الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

لكم ما ادعيتموه على أصلكم من أن إلى تكون بمعنى مع فليس لكم فيه أيضا حجّة تدل على أن «إلا» تكون بمعنى الواو ؛ لأنه ليس من الشرط أن تكون إحدى القراءتين بمعنى الأخرى ، وإذا اعتبرتم هذا في [١٢٥] القراءات وجدتم الاختلاف في معانيها كثيرا جدا ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وإذا ثبت هذا فيجوز أن تكون قراءة من قرأ إلى الذين بالتخفيف بمعنى مع ، وقراءة من قرأ «إلا» بالتشديد بمعنى لكن ، على ما بيّنا ، والله أعلم.

٢٢١

٣٦

مسألة

[هل يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام ، نحو قولك : «إلّا طعامك ما أكل زيد» نصّ عليه الكسائي ، وإليه ذهب أبو إسحاق الزّجاج في بعض المواضع. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على جواز تقديمه أن العرب قد استعملته مقدّما ، قال الشاعر :

[١٦١]خلا أنّ العتاق من المطايا

حسين به فهنّ إليه شوس

______________________________________________________

[١٦١] هذا البيت من كلام أبي زبيد الطائي ، وقد أنشده ابن منظور (ح س س ـ ح س ى) ونسبه في المرتين إليه ، غير أنه رواه في المرة الأولى مثل ما أنشده المؤلف ، ورواه في المرة الثانية :

* سوى أن العتاق ـ الخ*

والعتاق : جمع عتيق ، وهو الأصيل ، والمطايا : جمع مطية ، وهي الدابة ، سميت بذلك لأنها تمطو في سيرها ، أي تسرع ، أو لأن راكبها يقتعد مطاها ، وهو ظهرها ، وحسين به ـ بفتح الحاء وكسر السين أو فتحها ، وآخره نون جماعة الإناث ـ أصله حسسن به ، فأبدل من ثاني المثلين ياء ، قال ابن منظور : «قال ابن سيده : وقالوا : حسست به ، وحسيت به ـ بكسر السين فيهما ـ وحسيته ـ بفتح السين ـ وأحسيت ، وهذا كله من محول المضعف ...

ثم قال عن الفراء : حسيت بالخبر ، وأحسيت به ، يبدلون من السين ياء ، قال أبو زبيد :

* خلا أن العتاق ... الخ*

قال الجوهري وأبو عبيدة يروي بيت أبي زبيد :

* أحسّنّ به فهن إليه شوس*

وأصله أحسسن» اه. وقال : «وحسيت الخبر بالكسر مثل حسست ، قال أبو زبيد :

* سوى أن العتاق ... الخ*

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الرضي على الكافية (١ / ٢٠٩) وشرحنا على شرح الأشموني (٢ / ٤٥٥ و ٤٩٢) وحاشية الصبان على الأشموني (٢ / ١٣٠) وحاشية العليمي على التصريح (١ / ٤٢٨).

٢٢٢

وقال الآخر :

[١٦٢] وبلدة ليس بها طوريّ

ولا خلا الجنّ بها إنسيّ

قالوا : ولا يجوز أن يقال «إن الاستثناء يضارع البدل بدليل قولهم : ما قام أحد إلا زيدا ؛ وإلا زيد ، والمعنى واحد ، فلما جاز البدل لم يجز تقديمه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه» لأنا نقول : لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز تقديمه على المستثنى منه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه ، وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم ، قال الكميت :

[١٦٣] فما لي إلّا آل أحمد شيعة

وما لي إلّا مشعب الحقّ مشعب

______________________________________________________

وأحسيت الخبر مثله ، قال أبو نخيلة :

لما احتسى منحدر من مصعد

أن الحيا مغلولب لم يجمد

احتسى : أي استخبر فأخبر أن الخصب فاش. والمنحدر : الذي يأتي القرى ، والمصعد : الذي يأتي إلى مكة» اه. وقول أبي زبيد «فهن إلي شوس» الشوس : جمع أشوس ، وهو الوصف من الشوس ـ بفتح الشين والواو جميعا ـ وهو النظر بمؤخر العين. والاستشهاد بالبيت في قوله «خلا أن العتاق من المطايا» حيث قدم المستثنى في أول الكلام ، وقد أنشده الكوفيون ذاهبين إلى أن فيه دليلا على جواز تقديم المستثنى قبل جملة الكلام ، ونظيره قول الأعشى ، وهو من شواهد الأشموني وابن عقيل :

خلا الله لا أرجو سواك ، وإنما

أعد عيالي شعبة من عيالكا

[١٦٢] هذان بيتان من مشطور الرجز ، وهما من كلام العجاج ، وقد أنشدهما الرضي في شرح الكافية أول باب الاستثناء ، وشرحهما البغدادي في الخزانة (٢ / ٢) وأنشد أولهما ابن منظور (ط ور) ونسبه إلى العجاج. والعرب تقول : ما بالدار طوري ، وما بالدار طوراني ، وما بالدار دوري ، وما بالدار ديار ، تريد ما بالدار أحد ، وقالوا أيضا : رجل طوري ، يريدون رجلا غريبا ، ومحل الاستشهاد قوله «ولا خلا الجن بها إنسي» حيث قدم الاستثناء على جملة الكلام ، وأصل العبارة : ولا بها إنسي خلا الجن ، فالجار والمجرور خبر مقدم ، وإنسي : مبتدأ مؤخر ، وخلا الجن : استثناء ، وبهذا ونحوه استدل الكوفيون على جواز تقديم الاستثناء على جملة الكلام ، وقد بيّنا لك ذلك في شرح الشاهد السابق.

[١٦٣] هذا البيت من قصيدة هاشمية للكميت بن زيد الأسدي ، وهو من شواهد ابن يعيش (ص ٢٦٣) والأشموني (رقم ٤٤٨) وابن عقيل (رقم ١٦٧) وأوضح المسالك (٢٦٢) وشذور الذهب (رقم ١٢٤) وشرح قطر الندى (رقم ١٠٩) والشيعة : هم الأنصار والأشياع والأعوان ، ومشعب الحق : يروى في مكانه «مذهب الحق» والمراد الطريق الذي يعتقد أنه الطريق الثابت الذي لا يجوز الانحراف عنه. والاستشهاد بالبيت في موضعين منه ؛ الأول قوله «إلا آل أحمد» والثاني قوله «إلا مشعب الحق» حيث قدم المستثنى في كل موضع منهما على المستثنى منه ، وأصل نظم الكلام وما لي شيعة إلا آل أحمد ، وما لي مشعب إلا

٢٢٣

فقدّم المستثنى على المستثنى منه ، وقال الآخر :

[١٦٤] النّاس ألب علينا فيك ليس لنا

إلّا السّيوف وأطراف القناوزر

فقدّم المستثنى على المستثنى منه ، وهذا كثير في كلامهم.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأنه يؤدي إلى أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وذلك لا يجوز ؛ لأنها حرف نفي يليها الاسم والفعل كحرف الاستفهام ، وكما [١٢٦] أنه لا يجوز أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله ؛ فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها.

ومنهم من تمسك بأن قال : إنما قلنا ذلك لأن الاستثناء يضارع البدل ، ألا ترى أنك تقول «ما جاءني أحد إلا زيد ، وإلا زيدا» والمعنى واحد ، فلما جارى الاستثناء البدل امتنع تقديمه كما يمتنع تقديم البدل على المبدل منه ، وما ذكروه

______________________________________________________

مشعب الحق ، وقد كان المستثنى ـ لو أنه جاء به على أصل الكلام ـ يجوز فيه وجهان : الأول : النصب على الاستثناء ، والثاني : الإتباع على البدلية ، فلما قدمه على المستثنى لزمه ـ في لغة عامة العرب ـ النصب على الاستثناء ، ولم يجز فيه الإتباع على البدلية ؛ لأن البدل لا يتقدم على المبدل منه لأنه تابع ورتبة التابع تكون بعد رتبة المتبوع ألا ترى أنهم إذا قدموا صفة النكرة عليها نحو قولك : فيها قائما رجل ، وقول كثير :

لعزة موحشا طلل

يلوح كأنه خلل

وجب نصب الصفة على الحال ، ولم يجز إتباعها للموصوف على أن تكون نعتا كما كانت وهي متأخرة؟ وقد جاء على الإتباع قول حسان بن ثابت :

لأنهم يرجون منه شفاعة

إذا لم يكن إلا النبيون شافع

فقد قدم المستثنى ـ وهو قوله النبيون ـ على المستثنى منه ـ وهو قوله شافع ـ ومع ذلك لم ينصبه على الاستثناء كما ينصبه عامة العرب ، ويمكن أن يكون هذا البيت ردا على قول الكوفيين «إن المستثنى يضارع البدل ، والبدل لا يتقدم» فيقال لهم : لا نسلم أنه يضارع البدل وأن البدل لا يتقدم ؛ فإن من العرب من يقدمه ويبقيه على الإتباع ، فتفطن لذلك.

[١٦٤] هذا البيت من كلام كعب بن مالك ، الأنصاري ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٨١) وابن يعيش (ص ٢٦٣) وألب : أي مجتمعون متألبون قد تضافروا على خصومتنا وإرادة النيل منا ، والوزر ـ بفتح الواو والزاي جميعا ـ الحصن والملجأ ، وأصل معناه الجبل. يقول هذا البيت للنبي صلوات الله وأزكى تسليماته عليه. والاستشهاد به في قوله «إلا السيوف» حيث قدم هذا المستثنى على المستثنى منه وهو قوله «وزر» وأصل الكلام : ليس لنا وزر وملجأ نلجأ إليه إلا السيوف وأطراف القنا ، ولو أنه جاء بالكلام على أصله لكان له أن ينصب المستثنى على الاستثناء وأن يتبعه بالرفع على البدلية ، لكنه لما قدم المستثنى وجب فيه ـ عند عامة العرب ـ أن ينصبه ؛ لما ذكرنا من العلة في شرح الشاهد السابق ، وهذا واضح إن شاء الله تعالى.

٢٢٤

على هذا فنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم ، إن شاء الله تعالى.

أما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقول الشاعر :

* خلا أنّ العتاق من المطايا* [١٦١]

فنقول ؛ لا نسلم هاهنا أن الاستثناء وقع في أول الكلام ، فإن هذا الشعر لأبي زبيد ، وقبل هذا :

إلى أن عرّسوا وأغبّ منهم

قريبا ما يحسّ له حسيس

خلا أنّ العتاق من المطايا

حسين به فهنّ إليه شوس [١٦١]

وأما قول الآخر :

وبلدة ليس بها طوريّ

ولا خلا الجنّ بها إنسيّ [١٦٢]

فتقديره : وبلدة ليس بها طوريّ ولا إنسيّ خلا الجنّ ، فحذف إنسيّا ، فأضمر المستثنى منه ، وما أظهره تفسير لما أضمره ، وقيل : تقديره ولا بها إنسيّ خلا الجنّ ؛ ف «بها» مقدرة بعد «لا» وتقديم الاستثناء فيه للضرورة ؛ فلا يكون فيه حجّة.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أنه قد ضارع البدل.

قولهم «لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أنه لا يجوز تقديمه على المستثنى منه ، كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن المستثنى لما تجاذبه شبهان : أحدهما كونه مفعولا ، والآخر كونه بدلا ؛ جعلت له منزلة متوسطة ، فجاز تقديمه على المستثنى منه ، ولم يجز تقديمه على الفعل الذي ينصبه ، عملا بكلا الشبهين ، على أن من العرب من يجوز البدل مع التقديم ، فيقول : ما جاءني إلا زيد أحد ؛ فيرفع على البدل مع تقديمه على المبدل منه (١) ؛ لأن هذا التقديم التقدير به التأخير ، وإن كانت اللغة الفصيحة العالية النصب ، والله أعلم.

__________________

(١) الشاهد عليه بيت حسان الذي رويناه لك في شرح الشاهد ١٦٣.

٢٢٥

[١٢٧] ٣٧

مسألة

[حاشى في الاستثناء ، فعل أو حرف أو ذات وجهين](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «حاشى» في الاستثناء فعل ماض ، وذهب بعضهم إلى أنه فعل استعمل استعمال الأدوات ، وذهب البصريون إلى أنه حرف جر ، وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه يكون فعلا ويكون حرفا.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه فعل أنه يتصرف ، والدليل على أنه يتصرف قول النابغة :

[١٦٥] ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه

وما أحاشي من الأقوام من أحد

______________________________________________________

[١٦٥] هذا البيت من قصيدة النّابغة الذبياني المعلقة التي منها الشاهد رقم ١٥٩ السابق في المسألة ٣٥ وهو من شواهد ابن يعيش (ص ٢٩٩) ومغني اللبيب (رقم ١٨٦) والأشموني (رقم ٤٦٧) والرضي في باب الاستثناء ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٤٤) وأنشده ابن منظور مرتين (ح ش ا) وقوله «ولا أحاشي» أراد لا أستثني أحدا ممن يفعل الخير ، و «من» في قوله «من أحد» زائدة ، وأحد بعدها : مفعول به لأحاشي. والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا أحاشي» فإن هذا فعل مضارع بمعنى استثني ، وقد جاء في كلام العرب المحتج بكلامهم ، فيدل على أن «حاشا» التي تستعمل في الاستثناء فعل ، وأنه مع ذلك متصرف ، وهذا أحد ثلاثة أدلة للكوفيين استدلوا بها على أن «حاشا» الاستثنائية فعل ، والثاني : أن حرف الجر يأتي بعدها متعلقا بها نحو قوله تعالى : حاشى لله ، والثالث : أنه قد يتصرف في لفظها بالحذف فيقال : حشا ، وحاش ، وقد علم أن الحذف لا يكون إلا في الاسم نحو يد ودم وأخ وغد وأب وحم (انظر ما ذكرناه في المسألة الأولى من هذا الكتاب) أو في الفعل نحو قولهم : لم يك ، ولا أدر ، ولم أبل ـ والأصل : لم يكن ، ولا أدري ، ولم أبال ـ وقد ذكر المؤلف هذه الأدلة ، وحاول أن يرد كل واحد منها بما تراه في كلامه ، وسنتعرض له في شرح الشواهد الآتية ، وهذا لأن سيبويه لم يحفظ في «حاشا» إلا الجر

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح المفصل لابن يعيش (ص ٢٩٩) وشرح الأشموني (٢ / ٤٩٨ بتحقيقنا) ولسان العرب (ح ش ا) وحاشية الصبان (٢ / ١٤٦ بولاق) وتصريح الشيخ خالد (١ / ٤٣٩ بولاق) وشرح الرضي على الكافية (١ / ٢٢٤) وأسرار العربية للمؤلف (ص ٨٣ ليدن).

٢٢٦

وإذا كان متصرفا فيجب أن يكون فعلا ؛ لأن التصرف من خصائص الأفعال.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنه فعل أن لام الخفض تتعلق به ، قال الله تعالى : (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] وحرف الجرّ إنما يتعلق بالفعل ، لا بالحرف ؛ لأن الحرف لا يتعلق بالحرف ، وإنما حذفت اللام لكثرة استعماله في الكلام.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنه فعل أنه يدخله الحذف ، والحذف إنما يكون في الفعل ، لا الحرف ، ألا ترى أنهم قالوا في حاشى لله : حاش لله ، ولهذا قرأ أكثر القراء (حاشَ لِلَّهِ) بإسقاط الألف ، وكذلك هو مكتوب في المصاحف ؛ فدل على أنه فعل.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه ليس بفعل وأنه حرف أنه لا يجوز دخول «ما» عليه ؛ فلا يقال «ما حاشى زيدا» كما يقال «ما خلا زيدا ، وما عدا عمرا» ولو كان فعلا كما زعموا لجاز أن يقال «ما حاشى زيدا» فلما لم يقولوا ذلك دلّ

______________________________________________________

بها ، كما لم يحفظ دخول «ما» عليها ، فقرر أنها لا تكون إلا حرف جر ، لكن العلماء الثقات حفظوا الأمرين جميعا : حفظوا دخول «ما» على حاشا في قول الأخطل :

رأيت الناس ما حاشا قريشا

فإنا نحن أكثرهم فعالا

وحفظوا النصب بها دون أن تلحقها «ما» نحو ما رواه أبو زيد قال : «سمعت أعرابيا يقول : اللهم اغفر لي ولمن سمع حاشا الشيطان وابن الأصبغ» بنصب ما بعد حاشا والمعطوف عليه ، كما حفظوا الذي حفظه سيبويه من الجر بها ، وإذن يكون حال «حاشا» مثل حال «عدا ، وخلا» كل واحد من هذه الثلاثة يكون حرفا تارة ، ويكون فعلا تارة أخرى ، وهذا مذهب أبي العباس المبرد ، وهو الذي تؤيده جملة الشواهد الواردة في هذه المسألة ، وقد تفطن لذلك موفق الدين ابن يعيش ، فقال : «أما حاشا فهو حرف جر عند سيبويه ، يجر ما بعده ، وهو مع ما بعده في موضع نصب بما قبله ، وفيه معنى الاستثناء ، وزعم الفراء أن حاشى فعل ولا فاعل له ، وأن الأصل في قولك «حاشى زيد» حاشا لزيد ، فحذفت اللام لكثرة الاستعمال وخفضوا بها ، وهذا فاسد ؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل ، وذهب أبو العباس المبرد إلى أنها تكون حرف جر كما ذكر سيبويه ، وتكون فعلا ينصب ما بعده ، واحتج لذلك بأشياء ، منها أنه يتصرف فتقول : حاشيت أحاشي ، والتصرف من خصائص الأفعال ، ومنها أنه يدخل على لام الجر ، فتقول : حاشى لزيد ، قال الله تعالى : حاشى لله ولو كان حرف جر لم يدخل على مثله ، ومنها أنه يدخله الحذف ، نحو حاش لزيد ، وقد قرأت القراء إلا أبا عمرو (حاشَ لِلَّهِ) وليس القياس في الحروف الحذف ، إنما ذلك في الأسماء نحو أخ ويد ، وفي الأفعال نحو لم يك ولا أدر ، وهو قول متين يؤيده أيضا ما حكاه أبو عمرو الشيباني وغيره أن العرب تخفض بها وتنصب» اه باختصار يسير ، ومثله قول الراعي :

إن على أهوى لألأم حاضر

حسبا ، وأقبح مجلس ألوانا

قبح الإله ـ ولا أحاشي غيرهم ـ

أهل السبيلة من بني حمانا

٢٢٧

على فساد ما ذهبوا إليه ، يدل عليه أن الاسم يأتي بعد حاشى مجرورا ، قال الشاعر :

[١٦٦] حاشى أبي ثوبان ؛ إنّ به

ضنّا على الملحاة والشّتم

فلا يخلو : إما أن يكون هو العامل للجرّ ، أو عامل مقدّر ، بطل أن يقال عامل مقدّر ؛ لأن عامل الجرّ لا يعمل مع الحذف (١) فوجب أن يكون هو العامل على ما بيّنا.

______________________________________________________

[١٦٦] أنشد ابن منظور هذا البيت نقلا عن الجوهري ، ونسبه إلى سبرة بن عمرو الأسدي ، ثم قال : وهو منسوب في المفضليات للجميع الأسدي ، واسمه منقذ بن الطماح ، والصواب أن الشاهد من كلام الجميع ، وقد لفق النحاة هذا البيت من بيتين ، وصواب الإنشاد هكذا :

حاشى أبا ثوبان ؛ إن أبا

ثوبان ليس ببكمة فدم

عمرو بن عبد الله ؛ إن به

ضنا عن الملحاة والشتم

والبيت من شواهد مغني اللبيب (رقم ١٨٧) والأشموني (رقم ٤٦٥) وقوله «ليس ببكمة» يريد ليس بأبكم والفدم ـ بفتح الفاء وسكون الدال ـ العيي عن الكلام في ثقل وقلة فهم ، والملحاة : مفعلة من قولك «لحوت الرجل ولحيته» إذا لمته وألححت في لومك. والاستشهاد بالبيت في قوله «حاشا أبي ثوبان» فقد أتى المؤلف بهذا البيت ليستدل به على أن «حاشا» تجر ما بعدها ، وروي «حاشا أبي ثوبان» وكذلك وقعت الرواية في الصحاح واللسان بجر ما بعد حاشا ، لكن الثابت في المفضليات ـ وهو الذي حكاه ابن هشام في المغني وتبعه عليه الأشموني ـ نصب ما بعد حاشا في هذا البيت ، ونحن لا ننكر أن حاشا يجر ما بعدها ؛ فقد ورد ذلك في عدة أبيات ، منها قول عمر بن أبي ربيعة وأنشده في اللسان :

من رامها حاشى النبي وأهله

في الفخر غطغطه هناك المزيد

ومنها ما أنشده في اللسان عن الفراء ولم يعزه :

حشا رهط النبي ؛ فإن منهم

بحورا لا تكدرها الدلاء

ومنها قول الأقيشر ، وأنشده في اللسان أيضا :

في فتية جعلوا الصليب إلههم

حاشاي إني مسلم معذور

وإنما قلنا إن الياء في «حاشاي» في محل جر لأنها لو كانت في محل نصب لأتى بنون الوقاية فكان يقول «حاشاني» كما قال الآخر في «عدا» :

تمل الندامى ما عداني ؛ فإنني

بكل الذي يهوى نديمي مولع

نقول : نحن لا ننكر أن «حاشا» يأتي بعدها الاسم مجرورا ، لكن الاسم في هذا البيت منصوب بعد حاشا في رواية الرواة من حملة الشعر ، وقد ذكر ابن هشام الروايتين ، ثم قال : ويحتمل أن من روى «حاشا أبا ثوبان» قد أتى بالكلمة على لغة من يلزم الأسماء الستة الألف في الأحوال كلها ، وهو كلام عجيب من مثل ابن هشام ، أن يحمل البيت على لغة ضعيفة لمجرد أن سيبويه شيخ النحاة لم يحفظ النصب بعد حاشى.

__________________

(١) في الأصل «لا يعمل مع الحرف» وهو ظاهر التحريف ، والمؤلف يشير بهذا إلى رد مذهب الفراء الذي ذكرناه في شرح الشاهد ١٦٥ السابق ، وخلاصته أن المجرور بعد حاشى مجرور بحرف جر محذوف ، وأن أصل قولك «حاشى زيد» بالجر هو «حاشى لزيد» وحاشا فعل ماض ، والجار والمجرور متعلق به ،

٢٢٨

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه يتصرف» قلنا : [١٢٨] لا نسلّم ، وأما قول النابغة :

* وما أحاشي من الأقوام من أحد* [١٦٥]

فنقول : قوله «أحاشي» مأخوذ من لفظ حاشى ، وليس متصرفا منه ، كما يقال : بسمل ، وهلّل ، وحمدل ، وسبحل ، وحولق ، إذا قال : بسم الله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله ، وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكذلك يقال «لبّى» إذا قال : لبيك ، و «أفّف» إذا قال : أفّة ، وهو اسم للضّجرة ، و «دعدع» إذا قال لغنمه : داع داع ، وهو تصويت بها ، و «بأبأ الرجل بفلان» إذا قال له : بأبي أنت ، كما قال :

[١٦٧] * وإن تبأبأن وإن تفدّين*

______________________________________________________

[١٦٧] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، والاستشهاد به في قوله «تبأبأن» حيث اشتق هذا الراجز فعلا من اسم الصوت الذي هو «بأ ، بأ» والعرب تشتق من أسماء الأصوات على مثال الدحرجة ثم تأخذ من هذا المصدر أفعالا على مثال دحرج يدحرج ، قالوا : بأبأت الصبي ، وبأبأت به ، أبأبئ بأبأة ؛ إذا قلت له : بأبي أنت وأمي ، أو قلت له : با ، با ، وكذلك قالوا : بأبأ الصبي أباه ؛ إذا قال له : با ، با ، وقالوا : نخنخت البعير أنخنخه نخنخة ؛ إذا قلت له : نخ ، وقال ابن جني «سألت أبا علي فقلت له : بأبأت الصبي بأبأة إذا قلت له : با ، با ، فما مثال البأبأة عندك الآن؟ أتزنها على لفظها في الأصل فتقول : مثالها البقبقة بمنزلة الصلصلة والقلقلة؟ فقال : بل أزنها على ما صارت إليه وأترك ما كانت عليه فأقول : الفعللة ، قال : وهو كما ذكر» اه. وقد كتبنا بحثا وافيا عن الاشتقاق من أسماء الأصوات والنحت من الجمل في القسم الأول من كتابنا دروس التصريف فارجع إليه إن شئت ، ومثل بيت الشاهد قول الراجز الآخر :

وصاحب ذي غمرة داجيته

بأبأته ، وإن أبى فديته

* حتى أتى الحي وما آذيته*

ومثله قول الآخر :

إذا ما القبائل بأبأننا

فماذا نرجي ببئبائها؟

__________________

ثم حذف حرف الجر وبقي عمله ، وحاصل الرد أن حرف الجر عامل والعامل الضعيف لا يعمل وهو محذوف ، ومثله مثل النواصب والجوازم مع الفعل المضارع ، لا يعمل شيء منها إلا مذكورا ، وللفراء أن يقول : لا نسلم لكم هذا فقد عمل حرف الجر وهو محذوف ، ألا ترى أن رب تعمل محذوفة بعد الواو والفاء وبل ، وقد عمل غير رب الجر وهو محذوف ، كما في قول الشاعر :

إذا قيل أي الناس شر قبيلة

أشارت كليب بالأكف الأصابع

فأنتم تقررون أن أصل الكلام : أشارت إلى كليب ، فحذفت «إلى» وبقي عملها ، ومع أن هذا الكلام صحيح لا نرى لك أن تقره وتجعل منه قاعدة مطردة.

٢٢٩

فكما بنيت هذه الأفعال من هذه الألفاظ وإن كانت لا تتصرف فكذلك هاهنا.

وأما قولهم «إن لام الجرّ تتعلق به» قلنا : لا نسلّم ؛ فإن اللام في قولهم «حاشى لله» زائدة لا تتعلق بشيء ، كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤] لأن التقدير فيه : يرهبون ربّهم ، واللام زائدة لا تتعلق بشيء ، وكقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق : ١٤] أي ألم يعلم أن الله ؛ والباء زائدة لا تتعلق بشيء ، وكقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] أي اقرأ اسم ربك ، وكقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] أي ولا تلقوا أيديكم ، وقوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] أي تنبت الدهن ، ويجوز أن تكون هنا معدّية ؛ لأنه يقال : نبت وأنبت ، لغتان بمعنى واحد ، وكقولهم «بحسبك زيد» أي حسبك وكقول الشاعر :

[١٦٨]* ونضرب بالسّيف ونرجو بالفرج*

أي نرجو الفرج ، والباء زائدة لا تتعلق بشيء ، فكذلك هاهنا.

وأما قوله تعالى : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) [يوسف : ١٢] فليس لهم فيه حجّة ؛ فإن حاشى هاهنا ليس باستثناء ، إذ ليس هو موضع استثناء ، وإنما هو كقولك ـ إذا قيل

______________________________________________________

ومثله ما أنشده ابن السكيت :

ولكن يبأبئه بؤبؤ

وبئباؤه حجا أحجؤه

يبأبئه : يفديه ، وبؤبؤ : أي سيد كريم ، وبئباؤه : تفديته ، وحجأ : فرح وأحجؤه : أفرح به.

[١٦٨] هذا بيت من مشطور الرجز ينسب للجعدي من غير تعيين ، وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ١٥٨) وشرح الكافية في باب حروف الجر ، وشرحه البغدادي (٤ / ١٥٩) وقبل البيت قوله :

* نحن بنو جعدة أصحاب الفلج*

والفلج ـ بفتح الفاء واللام جميعا ـ الماء الجاري ، ويقال : البئر الكبيرة ، وقالوا : عين خلج ، وماء فلج ، ويروى «أرباب الفلج» والمعنى واحد ، والاستشهاد بالبيت في قوله «نرجو بالفرج» حيث زاد الراجز الباء في المفعول به ، وذلك أن الرجاء وما تصرف منه يتعدى إلى المفعول بنفسه ، تقول : رجاه يرجوه ، وكذلك ارتجاه يرتجيه ، ورجاه يرجيه ـ بتضعيف الجيم ، قال الله تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) وقال بشر :

فرجي الخير وانتظري إيابي

إذا ما القارظ العنزي آبا

وقد اختلفت عبارة العلماء في زيادة الباء في بيت الشاهد ، فقال ابن عصفور : زيادة الباء هنا ضرورة ، وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب ، إنما عدي الرجاء بالباء لأنه بمعنى الطمع ، والطمع يتعدى بالباء كقولك : طمعت بكذا ، قال الشاعر :

طمعت بليلى أن تجود ، وإنما

تقطع أعناق الرجال المطامع

٢٣٠

لك فلان يقتل أو يموت أو نحو ذلك ـ «حاشاه» وهذا ليس باستثناء ، وإنما هو بمنزلة قولك «بعيدا منه» فكذلك هاهنا.

وأما قولهم «يدخله الحذف والحذف لا يكون في الحرف» قلنا : الجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أنّا لا نسلم أنه قد دخله الحذف ؛ فإن الأصل عند بعضهم [١٢٩] في حاشى حاش بغير ألف ، وإنما زيدت فيه الألف. وهذا هو الجواب عن احتجاجهم بقراءة من قرأ : (حاشَ لِلَّهِ) ثم نقول : إن هذه القراءة قد أنكرها أبو عمرو بن العلاء سيد القراء ، وقال : العرب لا تقول «حاش لك» ولا «حاشك» وإنما تقول «حاشى لك ، وحاشاك» وكان يقرؤها حاشى لله بالألف في الوصل ، ويقف بغير ألف في الوقف متابعة للمصحف ؛ لأن الكتابة على الوقف لا على الوصل ، وكذلك قال عيسى بن عمر الثقفي ـ وكان من الموثوق بعلمهم في العربية ـ : العرب كلها تقول «حاشى لله» بالألف ، وهذه حجة لأبي عمرو.

والوجه الثاني : أنّا نسلم أن الأصل فيه حاشى بالألف ، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال ، وقولهم «إن الحرف لا يدخله الحذف» قلنا : لا نسلم ، بل الحرف يدخله الحذف ، ألا ترى أنهم قالوا في ربّ : رب ، بالتخفيف ، وقد قرىء به ، قال الله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] ثم قال الشاعر :

[١٦٩] ازهير إن يشب القذال فإنّه

رب هيضل لجب لففت بهيضا

______________________________________________________

[١٦٩] هذا البيت من كلام أبي كبير الهذلي ، واسمه عامر بن حلس ، وقد استشهد بالبيت رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ١٦٥) وأنشده موفق الدين بن يعيش (ص ١٠٩٣) وقوله «أزهير» الهمزة فيه للنداء ، وزهير : اسم ابن الشاعر ، بدليل قوله في قصيدة أخرى :

أزهير هل عن شيبة من مقصر

أم لا سبيل إلى الشباب المدبر

فقد الشباب أبوك إلا ذكره

فاعجب لذلك فعل دهر وامكر

والقذال ـ بفتح القاف ، بزنة السحاب ـ ما بين نقرة القفا وأعلى الأذن ، وهو آخر موضع من الرأس يشيب شعره ، وربما أطلق القذال وأريد الرأس كله من باب إطلاق اسم الجزء وإرادة كله ، والهيضل ـ بزنة جعفر ـ الجماعة من الناس ، ولجب ـ بفتح اللام وكسر الجيم ـ معناه كثير الجلبة مرتفع الأصوات ، ويروى في مكانه «مرس» بفتح فكسر ـ ومعناه شديد ، وقوله «لففت» يروى بفاءين ومعناه جمعت ، ويروى «لفقت» بفاء بعدها قاف ، ومعناه جمعت أيضا ، يريد أنه جمع جيشا يجيش للحرب والطعان والاستشهاد بالبيت في قوله «رب هيضل» حيث جاء برب مخففة بياء واحدة ، وقد اختلف العلماء في الباء الباقية : أساكنة هي أم مفتوحة ، فذكر قوم منهم ابن جني أنها ساكنة ، وعليه يكون الشاعر قد حذف الباء الثانية

٢٣١

وقال الآخر :

[١٧٠] ألم تعلمن يا ربّ أن رب دعوة

دعوتك فيها مخلصا لو أجابها

وفي ربّ أربع لغات : ضم الراء ، وفتحها ، مع تشديد الباء وتخفيفها ، نحو : ربّ ، ورب ، وربّ ، ورب. وكذلك حكيتم عن العرب أنهم قالوا في سوف أفعل : «سو أفعل» بحذف الفاء ، وحكاه أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه ، وحكى ابن خالويه فيها أيضا «سف أفعل» بحذف الواو ، وزعمتم أيضا أن الأصل في سأفعل : سوف أفعل ، فحذفت الواو والفاء معا ، وسوف حرف ، وإذا جوّزتم حذف حرفين فكيف تمنعون جواز حذف حرف واحد؟ فدلّ على فساد ما ذكرتموه ، والله أعلم.

______________________________________________________

التي كانت مفتوحة وأبقى الأولى على حالها التي كانت عليها ، وينشدون بالسكون قول الشاعر :

ألا رب ناصر لك من لؤي

كريم لو تناديه أجابا

ومنهم من روى «رب» في بيت الشاهد بفتح الباء ، وصرح العسكري في كتاب التصحيف بالوجهين ، وقد قال أبو علي في كتاب الشعر : الحروف على ضربين : حرف فيه تضعيف ، وحرف لا تضعيف فيه ؛ فالأول قد يخفف بالحذف منه كما فعل ذلك في الاسم والفعل بالحذف والقلب ، وذلك نحو إن وأن ولكن ورب ، والقياس إذا حذف المدغم فيه أن يبقى المدغم على السكون ، وقد جاء :

* أزهير إن يشب القذال ... البيت*

ويمكن أن يكون الآخر منه حرك لما لحقه الحذف والتأنيث فأشبه بهما الأسماء» اه.

[١٧٠] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وألفاظه ومعانيه ظاهرة ، والاستشهاد به في قوله «رب دعوة» حيث ورد فيه «رب» مخففا بحذف إحدى الباءين ، والكلام فيه كالكلام في الشاهد السابق ، ولكن بينهما فرقا من جهة واحدة ، وتلخيصها أن «رب» في البيت السابق مخففة قطعا ، إذ لا يصح وزن البيت إلا على تخفيفها إما بسكون بائها وإما بفتحها ، أما في هذا البيت فالوزن يتم على تخفيفها وعلى تشديدها ، بل قد يكون تشديدها أوفق ، ولا دليل على التخفيف إلا الرواية ، وقد أتى المؤلف بالبيت السابق ، فيكون قد روي عن أثبات العلماء التخفيف في هذا البيت أيضا.

٢٣٢

٣٨

مسألة

[هل يجوز بناء «غير» مطلقا؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «غير» يجوز بناؤها على الفتح في كل موضع [١٣٠] يحسن فيه «إلّا» سواء أضيفت إلى متمكن أو غير متمكن ، وذلك نحو قولهم : ما نفعني غير قيام زيد ، وما نفعني غير أن قام زيد.

وذهب البصريون إلى أنها يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن ، بخلاف ما إذا أضيفت إلى متمكن.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما جوّزنا بناءها على الفتح إذا أضيفت إلى اسم متمكن أو غير متمكن وذلك لأن «غير» هاهنا قامت مقام «إلّا» وإلّا حرف استثناء ، والأسماء إذا قامت مقام الحروف وجب أن تبنى ، وهذا لا يختلف باختلاف ما يضاف إليه من اسم متمكن كقولك : ما نفعني غير قيامك ، أو غير متمكن كما قال :

[١٧١] لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال

______________________________________________________

[١٧١] هذا البيت قد استشهد به سيبويه (١ / ٣٦٩) ولم يعزه ، وعزاه الأعلم إلى رجل من كنانة ولم يعينه ، واستشهد به رضي الدين في باب الاستثناء وفي باب الظرف وقد شرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٤٥) ونسبه لأبي قيس بن الأسلت ، وأنشده ابن منظور (وق ل) ولم يعزه ، واستشهد به ابن هشام في مغني اللبيب مرتين (رقم ٢٦٢) فانظره في (ص ١٥٩ و ٥١٧) والأوقال : الأعالي وهو أيضا ثمار الدوم ، ومنه قالوا «توقل في الجبل» أي صعد وارتفع. يقول الشاعر : لم يمنعنا من التعريج على الماء إلا صوت حمامة ذكرتنا من نحب فهيجتنا وحثتنا على السير ، وموطن الاستشهاد فيه قوله «غير أن نطقت» فإن الرواية فيه بفتح «غير» مع أنها فاعل لقوله «لم يمنع» فدل ذلك على أنه بناها على الفتح ؛ قال الأعلم : ـ

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : كتاب سيبويه (١ / ٣٦٨) ومغني اللبيب لابن هشام (ص ١٥٩ و ٥١٦) وشرح الأشموني (٣ / ٤٢١ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (٢ / ٢٢١).

٢٣٣

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن ، ولا يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى متمكن ، وذلك لأن الإضافة إلى غير

______________________________________________________

«الشاهد فيه بناء غير على الفتح لإضافتها إلى غير متمكن ، وإن كانت في موضع رفع ، وذلك أن «أن» حرف يوصل بالفعل ، وإنما تؤولت اسما مع ما بعدها من صلتها لأنها دلت على المصدر ونابت منابه في المعنى ، فلما أضيفت غير إليها مع لزومها للإضافة بنيت معها ، وإعرابها على الأصل جائز حسن ، ونظير بنائها بناء أسماء الزمان إذا أضيفت إلى الجمل والأفعال ، كقولك : عجبت من يوم قام زيد ومن يوم زيد قائم ؛ لأن حق الإضافة أن تقع على الأسماء المفردة دون الأفعال والجمل ، فلما خرجت عن أصلها بني الاسم» اه وقال سيبويه : «والحجة على أن هذا في موضع رفع أن أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعا :

* لم يمنع الشرب منها ... البيت*

وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع ، فقال الخليل : هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع ، فكذلك غير أن نطقت ، وكما قال النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

فقلت : ألما تصح والشيب وازع؟

كأنه جعل حين وعاتبت اسما واحدا» اه.

وقد جعل الأعلم إضافة غير في هذا البيت إلى غير متمكن ـ أي إلى مبنيّ ـ بسبب وجود «أن» المصدرية في صدر المضاف إليه ، مع علمه أن أن المصدرية حرف ، وأن الحرف لا يقع في موقع من مواقع الإعراب أصلا ؛ فلا يكون مضافا إليه ، بل مع علمه أن هذا الحرف المصدري مع مدخوله في تأويل اسم مفرد معرب ـ وهو المصدر المسبوك من أن مدخولها ـ وأنت لو تأملت في هذا البيت وجدت البصريين والكوفيين متفقين على جواز بناء غير في هذا البيت وأمثاله ، ولكن الاختلاف بينهم في تعليل هذا البناء ، فالكوفيون يعللونه ـ على ما قال المؤلف عنهم ـ بأنها قامت مقام إلا الاستثنائية ، والبصريون قد عللوه بأنها أضيفت إلى مبنيّ فاكتسبت البناء من المضاف إليه ، وذلك كما يكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير أو التأنيث ، وقد فصل ابن هشام في مغني اللبيب (ص ٥١٠ ما بعدها) الأمور التي يكتسبها المضاف من المضاف إليه ، فارجع إليها إن شئت.

ومن شواهد بناء غير لكونها أضيفت إلى مبني ـ على ما يقول البصريون ـ قول الشاعر وأنشده ابن هشام في المغني :

لذ بقيس حين يأبى غيره

تلقه بحرا مفيضا خيره

الرواية في هذا البيت بفتح «غيره» بدليل الرويّ ، ونظير ما أنشده المؤلف في بناء غير لكونها أضيفت إلى جملة مصدرة بأن قول الحارث بن حلزة اليشكري من قصيدته التي تعد في المعلقات ، وهو من شواهد الرضي :

غير أني قد أستعين على اله

م إذا خف بالثوى النجاء

فغير ههنا استثناء منقطع ، وهي مفتوحة ، ويجوز أن تكون فتحتها فتحة إعراب ، ويجوز أن تكون فتحة بناء ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع إن شاء الله.

٢٣٤

المتمكن تجوّز في المضاف البناء ، قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٩] فبنى «يوم» في قراءة من قرأ بالإضافة والفتح ، وهي قراءة نافع وأبي جعفر ؛ لأنه أضيف إلى «إذ» وهو اسم غير متمكن ، وقال الشاعر :

[١٧٢] رددنا لشعثاء الرّسول ، ولا أرى

كيومئذ شيئا تردّ رسائله

فكذلك هاهنا ، وسبب هذا يستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى ، وأما الإضافة إلى المتمكن فلا تجوّز في المضاف البناء فقلنا : إنه باق على أصله في الإعراب ، فكذلك هاهنا ؛ وسنبين هذا مستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنها في معنى إلا فينبغي أن تبنى» قلنا : هذا فاسد ، وذلك لأنه لو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال : «زيد مثل عمرو» فيبنى [مثل] على الفتح لقيامه مقام الكاف ؛ لأن قولك : «زيد مثل عمرو» في معنى «زيد كعمرو» ولما وقع الإجماع على خلاف ذلك دلّ على فساد ما ادعيتموه.

وأما قول الشاعر :

لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال [١٧١]

[١٣١] فنقول : لا نسلم أنه بنى لأنه قام مقام «إلا» وإنما بنى «غير» لأنه أضافه إلى غير متمكن ، والاسم إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه ، ولهذا نظائر كثيرة من كتاب الله تعالى وكلام العرب ، وقال الله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ

______________________________________________________

[١٧٢] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وشعثاء : اسم امرأة ، والرسول هنا الرسالة ، ومنه قول كثير عزة :

لقد كذب الواشون ، ما بحت عندهم

بسر ، ولا أرسلتهم برسول

وقول الأسعر الجعفي :

ألا أبلغ أبا عمرو رسولا

بأني عن فتاحتكم غني

وقول العباس بن مرداس السلمي :

ألا من مبلغ عني خفافا

رسولا بيت أهلك منتهاها؟

والاستشهاد بالبيت في قوله «كيومئذ» فإن الرواية فيه بفتح يوم مع أنه مدخول حرف الجر ، فدل ذلك على أنه بناه على الفتح لإضافته إلى المبنيّ ـ وهو «إذ» وأنت خبير بأن تنوين «إذ» هو تنوين العوض عن الجملة التي من حق «إذ» أن يضاف إليها ، كما في قوله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) تقديره : ويوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون ؛ وكذلك قوله سبحانه : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) في قراءة من قرأ بفتح يوم ، ويجوز الإعراب مع ذلك ، فتجعل فتح يوم في الآية الأولى فتح الإعراب وأنه منصوب على الظرفية متعلق بيفرح ، وقد قرىء في الآية الثانية بجر يوم من يومئذ ، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى.

٢٣٥

تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] في قراءة من قرأ (مِثْلَ) بالفتح ، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب ، وإن كان في موضع رفع ؛ لأنه اسم مبهم مثل غير أضيف إلى غير متمكن ، وقال تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [هود : ٦٦] فيمن قرأ بالفتح ، وقال تعالى : (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) [المعارج : ١١] فيمن قرأ بالفتح ، وهي قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر ، ثم قال الشاعر :

[١٧٣] أزمان من يرد الصّنيعة يصطنع

فينا ، ومن يرد الزّهادة يزهد

فبنى «أزمان» لإضافته إلى «من» وهو غير متمكن ، وقال الآخر :

[١٧٤] على حين من تلبث عليه ذنوبه

يجد فقدها وفي المقام تدابر

فبنى «حين» لإضافته إلى «من» وقال الآخر :

[١٧٥] على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت : ألمّا تصح والشّيب وازع؟

______________________________________________________

[١٧٣] الصنيعة : كل معروف تسديه إلى غيرك تصطنعه به ، أي تجعله من نفرك ، وقال الشاعر :

إن الصنيعة لا تكون صنيعة

حتى يصاب بها مكان المصنع

والاستشهاد بالبيت في قوله «أزمان من يرد ـ إلخ» فإنه يجوز في «أزمان» أن يكون مبنيا على الفتح لكونه ظرفا مبهما قد أضيف إلى جملة مصدرة باسم مبني ـ وهو من ـ ويجوز أن يكون منصوبا على الظرفية ، ونظيره قول العجاج :

أزمان أبدت واضحا مفلجا

أغر براقا وطرفا أدعجا

[١٧٤] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٤٤١) والرضي في باب الجوازم ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ٦٤٩) والذنوب ـ بفتح الذال ـ الدلو إذا كانت مملوءة بالماء ، وقد ضربه مثلا لما يدلى به من الحجة ، وقوله «يجد فقدها» روى سيبويه في مكان هذه العبارة «يرث شربه» والشرب ـ بالكسر ـ الحظ من الماء ، والمقام : أراد به مقاما فأخر فيه غيره وكثرت المخاصمة فيه والمحاجة ، والتدابر ـ بالباء الموحدة ـ التقاطع ، وأصله أن يولي كل واحد من الخصمين صاحبه دبره ، وروى سيبويه «تداثر» بالثاء المثلثة ـ وهو التزاحم. وأصله مأخوذ من الدثر ـ بفتح الدال وسكون الثاء ـ وهو المال الكثير. والاستشهاد بالبيت في قوله «على حين من ـ إلخ» فإن الرواية فيه بفتح حين مع دخول حرف الجر عليها ، وذلك دليل على أن الشاعر بنى هذه الكلمة على الفتح ؛ إذ لو كان أعربها لجرها بالكسرة ، وإنما بناها لكونها مضافة إلى جملة صدرها مبني ـ وهو «من» ـ وقد ذكر سيبويه أن إضافة «حين» إلى «من» الشرطية ضرورة من ضرورات الشعر ، قال الأعلم : «الشاهد مجازاته بمن مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة ، وحكمها ألا تضاف هي وإذا إلا إلى جملة مخبريها ، والمبهمات إنما تفسر وتوصل بالأخبار ، وجاز هذا في الشعر تشبيها لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر والفعل والفاعل» اه.

[١٧٥] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٦٩) وابن يعيش (٣٣٥

٢٣٦

وقال الآخر :

[١٧٦] على حين انحنيت وشاب رأسي

فأيّ فتى دعوت وأيّ حين؟

وقال الآخر :

[١٧٧] يمرّون بالدّهنا خفافا عيابهم

ويخرجن من دارين بجر الحقائب

______________________________________________________

و ٥٤٥) ورضي الدين في شرح الكافية في باب الظروف ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ١٥١) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٧٧٧) والأشموني (رقم ٦١٨) وأوضح المسالك (رقم ٣٣٥) وابن عقيل (رقم ٢٣٧) وشذور الذهب (رقم ٢٥) وعاتبت : فعل ماض من العتاب ، وهو اللوم في تسخط وكراهية ، والمشيب : الشيب ، والصبا ـ بكسر الصاد ـ الصبوة وهي الميل إلى شهوات النفس واتباع لذائذها ، وأصح : مضارع من الصحو ، وأصله ضد السكر ، وأراد هنا الرجوع إلى ما هو خليق به من كمالات النفس ، والوازع : اسم الفاعل من وزعه يزعه ـ كوضع يضع ـ أي نهاه وزجره وكفه عن فعل المقابح. والاستشهاد به في قوله «على حين عاتبت» فإنه يروى بفتح حين وبجره ، أما فتحه ـ مع دخول حرف الجر عليه ـ فبسبب بنائه على الفتح لكونه أضيف إلى جملة صدرها فعل ماض مبني ، فاكتسب المضاف البناء من المضاف إليه ، وأما جرّه فعلى الأصل ، فمجموع الروايتين يدل على أن الظرف المبهم إذا أضيف إلى جملة صدرها مبني جاز فيه الإعراب على أصله والبناء لاكتسابه البناء مما أضيف إليه.

[١٧٦] انحنيت : أراد كبرت سني وضعفت قوتي فصرت لا أمشي إلا منحني الظهر والاستشهاد به في قوله «على حين انحنيت» حيث وردت «حين» بالفتح مع دخول حرف الجر عليها ، فيدل ذلك على أنه بناها على الفتح لإضافتها إلى جملة صدرها مبني وهو الفعل الماضي ، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة.

[١٧٧] هذان البيتان من شواهد سيبويه (١ / ٥٩) ولم يعزهما ولا عزاهما الأعلم ، وقد أنشدهما ابن منظور (ن د ل) من غير عزو ، وهما من شواهد الأشموني (رقم ١٤) وأوضح المسالك (رقم ٤٨) وابن عقيل (رقم ١٦٢) وقد نسبهما العيني إلى الأحوص ثم قال : «وذكر في الحماسة البصرية أن قائلهما هو أعشى همدان يهجو لصوصا ، وقال الجوهري : قال جرير يصف ركبا :

* يمرون بالدهنا خفافا ...*

والأظهر ما قاله في الحماسة» اه ، وقال ابن منظور : «وندل التمر من الجلة والخبز من السفرة يندله ندلا : غرف منهما بكفه جمعاء كتلا ، وقيل : هو الغرف باليدين جميعا ، والرجل مندل بكسر الميم ، وقال يصف ركبا ويمدح قوم دارين بالجود :

* يمرون بالدهناء ... البيتين*

يقول : اندلي يا زريق ـ وهي قبيلة ـ ندل الثعالب ، يريد السرعة ، والعرب تقول : أكسب من ثعلب ، قال ابن بري : وقيل في هذا الشاعر : إنه يصف قوما لصوصا يأتون إلى دارين فيسرقون ويملأون حقائبهم ثم يفرغونها ويعودون إلى دارين ، وقيل : يصف تجارا ، وقوله

٢٣٧

على حين ألهى النّاس جلّ أمورهم

فندلا زريق المال ندل الثّعالب

وإذا بني المضاف في هذه الأماكن من كتاب الله تعالى وكلام العرب لإضافته إلى غير متمكن دلّ على أن قوله «غير أن نطقت» مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن على ما بيّنا ، والله أعلم.

______________________________________________________

«على حين ألهى الناس جل أمورهم» يريد حين اشتغل الناس بالفتن والحروب ، والبجر : جمع أبجر ، وهو العظيم البطن : والندل : التناول ، وبه فسر بعضهم قوله فندلا زريق المال» اه كلامه بحروفه. والاستشهاد به ههنا في قوله «على حين ألهى الناس» فإن الرواية فيه قد جاءت بفتح «حين» مع دخول حرف الجر عليه ؛ فدل على أنه بناه ، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة.

٢٣٨

[١٣٢] ٣٩

مسألة

[هل تكون «سوى» اسما أو تلزم الظرفية؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أنّ «سوى» تكون اسما وتكون ظرفا. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون إلا ظرفا.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنها تكون اسما بمنزلة «غير» ولا تلزم الظرفية أنهم يدخلون عليها حرف الخفض ، قال الشاعر :

[١٧٨] ولا ينطق المكروه من كان منهم

إذا جلسوا منّا ولا من سوائنا

______________________________________________________

[١٧٨] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ١٣ و ٢٠٣) وأنشده ابن منظور (س وى) وقد استشهد به الأشموني (رقم ٤٥٤) وابن عقيل (رقم ١٧١) والبيت من كلام المرار بن سلامة العجلي ، وقد نسب في كتاب سيبويه إليه مرة (١ / ١٣) ونسب مرة أخرى (١ / ٢٠٣) لرجل من الأنصار غير معين ، وقوله «ولا ينطق المكروه» يروى مكانه في «ولا ينطق الفحشاء» والفحشاء : الكلام القبيح ، تقول : (أفحش الرجل في كلامه ، وفحش ـ بتشديد الحاء ـ وتفحش ؛ إذا أردت أنه يتكلم بقبيح الكلام ، وقوله «إذا جلسوا» رويت هكذا في كتاب سيبويه (١ / ١٣) ورويت فيه أيضا (١ / ٢٩٣) «إذا قعدوا» والمعنى واحد. والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا من سوائنا» حيث أتى بسواء مجرورة بمن ، والكوفيون يستدلون بهذا البيت ونحوه على أن «سوى» تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل فتقع مبتدأ وفاعلا واسما لأن ومجرورا بحروف الجر ، وسيبويه وشيخه الخليل ينكران ذلك ، ويزعمان أنها بجميع لغاتها لا تخرج عن النصب على الظرفية إلا في ضرورة الشعر ، ولكن كثرة الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم ـ وفيها استعمال هذه الكلمة في مواضع كثيرة من مواضع الإعراب ـ ترجح مذهب الكوفيين ، وقريب منه مذهب الرماني وأبي البقاء العكبري : زعما أن «سوى» تستعمل ظرفا وتستعمل غير ظرف ، إلا أن مجيئها منصوبة على الظرفية أكثر ، وقد رجحه ابن هشام في مغني اللبيب ، قال «وإلى مذهبهما أذهب» اه.

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني (٢ / ٤٧٦ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (٢ / ١٤١ بولاق) وتصريح الشيخ خالد (١ / ٤٣٦) وشرح رضي الدين على الكافية (١ / ٢٢٧) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ٢٩٨) وشرح ابن عقيل (١ / ٥١٧ بتحقيقنا) ولسان العرب (س وى).

٢٣٩

فأدخل عليها حرف الخفض ، وقال الشاعر :

[١٧٩] تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا

فأدخل عليها لام الخفض ؛ فدل على أنها لا تلزم الظرفية ، وقال أبو دؤاد :

[١٨٠] وكلّ من ظنّ أن الموت مخطئه

معلّل بسواء الحقّ مكذوب

وقال الآخر :

[١٨١] أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها

فسواها : في موضع خفض بالعطف على الضمير المخفوض في «فيها» والتقدير : أم في سواها.

والذي يدلّ على ذلك أنه روي عن بعض العرب أنه قال «أتاني سواؤك» فرفع ؛ فدلّ على صحة ما ذهبنا إليه.

______________________________________________________

[١٧٩] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ١٣) وقد نسبه إلى الأعشى ، وكذلك نسبه الأعلم الشنتمري ، وأنشده ابن منظور (س وى) وهو من شواهد الرضي في باب الاستثناء ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٥٩) وقوله «تجانف» هو فعل مضارع ، وأصله تتجانف ، فحذف إحدى التاءين ، والتجانف : الانحراف ، وصف أنه لا يعدل في قصده على غير هذا الممدوح ، وجعل الفعل للناقة مجازا. والاستشهاد بالبيت في قوله «لسوائكا» حيث أتى بسواء متأثرة بالعامل الذي هو لام الجر ، فدل ذلك على أنها تخرج عن النصب على الظرفية إلى الوقوع في مواقع الإعراب المختلفة ، على نحو ما بيّناه في شرح البيت السابق.

[١٨٠] هذا البيت من كلام أبي دؤاد ـ كما قال المؤلف ـ واسم أبي دؤاد جويرية بن الحجاج ، ويقال : جارية بن الحجاج ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٤٥٥) وقوله «مخطئه» هو اسم الفاعل من قولك «أخطأك كذا» أي فاتك ولم يصبك ، وفي الحديث «واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك» وقوله «معلل» هو اسم المفعول من قولك «عللت فلانا بكذا» إذا شغلته ولهيته به عن شيء يرغب فيه ، وسواء الحق : أي غيره ، والاستشهاد به في قوله «بسواء الحق» حيث أتى بكلمة «سواء» متأثرة بالعامل الذي هو باء الجر ، وهو دليل للكوفيين على أنها لا تلزم النصب على الظرفية كما يقول سيبويه والخليل ، وقد بيّنا ذلك في شرح الشاهد ١٧٨.

[١٨١] أكر : أي أرجع ، يريد أنه يقدم ولا يفر ، والكتيبة : الجماعة من الجيش ، والحتف ـ بفتح الحاء وسكون التاء المثناة ـ الموت والهلاك. وقد أنشد الكوفيون هذا البيت دليلا على أن «سوى» تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل ، وذلك أنهم أعربوا «سوى» معطوفا على الضمير المجرور محلا بفي في قوله «أفيها» وتقدير الكلام عندهم : أفي هذه الكتيبة كان هلاكه أم في كتيبة أخرى ، ولم يرتض المؤلف هذا الإعراب مع أنه هو المتبادر ، وجعل «سوى» منصوبا على الظرفية كما هو مبين في كلامه.

٢٤٠