الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

أراد لعل. فلما وجدناهم يستعملونها عارية عن اللام في معنى إثباتها دلّنا ذلك على أنها زائدة ، ألا ترى أنا حكمنا بأن اللام في «زيدل ، وعبدل ، وأولالك» وما أشبه ذلك زائدة لأنا نقول في معناه «زيد ، وعبد ، وأولاك» وحكمنا بأن الهمزة في «النّئدلان» وهو الكابوس زائدة لأنا نقول في معناه «النيدلان» من غير همز ، وكذلك بأن النون في «عرنتن» زائدة لأنا نقول في معناه «عرتن» بغير النون الأولى ، إلى غير ذلك من الشواهد ؛ فكذلك هاهنا.

والذي يدل على أنها زائدة أن هذه الأحرف ـ نعني إنّ وأخواتها ـ إنما عملت النصب والرفع لشبه الفعل ؛ لأنّ أنّ مثل مدّ ، وليت مثل ليس ، ولكن أصلها كنّ ركبت معها لا كما ركبت لو مع لا فقيل : لكنّ ، وكأن أصلها أنّ أدخلت عليها كاف التشبيه ، فكذلك لعل أصلها علّ وزيدت عليها اللام ؛ إذ لو قلنا إن اللام أصلية في لعل لأدى ذلك إلى أن لا تكون لعلّ على وزن من أوزان الأفعال الثلاثية أو الرباعية ؛ لأن الثلاثية على ثلاثة أضرب : فعل كضرب ، وفعل كمكث ، وفعل كعلم ، وأما الرباعية فليس لها إلا وزن واحد ، وهو فعلل نحو دحرج وسرهف ، فكان يؤدي إلى أن يبطل عملها فوجب أن يحكم بزيادتها ؛ لتكون على وزن الفعل كسائر أخواتها ، فصارت بمنزلة زيادة لا والكاف في لكنّ عندكم ، فإنه إذا جاز أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكن وهما حرفان وأحدهما ليس من حروف الزيادة فلأن يجوز أن يحكم هاهنا بزيادة اللام وهي حرف من حروف الزيادة كان ذلك طريق الأولى.

والصحيح في هذه المسألة ما ذهب إليه الكوفيون.

وأما الجواب عن كلمات البصريين : أما قولهم «إنا وجدناهم يستعملونها كثيرا في كلامهم بغير لام ؛ بدليل ما أنشدوه من الأبيات» قلنا : إنما حذفت اللام من «لعلّ» كثيرا في أشعارهم لكثرتها في استعمالهم ، ولهذا [٩٨] تلعبت العرب بهذه الكلمة ، فقالوا : لعلّ ، ولعن ، ولعنّ ـ بالعين غير معجمة ـ قال الشاعر :

[١٤٠] حتّى يقول الجاهل المنطّق

لعنّ هذا معه معلّق

______________________________________________________

[١٤٠] نقل البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٦٨) تلخيص هذه المسألة عن كتاب الإنصاف ، وقد ورد ذكر هذا البيت عنده محرفا ، والمنطق ـ بزنة المعظم ـ لابس المنطقة ، والمنطقة والمنطق والنطاق : كل شيء شد الرجل به وسطه ، والمعلق ـ بزنة المعظم أيضا ـ لعله أراد به التعويذة ، وفي الحديث «من تعلق شيئا وكل إليه» ومعناه : من علق على نفسه شيئا من التعاويذ والتمائم وأشباهها معتقدا أنها تجلب إليه نفعا أو تدفع عنه ضرا لم ينظر الله إليه. والاستشهاد بالبيت في قوله «لعن» فإن هذه لغة من لغات العرب في «لعل» أبدلوا لامها الأخيرة المشددة نونا ، لكثرة ما تلعبوا بهذه الكلمة.

١٨١

ولغنّ ـ بالغين معجمة ـ وأنشدوا :

[١٤١] ألا يا صاحبيّ قفا لغنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام

ورعنّ ، وعنّ ، وغنّ ، ولغلّ ، وغلّ ؛ فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالهم حذفوا اللام لكثرة الاستعمال. وكان حذف اللام أولى من العين ـ وإن كان أبعد من الطّرف ـ لأنه لو حذف العين لأدى ذلك إلى اجتماع ثلاث لامات فيؤدي ذلك إلى الاستثقال ؛ لأجل اجتماع الأمثال ، أو لأن اللام تكون في موضع ما من حروف الزيادة وليس العين كذلك ، والذي يدل على اعتبار ذلك أنهم جوّزوا في تكسير فرزدق وتصغيره فرازق وفريزق ـ بحذف الدال ـ ولم يجوزوا في تكسير جحمرش وتصغيره : جحامش وجحيمش ـ بحذف الراء ـ لأن الدال تشبه حروف الزيادة لمجاورتها التاء ومجيئها بدلا منها في مزدان ومزدجر ، بخلاف الراء فإنها ليست كذلك ، وإذا اعتبروا ذلك فيما يقرب من حروف الزيادة وليس منها فلأن يعتبروه فيما هو من حروف الزيادة في الجملة كان ذلك من طريق الأولى ؛ فلهذا كان حذف اللام الأولى أولى.

وأما قولهم «إنا لما وجدناهم يستعملونها مع حذف اللام في معنى إثباتها دلّ على أنها زائدة كاللّام في زيدل وعبدل وأولالك» قلنا : إنما يعتبر هذا فيما يجوز أن تدخل فيه حروف الزيادة ، فأما الحروف فلا يجوز أن تدخل عليها حروف الزيادة على ما بيّنا.

وأما قولهم «إن هذه الأحرف إنما عملت لشبه الفعل في لفظه» قلنا : لا نسلم أنها عملت لشبه الفعل في لفظه فقط ، وإنما عملت لأنها أشبهته في اللفظ والمعنى ، وذلك من عدة وجوه ؛ أحدها : أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضي

______________________________________________________

[١٤١] أنشد ابن منظور هذا البيت (ل غ ن) ونسبه للفرزدق ، إلا أنه روى صدره هكذا :

قفا يا صاحبي بنا لغنا*

والبيت مطلع قصيدة للفرزدق يمدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان ، وهي ثابتة في ديوانه (٨٣٥) وفي النقائض (ص ١٠٠٤ ط ليدن) ولكن رواية البيت فيهما هكذا :

ألستم عائجين بنا لعنا

نرى العرصات أو أثر الخيام

وعائجين : عاطفين ومائلين ، والعرصات : جمع عرصة ، وهي وسط الدار ، ويقال لها أيضا : ساحة ، وباحة ، وبالة ، والخيام : جمع خيمة ، وهي بيت من خشب يظل بالثمام في المرتبع لأنها أبرد ظلالا من الأبنية ، والاستشهاد بالبيت في قوله «لغنا» فإنها لغة في «لعلنا» وقد وقعت هذه الكلمة في لسان العرب بالغين المعجمة ، وفي النقائض بالعين المهملة ، والخطب في ذلك سهل ؛ لأن الوجهين صحيحان ، وكل واحد منهما لغة.

١٨٢

الاسم ، والثاني أن فيها معنى الفعل لأن أن وإن بمعنى أكدت ، وكأن بمعنى شبهت ، ولكن بمعنى استدركت ، وليت بمعنى تمنيت ، ولعل بمعنى ترجيت ، [والثالث] أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي مبنيّ [٩٩] على الفتح ، إلى غير ذلك من الوجوه التي تقدم ذكرها قبل ، وهذه الوجوه من المشابهة بين لعل والفعل لا تبطل بأن لا تكون على وزن من أوزانه ، وهي كافية في إثبات عملها بحكم المشابهة ، على أنه قد ظهر نقصها عن سائر أخواتها لعدم كونها على وزن من أوزان الفعل وأنه لا يجوز أن تدخل عليها نون الوقاية كما يجوز في سائر أخواتها ، فلا يكاد يقال «لعلّني» كما يقال «إنّني ، وكأنّني ، ولكنّني ، وليتني» إلا أن يجيء ذلك قليلا كما قال عروة بن الورد :

[١٤٢] دعيني أطوّف في البلاد لعلّني

أفيد غنى فيه لذي الحقّ محمل

وذلك قليل.

وأما قولهم «إذا جاز لكم أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكنّ وهما حرفان فلأن يجوز أن يحكم بزيادة اللام وهي حرف واحد كان ذلك من طريق الأولى» قلنا : هذا فاسد ؛ لأنكم لا تقولون بصحة مذهبهم ، فكيف يجوز لكم أن تقيسوا عليه؟ فإن القياس على الفاسد فاسد ، وقد بيّنا فساد ما ذهبوا إليه في زيادة لا والكاف هناك كما بيّنا فساد زيادة اللام هاهنا ، وكلاهما قول باطل ، ليس له حاصل ، والله أعلم.

______________________________________________________

[١٤٢] البيت ـ كما قال المؤلف ـ لعروة بن الورد ، المعروف بعروة الصعاليك. وقوله «دعيني» معناه اتركيني ، ويروى «ذريني» وهو بمعناه ، وقوله «أطوف» أي أكثر الطواف والجولان ، ويروى في مكانه «أسير» بتشديد الياء ـ ومعناه أكثر السير ، والاستشهاد بالبيت في قوله «لعلني» حيث وصل نون الوقاية بلعل حين أراد أن يعملها في ياء المتكلم ، وقد زعم المصنف أن ذلك قليل ، وأن الكثير «لعلي» بترك النون ، وقد وردت عدة أبيات كبيت الشاهد ، من ذلك قول حاتم الطائي ، وأنشده ابن منظور (ع ل ل) :

أريني جوادا مات هزلا لعلني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

ومن ذلك قول الآخر ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٥٩) وابن عقيل (رقم ١٩) وابن الناظم في باب الضمير :

فقلت : أعيراني القدوم لعلني

أخط بها قبرا لأبيض ماجد

نعم حذف النون أعرف وأشهر ، وبه وحده ورد في القرآن الكريم ، نحو قوله تعالى :

(لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) وقوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) وقوله : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) وقوله : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى).

١٨٣

٢٧

مسألة

[القول في تقديم معمول اسم الفعل عليه](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «عليك ، ودونك ، وعندك» في الإغراء يجوز تقديم معمولاتها عليها ، نحو «زيدا عليك ، وعمرا عندك ، وبكرا دونك». وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها ، وإليه ذهب الفراء من الكوفيين.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز تقديم معمولاتها عليها النقل والقياس.

أما النقل فقد قال الله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] والتقدير فيه : عليكم كتاب الله : أي الزموا كتاب الله ، فنصب كتاب الله بعليكم ، فدل على جواز تقديمه. واحتجوا أيضا بالأبيات المشهورة :

[١٤٣]يا أيّها المائح دلوي دونكا

إني رأيت النّاس يحمدونكا

______________________________________________________

[١٤٣] هذا الشاهد قد أنشده رضي الدين في باب أسماء الأفعال ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ١٥) وأنشده ابن يعيش (ص ١٤٤) وأنشده ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٨٥٩) وفي أوضح المسالك (رقم ٤٦٤) وأنشده الأشموني (رقم ٩٣٨) وهو من كلام راجز جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم ، ونسبه الشيخ خالد لجارية من مازن ، والصواب ما قدمناه وأن الجارية روته وليس لها. والمائح ـ بالهمزة ـ هو الرجل يكون في جوف البئر يملأ الدلاء ، فإن كان وقوفه على شفير البئر ينزع الدلاء ويجذبها فهو ماتح ـ بالتاء ـ ودونكا : معناه خذ ، والاستشهاد به في قوله «دلوي دونكا» فإن ظاهره أن «دلوي» مفعول به مقدم لدونك ، وبهذا الظاهر أخذ الكسائي وجماعة من الكوفيين وبنوا عليه قاعدة حاصلها أنه يجوز تقديم معمول اسم الفعل عليه ، حملا على الفعل ؛ لأن اسم الفعل إنما عمل لكونه تضمن معنى الفعل ، والفعل يجوز تقديم معموله عليه ، ومن تمام حمل اسم الفعل على الفعل أن يجوز في اسم الفعل ما جاز في الفعل خصوصا أنه قد ورد عن العرب في مثل

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : تصريح الشيخ خالد الأزهري (٢ / ٢٥٢ بولاق) وحاشية الصبان على الأشموني (٣ / ١٧٧ بولاق) وشرح رضي الدين على الكافية (٢ / ٦٤).

١٨٤

* يثنون خيرا ويمجّدونكا*

[١٠٠] والتقدير فيه : دونك دلوي ؛ فدلوي في موضع نصب بدونك ؛ فدلّ على جواز تقديمه.

وأما القياس فقالوا : أجمعنا على أنّ هذه الألفاظ قامت مقام الفعل ، ألا ترى أنك إذا قلت «عليك زيدا» أي ألزم زيدا ، وإذا قلت «عندك عمرا» أي تناول عمرا ، وإذا قلت «دونك بكرا» أي خذ بكرا ، ولو قلت «زيدا الزم ، وعمرا تناول ، وبكرا خذ» فقدمت المفعول لكان جائزا ، فكذلك مع ما قام مقامه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها أن هذه الألفاظ فرع على الفعل في العمل ؛ لأنها إنما عملت عمله لقيامها مقامه ؛ فينبغي أن لا تتصرف تصرفه ؛ فوجب أن لا يجوز تقديم معمولاتها عليها وصار هذا كما نقول في الحال إذا كان العامل فيها غير فعل ؛ فإنه لا يجوز تقديمها عليه لعدم تصرفه ، فكذلك هاهنا ؛ إذ لو قلنا إنه يتصرّف عملها ، ويجوز تقديم معمولاتها عليها لأدّى ذلك إلى التّسوية بين الفرع والأصل ، وذلك لا يجوز ؛ لأن الفروع أبدا تنحطّ عن درجات الأصول.

______________________________________________________

هذا الشاهد ، ولم يرتض البصريون هذا ، وقالوا : إن البيت يحتمل وجوها أخرى من الإعراب ؛ منها أن يكون «دلوي» مفعولا به لفعل محذوف يفسره اسم الفعل ، ومنها أن يكون «دلوي» مبتدأ وخبره الجملة من اسم الفعل وفاعله ، والرابط ضمير منصوب بدونك محذوف ، والتقدير : دلوي دونكه ، كما تقول : دلوي خذه ، ولم يذكر المؤلف هذا التخريج لأنه لا يجيزه ، ومنها أن يكون دلوي خبر مبتدأ محذوف ، ثم قالوا : إن البيت الواحد لا تثبت به قاعدة ، فليكن هذا البيت شاذا إن لم تقبلوا تأويله.

١٨٥

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] فليس لهم فيه حجة ؛ لأن (كِتابَ اللهِ) ليس منصوبا بعليكم ، وإنما هو منصوب لأنه مصدر ، والعامل فيه فعل مقدر ، والتقدير فيه : كتب كتابا الله عليكم ، وإنما قدّر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه ، كما قال الشاعر :

[١٤٤] ما إن يمسّ الأرض إلّا منكب

منه ، وحرف السّاق ، طيّ المحمل

فقوله «طيّ المحمل» منصوب لأنه مصدر ، والعامل فيه فعل مقدّر ، والتقدير فيه : طوي طيّ المحمل ، وإنما قدر ولم يظهر لدليل ما تقدم عليه من قوله : «ما إن يمسّ الأرض إلّا منكب منه» ، فكذلك هاهنا : قدّر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] فإن فيه دلالة على أن ذلك مكتوب عليهم ؛ فلما قدر هذا الفعل ولم يظهر بقي التقدير فيه : كتابا الله عليكم ، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل كقوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] فنصب

______________________________________________________

[١٤٤] هذا البيت لأبي كبير الهذلي ، يقوله في تأبط شرا وكان أبو كبير زوج أمه يصفه بالضمور ، والبيت من شواهد سيبويه (١ / ١٨٠) والأشموني (رقم ٣٢٥) وأوضح المسالك (رقم ٢٥١) والبيت من قصيدة لأبي كبير ثابتة في شعر الهذليين (٢ / ٨٨) وقد اختار أبو تمام في أوائل ديوان الحماسة أبياتا من هذه القصيدة يقع بيت الشاهد ثامنها ، وانظر بعد ذلك خزانة الأدب للبغدادي (٣ / ٤٦٦ و ٤ / ١٦٥) و «إن» في قوله «ما إن يمس» زائدة ، ومعنى البيت : ما يمس الأرض منه ـ إذا نام ـ إلا جانبه وحرف ساقه ، وذلك لأنه مطوي ضامر غير سمين وهضيم الكشح غير ثقيل ؛ فهو لا ينبسط على الأرض ولا يضع أعضاءه كلها عليها ، والاستشهاد بالبيت في قوله «طي المحمل» حيث نصبه بعامل محذوف يدل عليه سابق الكلام ، والمؤلف رحمه‌الله يقدر هذا العامل فعلا ، وكأن الشاعر على هذا قد قال : قد طوي هذا الفتى طي المحمل ، وهو تابع في هذا لشيخ النحاة سيبويه وشراح كلامه ، قال سيبويه : «وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعد قولك له صوت ، يدلك عليه أنك لو أظهرت فعلا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولا عليه صار بمنزلة له صوت ، وذلك قوله :

* ما إن يمس الأرض ... البيت*

صار ما إن يمس الأرض بمنزلة له طي ؛ لأنه إذا ذكر ذا عرف أنه طيان» اه. وقال الأعلم : «الشاهد فيه نصب طي المحمل بإضمار فعل دل عليه ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق ؛ لأن ذلك لانطواء كشحه وضمر بطنه ، فكأنه قال : طوي طيا مثل طي المحمل ؛ فشبهه في طي كشحه وإرهاف خلقه بحمالة السيف ، وهي المحمل ، وزعم أنه إذا اضطجع نائما نبا بطنه عن الأرض ، ولم ينلها منه إلا منكبه وحرف ساقه» اه بحروفه.

١٨٦

(صُنْعَ) على المصدر بفعل مقدّر ، وإنما قدّر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم [١٠١] عليه من الكلام ، والتقدير فيه : صنع صنعا الله ، وحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الفاعل ؛ لأنه يضاف إلى الفاعل كما يضاف إلى المفعول ، وقال الراعي :

[١٤٥] دأبت إلى أن ينبت الظّلّ بعد ما

تقاصر حتّى كاد في الآل يمصح

وجيف المطايا ، ثمّ قلت لصحبتي

ولم ينزلوا : أبردتم فتروّحوا

فنصب «وجيف» على المصدر بفعل مقدّر على ما تقدم ، وأضاف المصدر إلى الفاعل ، وقال لبيد :

[١٤٦] حتّى تهجّر في الرّواح وهاجها

طلب المعقب حقّه المظلوم

______________________________________________________

[١٤٥] هذان البيتان من شواهد سيبويه (١ / ١٩١ و ١٩٢) وقد نسبهما في صدر الكتاب إلى الراعي ، وكذلك نسبهما الأعلم إليه ، ودأبت : أراد لزمت السير وجددت فيه ، ومصح الظل : أي ذهب ، والوجيف : سرعة السير ، قال الأعلم : «الشاهد فيه نصب وجيف المطايا على المصدر المؤكد لمعنى قوله دأبت ؛ لأنه بمعنى واصلت السير وأوجفت المطي ، أي سمتها الوجيف وهو سير سريع ، وصف أنه واصل السير إلى الهاجرة ثم نزل مبردا بأصحابه ثم راح سائرا ، ومعنى قوله إلى أن ينبت الظل إلى أن يأخذ في الزيادة بعد زوال الشمس وينمو ، يقال : نبت لفلان مال ، إذا نما وزاد ، والآل : الشخص ، ومعنى يمصح يذهب ، يريد عند قائم الظهيرة ، والمطايا : الرواحل ؛ لأنها تمطى أي تستعمل ظهورها ، والمطا : الظهر ، ومعنى أبردتم : دخلتم في برد العشي ، وتروحوا : سيروا رواحا» اه كلامه.

[١٤٦] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري ـ كما قال المؤلف ـ وهو في وصف حمار وحش وأتنه شبه به ناقته ، وقد أنشده الجوهري في الصحاح وابن منظور في اللسان (ع ق ب) وهو من شواهد الأشموني (رقم ٦٩٠) وأوضح المسالك (رقم ٣٦٩) وابن عقيل (رقم ٢٥٤) ورضي الدين في باب المصدر ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ٤٤١) وتهجر : سار في وقت الهاجرة وهي نصف النهار عند اشتداد الحر ، والرواح : الوقت من زوال الشمس إلى الليل ، وهاجها : أزعجها ، والضمير المستتر يعود إلى حمار الوحش ، والضمير البارز المتصل يعود إلى الأتن ، والمعقب : الذي يطلب حقه مرة عقب مرة ولا يتركه ، والاستشهاد بالبيت في قوله «طلب المعقب» فإن هذا مصدر تشبيهي منصوب على أنه مفعول مطلق مضاف إلى فاعله ، وأصل الكلام : وهاجها طالبا إياها طلبا غير منقطع مثل طلب المعقب حقه ، فأضاف المصدر إلى فاعله ثم جاء بمفعوله بعد ذلك ، بدليل أنه رفع «المظلوم» لكونه نعتا للمعقب ، وقد ورد نظير ذلك في أفصح الكلام ، في قول الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فدفع مصدر ، وقد أضيف إلى فاعله وهو لفظ الجلالة ، ثم أتى بعد ذلك بمفعوله ، وهو الناس.

ونظير هذا البيت ـ في إضافة المصدر إلى فاعله والإتيان بعد ذلك بمفعوله ـ قول ابن

١٨٧

كأنه قال : طلبا المعقب حقّه ، ثم أضاف المصدر إلى المعقب وهو فاعل بدليل أنه قال «المظلوم» بالرفع حملا للوصف على الموضع ، وإضافة المصدر إلى الفاعل أكثر من أن تحصى ، قال الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) [البقرة : ٢٥١] فأضاف المصدر إلى اسم الله تعالى وهو الفاعل ، ونحوه قولهم «ضربي زيدا قائما ، وأكثر شربي السويق ملتوتا» وقال الشاعر :

[١٤٧] فلا تكثرا لومي ؛ فإنّ أخاكما

بذكراه ليلى العامريّة مولع

فأضاف المصدر إلى الضمير في «ذكراه» وهو فاعل ، وقال الآخر :

[١٤٨]أفنى تلادي وما جمّعت من نشب

قرع القواقيز أفواه الأباريق

______________________________________________________

الإطنابة وفيه ما ذكر ثلاث مرات :

أبت لي عفتي ، وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقحامي على المكروه نفسي

وضربي هامة البطل المشيح

[١٤٧] الذكرى ـ بكسر الذال المعجمة وسكون الكاف ـ اسم مصدر بمعنى التذكر ، ويجوز أن يحمل عليه قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ومولع : هو الوصف من «أولع فلان بكذا ـ بالبناء للمجهول» إذا لج به وأغرى به ، والمصدر الإيلاع ، والاسم الولوع ـ بفتح الواو ـ والاستشهاد بهذا البيت ههنا في قوله «بذكراه ليلى العامرية» فإن الذكرى ههنا اسم مصدر يدل على معنى المصدر ويعمل عمله ، وقد أضافه الشاعر إلى فاعله وهو ضمير الغيبة المتصل العائد على الأخ ، ثم أتى بعد ذلك بمفعول المصدر ـ وهو قوله ليلى العامرية ـ ونظيره قول حسان بن ثابت الأنصاري :

لأن ثواب الله كل موحد

جنان من الفردوس فيها يخلد

فإن «ثواب» اسم مصدر بمعنى الإثابة ويعمل عمل المصدر ، وقد أضافه إلى فاعله وهو لفظ الجلالة ، وأتى بعد ذلك بمفعوله وهو قوله «كل موحد» ومن يروي «جنانا» بالنصب يجعله مفعولا ثانيا ويكون خبر «إن» محذوفا ، أي لأن ثواب الله كل موحد جنانا موصوفة بأنها من الفردوس وبأنه يخلد فيها حاصل ؛ ومن رفع «جنان» فهو خبر إن.

[١٤٨] هذا البيت من كلام الأقيشر الأسدي ، واسمه المغيرة بن عبد الله ، أحد بني عمرو بن أسد ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٦٨٨) وقد أنشده ابن منظور (ق ق ز) أول ثلاثة أبيات. والتلاد ـ بزنة الكتاب ـ كل مال ورثته عن آبائك ، ومثله التالد ، والتليد ، ويقابله الطارف والطريف ، ويقال كل منهما على ما استحدثته من المال ، والنشب ـ بفتح النون والشين جميعا ـ العقار ، أو المال الأصيل من ناطق وصامت ، والقرع : الضرب ، والقواقيز : جمع قاقوزة ، وهي القدح الذي يشرب فيه ، ويروى «القوارير» وهو جمع قارورة ، وهي الزجاجة ، ويراد بها هنا الكأس المتخذة من الزجاج ، والأباريق : جمع إبريق ، وهو ما كان له عروة ، فإن لم يكن له عروة فهو كوز ، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «قرع القواقيز أفواه» وهذه العبارة تروى بنصب «أفواه» وبرفعها ؛ فمن نصب فقد جعل القرع

١٨٨

فأضاف المصدر إلى «القواقيز» وهو فاعل فيمن روى «أفواه» منصوبا ، ومن روى «أفواه» بالرفع جعله مضافا إلى المفعول ، والشواهد على هذا النحو كثيرة جدا.

وأما البيت الذي أنشدوه :

* يا أيّها المائح دلوي دونكا* [١٤٣]

فلا حجّة لهم فيه من وجهين ؛ أحدهما : أن قوله «دلوي» ليس هو في موضع نصب ، وإنما هو في موضع رفع ؛ لأنه خبر مبتدأ مقدّر (١) ، والتقدير فيه : هذا دلوي دونكا. والثاني : أنّا نسلم (٢) أنه في موضع نصب ، ولكنه لا يكون منصوبا بدونك ، وإنما هو منصوب بتقدير فعل ؛ كأنه قال : خذ دلوي دونك ، و «دونك» مفسر لذلك الفعل المقدر.

وأما قولهم «إنها قامت مقام الفعل فيجوز تقديم معمولها [١٠٢] عليها كالفعل» قلنا : هذا فاسد ، وذلك لأن الفعل (٣) الذي قامت هذه الألفاظ مقامه يستحق في الأصل أن يعمل النصب ، وهو متصرف في نفسه فتصرّف عمله ، وأما [هذه] الألفاظ فلا تستحق في الأصل أن تعمل النصب ، وإنما أعملت لقيامها مقام الفعل ، وهي غير متصرفة في نفسها ؛ فينبغي أن لا يتصرف عملها ؛ فوجب أن لا يجوز تقديم معمولها عليها ، والله أعلم.

______________________________________________________

مصدرا مضافا إلى فاعله ثم بعد ذلك أتى بمفعوله ، ومن رفع فقد جعل الفرع مصدرا مضافا إلى مفعوله ثم أتى بعد ذلك بفاعله ، وكل من الوجهين صحيح من جهة العربية ومن جهة المعنى ؛ فقد أضيف المصدر إلى فاعله ثم أتى بمفعوله كثيرا كما في الشواهد السابقة وما أثرناه معها ، وأضيف إلى مفعوله ثم أتي بفاعله كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فإن الحج مصدر مضاف إلى مفعوله الذي هو البيت وقد جيء بعده بفاعله وهو قوله سبحانه (مَنِ اسْتَطاعَ).

ومن الأول : ـ زيادة على ما أثرناه ـ قول الشاعر ، وهو الأشجعي :

وعدت وكان الخلف منك سجية

مواعيد عرقوب أخاه بيثرب

وقد جاء في القرآن الكريم من ذلك قول الله تعالى : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) ومنه قوله سبحانه : (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ومن شواهد ذلك في اسم المصدر قول القطامي :

أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرتاعا

__________________

(١) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره الجملة من اسم الفعل وفاعله المستتر فيه وجوبا ، لكن المؤلف لا يجيز هذا الوجه ، لأن الإخبار بالجملة الإنشائية لا يصح عنده ؛ لذلك لم يذكر هذا الوجه ، وقد نبهناك إلى ذلك في شرح الشاهد.

(٢) في ر «أنا لا نسلم ـ الخ» ولا يصح مع ما بعده.

(٣) في ر «الفعل التي» وليس بشيء.

١٨٩

٢٨

مسألة

[القول في أصل الاشتقاق ، الفعل هو أو المصدر]؟ (١)

ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتق من الفعل وفرع عليه ، نحو «ضرب ضربا ، وقام قياما» وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنّ المصدر مشتق من الفعل لأن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتل لاعتلاله ، ألا ترى أنك تقول «قاوم قواما» فيصح المصدر لصحة الفعل ، وتقول «قام قياما» فيعتل لاعتلاله ؛ فلما صح لصحته واعتل لاعتلاله دل على أنه فرع عليه.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أنّ الفعل يعمل في المصدر ، ألا ترى أنك تقول «ضربت ضربا» فتنصب ضربا بضربت؟ فوجب أن يكون فرعا له ؛ لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول ؛ فوجب أن يكون المصدر فرعا على الفعل.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر يذكر تأكيدا للفعل ، ولا شك أن رتبة المؤكّد قبل رتبة المؤكّد ؛ فدل على أن الفعل أصل ، والمصدر فرع. والذي يؤيد ذلك أنا نجد أفعالا ولا مصادر لها ، خصوصا على أصلكم ، وهي نعم وبئس وعسى وليس وفعل التعجب وحبّذا ، فلو لم يكن المصدر فرعا لا أصلا لما خلا عن هذه الأفعال ؛ لاستحالة وجود الفرع من غير أصل.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل ، والفاعل (٢) وضع له فعل ويفعل ؛

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرحنا على شرح الأشموني (٢ / ٣٤١) وحاشية الصبان (٢ / ٩٦ بولاق) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (١ / ٣٩٣ بولاق) وشرح الرضي على الكافية (٢ / ١٧٨) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ١٣٥) وأسرار العربية للمؤلف (ص ٦٩ ليدن).

(٢) كذا ، ونرجح أن الأصل «والفعل وضع له ـ الخ».

١٩٠

فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلا للمصدر.

[١٠٣] قالوا : ولا يجوز أن يقال «إنّ المصدر إنما سمّي مصدرا لصدور الفعل عنه ، كما قالوا للموضع الذي تصدر عنه الإبل مصدرا لصدورها عنه» لأنّا نقول : لا نسلم ، بل سمّي مصدرا لأنه مصدور عن الفعل ، كما قالوا «مركب فاره ، ومشرب عذب» أي : مركوب فاره ، ومشروب عذب ، والمراد به المفعول ، لا الموضع ، فلا تمسّك لكم بتسميته مصدرا.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن المصدر أصل للفعل أن المصدر يدل على زمان مطلق ، والفعل يدل على زمان معين ، فكما أن المطلق أصل للمقيد ، فكذلك المصدر أصل للفعل.

وبيان ذلك أنهم لما أرادوا استعمال المصدر وجدوه يشترك في الأزمنة كلها ، لا اختصاص له بزمان دون زمان ، فلما لم يتعين لهم زمان حدوثه لعدم اختصاصه اشتقوا له من لفظه أمثلة تدل على تعين الأزمنة ، ولهذا كانت الأفعال ثلاثة : ماض ، وحاضر ، ومستقبل ؛ لأن الأزمنة ثلاثة ؛ ليختص كل فعل منها بزمان من الأزمنة الثلاثة ؛ فدل على أن المصدر أصل للفعل.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر اسم ، والاسم يقوم بنفسه ويستغني عن الفعل ، وأما الفعل فإنه لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى الاسم ، وما يستغني بنفسه ولا يفتقر إلى غيره أولى بأن يكون أصلا مما لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى غيره.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على شيئين : الحدث ، والزمان المحصل ، والمصدر يدل بصيغته على شيء واحد وهو الحدث ، وكما أن الواحد أصل الاثنين فكذلك المصدر أصل الفعل.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر له مثال واحد نحو الضّرب والقتل ، والفعل له أمثلة مختلفة ، كما أن الذهب نوع واحد ، وما يوجد منه أنواع وصور مختلفة.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على ما يدل عليه المصدر ، والمصدر لا يدل على ما يدل عليه الفعل ، ألا ترى أن «ضرب» يدل على ما يدل عليه الضّرب ، والضرب لا يدل على ما يدل عليه «ضرب» وإذا كان كذلك دلّ على أن المصدر أصل [١٠٤] والفعل فرع ؛ لأن

١٩١

الفرع لا بد أن يكون فيه الأصل ، وصار هذا كما تقول في الآنية المصوغة من الفضة فإنها تدل على الفضة ، والفضة لا تدل على الآنية ، وكما أن الآنية المصوغة من الفضة فرع عليها ومأخوذة منها فكذلك هاهنا : الفعل فرع على المصدر ومأخوذ منه.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر ليس مشتقا من الفعل أنه لو كان مشتقا منه لكان يجب أن يجري على سنن في القياس ، ولم يختلف كما لم يختلف أسماء الفاعلين والمفعولين ؛ فلما اختلف المصدر اختلاف الأجناس كالرجل والثوب والتراب والماء والزيت وسائر الأجناس دل على أنه غير مشتق من الفعل.

ومنهم من تمسك بأن قال : لو كان المصدر مشتقا من الفعل لوجب أن يدل على ما في الفعل من الحدث والزمان وعلى معنى ثالث ، كما دلت أسماء الفاعلين والمفعولين على الحدث وذات الفاعل والمفعول به (١) ؛ فلما لم يكن المصدر كذلك دل على أنه ليس مشتقا من الفعل.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر ليس مشتقا من الفعل قولهم «أكرم إكراما» بإثبات الهمزة ، ولو كان مشتقا من الفعل لوجب أن تحذف منه الهمزة كما حذفت من اسم الفاعل والمفعول نحو «مكرم ، ومكرم» لمّا كانا مشتقين منه ؛ فلما لم تحذف هاهنا كما حذفت مما هو مشتق منه دل على أنه ليس بمشتق منه.

ومنهم من تمسك بأن قال : الدليل على أن المصدر هو الأصل تسميته مصدرا ؛ فإن المصدر هو الموضع الذي يصدر عنه ، ولهذا قيل للموضع الذي تصدر عنه الإبل «مصدر» فلما سمّي مصدرا دل على أن الفعل قد صدر [عنه] وهذا دليل لا بأس به في المسألة ، وما اعترض به الكوفيون عليه في دليلهم فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء الله تعالى.

أما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتلّ لاعتلاله» قلنا : الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أن المصدر الذي لا علّة فيه ولا زيادة لا يأتي إلا صحيحا نحو «ضربته ضربا» وما أشبه ذلك ، وإنما يأتي معتلا ما كانت فيه الزيادة ، والكلام إنما وقع في أصول المصادر ، لا في فروعها.

__________________

(١) في الأصل «وذات الفعل والمفعول به» وليس بشيء.

١٩٢

الثاني : أنا [١٠٥] نقول : إنما صح لصحته واعتلّ لاعتلاله للتشاكل ، وذلك لا يدل على الأصلية (١) والفرعية ، وصار هذا كما قالوا «يعد» والأصل فيه يوعد ؛ فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، وقالوا : «أعد ، ونعد ، وتعد» والأصل فيها أوعد ونوعد وتوعد ، فحذفوا الواو ـ وإن لم تقع بين ياء وكسرة ـ حملا على يعد ، ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من يعد ، وكذلك قالوا «أكرم» والأصل فيه أأكرم ، فحذفوا إحدى الهمزتين استثقالا لاجتماعهما ، وقالوا : «نكرم ، وتكرم ، ويكرم» ، والأصل فيها : نؤكرم ، وتؤكرم ، ويؤكرم ، كما قال الشاعر :

* فإنّه أهل لأن يؤكرما* [١]

فحذفوا الهمزة ـ وإن لم يجتمع فيها (٢) همزتان ـ حملا على أكرم ؛ ليجري الباب على سنن واحد ، ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من أكرم ، فكذلك هاهنا.

والثالث : أنا نقول : يجوز أن يكون المصدر أصلا ويحمل على الفعل الذي هو فرع ، كما بنينا الفعل المضارع في فعل جماعة النسوة نحو «يضربن» حملا على «ضربن» وهو فرع ؛ لأن الفعل المستقبل قبل الماضي ، وكما قال الفراء : إنما بني الفعل الماضي على الفتح في فعل الواحد لأنه يفتح في الاثنين ، ولا شك أن الواحد أصل للاثنين ؛ فإذا جاز لكم أن تحملوا الأصل على الفرع هناك جاز لنا أن نحمل الأصل على الفرع هاهنا.

وأما قولهم «إن الفعل يعمل في المصدر ؛ فيجب أن يكون أصلا» قلنا : كونه عاملا فيه لا يدل على أنه أصل له ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أنا أجمعنا على أن الحروف والأفعال تعمل في الأسماء ؛ ولا خلاف أن الحروف والأفعال ليست أصلا للأسماء ، فكذلك هاهنا.

والثاني : أن معنى قولنا «ضرب ضربا» أي أوقع ضربا ، كقولك «ضرب زيدا» في كونهما مفعولين ، وإذا كان المعنى أوقع ضربا فلا شك أن الضرب معقول قبل إيقاعه ، مقصود إليه ، ولهذا يصح أن يؤمر به فيقال : «اضرب» وما أشبه ذلك ، فإذا ثبت أنه معقول قبل إيقاعك معلوم قبل فعلك دل على أنه قبل الفعل.

وأما قولهم : «إن المصدر يذكر تأكيدا للفعل ، ورتبة المؤكّد قبل رتبة المؤكّد» قلنا : وهذا أيضا لا يدل على الأصالة والفرعية ، ألا ترى أنك إذا قلت [١٠٦] «جاءني زيد زيد ، ورأيت زيدا زيدا ، ومررت بزيد زيد» فإن زيدا الثاني يكون

__________________

(١) في نسخة «الأصل».

(٢) «فيها» أي في الكلمة التي هي «يؤكرم».

١٩٣

توكيدا للأول في هذه المواضع كلها ، وليس مشتقا من الأول ولا فرعا عليه ، فكذلك هاهنا.

وأما قولهم «إنا نجد أفعالا ولا مصادر لها» ، قلنا : خلو تلك الأفعال التي ذكرتموها عن استعمال المصدر لا يخرج بذلك عن كونه أصلا وأن الفعل فرع عليه ؛ لأنه قد يستعمل الفرع وإن لم يستعمل الأصل ، ولا يخرج الأصل بذلك عن كونه أصلا ولا الفرع عن كونه فرعا ، ألا ترى أنهم قالوا : «طير عباديد» أي متفرقة ، فاستعملوا لفظ الجمع الذي هو فرع وإن لم يستعملوا لفظ الواحد الذي هو الأصل ، ولم يخرج بذلك الواحد أن يكون أصلا للجمع ، وكذلك أيضا قالوا : «طيرا أبابيل» قال الله تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) [الفيل : ٣] أي جماعات في تفرقة وهو جمع لا واحد له في قول الأكثرين ، وزعم بعضهم أن واحده إبّول ، وزعم بعضهم أن واحدة إبّيل ، وكلاهما مخالف لقول الأكثرين ، والظاهر أنهم جعلوا واحده إبولا وإبيلا قياسا وحملا ، لا استعمالا ونقلا ، والخلاف إنما وقع في استعمالهم لا في قياس كلامهم.

ثم نقول : ما ذكرتموه معارض بالمصادر التي لم تستعمل أفعالها ، نحو : «ويله ، وويحه ، وويهه ، وويبه ، وويسه ، وأهلا وسهلا ، ومرحبا ، وسقيا ، ورعيا ، وأفّة ، وتفّة ، وتعسا ، ونكسا ، وبؤسا ، وبعدا ، وسحقا ، وجوعا ، ونوعا ، وجدعا ، وعقرا ، وخيبة ، ودفرا ، وتبّا ، وبهرا».

قال ابن ميادة :

[١٤٩] تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي

بجارية ، بهرا لهم بعدها بهرا

______________________________________________________

[١٤٩] هذا البيت من كلام ابن ميادة ، واسمه الرماح بن أبرد ـ كما قال المؤلف ـ وقد أنشده ابن منظور (ف ق د ـ ب ه ر) ونسبه إليه في المرتين ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٥٧) وتفاقد قومي : يريد فقد بعضهم بعضا ، وقد اختلف أهل اللغة في تفسير قوله «بهرا» فقال قوم : أراد خيبة لهم ، وقيل : أراد تعسا لهم ، وقيل : معناه غلبة لهم وقهرا ، أي غلبوا وقهروا ، قال الأعلم : «يقول : فقد بعض قومي بعضا حيث لم يعينوني على جارية شغفت بحبها ، وعرضوني لتلف مهجتي حبا لها ، فغلبوا غلبة ، وقهرهم العدو قهرا ، وقوله بعدها : أي بعد هذه الفعلة» اه. والاستشهاد بالبيت في قوله «بهرا» فقد زعم المؤلف أن هذا مصدر من المصادر التي لم تستعمل أفعالها ، وهذا الكلام غير مستقيم ؛ لأنه إن أراد أنه لا فعل له مثل بله وويح فلا صحة لهذا الكلام ؛ لأن «بهرا» ليس مثل هذين في أنه لا فعل له ، بل له فعل وهو قولهم «بهره يبهره» أي غلبه ، وإن أراد أنه يستعمل منصوبا بفعل لا يظهر لأنه محذوف وجوبا ، وهذا هو الصواب ، وهو الذي ذكره سيبويه ، واسمع إلى عبارة سيبويه «هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره ، وذلك قولك : سقيا ، ورعيا ، وقولك خيبة ، ودفرا ، وجدعا ، وعقرا ، وبؤسا ، وأفة ، وتفة ،

١٩٤

فإن هذه كلها مصادر لم تستعمل أفعالها ، فإن زعمتم أن ما ذكرتموه من خلو الفعل عن المصدر يصلح أن يكون دليلا لكون الفعل أصلا فليس بأولى مما ذكرناه من خلو المصدر عن الفعل في كون المصدر أصلا ؛ فتتحقق المعارضة فيسقط الاستدلال.

وأما قولهم «إن المصدر لا يتصور ما لم يكن فعل فاعل ، والفعل وضع له فعل ويفعل» قلنا : هذا باطل ؛ لأن الفعل في الحقيقة ما يدل عليه المصدر ، نحو الضّرب والقتل ، وما نسميه فعلا من فعل ويفعل إنما هو إخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان معين ، ومن المحال الإخبار بوقوع شيء قبل تسميته ؛ لأنه لو جاز أن يقال «ضرب زيد» [١٠٧] قبل أن يوضع الاسم للضرب لكان بمنزلة قولك : أخبرك بما لا تعرف ، وذلك محال ، والذي يدل على صحة ما ذكرناه تسميته مصدرا ، قولهم «إن المراد به المفعول ، لا الموضع ، كقولهم : مركب فاره ، ومشرب عذب ، أي مركوب فاره ومشروب عذب» قلنا : هذا باطل من وجهين ؛ أحدهما : أن الألفاظ إذا أمكن حملها على ظاهرها فلا يجوز العدول بها عنه ، والظاهر يوجب أن يكون المصدر للموضع لا للمفعول ؛ فوجب حمله عليه. والثاني : أن قولهم «مركب فاره ، ومشرب عذب» يجوز أن يكون المراد به موضع الركوب وموضع الشرب ، ونسب إليه الفراهة والعذوبة للمجاورة ، كما يقال «جرى النّهر» والنهر لا يجري ، وإنما يجري الماء فيه ، قال الله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥] فأضاف الفعل إليها وإن كان الماء هو الذي يجري فيها ؛ لما بيّنا من المجاورة ، ومنه قولهم «بلد امن ، ومكان آمن» فأضافوا الأمن إليه مجازا ؛ لأنه يكون فيه ؛ قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [البقرة : ١٢٦] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] فأضاف الأمن إليه لأنه يكون فيه ، ومنه قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] فأضاف المكر إلى الليل والنهار لأنه يقع فيهما ،

______________________________________________________

وبعدا ، وسحقا ، ومن ذلك قولك : تعسا ، وتبا ، وجوعا ، وجوسا ، ونحو قول ابن ميادة :

* تفاقد قومي ... البيت*

وقال [عمر بن أبي ربيعة المخزومي] :

ثم قالوا : تحبها؟ قلت : بهرا

عدد النجم والحصى والتراب» اه

نقول : إن أراد المؤلف ذلك المعنى لم يتم له معارضة الخصم ؛ لأن من غرضه أن يقول : إن لنا في العربية مصادر ليست لها أفعال ، فكيف يستقيم أن يقال : إن المصدر مأخوذ من الفعل؟ وهل ثمة فرع ليس له أصل؟ ولو أنه اقتصر على ويله وويحه وويبه وويسه لتم له الكلام ؛ لأن هذه المصادر لم يستعمل العرب لها أفعالا ، فاعرف هذا ، ولا تكن أسير التقليد.

١٩٥

ومنه قولهم «ليل نائم» فأضافوا النوم إلى الليل لكونه فيه ، قال الشاعر :

[١٥٠] لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت ، وما ليل المطيّ بنائم

أي بمنوم فيه ، ومنه قولهم «يوم فاجر» فأضافوا الفجور إليه لأنه يقع فيه ، قال الشاعر :

[١٥١] ولمّا رأيت الخيل تترى أثائجا

علمت بأنّ اليوم أحمس فاجر

أي مفجور فيه ، والشواهد على هذا النحو من كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن تحصى ؛ فدل على أن المراد بقولهم : «مركب فاره ، ومشرب عذب» موضع للركوب وموضع الشرب ، وأضيف إليه الفراهة والعذوبة للمجاورة على ما بيّنا.

وقد أفردنا في هذه المسألة جزءا استوفينا فيه القول ، واستقصينا فيه الكلام ، والله أعلم.

______________________________________________________

[١٥٠] هذا البيت من قصيدة طويلة لجرير بن عطية ثابتة في ديوانه (٥٥٣) وهي إحدى النقائض بينه وبين الفرزدق ، وقد وردت في النقائض (ص ٧٥٣ ليدن) والبيت من شواهد الإيضاح للقزويني (ص ٢٧ بتحقيقنا) والسرى ـ بضم السين مقصورا ، بزنة الهدى ـ السير ليلا.

والاستشهاد بالبيت في قوله «وما ليل المطي بنائم» حيث أسند النوم إلى ضمير مستتر يعود إلى الليل ، وقد جعل الليل نائما بسبب كونه ظرفا يقع فيه النوم ، وقد ورد هذا الاسناد المجازي في كلام جرير نفسه عدة مرار ، منها قوله يهجو البراجم :

وما علم الأقوام أسرق منكم

وألأم لؤما منك قيس البراجم

لقد أمن الأعداء أن تفجعوهم

وما ليل جار حل فيكم بنائم

ومنها قوله في ربيعة :

باتت ربيعة لا تعرس ليلها

عني ، وليلي عن ربيعة نائم

ونظيره قول الراجز ، وهو من شواهد الإيضاح أيضا (ص ٢٦) :

* فنام ليلي وتجلى همي*

[١٥١] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، و «تترى» من المواترة ، وهي التتابع ؛ فهذه التاء بدل من واو ، مثل التاء من «تخمة» و «تكلة» فإن أصل هذه التاء واو ، وفي القرآن الكريم : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) قالوا : هو من المواترة وهي تتابع الأشياء وبينها فجوات وفترات ؛ لأن بين كل رسولين فترة ، ومن العرب من ينونها فيجعل ألفها للإلحاق بمنزلة أرطى ومعزى ، ومنهم من لا ينونها يجعل ألفها للتأنيث مثل ألف سكرى وغضبى. وقالوا «جاءت الخيل تترى» يريدون جاءت متقطعة. وقوله «أثائج» هي عندي جمع وثيج ، وقد قالوا «فرس وثيج» يريدون أنه قوي ، وقيل : مكتنز ، جمعوه على وثائج ، ثم أبدلوا من الواو همزة فقالوا «أثائج». والاستشهاد من هذا البيت في قوله «أن اليوم أحمس فاجر» حيث أسند الفجور إلى اليوم بسبب كونه ظرفا زمانيا يقع فيه الفجور ، على مثال ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.

١٩٦

[١٠٨] ٢٩

مسألة

[القول في عامل النّصب في الظرف الواقع خبرا](١)

ذهب الكوفيون إلى أن الظرف ينتصب على الخلاف إذا وقع خبرا للمبتدأ ، نحو «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» وما أشبه ذلك. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين إلى أنه ينتصب لأن الأصل في قولك : «أمامك زيد» حلّ أمامك ، فحذف الفعل وهو غير مطلوب واكتفى بالظرف منه فبقي منصوبا على ما كان عليه مع الفعل. وذهب البصريون إلى أنه ينتصب بفعل مقدر ، والتقدير فيه : زيد استقرّ أمامك ، وعمرو استقر وراءك. وذهب بعضهم إلى أنه ينتصب بتقدير اسم فاعل ، والتقدير : زيد مستقر أمامك ، وعمرو مستقر وراءك.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه ينتصب بالخلاف وذلك لأن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ ، ألا ترى أنك إذا قلت «زيد قائم ، وعمرو منطلق» كان قائم في المعنى هو زيد ، ومنطلق في المعنى هو عمرو ، فإذا قلت «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» لم يكن أمامك في المعنى هو زيد ، ولا وراءك في المعنى هو عمرو ، كما كان قائم في المعنى هو زيد ومنطلق في المعنى هو عمرو ، فلما كان مخالفا له نصب على الخلاف ليفرقوا بينهما.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه ينتصب بعامل مقدر وذلك لأن الأصل في قولك «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» : في أمامك ، وفي وراءك ؛ لأن الظرف : كل اسم من أسماء الأمكنة أو الأزمنة يراد فيه معنى «في» وفي : حرف جرّ ، وحروف الجر لا بد لها من شيء تتعلق به ؛ لأنها دخلت رابطة تربط الأسماء بالأفعال ، كقولك «عجبت من زيد ، ونظرت إلى عمرو» ولو قلت «من زيد» أو «إلى عمرو» لم يجز حتى تقدر لحرف الجر شيئا يتعلق به ؛ فدلّ على أن التقدير في

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني (١ / ٢٦٥ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (١ / ١٩٣ بولاق) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (١ / ١٩٨ وما بعدها) وشرح المفصل (ص ١١٠) وشرح رضي الدين على الكافية (١ / ٨٣).

١٩٧

قولك «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» زيد استقر في أمامك ، وعمرو استقر في ورائك ثم حذف الحرف فاتصل الفعل بالظرف فنصبه ، فالفعل الذي هو استقر مقدّر مع الظرف ، كما هو مقدّر مع الحرف.

[١٠٩] وأما من ذهب من البصريين إلى أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل ـ وهو مستقر ـ قال : لأن تقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل ؛ لأن اسم الفاعل اسم يجوز أن يتعلق به حرف الجر ، والاسم هو الأصل (١) ، والفعل فرع ، فلما وجب تقدير أحدهما كان تقدير الأصل أولى من تقدير الفرع.

والصحيح عندي هو الأول ، وذلك لأن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل وإن كان هو الأصل في غير العمل ؛ فلما وجب هاهنا تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل ـ وهو الفعل ـ أولى من تقدير ما هو الفرع فيه وهو اسم الفاعل.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنا وجدنا الظرف يكون صلة للذي ، نحو : «رأيت الّذي أمامك ، والّذي وراءك» وما أشبه ذلك ؛ والصلة لا تكون إلا جملة فلو كان المقدر اسم الفاعل الذي هو مستقر لكان مفردا ؛ لأن اسم الفاعل مع الضمير لا يكون جملة ، وإنما يكون مفردا ، والمفرد لا يكون صلة ألبتة ، فوجب أن يكون المقدر الفعل الذي هو استقرّ ، لأن الفعل مع الضمير يكون جملة ؛ فدل على ما بيّناه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ ، وإذا قلت «زيد أمامك ، وعمرو وراءك» فأمامك ليس هو زيد ، ووراءك ليس هو عمرو ، فلما كان مخالفا له وجب أن يكون منصوبا على الخلاف» قلنا : هذا فاسد ؛ وذلك لأنه لو كان الموجب لنصب الظرف كونه مخالفا للمبتدأ لكان [المبتدأ] أيضا يجب أن يكون منصوبا ؛ لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدأ ؛ لأن الخلاف لا يتصور أن يكون من واحد وإنما يكون من اثنين فصاعدا ؛ فكان ينبغي أن يقال «زيدا أمامك ، وعمرا وراءك» وما أشبه ذلك ؛ فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه.

وأما قول أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب : «إنه ينتصب بفعل محذوف غير مقدر ، إلى آخر ما قرر» ففاسد أيضا ؛ وذلك لأنه يؤدي إلى أن يكون منصوبا بفعل

__________________

(١) لأن تقدير الاسم لا يحوج إلى تقدير آخر ، بخلاف تقدير الفعل فإنه يحوج إلى تقدير آخر ، وما لا يحوج إلى التقدير أصل لما يحوج إليه. وأيضا لأن الاسم مفرد ، والفعل مع فاعله جملة ، والمفرد أصل ، والجملة فرع عليه.

١٩٨

معدوم من كل وجه لفظا وتقديرا ، والفعل لا يخلو ، إما أن يكون مظهرا موجودا أو مقدرا في حكم الموجود ، فأما إذا لم يكن مظهرا موجودا ولا مقدرا في حكم الموجود كان معدوما من [١١٠] كل وجه ، والمعدوم لا يكون عاملا ، وكما يستحيل في الحسّيّات الفعل باستطاعة معدومة ، والمشي برجل معدوم ، والقطع بسيف معدوم ، والإحراق بنار معدومة ؛ فكذلك يستحيل في هذه الصناعة النصب بعامل معدوم لأن العلل النحوية مشبهة بالعلل الحسية. والذي يدل على فساد ما ذهب إليه أنه لا نظير له في العربية ، ولا يشهد له شاهد من العلل النحوية ، فكان فاسدا. والله أعلم.

١٩٩

٣٠

مسألة

[القول في عامل النصب في المفعول معه](١)

ذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف ، وذلك نحو قولهم «استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطّيالسة». وذهب البصريون إلى أنه منصوب بالفعل الذي قبله بتوسّط الواو. وذهب أبو إسحاق الزّجّاج من البصريين إلى أنه منصوب بتقدير عامل ، والتقدير : ولابس الخشبة ، وما أشبه ذلك ؛ لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن ما بعد الواو ينتصب بانتصاب «مع» في نحو «جئت معه».

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه منصوب على الخلاف وذلك لأنه إذا قال «استوى الماء والخشبة» لا يحسن تكرير الفعل فيقال : استوى الماء واستوت الخشبة ؛ لأن الخشبة لم تكن معوجّة فتستوي ، فلما لم يحسن تكرير الفعل كما يحسن في «جاء زيد وعمرو» فقد خالف الثاني الأول ، فانتصب على الخلاف كما بينّا في الظرف نحو : «زيد خلفك» وما أشبه ذلك.

والذي يدل على أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يعمل فيه أنّ نحو استوى وجاء فعل لازم ، والفعل اللازم لا يجوز أن ينصب هذا النوع من الأسماء ؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان في الأصل غير متعدّ إلا أنه قوي بالواو فتعدى إلى الاسم فنصبه كما عدّي بالهمزة في نحو «أخرجت زيدا» وكما عدّي بالتضعيف نحو «خرّجت المتاع» وكما عدّي بحرف الجر نحو [١١١] «خرجت به» إلا أن الواو لا تعمل ؛ لأن الواو في الأصل حرف عطف ، وحرف العطف لا يعمل ، وفيه معنيان العطف

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني (٢ / ٣٩٥) وحاشية الصبان (٢ / ١١٩) وتصريح الشيخ خالد (١ / ٤١٥) وشرح المفصل (ص ٢٢٢ وما بعدها) وشرح الرضي على الكافية (١ / ١٨٠).

٢٠٠