يرتجى

وأخرى لأعدائها غائظه

ومحل الاستشهاد في البيت قوله «تعط» فإنه أراد تعطي ؛ لأن الفعل مرفوع لا مجزوم ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة التي قبلها دالة عليها.

[٢٤٩] أنشد ابن منظور هذا البيت (ي س ر) ولم يعزه ، واليسارة ـ ومثله اليسار ـ الغنى ، وقد أيسر الرجل يوسر : أي استغنى ، وقد صارت الياء في المضارع واوا لسكونها وانضمام ما قبلها ، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «يخف» فإنه أراد أن يقول يخفي ؛ لأن الفعل مرفوع لا مجزوم ، فحذف الياء مجتزئا بالكسرة قبلها للدلالة عليها.

٣٢٠