الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

ومعنى الجمع ، فلما وضعت موضع «مع» خلعت عنها دلالة العطف وأخلصت للجمع كما أن فاء العطف فيها معنيان : العطف ، والإتباع ؛ فإذا وقعت في جواب الشرط خلعت عنها دلالة العطف وأخلصت للاتباع ، وكذلك همزة الخطاب في «هاء يا رجل» فإنها إذا ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب ؛ لأنه يصير بعدها في الكاف ، ونظير ما نحن فيه من كل وجه نصبهم الاسم في باب الاستثناء بالفعل المتقدم بتقوية «إلا» فكذلك هاهنا : المفعول معه منصوب بالفعل المتقدم بتقوية الواو ، على ما بيّنا ، وهذا هو المعتمد عند البصريين.

وأما ما ذهب إليه الزّجّاج من أنه منصوب بتقدير عامل ، والتقدير ولابس الخشبة لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو. قلنا : هذا باطل ؛ لأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتعلق به ، فإن كان يفتقر إلى توسط حرف عمل مع وجوده وإن كان لا يفتقر إلى ذلك عمل مع عدمه ، وقد بيّنا أن الفعل قد تعلق بالمفعول معه بتوسط الواو ، وأنه يفتقر في عمله إليها ، فينبغي أن يعمل مع وجودها ، فكيف يجعل ما هو سبب في وجود العمل سببا في عدمه؟ وهل ذلك إلا تعليق على العلة ضدّ المقتضى؟ ولو كان لما ذهب إليه وجه لكان ما ذهب إليه الأكثرون أولى ؛ لأن ما ذهب إليه يفتقر إلى تقدير ، وما ذهب إليه الأكثرون لا يفتقر إلى تقدير ، وما لا يفتقر إلى تقدير أولى مما يفتقر إلى تقدير.

وأما ما ذهب إليه الأخفش من أنه ينتصب انتصاب «مع» فضعيف أيضا ؛ لأن «مع» ظرف ، والمفعول معه في نحو «استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطيالسة» ليس بظرف ، ولا يجوز أن يجعل منصوبا على الظرف.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنه منصوب على الخلاف ؛ لأنه لا يحسن تكرير الفعل ؛ فخالف الثاني الأول ، فانتصب على الخلاف» قلنا : هذا باطل بالعطف الذي يخالف بين المعنيين نحو قولك : «ما قام زيد لكن عمرو ، وما مررت بزيد لكن بكر» وما بعد لكن يخالف ما قبلها ، وليس بمنصوب ، فإن لكن يلزم [١١٢] أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها على كل حال ، سواء لزمت العطف في النفي عندنا أو جاز بها العطف في الإيجاب عندكم ؛ فلو كان كما زعمتم لوجب أن لا يكون ما بعدها إلا منصوبا لمخالفته الأول ، وإذا كان الخلاف ليس موجبا للنصب مع «لكن» ـ وهو حرف لا يكون ما بعده إلا مخالفا لما قبله ـ فلأن لا يكون موجبا للنصب مع الواو التي لا يجب أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها كان ذلك من طريق

٢٠١

الأولى ، وكذلك أيضا يبطل بلا في قولك «قام زيد لا عمرو ، ومررت بزيد لا عمرو» وما بعد «لا» يخالف ما قبلها كلكن ، وليس بمنصوب ؛ فدل على أن الخلاف لا يكون موجبا للنصب.

وقولهم «إن الفعل المتقدم لازم ؛ فلا يجوز أن يعمل في المفعول معه» قلنا : إلا أنه تعدّى بتقوية الواو ؛ فخرج عن كونه لازما على ما بيّنا ، فلا نعيده هاهنا ، والله أعلم.

٢٠٢

٣١

مسألة

[القول في تقديم الحال على الفعل العامل فيها](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر (٢) ، نحو : «راكبا جاء زيد» ويجوز مع المضمر ، نحو «راكبا جئت». وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها مع الاسم الظاهر والمضمر.

وأما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا لا يجوز تقديم الحال على العامل فيها ، وذلك لأنه يؤدي إلى تقديم المضمر على المظهر ، ألا ترى أنك إذا قلت : «راكبا جاء زيد» كان في «راكبا» ضمير زيد ، وقد تقدم عليه ، وتقديم المضمر على المظهر لا يجوز.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان العامل فعلا نحو «راكبا جاء زيد» للنقل والقياس :

أما النقل فقولهم في المثل «شتّى تؤوب الحلبة (٣)» فشتّى : حال مقدّمة على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر ، فدل على جوازه.

وأما القياس فلأن العامل فيها متصرف ، وإذا كان العامل متصرفا وجب أن يكون عمله متصرفا ، وإذا كان عمله متصرفا وجب أن يجوز تقديم معموله عليه ، كقولهم «عمرا ضرب [١١٣] زيد» فالذي يدل عليه أن الحال تشبّه بالمفعول ، وكما يجوز تقديم المفعول على الفعل ، فكذلك يجوز تقديم الحال عليه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : قولهم «إنما لم يجز تقديم الحال لأنه

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني (٣ / ٦٢ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (٢ / ١٥٩ بولاق) وتصريح الشيخ خالد (١ / ٤٥٨) وشرح المفصل (ص ٢٣٤ وما بعدها) وشرح الرضي على الكافية (١ / ١٨٧).

(٢) يريد إذا كان صاحب الحال ـ الذي هو فاعل الفعل مثلا ـ اسما ظاهرا.

(٣) انظر المثل ١٩١٤ في مجمع الأمثال (١ / ٣٥٨ بتحقيقنا).

٢٠٣

يؤدي إلى تقديم المضمر على المظهر» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه وإن كان مقدما في اللفظ إلا أنه مؤخر في التقدير ، وإذا كان مؤخرا في التقدير جاز فيه التقديم ، قال الله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] فالضمير في (نَفْسِهِ) عائد إلى (مُوسى) وإن كان مؤخرا في اللفظ ، إلا أنه لما كان في تقدير التأخير جاز التقديم ، قال زهير :

من يلق يوما على علّاته هرما

يلق السّماحة منه والنّدى خلقا [٣٠]

فالهاء في «علّاته» تعود إلى «هرم» لأنه في تقدير التقديم ؛ لأن التقدير : من يلق يوما هرما على علاته ، فلما كان «هرما» في تقدير التقديم والضمير في تقدير التأخير وجب أن يكون جائزا ، ومن كلامهم «في أكفانه لفّ الميّت» ومن أمثالهم «في بيته يؤتى الحكم (١)» وتزعم العرب أن أرنبا وجدت تمرة فاختلسها ثعلب منها ، فاختصما إلى ضبّ ، فقالت الأرنب : يا أبا الحسيل ، قال الضب : سميعا دعوتما ، قالت : أتيناك لتحكم بيننا ، قال : عادلا حكّمتما ، قالت : فاخرج إلينا ، قال : في بيته يؤتى الحكم ؛ فالضمير في «في بيته» يعود إلى «الحكم» وقد تقدم عليه.

وهذا كثير في كلامهم ، وقد بيّنا ذلك مستقصى في جواز تقديم خبر المبتدأ عليه بما يغني عن الإعادة هاهنا ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر المثل رقم ٢٧٤٢ من مجمع الأمثال للميداني.

٢٠٤

٣٢

مسألة

[هل يقع الفعل الماضي حالا](١)

ذهب الكوفيون إلى أن الفعل الماضي يجوز أن يقع حالا ، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقع حالا ، وأجمعوا على أنه إذا كانت معه «قد» أو كان وصفا لمحذوف فإنه يجوز أن يقع حالا.

أما الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز أن يقع الفعل الماضي حالا النقل والقياس :

أما النقل فقد قال الله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] فحصرت : فعل ماض ، وهو في موضع الحال ، وتقديره : [١١٤] حصرة صدورهم ، والدليل على صحة هذا التقدير قراءة من قرأ : (أو جاؤوكم حَصِرَةً صدورهم) وهي قراءة الحسن البصري ويعقوب الحضرميّ والمفضّل عن عاصم ، [و] قال أبو صخر الهذليّ :

[١٥٢] وإنّي لتعروني لذكراك نفضة

كما انتفض العصفور بلّله القطر

______________________________________________________

[١٥٢] هذا البيت من كلام أبي صخر الهذلي ، وهو من شواهد الرضي في باب الحال ، وقد شرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٥٥٢) وابن يعيش (ص ٢٤٧) وشرح الأشموني (رقم ٤٢٩) وأوضح المسالك (رقم ٢٥٣) وابن عقيل (رقم ٢٠٧) وشرح شذور الذهب (رقم ١١٠) وتعروني : تنزل بي وتعرض لي ، تقول : عرا فلان فلانا ، وعري فلانا الأمر ؛ إذا أردت أنه نزل به ، والذكرى : التذكر والخطور بالبال ، والهزة : الرعدة والانتفاضة ، وروى المؤلف وابن يعيش في مكانها «نفضة» بضم النون وسكون الفاء أو فتحها ، وانتفض العصفور : ارتعد وارتعش ، والقطر : المطر. والاستشهاد به ههنا في قوله «بلله القطر» حيث وقعت

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح المفصل (ص ٢٤٦ وما بعدها) وشرح الرضي على الكافية (١ / ١٩٥) وخزانة الأدب (١ / ٥٥٢ بولاق).

٢٠٥

فبلّله : فعل ماض ، وهو في موضع الحال ؛ فدل على جوازه.

وأما القياس فلأن كل ما جاز أن يكون صفة للنكرة نحو «مررت برجل قاعد ، وغلام قائم» جاز أن يكون حالا للمعرفة نحو «مررت بالرّجل قاعدا ، وبالغلام قائما» ، والفعل الماضي يجوز أن يكون صفة للنكرة نحو «مررت برجل قعد ، وغلام قام» فينبغي أن يجوز أن يقع حالا للمعرفة نحو «مررت بالرّجل قعد ، وبالغلام قام» وما أشبه ذلك.

والذي يدلّ على ذلك أنا أجمعنا على أنه يجوز أن يقام الفعل الماضي مقام الفعل المستقبل ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١١٦] أي : يقول ، وإذا جاز أن يقام الماضي مقام المستقبل جاز أن يقام مقام الحال.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقع حالا وذلك لوجهين ؛ أحدهما : أن الفعل الماضي لا يدل على الحال ؛ فينبغي أن لا يقوم مقامه ، والوجه الثاني : أنه إنما يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح أن يقال فيه «الآن» أو «السّاعة» نحو : «مررت بزيد يضرب ، ونظرت إلى عمرو يكتب» ؛ لأنه يحسن أن يقترن به الآن أو الساعة ، وهذا لا يصلح في الماضي ، فينبغي أن لا يكون حالا ؛ ولهذا لم يجز أن يقال : «ما زال زيد قام ، وليس زيد قام» لأن «ما زال ، وليس» يطلبان الحال ، و «قام» فعل ماض ؛ فلو جاز أن يقع حالا لوجب أن يكون هذا جائزا ؛ فلما لم يجز دل على أن الفعل الماضي لا يجوز أن يقع حالا ، وكذلك لو قلت «زيد خلفك قام» لم يجز أن يجعل «قام» في موضع الحال ؛ لما بيّنا ، ولا يلزم على كلامنا إذا كان مع الماضي «قد» حيث يجوز أن يكون حالا نحو «مررت بزيد قد قام» وذلك لأن «قد» تقرب الماضي من الحال ، فجاز أن يقع معها حالا ، ولهذا يجوز أن يقترن به الآن أو الساعة فيقال : «قد قام الآن ، أو الساعة» فدلّ على ما قلناه.

وأما الجواب [١١٥] عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] فلا حجة لهم فيه ، وذلك من أربعة أوجه ؛

______________________________________________________

الجملة الفعلية التي فعلها ماض حالا من غير أن يقرن الفعل بقد ، والكوفيون يستدلون بهذا البيت وما أشبهه على أنه يجوز أن يقع الفعل الماضي حالا من غير أن يقرن بقد ، فأما البصريون فيزعمون أنه لا بدّ حينئذ من اقتران الفعل الماضي بقد في اللفظ أو في التقدير ، وعلى هذا تكون «قد» مقدرة ههنا قبل الفعل ، والإنصاف أن الاستدلال بنفس الكلام الوارد عن العرب ، وقد رأينا أن فصحاءهم يجيئون بالفعل الماضي حالا غير مقرون بقد ، فأما التقدير فلا دليل عليه.

٢٠٦

الوجه الأول : أن تكون صفة لقوم المجرور في أول الآية ، وهو قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ) [النساء : ٩٠]. والوجه الثاني : أن تكون صفة لقوم مقدر ويكون التقدير فيه : أو جاؤوكم قوما حصرت صدورهم ، والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف جاز أن يقع حالا بالإجماع. والوجه الثالث : أن يكون خبرا بعد خبر ، كأنه قال : أو جاؤوكم ، ثم أخبر فقال : حصرت صدورهم. والوجه الرابع : أن يكون محمولا على الدعاء ، لا على الحال ، كأنه قال : ضيّق الله صدورهم ، كما يقال : جاءني فلان وسّع الله رزقه ، وأحسن إليّ غفر الله له ، وسرق قطع الله يده ، وما أشبه ذلك ؛ فاللفظ في ذلك كله لفظ الماضي ومعناه الدعاء ، وهذا كثير في كلامهم قال الشاعر :

[١٥٣] ألا يا سيالات الدّحائل بالضّحى

عليكنّ من بين السّيال سلام

ولا زال منهلّ الرّبيع إذا جرى

عليكنّ منه وابل ورهام

فأتى بالفعل الماضي ومعناه الدعاء ؛ وقال قيس بن ذريح :

[١٥٤] ألا يا غراب البين قد هجت لوعة

فويحك خبّرني بما أنت تصرخ

______________________________________________________

[١٥٣] السيالات : جمع سيالة ـ بفتح السين المهملة فيهما ـ والسيالة أيضا واحدة السيال ، والسيال : شجر سبط الأغصان عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا العذارى ، وقال أبو زياد : السيال ما طال من السمر ، والدحائل : جمع دحول ، والدحول : جمع دحل ـ بفتح الدال وسكون الحاء المهملة ، بزنة كنز وكنوز ـ والدحل : نقب فمه ضيق ثم يتسع أسفله حتى يمشي فيه ، وربما أنبت السدر ، وفي نظيره يقول ذو الرمة :

إذا شئت أبكاني لجرعاء مالك

إلى الدحل مستبدي لميّ ومحضر

ومنهل الربيع : أراد به منسكب المطر ، والوابل : المطر الكثير ، والرهام : جمع رهمة ـ بكسر الراء وسكون الهاء ـ وهو المطر الضعيف الدائم الصغير القطر. والاستشهاد بالبيتين في قوله «عليكن سلام» وقوله «ولا زال منهل الربيع ـ الخ» فإن هاتين الجملتين خبريتان لفظا ، والمقصود من كل واحدة منهما إنشاء الدعاء ، وذلك ظاهر بأدنى تأمل.

[١٥٤] البين : الفراق ، وغراب البين : هذا من بعض قولهم في زجر الطير ، كانوا يزعمون أن نعيب الغراب مؤذن بتفرق شملهم ، وفي هذا يقول النابغة الذبياني :

زعم البوارح أن رحلتنا غدا

وبذاك تنعاب الغراب الأسود

لا مرحبا بغد ، ولا أهلا به

إن كان تفريق الأحبة في غد

وهجت : أثرت وحركت ، واللوعة : حرقة الباطن من عشق أو نحوه ، ويفضخ ـ بالبناء للمجهول ـ يكسر ، ومشدخ ـ بزنة مكرم ـ مكسور ، وكان من حق العربية عليه أن يقول «مشدوخ» بزنة اسم المفعول من الثلاثي ، فإنه يقال «شدخه يشدخه شدخا ـ مثل قطعه يقطعه قطعا» والشدخ : الكسر والتهشيم ، وقوله «وأبصرت قبل الموت ـ الخ البيت» دعا

٢٠٧

أبالبين من لبنى؟ فإن كنت صادقا

فلا زال عظم من جناحك يفضخ

ولا زلت من عذب المياه منفّرا

ووكرك مهدوم وبيضك مشدخ

ولا زال رام قد أصابك سهمه

فلا أنت في أمن ولا أنت تفرخ

وأبصرت قبل الموت لحمك منضجا

على حرّ جمر النّار يشوى ويطبخ

وقال معدان بن جوّاس الكندي :

[١٥٥] إن كان ما بلّغت عنّي فلامني

صديقي ، وشلّت من يديّ الأنامل

وكفّنت وحدي منذرا في ردائه

وصادف حوطا من أعاديّ قاتل

فأتى بالفعل الماضي في هذه المواضع ومعناه الدعاء. فكذلك قوله تعالى : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] لفظه لفظ الماضي ومعناه الدعاء ، ومعناه من الله تعالى إيجاب ذلك عليهم.

وأما قول الشاعر :

[١١٦] * كما انتفض العصفور بلّله القطر* [١٥٢]

فإنما جاز ذلك لأن التقدير فيه : قد بلّله القطر ، إلا أنه حذف لضرورة الشعر ، فلما كانت «قد» مقدرة تنزّلت منزلة الملفوظ بها ، ولا خلاف أنه إذا كان مع الفعل الماضي «قد» فإنه يجوز أن يقع حالا.

وأما قولهم «إنه يصلح أن يكون صفة للنكرة ، فصلح أن يقع حالا ، نحو «قاعد ، وقائم» قلنا : هذا فاسد ؛ لأنه إنما جاز أن يقع نحو قاعد وقائم حالا لأنه

______________________________________________________

على الغراب بأن يحترق بالنار ولنفسه بأن يتمتع برؤية ذلك قبل أن يموت؟ والاستشهاد بهذه الأبيات في أغلب جملها ، فإنها خبرية لفظا إنشائية معنى ؛ لأن المقصود بها الدعاء ، وهذا في غاية الظهور.

[١٥٥] شلت أنامله : يبست أو فسدت ، ومثل هذا البيت قول الآخر :

فشلت يميني يوم أعلو ابن جعفر

وشل بناناها ، وشل الخناصر

و «كفنت وحدي منذرا ـ الخ» يقول : أصبحت فريدا لا معين لي على القيام بواجب تجهيزه وأصبحت فقيرا لا أملك ما أكفنه فيه غير ردائه ، أو يكون المعنى : قتله أعداؤه وليس معه غيري وأعجلت عن تكفينه حسب العادة. والاستشهاد بالبيتين في أربع جمل : أولاها : قوله «فلامني صديقي» والثانية : قوله «وشلت ـ الخ» والثالثة : قوله «وكفنت ـ الخ» والرابعة :

قوله «وصادف حوطا ـ الخ» فإن كل واحدة من هذه الجمل خبرية لفظا إنشائية معنى ؛ لأن المقصود بها الدعاء ، ونظير ذلك قول النابغة :

لئن كان ما بلغت عني صادقا

فلا رفعت سوطي إلى إذن يدي

٢٠٨

اسم فاعل ، واسم الفاعل يراد به الحال ، بخلاف الفعل الماضي فإنه لا يراد به الحال فلم يجز أن يقع حالا.

وأما قولهم «إنه يجوز أن يقوم الماضي مقام المستقبل ، وإذا جاز أن يقوم مقام المستقبل جاز أن يقوم مقام الحال» قلنا : هذا لا يستقيم ، وذلك لأن الماضي إنما يقوم مقام المستقبل في بعض المواضع على خلاف الأصل بدليل يدل عليه كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١١٦] فلا يجوز فيما عداه ؛ لأنّا بقينا فيه على الأصل ، كما أنه يجوز أن يقع الماضي في بعض المواضع حالا لدليل يدل عليه ، وذلك إذا دخلت عليه «قد» أو كان وصفا لمحذوف ، ولم يجز فيما عداه ؛ لأنّا بقينا فيه على الأصل. على أنّا نقول : ليس من ضرورة أن يجوز أن يقام الماضي مقام المستقبل ينبغي أن يقام مقام الحال ؛ لأن المستقبل فعل كما أن الماضي فعل ، فجنس الفعلية مشتمل عليهما ، وأما الحال فهي اسم ؛ وليس من ضرورة أن يقام الفعل مقام الفعل يجب أن يقوم مقام الاسم ، والله أعلم.

٢٠٩

٣٣

مسألة

[ما يجوز من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية إذا وجد معها ظرف مكرر]

ذهب الكوفيون إلى أن النّصب واجب في الصفة إذا كرر الظرف التام وهو خبر المبتدأ ، وذلك نحو قولك : «في الدّار زيد قائما فيها». وذهب البصريون إلى أن النصب لا يجب إذا كرر الظرف وهو خبر المبتدأ ، بل يجوز فيه الرفع كما يجوز فيه النصب. وأجمعوا على أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب.

أما الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على [١١٧] أنّ النصب واجب النقل والقياس :

أما النقل فقد قال الله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود : ١٠٨] فقوله تعالى : (خالِدِينَ) منصوب بالحال ، ولا يجوز غيره. وقال تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : ١٧] ووجه الدليل من هاتين الآيتين أن القرّاء أجمعوا فيهما على النصب ، ولم يرو عن أحد منهم أنه قرأ في واحدة منهما بالرفع.

وأما القياس فقالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز إلا النصب ، وذلك لأن الفائدة في الظرف الثاني في قولك : «في الدار زيد قائما فيها» إنما تحصل إذا حملناه على النصب ، لا إذا حملناه على الرفع ، ألا ترى أنه إذا حملناه على النصب يكون الظرف الأول خبرا للمبتدأ ، ويكون الثاني ظرفا للحال ، ويكون الصّلة لقائم منقطعا عما قبله ؛ فيكون على هذا كلاما مستقيما لم يلغ منه شيء ، بخلاف ما إذا حملناه على الرفع فقلنا «في الدّار زيد قائم فيها» فإنه تبطل فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة ، وحمل الكلام على ما فيه فائدة أشبه بالحكمة من حمله على ما ليس فيه فائدة.

وأما البصريون فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أن الرفع جائز أنّا أجمعنا على

٢١٠

أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب ، فكذلك إذا كرر ؛ لأن قصارى ما نقدر أن يكون مانعا تكرّر الظرف ؛ لأن «في» الأولى تفيد ما تفيده الثانية ، وهذا لا يصلح أن يكون مانعا ، لأن الأولى وإن كانت تفيد ما تفيده الثانية إلا أن الثانية تذكر على سبيل التوكيد ، والتوكيد شائع في كلام العرب مستعمل في لغتهم ، وهذا لا خلاف فيه ، وصار هذا كقولهم «فيك زيد راغب فيك» ولا شك أن «فيك» الأولى تفيد ما تفيده الثانية ، ومع هذا لم يمتنع صحة المسألة ، فكذلك هاهنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود : ١٠٨] وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : ١٧] فلا حجّة لهم في هاتين الآيتين ؛ إذ ليس فيهما ما يدل على أنه لا يجوز الرفع ، وإنما فيهما دلالة على جواز النصب ، ونحن نقول به.

وقولهم : «إنه لم يرو عن أحد من القراء بالرفع فوجب أنه لا يجوز» قلنا : لا نسلم ؛ فإنه قد روي عن الأعمش أنه قرأ خالدون فيها بالرفع ، على أن هذا الاستدلال [١١٨] فاسد ، وذلك لأنه ليس من ضرورة أنه لم يقرأ به أحد من القراء أن لا يكون كلاما جائزا فصيحا. ألا ترى أنه لم يأت في كتاب الله عزوجل ترك عمل «ما» في المبتدأ والخبر نحو «ما زيد قائم ، وما عمرو ذاهب» إلا فيما ليس بمشهور ، وإن كانت لغة مشهورة معروفة صحيحة فصيحة وهي لغة بني تميم ، ثم لم يدل ذلك على أنها ليست فصيحة مشهورة مستعملة؟ فكذلك هاهنا.

وأما قولهم «إنّا لو حملناه على الرفع لأدى ذلك إلى أن تبطل فائدة الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه وإن كانت الأولى تفيد ما تفيده الثانية إلا أن ذلك لا يدل على بطلان فائدة الثانية ؛ لأن من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره ؛ فيقولون «لقيت زيدا زيدا ، وضربت عمرا عمرا» فيكون المكرر توكيدا للأول ، وإن كان الأول قد وقعت به الفائدة ، وقد قال الله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [هود : ١٩] فهم الثانية تكرير للتوكيد ، والتقدير : وهم بالآخرة كافرون ، في أحد الوجهين ، ومع هذا فلا يقال إنه لا يجوز ، فكذلك ها هنا ، ومن تدبر سورة (الرحمن) و (قل يا أيها الكافرون) علم قطعا أن التكرير للتوكيد لا ينكر في كلامهم ؛ لما فيه من الفائدة ، وكثرة ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب ، وشهرته في استعمالهم ، تغني عن الإسهاب والتطويل بالشواهد ؛ إذ كان ذلك أكثر من أن يحصى ، وأشهر من أن يظهر ، والله أعلم.

٢١١

٣٤

مسألة

[القول في العامل في المستثنى النّصب](١)

اختلف مذهب الكوفيين في العامل في المستثنى النّصب نحو «قام القوم إلا زيدا» فذهب بعضهم إلى أن العامل فيه «إلا» ، وإليه ذهب أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد وأبو إسحاق الزجاج من البصريين ، وذهب الفراء ومن تابعه من الكوفيين ـ وهو المشهور من مذهبهم ـ إلى أن «إلا» مركبة من إنّ ولا ، ثم خففت إنّ وأدغمت في لا ، فنصبوا بها في الإيجاب اعتبارا بإنّ ، وعطفوا بها في النفي اعتبارا بلا ، وحكي عن الكسائي أنه قال : إنما نصب المستثنى [١١٩] لأن تأويله : قام القوم إلا أن زيدا لم يقم ، وحكي عنه أيضا أنه قال : ينتصب المستثنى لأنه مشبه بالمفعول. وذهب البصريون إلى أن العامل في المستثنى هو الفعل ، أو معنى الفعل بتوسّط إلا.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنّ «إلّا» هي العامل وذلك لأن إلّا قامت مقام أستثني ، ألا ترى أنك إذا قلت «قام القوم إلا زيدا» كان المعنى فيه : أستثني زيدا ، ولو قلت «أستثني زيدا» لوجب أن تنصب ، فكذلك مع ما قام مقامه.

والذي يدل على أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يكون عاملا في المستثنى النصب أنه فعل لازم. والفعل اللازم لا يجوز أن يعمل في هذا النوع من الأسماء ؛ فدلّ على أن العامل هو «إلّا» على ما بيّنا.

والذي يدل أيضا على أن الفعل ليس عاملا قولهم «القوم إخوانك إلا زيدا» فينصبون زيدا ، وليس هاهنا فعل ألبتة ؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه.

وأما الفرّاء فتمسك بأن قال : إنما قلنا إنه منصوب بإلّا لأن الأصل فيها إنّ ولا ؛

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : حاشية الصبان على الأشموني (٢ / ١٢٥) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (١ / ٤٢١ بولاق) وشرح الرضي على الكافية (١ / ٢٠٧) وأسرار العربية للمؤلف (ص ٨١ ليدن) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ٢٥٩ ليبزج).

٢١٢

فزيد : اسم إن ، ولا : كفت من الخبر ؛ لأن التأويل : إن زيدا لم يقم ، ثم خففت إنّ وأدغمت في لا وركبت معها فصارتا حرفا واحدا ، كما ركبت لو مع لا وجعلا حرفا واحدا ؛ فلما ركبوا إنّ مع لا أعملوها عملين : عمل إنّ فنصبوا بها في الإيجاب ، وعمل لا فجعلوها عطفا في النفي ، وصارت بمنزلة حتى ، فإنها لما شابهت حرفين إلى والواو أجروها في العمل مجراهما ، فخفضوا بها بتأويل إلى ، وجعلوها كالواو في العطف ؛ لأن الفعل يحسن بعدها كما يحسن بعد الواو ، ألا ترى أنك تقول «ضربت القوم حتى زيد» أي حتى انتهيت إلى زيد ، و «ضربت القوم حتّى زيدا» أي حتى ضربت زيدا ، فكذلك هاهنا : إلّا لمّا ركبت من حرفين أجريت في العمل مجراهما على ما بيّنا.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان فعلا لازما في الأصل إلا أنه قوي بإلّا فتعدّي إلى المستثنى كما تعدى الفعل بحرف الجر ، إلا أن «إلّا» لا تعمل وإن كانت معدّية كما يعمل حرف الجر ؛ لأن «إلا» حرف يدخل على الاسم والفعل المضارع ، نحو «ما زيد إلا يقوم ، وما عمرو إلا يذهب» وإن لم يجز دخوله [١٢٠] على الفعل الماضي نحو «ما زيد إلا قام ، وما عمرو إلا ذهب» والحرف متى دخل على الاسم والفعل لم يعمل في واحد منهما ، وعدم العمل لا يدل على عدم التعدية ، ألا ترى أن الهمزة والتضعيف يعدّيان وليسا عاملين ، ونظير ما نحن فيه نصبهم الاسم في باب المفعول معه نحو «استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطّيالسة» فإن الاسم نصب بالفعل المتقدم بتقوية الواو فإنها قوّت الفعل فأوصلته إلى الاسم فنصبه ؛ فكذلك هاهنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن إلّا قامت مقام أستثني فينبغي أن تعمل عمله» قلنا : الجواب عن هذا من خمسة أوجه :

الوجه الأول : أن هذا يؤدي إلى إعمال معاني الحروف ؛ وإعمال معاني الحروف لا يجوز ، ألا ترى أنك تقول «ما زيد قائما» فيكون صحيحا ؛ فلو قلت «ما زيدا قائما» على معنى نفيت زيدا قائما لكان فاسدا ؛ فكذلك هاهنا ، وإنما لم يجز إعمال معاني الحروف لأن الحروف إنما وضعت نائبة عن الأفعال طلبا للإيجاز والاختصار ؛ فإذا أعملت معاني الحروف فقد رجعت إلى الأفعال ، فأبطلت ذلك المعنى من الإيجاز والاختصار.

والوجه الثاني : أنه لو كان العامل «إلا» بمعنى أستثني لوجب أن لا يجوز في المستثنى إلا النصب ، ولا خلاف في جواز الرفع والجر في النفي نحو «ما جاءني أحد إلا زيد ، وما مررت بأحد إلا زيد» فدل على أنها ليست هي العاملة بمعنى أستثني.

٢١٣

والوجه الثالث : أنه يبطل بقولك «قام القوم غير زيد» فإن «غير» منصوب ، ولا يخلو : إما أن يكون منصوبا بتقدير إلا ، وإما أن يكون منصوبا بنفسه ، وإما أن يكون منصوبا بالفعل الذي قبله ؛ بطل أن يقال «إنه منصوب بتقدير إلا» لأنا لو قدرنا إلا لفسد المعنى ؛ لأنه يصير التقدير فيه : قام القوم إلا غير زيد ، وهذا فاسد ، وبطل أيضا أن يقال «إنه يعمل في نفسه» ؛ فوجب أن يكون العامل هو الفعل المتقدم ، وإنما جاز أن يعمل فيه وإن كان لازما لأن «غير» موضوعة على الإبهام ، ألا ترى أنك إذا قلت «مررت برجل غيرك» كان كل من جاوز المخاطب داخلا تحت «غير» فلما كان فيه هذا الإبهام المفرط أشبه الظروف المبهمة ، نحو خلف وأمام ووراء وقدّام ، وما أشبه ذلك ، وكما [١٢١] أن الفعل اللازم يتعدى إلى هذه الظروف من غير واسطة فكذلك هاهنا.

والوجه الرابع : أنا نقول لماذا قدرتم أستثني زيدا فنصبتم؟ وهلا قدرتم امتنع فرفعتم! كما روي عن أبي علي الفارسي أنه كان مع عضد الدولة في الميدان فسأله عضد الدولة عن المستثنى ، بماذا انتصب؟ فقال له أبو علي : انتصب لأن التقدير أستثني زيدا ، فقال له عضد الدولة : وهلا قدرت امتنع فرفعت زيدا ، فقال له أبو علي : هذا الجواب الذي ذكرت لك ميداني (١) ، وإذا رجعنا ذكرت لك الجواب الصحيح ، إن شاء الله تعالى.

والوجه الخامس : أنّا إذا أعملنا «إلا» بمعنى أستثني كان الكلام جملتين ، وإذا أعملنا الفعل كان الكلام جملة واحدة ، ومتى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة كان أولى من جعله جملتين من غير فائدة.

وأما قولهم «إن الفعل المتقدّم لازم فلا يجوز أن يكون عاملا» قلنا : هذا الفعل وإن كان لازما إلا أنه تعدى بتقوية «إلّا» على ما بيّنا.

وأما قولهم «والذي يدل على أن الفعل ليس عاملا قولهم : القوم إخوانك إلا زيدا ؛ فينصبون زيدا ، وليس هاهنا فعل ناصب» قلنا : الناصب له ما في إخوانك من معنى الفعل ؛ لأن التقدير فيه : القوم يصادقونك إلا زيدا ؛ فإلّا قوت الفعل المقدر فأوصلته إلى زيد فنصبه.

وأما قول الفراء «إنّ الأصل فيها إن ولا ، ثم خففت إنّ وركبت مع لا» فمجرد دعوى يفتقر إلى دليل ، ولا يمكن الوقوف عليه إلا بوحي وتنزيل ، وليس

__________________

(١) يريد أن هذا الجواب سريع غير مبني على الدقة التي تحتمل النقاش ، وهو لذلك غير مطرد ولا منعكس.

٢١٤

إلى ذلك سبيل ، ثم لو كان كما زعم لوجب أن لا تعمل ؛ لأن إنّ الثّقيلة إذا خففت بطل عملها ، خصوصا على مذهبكم ، وأما تشبيهه لها بلولا فحجة عليه ؛ لأن لو لما ركبت مع لا بطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد ، وحدث لهما بالتركيب حكم آخر ، وكذلك كل حرفين ركب أحدهما مع الآخر ؛ فإنه يبطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد ، ويحدث لهما بالتركيب حكم آخر ، وصار هذا بمنزلة الأدوية المركبة من أشياء مختلفة فإنه يبطل حكم كل واحد منها عما كان عليه في حالة الإفراد ، ويحدث لها بالتركيب حكم آخر ، وهو لا يقول في «إلّا» كذلك ، بل يزعم أن كل واحد من الحرفين باق على أصله وعمله بعد التركيب كما كان [١٢٢] قبل التركيب. وأما تشبيهه لها بحتى فبعيد ؛ لأن «حتى» حرف واحد ، وليس بمركب من حرفين فيعمل عمل الحرفين ، وإنما هو حرف واحد يتأول تأويل حرفين في حالين مختلفين : فإن ذهب به مذهب حرف الجر لم يتوهم فيه غيره ، وإن ذهب به مذهب حرف العطف لم يتوهم فيه غيره ، بخلاف «إلّا» فإن إلّا عنده مركبة من إنّ ولا ، وهما منطوق بهما ، فإذا اعتمد على أحدهما بطل عمل الآخر وهو منطوق به ، فبان الفرق بينهما.

والذي يدل على فساد ما ذهب إليه قولهم «ما قال إلّا له» فإن «له» لا شيء قبله يعطف عليه ، وليس في الكلام منصوب فتكون «إلا» عاملة فيه ؛ فدل على فساد ما ذهب إليه.

وأما قول الكسائي «إنّا نصبنا المستثنى لأن تأويله إلا أنّ زيدا لم يقم» قلنا : لا يخلو إما أن يكون الموجب للنصب هو أنه لم يفعل ، أو أنّ ، فإن أراد أن الموجب للنصب أنه لم يفعل فيبطل بقولهم «قام زيد لا عمرو (١)» وإن أراد أن أنّ هي الموجبة للنصب كان اسمها وخبرها في تقدير اسم ، فلا بد أن يقدّر له عامل يعمل فيه ، وفيه وقع الخلاف.

وقد زعم بعض النحويين أن قول الكسائي تقدير لمعنى الكلام لا لعامله ، وإلا فقوله يرجع إلى قول البصريين.

وأما ما حكي عنه من أن المستثنى ينتصب لأنه مشبه بالمفعول ؛ فهو أيضا قريب من قول البصريين ؛ لأنه لا عامل هاهنا يوجب النصب إلا الفعل المتقدم على ما بيّنا ، والله أعلم.

__________________

(١) يريد أن عمرا في هذا المثال لم يفعل القيام ، ولم ينصب ، فلا يكون كونه لم يفعل عاملا النصب ، فتأمل ذلك.

٢١٥

٣٥

مسألة

[هل تكون «إلا» بمعنى الواو]؟ (١)

ذهب الكوفيون إلى أن «إلا» تكون بمعنى الواو. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لمجيئه كثيرا في كتاب الله تعالى وكلام العرب ، قال الله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] أي ولا الذين ظلموا ، يعني والذين ظلموا لا يكون لهم أيضا حجة ، ويؤيد ذلك ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعض القراء أنه قرأ : (إلى الّذين ظلموا) مخففا يعني مع الّذين ظلموا منهم ، كما [١٢٣] قال تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] أي مع المرافق ومع الكعبين ، وكما قال تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢] أي مع الله ، وكما قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] أي مع أموالكم ، وكقولهم في المثل : «الذّود إلى الذّود إبل» أي مع الذود ، وكقول ابن مفرّغ :

[١٥٦]شدخت غرّة السّوابق فيهم

في وجوه إلى اللّمام الجعاد

______________________________________________________

[١٥٦] هذا البيت من كلام ابن مفرغ الحميري ، واسمه يزيد بن ربيعة ، وقد روى ابن منظور هذا البيت في اللسان مرتين ، أولاهما : في (ش د خ) وقال قبل إنشاده «وقال الراجز» وهذا سبق قلم منه ؛ فإن البيت من الخفيف ، وليس رجزا ، وثانيتهما : في (ل م م) ونسبه إلى ابن مفرغ. وشدخت : أي اتسعت في الوجه ، قال أبو عبيدة : «يقال لغرة الفرس إذا كانت مستديرة : وتيرة ، فإذا سالت وطالت فهي شادخة» اه. والغرة ـ بضم الغين وتشديد الراء ـ بياض في جبهة الفرس ، والسوابق : جمع سابق ، وأصله الفرس يأتي في الحلبة سابقا ،

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : مغني اللبيب (ص ٧٣ بتحقيقنا) وحاشية الصبان على الأشموني (٢ / ١٢٧ بولاق) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (١ / ٤٢٢ بولاق) وشرح الرضي على الكافية (١ / ٢١٣).

٢١٦

أي مع اللّمام ، وقال ذو الرّمّة :

[١٥٧]* بها كلّ خوّار إلى كلّ صعلة*

أي مع كل صعلة ، وقال تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] أي ومن ظلم لا يحب أيضا الجهر بالسوء (١) منه ، إلى غير ذلك من المواضع ثم قال الشاعر :

[١٥٨] وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان

______________________________________________________

واللّمام : جمع لمّة ، وتجمع أيضا على لمم ـ بكسر اللام في المفرد وفي جميعه ـ واللمة : الشعر إذا نزل من الرأس فجاوز شحمة الأذن ، وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرس يقال له : ذو اللمة ، والجعاد : جمع جعدة ـ بفتح فسكون ـ وهي أنثى الجعد ، والجعد : ضد السبط ، والسبط : المسترسل من الشعر ، وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب ، وعلى هذا يمدح الرجل بأنه جعد الشعر ، تعني أنه عربي ، فإذا أردت أن شعره مفلفل كشعر الزنج كان ذما. والاستشهاد بالبيت في قوله «إلى اللمام» فإن إلى ههنا تدل على معنى مع ، وأقوى ما يدل على ذلك أن الرواية في اللسان (ل م م) «مع اللمام الجعاد» وإذا جاءت كلمة في إحدى الروايات مكان كلمة في رواية أخرى دل ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد.

[١٥٧] هذا صدر بيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وعجزه قوله :

* ضهول ورفض المذرعات القراهب*

وقد أنشد ابن منظور هذا البيت في اللسان (ص ع ل ـ ض ه ل) ونسبه إلى ذي الرمة ، ثم قال «قال ابن بري : الصعلة النعامة ، والخوار : الثور الوحشي الذي له خوار ـ وهو صوته ـ وضهول : تذهب وترجع ، والمذرعات من البقر : التي معها أولادها ، والقراهب : جمع قرهب ـ بوزن جعفر ـ وهو المسن مطلقا ، ويقال : الكبير الضخم من الثيران ، والقرهب أيضا : السيد ، والاستشهاد بالبيت في قوله «إلى كل صعلة» فإن إلى في هذا الموضع تدل على معنى مع ، وهو ظاهر إن شاء الله.

[١٥٨] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ٣٨١) وقد نسبه إلى عمرو بن معديكرب ، وقال الأعلم «ويروى لسوار بن المضرب» اه ، وأنشده الجاحظ في البيان (١ / ٢٢٨) منسوبا إلى عمرو ، والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٤٥٣) ومغني اللبيب (رقم ١٠٨) ورضي الدين في شرح الكافية في باب الاستثناء ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٥٢ بولاق). وقال : إن هذا البيت يروى في شعرين لشاعرين ، أحدهما : عمرو بن معديكرب ، والثاني : حضرمي بن عامر أحد بني أسد ، واستشهد به أيضا موفق الدين بن يعيش في شرح

__________________

(١) الأشهر في تفسير هذه الآية أن «إلا» فيها استثنائية ، واستمع إلى جار الله يقول : «إلا من ظلم ، أي إلا جهر من ظلم ، استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم ، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء ، وقيل : هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم» اه.

٢١٧

أي والفرقدان ، والشواهد على هذا في أشعارهم كثيرة جدا.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن «إلّا» لا تكون بمعنى الواو لأنّ إلا للاستثناء ، والاستثناء يقتضي إخراج الثاني من حكم الأول ، والواو للجمع ، والجمع يقتضي إدخال الثاني في حكم الأول ؛ فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة : ١٥٠] فلا حجّة لهم فيه ؛ لأن «إلا» هاهنا استثناء منقطع ، والمعنى : لكن الذين ظلموا يحتجّون عليكم بغير حجّة ، والاستثناء المنقطع كثير في كتاب الله تعالى وكلام العرب ، قال الله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧] معناه لكن يتبعون الظن ، وقال تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ، إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠] معناه لكن يبتغي وجه ربّه الأعلى ، وقال تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥ ، ٦] معناه لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر ، ثم قال النابغة :

[١٥٩] [١٢٤] وقفت فيها أصيلا لا أسائلها

أعيت جوابا ، وما بالرّبع من أحد

______________________________________________________

المفصل (ص ٢٨٤) والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله «إلا الفرقدان» فإن الكوفيين زعموا أن «إلا» في هذا البيت حرف عطف بمنزلة الواو ، وكأنه قال : كل أخ مفارقه أخوه والفرقدان أيضا ، وقد حمل الشريف المرتضى في أماليه (٢ / ٨٨) على هذا المعنى قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال : إلا بمعنى الواو ، والتأويل : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض وما شاء ربك من الزيادة ، واستشهد على ذلك ببيت الشاهد ، وبقول الآخر : (وهو المخبل السعدي) :

وأرى لها دارا بأغدرة ال

سيدان لم يدرس لها رسم

إلا رمادا هامدا دفعت

عنه الرياح خوالد سحم

والمراد بإلا ههنا الواو ، وإلا كان الكلام متناقضا ، اه. والذي رآه سيبويه في بيت الشاهد ـ وسيذكره المؤلف في الرد على كلمات الكوفيين ـ أن «إلا» ههنا اسم بمعنى غير ، وهي صفة لكل ، ولهذا ارتفع ما بعدها ؛ لأن إلا التي بمعنى غير يظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية ، ومن هنا تدرك أنه لا يجوز جعل إلا صفة لأخ المضاف إليه ؛ إذ لو كانت صفة لأخ لكان ما بعدها مجرورا فكان يقول «إلا الفرقدين» كما قال الآخر :

وكل أخ مفارقه أخوه

لشحط الدار إلا ابني شمام

كما أنه لا يجوز لك أن تجعل «إلا» في بيت الشاهد استثنائية ؛ لأنها لو كانت هي الاستثنائية لكان ما بعدها منصوبا ، لأن الكلام قبلها تام موجب ، ونصب المستثنى بعد الكلام التام الموجب واجب كما تعلم.

[١٥٩] هذان البيتان من قصيدة النابغة الذبياني التي يعدونها من المعلّقات والتي مطلعها :

٢١٨

إلّا الأواريّ لأيا ما أبيّنها

والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

وقال آخر :

[١٦٠] وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلا العيس

______________________________________________________

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

والبيتان من شواهد سيبويه (١ / ٣٦٤) وشرح المفصل لابن يعيش (ص ٢٦٥) وانظر ـ مع ذلك ـ خزانة الأدب (٢ / ٧٦) وشرحنا على شرح الأشموني (الشواهد ٢١ و ١٨٠ و ٢٧١ و ٤٦٧) وقوله «أصيلالا» أصله أصيلان ـ بالنون ـ فأبدل النون لاما ، وهو إبدال غير قياسي ، والأصيلان : تصغير أصلان ، الذي هو جمع أصيل ، والأصيل : الوقت قبيل غروب الشمس ، وأعيت : عجزت وضعفت ، والأواري : جمع آرية أو آري ، وهو محبس الخيل ، وقوله «لأيا ما أبينها» يريد ما أعرفها وأتبينها إلا بعد لأي ، أي بطء والنؤي ـ بالضم ـ حفيرة تحفر حول الخيمة لتمنع تسرب المطر إليها ، والمظلومة : أراد بها الفلاة التي حفر فيها الحوض لغير إقامة ، والجلد : الصلبة ، والاستشهاد بالبيتين في قوله «إلا الأواري» فإن هذا من نوع الاستثناء المنقطع لكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه ، وهذا النوع يجوز فيه وجهان : الإبدال من المستثنى منه فيتبعه في إعرابه ، على أن تتوسع في المستثنى منه فتجعله شاملا للمستثنى ، والنصب على الاستثناء قال الأعلم : «الشاهد في قوله إلا الأواري بالنصب على الاستثناء المنقطع ؛ لأنها من غير جنس الأحدين ، والرفع جائز على البدل من الموضع ، والتقدير : وما بالربع أحد إلا الأواري ، على أن تجعل من جنس الأحدين اتساعا ومجازا» اه. وليس عجيبا أن تجعل المستثنى من هذا النوع داخلا في جنس المستثنى منه ؛ فقد جرت عادة العرب في كلامهم أن يجعلوا الشيء من جنس غير جنسه توسعا ، انظر إلى قول أبي ذؤيب الهذلي :

فإن تمس في قبر برهوة ثاويا

أنيسك أصداء القبور تصيح

فقد جعل أصداء القبور أنيسا وليست في الأصل من جنس الأنيس ، ثم انظر إلى قول ابن الأيهم التغلبي :

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرقاب

ثم انظر إلى قول عمرو بن معد يكرب :

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع

فقد جعل الضرب الوجيع تحية ، وهو في الأصل من غير جنسها.

[١٦٠] هذان بيتان من مشطور الرجز ، وهما من كلام جران العود ، واسمه عامر بن الحارث (د ٥٢) والبيتان من شواهد سيبويه (١ / ١٣٣ و ٣٦٥) وابن يعيش (ص ٢٦٥) والأشموني (رقم ٤٤٤) وأوضح المسالك (رقم ١٤٥) وشذور الذهب (رقم ١٢٥) ولميس : اسم امرأة ، واليعافير : جمع يعفور ـ بضم الياء أو فتحها ـ وهو الظبي الذي لونه لون العفر وهو التراب ، والعيس : جمع أعيس أو عيساء ، وأصلها الإبل لكنه أراد بقر الوحش ، والاستشهاد به في قوله «إلا اليعافير وإلا العيس» حيث رفع ما بعد إلا على البدل مما قبلها مع أن اليعافير والعيس ليسا من جنس الأنيس في الأصل ، ولكنه توسع فجعلهما من

٢١٩

وعلى ذلك أيضا يحمل ما احتجّوا به من قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] ؛ فإن معناه لكن المظلوم يجهر بالسوء ؛ لما يلحقه من الظلم ، فيكون في ذلك أعذر ممن يبدأ بالظلم ، وعلى ذلك أيضا يحمل قول الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان [١٥٨]

أراد لكن الفرقدان فإنهما لا يفترقان ، على زعمهم في بقاء هذه الأشياء المتأخرة إلى وقت الفناء ، ويحتمل أن تكون «إلا» في معنى غير ، ولذلك ارتفع ما بعدها ، والمعنى : كلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه ، كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] أي لو كان فيهما آلهة غير الله ، ولهذا كان ما بعدها مرفوعا ، ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل ؛ لأن البدل في الإثبات غير جائز ؛ لأن البدل يوجب إسقاط الأول ، ولا يجوز أن تكون (آلِهَةٌ) في حكم الساقط ؛ لأنك لو أسقطته لكان بمنزلة قولك : لو كان فيهما إلا الله ، وذلك لا يجوز ، ألا ترى أنك لا تقول «جاءني إلا زيد» لأن الغرض في «إلا» ـ إذا جاءت قبل تمام الكلام ـ أن تثبت بها ما نفيته ، نحو «ما جاءني إلا زيد» وليس في قوله : (لَوْ كانَ) نفي فيفتقر إلى إثبات ، ولو جاز أن يقال «جاءني إلا زيد» على إسقاط إلا مثلا حتى كأنه قيل جاءني زيد و «إلا» مزيد لاستحال ذلك في الآية ؛ لأنه كان يصير قولك «لو كان فيهما إلا الله» بمنزلة لو كان فيهما الله لفسدتا ، وذلك مستحيل.

وأما قراءة من قرأ : إلى الذين ظلموا منهم بالتخفيف ، فإن صحّت وسلم

______________________________________________________

جنسه ، قال سيبويه بعد أن أنشد البيت «جعلها أنيسها» يريد جعل اليعافير والعيس أنيس هذه البلدة. وقال الأعلم «الشاهد فيه رفع اليعافير والعيس بدلا من الأنيس على الاتساع والمجاز» اه. وإبدال المستثنى من المستثنى منه إذا كان في أصله من غير جنسه هو لغة بني تميم ، يجيزون فيه النصب على الاستثناء والبدلية ، أما الحجازيون فلا يجيزون فيه غير النصب على الاستثناء ، وعليه قول الأسود بن يعفر ، وهو من شعر المفضليات :

مهامها وخروقا لا أنيس بها

إلا الضوابح والأصداء والبوما

ويحتمل ذلك قول الكلحبة اليربوعي :

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى

ولا أمر للمعصي إلا مضيعا

فإنه يجوز أن يكون قوله «إلا مضيعا» استثناء مما قبله فيكون قد وضع الصفة مكان الموصوف ، وأصل الكلام : ولا أمر للمعصي إلا أمرا مضيعا ، ويجوز أن يكون «مضيعا» حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله.

٢٢٠