الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

للتشبيه ، والأصل في الكاف أن تكون مؤخرة ؛ كما أن الأصل في اللام أن تكون مقدمة ؛ فإذا قلت «كأنّ زيدا الأسد» كان الأصل فيه : إن زيدا كالأسد ، كما إذا قلت «إن زيدا لقائم» كان الأصل فيه : لإنّ زيدا قائم ، إلا أنه قدمت الكاف على «أن» عناية بالتشبيه ، وأخرت اللام عن «إن» لئلا يجمعوا بين حرفي تأكيد ، فلما نصب بها مع التّخفيف دل على أنها بمنزلة فعل قد حذف بعض حروفه.

وقال الآخر :

[١١٩]* كأن وريديه رشاءا خلب*

فنصب «وريديه» بكأن المخفّفة من الثّقيلة ؛ فدل على ما قلناه.

ولا يجوز أن يقال : إن الإنشاد في البيتين «كأن ثدياه ، وكأن وريداه» ـ بالرفع

______________________________________________________

[١١٩] نسب جماعة من النحاة ـ منهم الشيخ خالد الأزهري في التصريح (١ / ٢٨٢ بولاق) تبعا للعيني ـ هذا البيت إلى رؤبة بن العجاج ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٤٨٠) وابن يعيش (ص ١١٣٨) وابن منظور (خ ل ب) ولم يعزه واحد منهم إلى قائل معين ، وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٥٦) وروى بيتين من الرجز المشطور أحدهما قبل البيت المستشهد به والآخر بعده على هذا الوجه :

ومعتد فظ غليظ القلب

كأن وريديه رشاءا خلب

* غادرته مجدلا كالكلب*

والمعتدي : المتجاوز الحد في الظلم ، والفظ : الغليظ ، وغليظ القلب : قاس لا رحمة عنده ، والوريدان : مثنى وريد وهو عرق في الرقبة ، والرشاء ـ بكسر أوله بزنة الكتاب ـ الحبل ، والخلب ـ بزنة القفل والقرط ـ فسره قوم بالبئر ، وعليه تكون إضافة الرشاءين إلى الخلب على معنى لام الاستحقاق مثل قولهم : مصابيح المسجد وحصيره ، وفسر قوم الخلب بالليف ، وعليه تكون الإضافة على معنى من مثل قولهم : خاتم فضة وثوب قطن ، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «كأن وريديه» حيث خفف كأن التي تدل على التشبيه ، ثم أتى بعدها باسمها منصوبا وبخبرها مرفوعا كما كان يفعل ذلك وهي مثقلة ، فيدل ذلك على أن الحرف الذي يعمل لشبهه بالفعل إذا خفف لم يجب أن يبطل عمله ، وقد روى سيبويه البيت بنصب وريديه ورفع «رشاءا» كما رواه المؤلف هنا ، وقال قبل إنشاده «وينصبون في الشعر إذا اضطروا بكأن إذا خففوا ، يريدون معنى كأن (بالتشديد) ولم يريدوا الإضمار ، وذلك قوله :

* كأن وريديه ...*»

ثم قال بعد كلام «وإن شئت رفعت في قول الشاعر :

* كأن وريديه ...*»

وقد بيّنا وجه الروايتين في شرح الشاهد السابق.

١٦١

لأنا نقول : بل الرواية المشهورة «كأن ثدييه ، وكأن وريديه» ـ بالنّصب ـ وإن صحّ ما رويتموه فيكون الرّفع على حذف الضمير مع التّخفيف كما قال الأعشى :

[١٢٠] في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل

كأنه قال : أنه هالك.

وقال الآخر :

[١٢١] أما والله أن لو كنت حرا

وما بالحرّ أنت ولا العتيق

______________________________________________________

[١٢٠] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس ، وقد أنشده سيبويه ثلاث مرات (١ / ٢٨٢ و ٤٤٠ و ٤٨٠) وأنشده ابن يعيش (ص ١١٢٨) ورضي الدين في باب نواصب المضارع وفي باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ٥٤٧) والفتية : جمع فتى ، وهو الشاب ، والسيوف : جمع سيف ، وإضافة السيوف إلى الهند لأنها كانت تصنع هناك ، وكانوا يجلبونها من الهند ، ووجه الشبه إما المضاء وقوة العزم وإما البريق واللمعان ويراد بهما صباحة أوجههم ونضارتها ، ويحفى : مضارع حفي ـ مثل رضي ـ حفاء ، وذلك إذا مشى بغير نعل ولا خف ، ويراد به هنا الفقير ، وينتعل : أي يلبس النعل ، ويراد به الغني ، يريد أن هؤلاء الفتيان قد أيقنوا أن الموت لا يفرق بين الغني والفقير فهم ينتهزون فرص اللذات ويسارعون إليها. والاستشهاد بالبيت في قوله «أن هالك كل من يحفى» حيث خففت أن المفتوحة الهمزة وأتى بعدها باسمين مرفوعين ، فيتوهم من لا معرفة له أنه أهملها ، ولكنها عند التحقيق عاملة النصب والرفع كما كانت تعمل وهي مشددة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وقوله «هالك» خبر مقدم ، و «كل» مبتدأ مؤخر ، وكل مضاف و «من» مضاف إليه ، و «يحفى» جملة لا محل لها من الإعراب صلة من ، وتقدير الكلام : أنه (أي الحال والشأن) كل من يحفى وينتعل هالك ، وجملة المبتدأ وخبره في محل رفع خبر أن المخففة من الثقيلة ، ويروى عجز البيت :

* أن ليس تدفع عن ذي الحيلة الحيل*

وهو صالح للاستشهاد به على هذه الرواية أيضا لهذه المسألة عينها.

[١٢١] هذا البيت من شواهد مغني اللبيب (رقم ٤١ بتحقيقنا) وقد أنشده الرضي في باب خبر الحروف المشبهة بليس ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ١٣٣) وفي شرحه لشواهد المغني ، ولم ينسبه في أحدهما إلى قائل معين ، وقد ذكر أن الفراء أنشده في تفسير سورة الجن عند تفسير قوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) ويروى صدر البيت :

* لو أنك يا حسين خلقت حرا*

بتشديد «أن» وإلقاء حركة همزتها على الواو ، والعتيق : الكريم الأصيل ، ويقال لمن كان رقيقا فخلص من الرق : عتيق ، وفي هذا البيت شاهدان للنحاة : الأول : في قوله «أن لو كنت حرا» وعبارة المؤلف تدل على أنه يعتبر «أن» في هذه العبارة مخففة من الثقيلة ، وعليه يكون اسمها ضمير شأن محذوف ، وجملة «لو» وشرطها وجوابها المحذوف لدلالة المقام عليه في محل رفع خبر أن ، وتقدير الكلام : أنه (أي الحال والشأن) لو كنت حرا

١٦٢

وقال الآخر :

[١٢٢] أكاشره وأعلم أن كلانا

على ما ساء صاحبه حريص

______________________________________________________

لقاومتك ، أو لسهل على نفسي منازلتك ، وما أشبه ذلك ، لكن المحققين من العلماء لا يرون هذا ، و «أن» عندهم زائدة ، ذكر ذلك ابن هشام في مغني اللبيب ؛ قال «الثاني : من مواضع زيادة أن المخففة المفتوحة الهمزة أن تقع بين «لو» وفعل القسم ، سواء أكان الفعل مذكورا كقول الشاعر :

فأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشر مظلم

أم كان فعل القسم متروكا ، كقوله :

* أما والله أن لو كنت حرا*

البيت ، هذا قول سيبويه وغيره» اه. وقد ذكر البغدادي أن نسبة القول بزيادة «أن» في هذا البيت إلى سيبويه ليست بصحيحة ؛ والصواب أن القائل بزيادتها في هذا البيت هو الفراء ، وذهب ابن عصفور إلى أنها حرف جيء به لربط الجواب بالقسم ، قال ابن هشام بعد أن حكى عن ابن عصفور ذلك «ويبعده أن الأكثر تركها ، والحروف الرابطة ليست كذلك» اه.

ونازعه في ذلك الدماميني فقال : إن من الحروف الرابطة اللام ؛ وذلك نحو قول الشاعر :

ولو نعطى الخيار لما افترقنا

ولكن لا خيار مع الليالي

ولا يلزم ذكر هذه اللام ، بل يجوز تركها كما في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) فلم يتم قول ابن هشام : إن الحروف الرابطة لا تترك من الكلام. والشاهد الثاني من البيت في قوله «وما بالحر أنت» حيث دخلت الباء الزائدة على خبر «ما» الذي هو قوله «الحر» مع كونه متقدما على الاسم الذي هو قوله «أنت» وقد اختلف العلماء في الباء الزائدة بعد ما النافية : أهي مختصة بما الحجازية العاملة عمل ليس أم غير مختصة بها ويجوز دخولها بعد ما التميمية المهملة؟ فذهب الأخفش إلى أنها تدخل بعد ما التميمية كما تدخل بعد ما الحجازية ، وذهب قوم منهم الزمخشري وأبو علي إلى أن الباء الزائدة لا تدخل إلا في خبر ما الحجازية ، وانبنى على هذا الخلاف اختلاف آخر حاصله هل يجوز أن يتقدم خبر «ما» الحجازية العاملة أو لا يجوز؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن الباء لا تدخل على الخبر بعد ما التميمية فقالوا : يجوز أن يتقدم خبر ما الحجازية على اسمها ويبقى لها عملها واستدلوا بهذا البيت ونحوه ، ووجه الاستدلال أن الباء هنا قد دخلت على الخبر وهو متقدم ، وحيث جاز تقديمه وهو مقترن بالباء يجوز تقديمه وهو عار منها ، والذي نرجحه أنه يجوز دخول الباء على خبر المبتدأ الواقع بعد ما التميمية ، بدليل قول الفرزدق وهو تميمي :

لعمرك ما معن بتارك حقه

ولا منسىء معن ، ولا متيسر

وبدليل دخولها حيث لا عمل لما ، وذلك كما في قول الشاعر :

لعمرك ما إن أبو مالك

بوان ولا بضعيف قواه

فإن «ما» ههنا غير عاملة لاقترانها بإن الزائدة ، والباء لم تدخل في الخبر بعد ما إلا لكونه منفيا ، فلا يلزم أن يكون منصوبا ، وفي هذا القدر كفاية وغناء.

[١٢٢] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ٤٤٠) ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم في شرح شواهده ، ـ

١٦٣

وقال زيد بن أرقم :

[١٢٣] ويوما تلاقينا بوجه مقسّم

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم

______________________________________________________

قال الأعلم «ومعنى أكاشره أضاحكه ، ويقال : كشر عن نابه ؛ إذا كشف عنه» اه.

والاستشهاد بالبيت في قوله «أن كلانا حريص» حيث خفف أن المؤكدة ، وأتى بعدها بالاسمين مرفوعين ، فيتوهم من لا معرفة له أنه أهمل أن ، ولكنها عند التحقيق عاملة النصب والرفع كما تعمل وهي مشددة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وكلانا : مبتدأ ومضاف إليه ، وحريص : خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ والخبر في محل رفع خبر أن ، قال سيبويه (١ / ٤٣٩) : «وتقول : قد علمت أن من يأتني آته ؛ من قبل أن أن ههنا فيها إضمار الهاء ، ولا تجيء مخففة ههنا إلا على ذلك ، كما قال :

* أكاشره وأعلم أن كلانا*

البيت ، وقال الأعلم «الشاهد في حذف الضمير من أن ، وابتداء ما بعدها على نية إثبات الضمير» اه.

[١٢٣] نسب المؤلف هذا البيت لزيد بن أرقم ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٢٨١ و ٤٨١) ونسبه لابن صريم اليشكري ، ووافقه الأعلم على هذه النسبة ، وأنشده ابن منظور (ق س م) أول أربعة أبيات ، ونسبه إلى باعث بن صريم اليشكري ثم قال «ويقال : هو كعب بن أرقم اليشكري ، قاله في امرأته ، وهو الصحيح» اه. والبيت من شواهد ابن يعيش (ص ١١٣٩) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٤٢) وفي أوضح المسالك (رقم ١٥١) والأشموني (رقم ٢٨٧) وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٦٤) ونقل خلافا في نسبته ، ويوما ـ بالنصب لا غير ـ ظرف زمان يتعلق بقوله «توافينا» الذي بعده ، وتوافينا : تأتينا وتزورنا ، ووجه مقسم : جميل ، مأخوذ في الأصل من القسام ـ بفتح القاف ، بزنة السحاب ـ وهو الجمال ، والاستشهاد به في قوله «كأن ظبية تعطو» واعلم أولا أن كلمة «ظبية» في هذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه : الجر ، والنصب ، والرفع ، فأما رواية الجر فتخرج على أن الكاف حرف جر ، وأن زائدة بين الجار والمجرور وظبية : مجرور بالكاف ، وكأنه قال : كظبية تعطو إلى وارق السلم. وأما رواية النصب فتخرج على أن كأن مخففة من الثقيلة عاملة ، وقوله «ظبية» اسم كأن ، وجملة «تعطو» صفة لظبية ، وخبر كأن محذوف ، والتقدير : كأن ظبية عاطية إلى وارق السلم هذه المرأة ، وأما رواية الرفع فتخرج على أن «كأن» حرف تشبيه مخفف ، واسم كأن محذوف ، وظبية : خبره ، وتقدير الكلام : كأنها ظبية عاطية إلى وارق السلم ، والتشبيه على وجه النصب من التشبيه المقلوب ، وعلى وجه الرفع من التشبيه الجاري على أصله. وقد ذكر هذا التفصيل الأعلم حيث قال : «الشاهد فيه رفع ظبية على الخبر وحذف الاسم مع تخفيف كأن ، والتقدير : كأنها ظبية ، ويجوز نصب الظبية بكأن تشبيها بالفعل إذا حذف وعمل نحو لم يك زيد منطلقا ، والخبر محذوف لعلم السامع ، والتقدير : كأن ظبية تعطو هذه المرأة ، ويجوز جر الظبية على تقدير كظبية ، وأن زائدة» اه.

١٦٤

وقال الآخر :

[١٢٤] [٩٠]عبأت له رمحا طويلا وألّة

كأن قبس يعلى بها حين تشرع

وقال الآخر :

[١٢٥] وخيفاء ألقى اللّيث فيها ذراعه

فسرّت وساءت كلّ ماش ومصرم

______________________________________________________

[١٢٤] هذا البيت من كلام مجمع بن هلال ؛ وهو تاسع عشرة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة (انظر شرح المرزوقي ص ٧١٣) وقد استشهد بالبيت رضي الدين في شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٦١) وعبأت : أعددت وهيأت ، والرمح معروف ، والألة ـ بفتح الهمزة وتشديد اللام ـ السنان ، وأصله من الأليل وهو البريق واللمعان ، وفسر ابن منظور الألة بالحربة العظيمة النصل ، وفرق قوم بين الألة والحربة فخصوا الألة بما كانت كلها من حديد ، والحربة بما كانت يدها من خشب ، والقبس ـ بالتحريك ـ الجذوة من النار ، وتشرع ـ بالبناء للمجهول ـ أي تصوب للطعن ، والاستشهاد بالبيت في قوله «كأن قبس يعلى بها ـ الخ» وقبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر ، وهي الوجوه التي ذكرناها في كلمة «ظبية» في البيت السابق ، فالجر على أن تكون الكاف حرف جر ، وأن زائدة ، وقبس مجرور بالكاف ، والنصب على أن يكون كأن حرف تشبيه مخفف من الثقيل ، وقبسا : اسم كأن ، وخبره محذوف ، والتقدير : كأن قبسا هذه الألة ، ويكون من التشبيه المقلوب ، ويجوز أن يكون خبر كأن هنا هو جملة يعلى بها ، وأما الرفع فعلى أن يكون كأن حرف تشبيه مخفف من الثقيل ، واسمه محذوف ، وقبس خبره ، وتقدير الكلام : كأنها أي هذه الألة قبس ، وجعل الرضي اسم كأن ـ على رواية رفع قبس ـ ضمير شأن محذوف ، وعليه يكون قبس مبتدأ ، وجملة يعلى صفة لقبس ، وفي يعلى ضمير مستتر يعود على قبس وهو نائب فاعل يعلى ، وهو الذي يربط جملة الصفة بالموصوف ، وبها : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ وخبره في محل رفع خبر كأن ، لكن هذا الوجه الذي ذهب إليه الرضي ضعيف ، من جهة أن ضمير الشأن إنما يقدر حين لا يكون من الممكن تقدير مرجع ، وههنا أمكن تقدير المرجع ـ وهو ضمير الغائب ـ وهو مع ذلك أيسر وأهون.

[١٢٥] هذان البيتان من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وقد أنشدهما ابن منظور (أ و ن) ونسبهما إليه ، وقال : إنهما من أبيات المعاني ، قد أنشد رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ثاني هذين البيتين ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٦٣) غير أنه نسب البيتين نقلا عن أبي زيد عن أبي عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني لرجل من بني سعد بن زيد مناة. والخيفاء ههنا : الأرض المختلفة ألوان النبات قد مطرت بنوء الأسد فسرت من له ماشية وساءت من كان مصرما لا إبل له ، والدرماء : الأرنب ، يقول : سمنت حتى سحبت قصبها ، كأن بطنها بطن حبلى متئم ، والقصب ـ بضم القاف وسكون الصاد ـ المعى ، وأراد البطن ، ومتئم : قد حبلت في توأمين والاستشهاد بالبيتين في قوله «كأن بطن حبلى» حيث خفف كأن الدالة على التشبيه ، وجاء بعدها بالاسم مرفوعا على أنه خبرها واسمها محذوف. والتقدير : كأن بطنها بطن حبلى. ولو أنك نصبت «بطنها» أو جررته لجاز. وتوجيه النصب والجر على مثل ما ذكرناه في شرح الشاهدين السابقين ، فتأمل ذلك. والله يرشدك.

١٦٥

تمشّي بها الدّرماء تسحب قصبها

كأن بطن حبلى ذات أونين متئم

فيمن روى بالرفع ، ومن روى بالجر جعل «أن» زائدة ، ومن روى بالنّصب أعملها مع التخفيف.

ومن كلامهم «أول ما أقول أن بسم الله» كأنهم قالوا : أنه بسم الله ، وقال تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه : ٨٩] كأنه قال : أنه لا يرجع إليهم قولا ، إلّا أنها لا تخفف مع الفعل إلا مع أحد أربعة أحرف ، وهي : لا ، وقد ، وسوف ، والسّين ، كقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] وكذلك : «علمت أن سوف يخرج زيد ، وعلمت أن قد خرج عمرو» ، قال أبو صخر الهذلي :

[١٢٦] فتعلّمي أن قد كلفت بكم

ثمّ افعلي ما شئت عن علم

ولا تخفّف من غير واحد من هذه الأحرف ؛ لأنهم جعلوها عوضا مما لحق «أن» من التغيير ، وكان التعويض مع الفعل أولى من الاسم ، وذلك لأن «أن» لحقها مع الاسم ضرب واحد من التغيير ، وهو الحذف ، ولحقها مع الفعل ضربان : الحذف ، ووقوع الفعل بعدها ؛ فلهذا كان التعويض مع الفعل أولى من الاسم.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من إعمالها مع التّخفيف ما حكى بعض أهل اللغة من إعمالها في المضمر مع التّخفيف نحو قولهم : أظنّ أنك قائم ، وأحسب أنه ذاهب ، يريدون أنك وأنه بالتّشديد ، قال الشاعر :

[١٢٧]فلو أنّك في يوم الرّخاء سألتني

فراقك لم أبخل وأنت صديق

______________________________________________________

[١٢٦] نسب المؤلف هذا البيت لأبي صخر الهذلي ، وكذلك نسبه ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٣٢) وقد روى ابن منظور صدره (ع ل م) ونسبه إلى الحارث بن وعلة ، وتعلمي : أي اعلمي واستيقني. وهو ملازم لصيغة الأمر ، والشواهد عليه كثيرة (انظر شرح الشاهد ٣٢٥ في شرح الأشموني بتحقيقنا) وكلفت : أولعت واشتد غرامي. والاستشهاد بالبيت في قوله «فتعلمي أن قد كلفت» حيث جاء بأن المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وخبرها جملة «كلفت بكم» ولكون هذه الجملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء فصل بينها وبين أن بقد ، وتقدير الكلام : فتعلمي أنه (أي الحال والشأن) قد كلفت بكم ، ونظير هذا البيت في الفصل بين أن المخففة وجملة خبرها بقد قول الله تعالى : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) وقول الشاعر ، وهو من شواهد ابن مالك في شرح كافيته وشواهد الأشموني (رقم ٢٨٢) :

شهدت بأن قد خط ما هو كائن

وأنك تمحو ما تشاء وتثبت

[١٢٧] أنشد رضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية هذا البيت ، وقد شرحه البغدادي في

١٦٦

وقال الآخر :

[١٢٨]وقد علم الصّبية المرملون

إذا اغبرّ أفق وهبّت شمالا

______________________________________________________

الخزانة (٢ / ٤٦٥) ولم يعزه ، وكذلك أنشده ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢٨) ولم يعزه إلى قائل معين ، وكذلك أنشده الفراء ولم يعزه ، وأنشده ابن منظور (ص د ق) ولم يعزه أيضا ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٢٨٠) وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٣٨) وابن عقيل (رقم ١٠٥) وصديق : مما يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع ، المذكر والمؤنث ، وإن كان فعيلا بمعنى فاعل ؛ لأنهم حملوه على ضده وهو العدو ، ومن إطلاقه على الأنثى بيت الشاهد وقول كثير عزة :

ليالي من عيش لهونا بوجهه

زمانا ، وسعدى لي صديق مواصل

ومن ذلك أيضا قول جميل بن معمر :

كأن لم نقاتل يا بثين لو أنها

تكشف غماها وأنت صديق

ومن إطلاقه على جمع المذكرين قول الشاعر :

لعمري لئن كنتم على النأي والنوى

بكم مثل ما بي إنكم لصديق

وقول قعنب بن أم صاحب :

ما بال قومك صديق ثم ليس لهم

دين ، وليس لهم عقل إذا ائتمنوا

ومن إطلاقه على جمع المؤنث قول جرير :

نصبن الهوى ، ثم ارتمين قلوبنا

بأعين أعداء ، وهن صديق

أوانس ، أما من أردن عناءه

فعان ، ومن أطلقنه فطليق

وقال يزيد بن الحكم في مثله :

* ويهجرن أقواما وهن صديق*

ومحل الاستشهاد بالبيت الذي أثره المؤلف قوله «فلو أنك سألتني» حيث خفف «أن» المؤكدة ، وأعملها في الاسم والخبر ، فجاء باسمها ضميرا من ضمائر النصب المتصلة وهو الكاف ، وجاء بخبرها جملة فعلية وهو قوله «سألتني طلاقك» وأكثر العلماء يرون مجيء اسم أن المخففة ضمير مخاطب شاذا.

[١٢٨] أنشد ثالث هذه الأبيات رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٥٢) وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٣١) وهو من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك (رقم ١٤٨) وفي مغني اللبيب (رقم ٣٩) وأنشد أول هذه الأبيات في شذور الذهب (رقم ١١٢) وأنشد الأشموني ثالثها (رقم ٢٨١ بتحقيقنا) والأبيات من كلمة لأخت عمرو بن العجلان الكاهلي الملقب بذي الكلب ، ومن الرواة من يسمي أخته عمرة ، ومنهم من يسميها جنوب ويروى صدر أولها «لقد علم الضيف والمرملون» ويروى صدر ثالثها «بأنك ربيع وغيث مريع» والضيف : يطلق على الواحد والاثنين والجمع ، والصبية : جمع صبي ، والمرملون : جمع مرمل ، وهو الذي نفد زاده ، ويروى بدله «والمجتدون» وهو جمع المجتدي ، وهو طالب الجداء ، وهو كالعطاء وزنا ومعنى ، وقوله «وهبت شمالا» نصب شمالا على الظرفية وأضمر في هبت ضمير الريح ـ

١٦٧

وخلّت عن أولادها المرضعات

ولم تر عين لمزن بلالا

بأنّك الرّبيع وغيث مريع

وقدما هناك تكون الثّمالا

أراد بأنّك بالتشديد ، إلا أن الاستدلال على إعمالها في المضمر مع التخفيف [٩١] عندي ضعيف ؛ لأن ذلك إنما يجوز في ضرورة الشعر لا في اختيار الكلام إلا في رواية شاذة ضعيفة غير معروفة فلا يكون فيه حجة.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إنما عملت لشبه الفعل لفظا ؛ فإذا خفّفت زال شبهها به فبطل عملها» قلنا : هذا باطل ؛ لأن إن إنما عملت لأنها أشبهت الفعل لفظا ومعنى ؛ وذلك من خمسة أوجه ، وقد قدمنا ذكرها في موضعها فإذا خفّفت صارت بمنزلة فعل حذف منه بعض حروفه ، وذلك لا يبطل عمله ، ألا ترى أنك تقول : «ع الكلام ، وش الثوب ، ول الأمر» وما أشبه ذلك ، ولا تبطل عمله ؛ فكذلك هاهنا.

وأما قولهم «إنّ إنّ المشدّدة من عوامل الأسماء ، وإن المخفّفة من عوامل الأفعال» قلنا : هذا الاستدلال ظاهر الاختلال ، فإنا إذا قدرنا أنها مخفّفة من الثّقيلة ؛ فهي من عوامل الأسماء ، وإذا لم نقدر أنها مخفّفة من الثّقيلة ؛ فليست من عوامل الأسماء ، وإن الخفيفة في الأصل غير إن المخفّفة من الثّقيلة ؛ لأن تلك الخفيفة من عوامل الأفعال ، وهذه المخفّفة من الثّقيلة من عوامل الأسماء ، ولم يقع الكلام في إن الخفيفة في الأصل ، وإنما وقع في إن المخفّفة من الثّقيلة ، وقد بيّنا الفرق بينهما ، والله أعلم.

______________________________________________________

وإن لم يجر لها ذكر لانفهام المعنى وسياقته إلى ذهن السامع ، ونظيره ما أنشده سيبويه من قول جرير (١ / ١١٣ و ٢٠١) :

هبت جنوبا فذكرى ما ذكرتكم

عند الصفاة التي شرقي حورانا

وقوله «وخلت عن أولادها المرضعات» يريد أن الزمان قد اشتد حتى ذهلت كل مرضعة عن ولدها الذي ترضعه «بأنك ربيع» أي أنه كثير النفع واصل السيب والعطاء بمنزلة الربيع «وغيث مريع» بفتح الميم أو ضمها ـ أي مكلىء خصيب «الثمالا» بكسر الثاء المثلثة ـ هو الذخر والغياث. والاستشهاد فيه بقوله «بأنك ربيع» وقوله «وأنك تكون الثمالا» حيث خفف أن المؤكدة ، وأعملها في الاسم والخبر ، واسمها في الموضعين ضمير مخاطب مذكور ، وخبرها في الموضع الأول مفرد وهو قوله ربيع ، وفي الموضع الثاني جملة فعلية مؤلفة من تكون واسمها وخبرها ، وذلك شاذ ، والكثير المستعمل أن يكون اسمها ضميرا محذوفا ؛ لتكون عاملة كلا عاملة ، بسبب زوال بعض وجوه الشبه بينها وبين الفعل بالتخفيف ، كما أن الأكثر عند جمهرة العلماء أن يكون الضمير المحذوف ضمير الشأن ، وخالف في هذا ابن مالك فقال «إذا أمكن جعل الضمير ضمير غائب غير الشأن أو ضمير حاضر فهو أولى».

١٦٨

٢٥

مسألة

[القول في زيادة لام الابتداء في خبر لكنّ](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز دخول اللام في خبر «لكنّ» كما يجوز في خبر إنّ ، نحو «ما قام زيد لكنّ عمرا لقائم» وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز دخول اللام في خبر لكنّ.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز دخول اللام في خبر «لكنّ» النقل والقياس :

أما النقل فقد جاء عن العرب إدخال اللام على خبرها ، قال الشاعر :

[١٢٩] * ولكنّني من حبّها لكميد (٢) *

______________________________________________________

[١٢٩] قد استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢١ و ١١٣٥) ورضي الدين في شرح كافية ابن الحاجب (٢ / ٣٣٢) وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٤٣) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٣٨٦) والأشموني (رقم ٢٦٥) وابن عقيل (رقم ٩٩) وينص أكثر هؤلاء العلماء على أن هذا الشاهد لا يعلم قائله ولا تعرف له تتمة ولا سوابق أو لواحق ، إلا ابن عقيل فإنه رواه بيتا كاملا من غير عزو ، هكذا :

يلومونني في حب ليلى عواذلي

ولكنني من حبها لعميد

والاستشهاد بالبيت في قوله «ولكنني لعميد» حيث قرن خبر «لكن» باللام التي تدخل في بعض المواضع لتفيد الكلام فضل توكيد ، والبصريون يرون هذا شاذا لا يجوز القياس عليه ، والكوفيون يرونه سائغا جائزا ، وتفصيل مقالة الفريقين في أصل الكتاب.

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح الأشموني (١ / ٤٨٧ بتحقيقنا) وحاشية الصبان عليه (١ / ٢٦٠ بولاق) والتصريح للشيخ خالد الأزهري (١ / ٢٦٧ بولاق) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ١١٣٥) ومغني اللبيب (ص ٢٣٣ و ٤٩٢) وشرح ابن عقيل على الألفية (١ / ٣١٠ بتحقيقنا) وشرح الرضي على الكافية (٢ / ٣٣٢).

(٢) رواية النحاة ، ومنهم من نقلها عن المؤلف «ولكنني من حبها لعميد».

١٦٩

وأما القياس فلأن الأصل في «لكنّ» إنّ ، زيدت عليها لا والكاف ؛ فصارتا جميعا حرفا واحدا ، كما زيدت عليها اللام والهاء في قول الشاعر :

[١٣٠] [٩٢]لهنّك من عبسيّة لوسيمة

على هنوات كاذب من يقولها

______________________________________________________

[١٣٠] أنشد ابن منظور هذا البيت (ل ه ن) ثاني بيتين ، ونسب روايتهما إلى الكسائي ، ولم يعزهما إلى قائل معين ، والبيت السابق عليه قوله :

وبي من تباريح الصبابة لوعة

قتيلة أشواقي ، وشوقي قتيلها

وأنشد بيتا آخر يشترك مع بيت الشاهد في صدره ، ولم يعزه إلى معين أيضا ، وهو بتمامه هكذا :

لهنك من عبسية لوسيمة

على كاذب من وعدها ضوء صادق

والاستشهاد بالبيت في قوله «لهنك لوسيمة» وللعلماء ثلاثة آراء في تخريج هذه العبارة :

الأول : أنها في الأصل «لإنك» بلام توكيد مفتوحة ثم إن المكسورة الهمزة المشددة النون ، والأصل أن لام التوكيد التي تدخل على إن المكسورة تتأخر عن إن وما يليها ؛ فتدخل على خبرها كما تقول «إن زيدا لمنطلق» أو على اسمها بشرط أن يتأخر عن الخبر كما في قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أو على ضمير الفصل الواقع بين اسمها وخبرها نحو قوله سبحانه : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) ولا يجوز أن تقترن اللام بإن ، ولكنه لما أبدل الهمزة من إن هاء توهم أنها كلمة أخرى غير إن ، واللام في «لوسيمة» زائدة ، وهذا معنى قول الجوهري : «وقولهم لهنك ـ بفتح اللام وكسر الهاء ـ فكلمة تستعمل عند التوكيد ، وأصله لإنك ، فأبدلت الهمزة هاء ، كما قالوا في «إياك» : هياك. وإنما جاز أن يجمع بين اللام وإن وكلاهما للتوكيد لأنه لما أبدلت الهمزة هاء زال لفظ إن فصار كأنه شيء آخر» اه كلامه بحروفه ، وهذا المذهب ينسب إلى سيبويه.

الرأي الثاني : ذهب جماعة من النحاة إلى أن أصل «لهنك» لاه إنك ، أي والله إنك ، على نحو ما جاء في قول ذي الإصبع العدواني :

لاه ابن عمك ، لا أفضلت في حسب

عني ، ولا أنت دياني فتخزوني

أي لله ابن عمك ، ثم حذفت الألف والهمزة من «إن» فصار لهنك ، وهذا مذهب ينسب إلى الكسائي وكان أبو علي الفارسي يرجحه ، قال ابن جني تلميذه «وفيه تعسف» قال الجوهري : «وأنشد الكسائي :

* لهنك من عبسية لوسيمة*

وقال : أراد لله إنك من عبسية ، فحذف اللام الأولى (يريد لام الجر) والألف من إنك» اه ، وقد نسب المؤلف هذا الرأي إلى المفضل.

الرأي الثالث : أن أصله «والله إنك» فحذف الواو وإحدى اللامين من «والله» وحذف الهمزة من إن ، وهو رأي الفراء على ما قاله المؤلف ، وفيه من التعسف أكثر مما في الرأي الثاني.

والصواب الأول. وقد ورد كثيرا في شعر العرب المحتج بهم ، من ذلك قول محمد بن مسلمة ، وأنشده ابن منظور ، وهو من شواهد الرضي ، وابن يعيش (١١٢٠) :

ألا يا سنا برق على قلل الحمى

لهنك من برق على وسيم ـ

١٧٠

فزاد اللام والهاء على إن ، فكذلك هاهنا : زاد عليها لا والكاف ؛ فإن الحرف قد يوصل في أوله وآخره ، فما وصل في أوله نحو «هذا وهذاك» وما وصل في آخره نحو قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم : ٢٦] وكذلك نقول : إن قول العرب «كم مالك» إنها «ما» زيدت عليها الكاف ، ثم إن الكلام كثر بها فحذفت الألف من آخرها وسكّنت ميمها ، كما زيدت اللام على «ما» ثم لما كثر الكلام بها سكّنت ميمها فقالوا : «لم فعلت كذا»؟ قال الشاعر :

[١٣١] يا أبا الأسود لم أسلمتني

لهموم طارقات وذكر

______________________________________________________

وقال تليد الضبي ، وكان أحد اللصوص على عهد عمر بن عبد العزيز :

لهني لأشقى الناس إن كنت غارما

قلائص بين الجلهتين ترود

وقال خداش بن زهير العامري ، وهو صحابي شهد حنينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لهني لأشقى الناس إن كنت غارما

لعاقبة قتلي خزيمة والخضر

وقال الشاعر :

لهني لأشقى الناس إن كنت غارما

لدومة بكرا ضيعته الأراقم

وقال الشاعر :

وقالت : ألا هل تقصم الحب موهنا

من الليل ، إن الكاشحين خضور

فقلت لها : ما تطعميني أقتلد

لهن الذي كلفتني ليسير

وقال الآخر :

ثمانين حولا لا أرى منك راحة

لهنك في الدنيا لباقية العمر

وأنشد أبو زيد :

أبائنة حبي؟ نعم وتماضر

لهنا لمقضي علينا التهاجر

[١٣١] أولا : انظر المسألة ٤٠ ، ثم نقول : أنشد ابن هشام هذا البيت في مغني اللبيب (رقم ٤٩٩ بتحقيقنا) ولم يتكلم السيوطي عليه مطلقا ، وأنشده البغدادي في خزانة الأدب (٢ / ٥٣٨) أثناء شرحه للشاهد رقم ٤٣٦ من شواهد الكافية ، والبيت من شواهد ابن يعيش (ص ١٢٨٧) وشرح الكافية للرضي (ش ٥١٦) وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ١٩٧) وهو أيضا من شواهد الرضي في شرح الشافية (ش ١١٠) وشرحه البغدادي بإيجاز (ص ٢٢٤ بتحقيقنا) و «أسلمتني» هو من قولهم «أسلم فلان فلانا» بمعنى خذله وتركه لأعدائه ، ويروى في مكانه «خليتني» أي تركتني ، ويروى «خلفتني» والهموم : جمع هم ، وهو الحزن ، وطارقات : أصلها من الطروق ، وهو المجيء ليلا ، وإنما خص الهموم بالطارقات لأنها في أكثر الأحوال تكون في الليل ، إذ هو الوقت الذي يخلو فيه بنفسه وأفكاره وهو اجسه ، والذكر ـ بكسر الذال وفتح الكاف ـ جمع ذكرة ، وهي ضد النسيان.

والاستشهاد بالبيت في قوله «لم» فإن هذه اللام حرف جر ، والميم أصلها «ما» الاستفهامية حذفت ألفها ثم سكنت الميم ، وللعلماء في كل واحد من حذف الألف وتسكين الميم كلام نلخصه لك فيما يلي : الأصل أن تبقى الكلمات ـ وبخاصة غير المتمكنة ـ على حالها ، فلا ـ

١٧١

وقال بعض العرب في كلامه ـ وقد قيل له : منذ كم قعد فلان؟ ـ فقال : «كمنذ أخذت في حديثك» فزاد الكاف في «منذ» ؛ فدل على أن الكاف في كم زائدة ، وقيل لبعضهم : كيف تصنعون الأقط؟ فقال : كهيّن ، أي : يسير سهل ، فيزيدون الكاف ، فكذلك هاهنا : زيدت لا والكاف على إنّ وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فصارت حرفا واحدا ، كما قالوا «لن» وأصلها لا أن ، فحذفوا الألف والهمزة لكثرة الاستعمال ، فصارتا حرفا واحدا ، فكذلك هاهنا ، وبل أولى ، فإنه

______________________________________________________

يتصرف فيها بحذف ولا غيره ، إلا أنهم رأوا «ما» تكون موصولة أحيانا واستفهامية أحيانا أخرى ، وأن إحداهما قد تلتبس بالأخرى ؛ فلا يتبين للسامع إن كانت «ما» موصولة فيكون الكلام خبرا ، أو استفهامية فيكون الكلام إنشاء ، ورأوا أن أكثر ما يكون الالتباس في موضع الجر ، فأرادوا أن يفرقوا بين الحالين ، فحذفوا ألف «ما» الاستفهامية في موضع الجر نحو قوله تعالى : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) وقوله جلت كلمته : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) وقوله تباركت أسماؤه : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) وقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وأبقوا ألف «ما» الموصولة ، نحو قوله سبحانه : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وقوله : (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهل حذف ألف «ما» الاستفهامية حينئذ واجب أو غالب؟ وهل هو عام في كل موضع وقعت فيه مجرورة أو خاص بما إذا كان الجار حرفا من حروف الجر ، فإن كان الجار اسما متمكنا ـ نحو «مجيء م جئت» ـ اختلف الحكم؟ ظاهر عبارة الرضي أن حذف ألف ما الاستفهامية المجرورة غالب لا لازم ، وهو ما صرح به الزمخشري في موضع من تفسيره ، وعبارة ابن هشام في المغني صريحة في أن حذف هذه الألف واجب ؛ وذكرها شاذ ، وصرح بمثل هذا جار الله الزمخشري في موضع آخر من تفسيره ، وذكر اللبلي في شرح أدب الكاتب أن الخوف خاص بما إذا كان الجار حرفا ، وذكر ابن قتيبة أن الحذف خاص بما إذا ذكر مع ما لفظ شئت ـ نحو سل عم شئت ـ والمعول عليه من هذا الكلام أن حذف الألف من «ما» الاستفهامية أكثر من ذكرها متى كانت مجرورة المحل ، سواء أكان الجار حرفا أم اسما ، وقد ورد ذكرها في جملة من الأبيات ، منها قول حسان بن ثابت الأنصاري :

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرغ في رماد؟

ومن ذلك قول كعب بن مالك الأنصاري :

إما قتلنا بقتلانا سراتكم

أهل اللواء ففيما يكثر القيل؟

وقرىء به في قوله تعالى : عما يتساءلون وأما إسكان الميم فهو حذف لفتحتها ، إجراء للوصل مجرى الوقف ، ونظيره قول ابن مقبل :

أأخطل لم ذكرت نساء قيس

فما روعن عنك ولا سبينا

وقد ذهب الفراء إلى أن «كم» مركبة من الكاف الجارة و «ما» الاستفهامية ، وقد حذفت ألف «ما» لدخول الجار عليها ، وسكن آخرها إجراء للوصل مجرى الوقف كما فعل ابن مقبل في قوله «لم ذكرت» وكما فعل صاحب البيت المستشهد به في قوله «لم أسلمتني».

١٧٢

إذا جاز حذف الألف والهمزة لكثرة الاستعمال فلأن يجوز حذف الهمزة كان ذلك من طرق الأولى.

وقالوا : ولا يجوز أن يقال «إنه لو كان أصلها لا أن ؛ لما جاز أن يقال : أما زيدا فلن أضرب ؛ لأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها» ؛ لأنا نقول : إنما جاز ذلك لأن الحروف إذا ركبت تغير حكمها بعد التركيب عما كان عليه قبل التركيب ، ألا ترى أن «هل» لا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإذا ركبت مع «لا» ودخلها معنى التحضيض تغير ذلك الحكم عما كان عليه قبل التركيب ؛ فجاز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، فيقال «زيدا هلّا ضربت»؟ فكذلك هاهنا.

والذي يدل على أن أصلها إنّ على ما بيّنا أنه يجوز العطف على موضعها كما يجوز العطف على موضع إنّ ؛ فدل على أن الأصل فيها إنّ زيدت عليها لا والكاف ؛ فكما يجوز دخول اللام في خبر إنّ ؛ فكذلك يجوز دخولها في خبر لكن.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما [٩٣] قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه لا يخلو إما أن تكون هذه اللام لام التأكيد أو لام القسم ، على اختلاف المذهبين ، وعلى كلا المذهبين فلا يستقيم دخول اللام في خبر لكن ، وذلك لأنها إن كانت لام التأكيد فلام التأكيد إنما حسنت مع إنّ لاتفاقهما في المعنى ؛ لأن كل واحدة منهما للتأكيد وأما لكنّ فمخالفة لها في المعنى ، وإن كانت لام القسم فإنما حسنت مع إنّ لأن إنّ تقع في جواب القسم ، كما أن اللام تقع في جواب القسم ، وأما لكن فمخالفة لها في ذلك ؛ لأنها لا تقع في جواب القسم ؛ فينبغي أن لا تدخل اللام في خبرها.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قوله :

* ولكنّني من حبها لكميد* [١٢٩]

فهو شاذّ لا يؤخذ به لقلّته وشذوذه ، ولهذا لا يكاد يعرف له نظير في كلام العرب (١) وأشعارهم ، ولو كان قياسا مطردا لكان ينبغي أن يكثر في كلامهم وأشعارهم ، كما جاء في خبر إنّ ، وفي عدم ذلك دليل على أنه شاذ لا يقاس عليه.

وأما قولهم «إن الأصل في لكنّ إنّ زيدت عليها لا والكاف فصارتا حرفا واحدا» قلنا : لا نسلم ؛ فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى.

قولهم «كما زيدت اللام والهاء في قوله :

* لهنّك من عبسية لوسيمة* [١٣٠]

__________________

(١) بل لا يعرف أوله ولا قائله.

١٧٣

قلنا : ولا نسلم أن الهاء في قوله «لهنك» زائدة ، وإنما هي مبدلة من ألف إنّ ؛ فإن الهاء تبدل من الهمزة في مواضع كثيرة من كلامهم ، يقال : هرقت الماء ، والأصل فيه أرقت ، وهرحت الدابة ، والأصل فيه أرحت ، وهنرت الثوب ، والأصل فيه أنرت ، وهبرية ، والأصل فيه إبرية وهو الحزاز في الرأس ، وهردت والأصل أردت ، وهيّاك ، والأصل إياك ، وقد قرأ بعض القراء : (هيّاك نعبد) وقال الشاعر :

[١٣٢] فهيّاك والأمر الّذي إن توسّعت

موارده ضاقت عليك المصادر

وقال الآخر :

[١٣٣] يا خال هلّا قلت إذا أعطيتني

هيّاك هيّاك وحنواء العنق

[٩٤] أراد إياك ، وقد قال الله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨] قيل : أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء ، ولهذا قيل في تفسير (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) حافظا عليه ، وقيل : شاهدا ، وقيل : رقيبا عليه ، وقيل : قفّانا عليه ، وكل هذه الألفاظ متقاربة في المعنى ؛ فدل على أن الهاء في «لهنّك» مبدلة من همزة ، ولهذا المعنى جاز أن يجمع بين اللام وبينها لتغير صورتها ، وقد حكي عن أصحابكم فيه وجهان : أحدهما قول الفراء ، وهو أن أصله : والله إنك لوسيمة ، فحذفت الهمزة من إنّ ، والواو من والله ، وإحدى اللامين ، فبقي لهنك ، والوجه الثاني ـ وهو قول

______________________________________________________

[١٣٢] هذا البيت أول بيتين رواهما أبو تمام في ديوان الحماسة ، ولم يعزهما ولا عزاهما أحد شراحه ، والبيت الذي بعده هو قوله :

فما حسن أن يعذر المرء نفسه

وليس له من سائر الناس عاذر

وقوله «إن توسعت موارده» وقع في رواية المرزوقي (ص ١١٥٢) «إن توسعت مداخله» والاستشهاد بالبيت في قوله «فهياك» فإن أصل هذا اللفظ «فإياك» فأبدل من الهمزة هاء ، ونظيره قول الآخر. وأنشده ابن منظور (أيا) :

فانصرفت وهي حصان مغضبه

ورفعت بصوتها هيا أبه

أراد أن يقول «أيا أبه» و «أيا» و «هيا» كلاهما حرف نداء ، إلا أن «أيا» أكثر استعمالا من «هيا» فيدل كثرة استعمال «أيا» على أنها الأصل.

[١٣٣] هذا بيت من الرجز ، وقد أنشده ابن منظور (ح ن و) عن اللحياني عن الكسائي ، والحنواء ـ ومثلها الحانية ـ من الغنم : التي تلوي عنقها لغير علة ، وكذلك هي من الإبل ، وقد يكون ذلك عن علة ، والاستشهاد بالبيت في قوله «هياك هياك» وأصله «إياك إياك» فأبدل من الهمزة هاء ، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق ، ونظيره قول الآخر وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ١٨) :

فأصاخ يرجو أن يكون حيا

ويقول من فرح : هيا ربا

١٧٤

المفضل بن سلمة ـ إن أصله لله إنّك لوسيمة ، فحذفت لامان من لله ، والهمزة من إن ، فبقى «لهنك» فسقط الاحتجاج به على كلا المذهبين.

وأما قولهم «إن الحرف قد يوصل في أوله نحو هذا» قلنا : هذا إنما جاء قليلا على خلاف الأصل لدليل دل عليه ؛ فبقينا فيما عداه على الأصل ، ولا يدخل هذا في القياس فيقاس عليه.

وأما قولهم «إن كم مالك أصلها ما زيدت عليها الكاف» قلنا : لا نسلم ، بل هذا شيء تدّعونه على أصلكم ، وسنبين فساده في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأما قولهم «إن لن أصلها لا أن» قلنا : لا نسلم ، بل هو حرف غير مركب ، وقد نص سيبويه على ذلك ، والذي يدل على أنه غير مركب من لا [وأن] أنه يجوز أن يقال : أما زيدا فلن أضرب ، ولو كان كما زعموا لما جاء (١) ذلك ؛ لأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها.

قولهم «إن الحروف إذا ركبت تغير حكمها عما كانت عليه قبل التركيب كهلّا» قلنا : إنما تغير حكم هلّا لأن هلّا ذهب منها معنى الاستفهام ؛ فجاز أن يتغير حكمها ، وأما لن فمعنى النفي باق فيها ؛ أن لا يتغير حكمها ، فبان الفرق بينهما.

وأما قولهم «إنه يجوز العطف على موضع لكنّ كما يجوز العطف على موضع إنّ ؛ فدل على أنّ الأصل فيها إنّ» قلنا : لا نسلم أنه إنما جاز العطف على موضع لكن لأن أصلها إن ، وإنما جاز ذلك لأن لكن لا تغير معنى الابتداء ؛ لأن معناها الاستدراك ، والاستدراك لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف ؛ فجاز أن يعطف على موضعها كإنّ ؛ لأن إنّ إنما جاز أن يعطف على موضعها دون سائر أخواتها لأنها لم تغير معنى الابتداء ، بخلاف كأن وليت ولعل ؛ لأن كأن أدخلت في الكلام معنى [٩٥] التشبيه ، وليت أدخلت في الكلام معنى التمني ، ولعل أدخلت في الكلام معنى الترجّي ، فتغير معنى الابتداء ، فلم يجز العطف على موضع الابتداء لزواله ، فأما لكن لما كان معناها الاستدراك وهو لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف جاز العطف على موضعها كإنّ ، على أنه من النحويين من يذهب إلى زوال معنى الابتداء مع لكن فلا يجوز العطف على موضعها.

والذي يدل على أن لكن مخالفة لإنّ في دخول اللام معها أنه لم يأت في كلامهم دخول اللام على اسمها إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر نحو «لكنّ عندك

__________________

(١) ربما كان أصل العبارة «لما جاز ذلك».

١٧٥

لزيدا ، أو لكنّ في الدار لعمرا» كما جاء ذلك في إنّ ، فلما لم يأت ذلك في شيء من كلامهم ولا نقل في شيء من أشعارهم دل أنه لا يجوز دخول اللام في خبرها ؛ لأن مجيئه في اسمها مقدم في الرتبة على مجيئه في خبرها ، وإذا لم تدخل اللام في اسمها فأن لا تدخل في خبرها كان ذلك من طريق الأولى.

وبيان هذا وهو أن الأصل في هذه اللام أن تكون متقدمة في صدر الكلام ؛ فكان ينبغي أن تكون مقدّمة على إنّ ، إلا أنه لما كانت [اللام] للتأكيد وإن للتأكيد لم يجمعوا بين حرفي تأكيد ؛ فكان الأصل يقتضي أن تنقل عن صدر الكلام وتدخل الاسم ؛ لأنه أقرب إليه من الخبر ، إلا أنه لما كان الاسم يلي إنّ كرهوا أن يدخلوها على الاسم كراهية للجمع بين حرفي تأكيد ، فنقلوها من الاسم وأدخلوها على الخبر.

والذي يدل على أن الأصل فيها أن تكون مقدمة على إنّ أنها لام الابتداء ، ولام الابتداء لها صدر الكلام.

والذي يدل على أن الأصل فيها أن تدخل على الاسم قبل الخبر أنه إذا فصل بين إنّ واسمها بظرف أو حرف جر جاز دخولها عليه ، نحو «إن عندك لزيدا ، وإنّ في الدّار لعمرا» قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) [البقرة : ٢٤٨].

فإذا ثبت أن هذا هو الأصل ، وأنه لا يجوز دخول اللام على اسم «لكنّ» إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر ؛ دل على أنه لا يجوز أن تدخل على خبرها ؛ لأنه لو كان دخول اللام مع لكن كدخولها مع إن لجاز أن تدخل على اسمها إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر ، كما تدخل على خبرها ؛ فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه ، والله أعلم.

١٧٦

[٩٦] ٢٦

مسألة

[القول في لام «لعل» الأولى ، زائدة هي أو أصلية]؟ (١)

ذهب الكوفيون إلى أن اللام الأولى في «لعل» أصلية ، وذهب البصريون إلى أنها زائدة.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن اللام أصلية لأن «لعل» حرف ، وحروف الحروف كلها أصلية ؛ لأن حروف الزيادة التي هي الهمزة والألف والياء والواو والميم والتاء والنون والسين والهاء واللام والتي يجمعها قولك «اليوم تنساه» و «لا أنسيتموه» و «سألتمونيها» إنما تختص بالأسماء والأفعال ، فأما الحروف فلا يدخلها شيء من هذه الحروف على سبيل الزيادة ، بل يحكم على حروفها كلها بأنها أصلية في كل مكان على كل حال ، ألا ترى أن الألف لا تكون في الأسماء والأفعال إلا زائدة أو منقلبة ، ولا يجوز أن يحكم عليها في ما ولا ويا بأنها زائدة أو منقلبة ، بل نحكم عليها بأنها أصلية ؛ لأن الحروف لا يدخلها ذلك ، فدلّ على أن اللام أصلية.

والذي يدل على ذلك أيضا أن اللام خاصة لا تكاد تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا شاذا ، نحو «زيدل ، وعبدل ، وفحجل» في كلمات معدودة ، فإذا كانت اللام لا تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا على طريق الشذوذ فكيف يحكم بزيادتها فيما لا يجوز فيه الزيادة بحال؟

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها زائدة لأنّا وجدناهم يستعملونها كثيرا في كلامهم عارية عن اللام ، قال نافع بن سعد الطائي :

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرحنا على شرح الأشموني (٣ / ١٨٨ ش ٥٢٢) وشرح التصريح للشيخ خالد (٢ / ٣) ولسان العرب (ع ل ل ـ ل ع ل) وشرح المفصل لابن يعيش (ص ١١٤٢) وشرح الرضي على الكافية (٢ / ٣٣٥) وخزانة الأدب للبغدادي (في شرح الشواهد ٨٧٦ و ٨٧٧ و ٨٧٨) (ج ٤ / ٣٦٨ ـ ٣٧٨).

١٧٧

[١٣٤] ولست بلوّام على الأمر بعد ما

يفوت ، ولكن علّ أن أتقدّما

أراد لعل ، وقال العجير السّلولي :

[١٣٥] لك الخير علّلنا بها ، علّ ساعة

تمرّ ، وسهواء من اللّيل يذهب

وقال الآخر :

[١٣٦]علّ صروف الدّهر أو دولاتها

تدلننا اللّمّة من لمّاتها

______________________________________________________

[١٣٤] أنشد ابن منظور هذا البيت (ل ع ل) عن ابن بري ، ونسبه لنافع بن سعد الغنوي ، واستشهد به موفق الدين بن يعيش (ص ١١٤٢) ولم يعزه ، والاستشهاد به في قوله «عل» حيث جاء بهذا الحرف ساقط اللام الأولى التي في «لعل» وقد ذكر المؤلف ـ نقلا عن البصريين ـ أن سقوط اللام في هذا البيت ونحوه يدل على أن هذه اللام زائدة في لعل ، وأن الأصل هو «عل» ولا يتم هذا الكلام لهم ؛ لأن الحروف بأنواعها ليست محلا للتصريف بالحذف أو الزيادة أو غيرهما ، ولأنه يجوز أن يكون الأمر على عكس ما ذهبوا إليه ، وأن الأصل هو لعل فحذفت لامها الأولى في عل ، ويجوز أن يكون كل واحد منهما أصلا برأسه ، ولأن العرب قد تلعبت في لعل كثيرا ، فقد أبدلوا من عينها غينا فقالوا : لغن ، وأبدلوا عينها همزة ولامها الأخيرة نونا فقالوا : لأن ، وأبدلوا اللام الأخيرة نونا مع حذف اللام الأولى فقالوا : عن ، وزادوا على ذلك فأبدلوا العين همزة فقالوا : أن ، فلم يبق من حروفها الأصلية شيء ، وهذه كلها لغات من لغات العرب ، وليست إحداهن بأن تكون أصلا أولى من غيرها.

[١٣٥] نسب المؤلف هذا البيت للعجير السلولي ، والسهواء ـ بفتح السين ، ممدودا ـ ساعة من الليل وصدر منه ، قاله ابن منظور ، والاستشهاد بالبيت في قوله «عل» وهو نظير ما ذكرناه في البيت السابق.

[١٣٦] هذان بيتان من مشطور الرجز ، وقد أنشدهما ابن جني في الخصائص (١ / ٣١٦) وابن منظور (ع ل ل) ولم يعزهما ، وأنشدهما في (ل م م) ونسب الإنشاد للفراء وزاد بعدهما :

* فتستريح النفس من زفراتها*

والاستشهاد هنا في قوله «عل» فقد جاء به المؤلف لمثل ما جاء بالبيتين السابقين من أجله شاهدا لمجيء عل ساقطة اللام الأولى مدعيا أن ذلك يدل على أن أصل لعل هو عل ، وقد بيّنا ما في ذلك في شرح الشاهد ١٣٤ ، والعجب العاجب ما حكاه ابن منظور عن الكسائي أنه يروي قول الراجز «عل صروف الدهر» يجر صروف ، ويخرجه على أن العين واللام الأولى أصلهما «لعا» وهي الكلمة التي تقال للعاثر دعاء له بأن ينتعش ، حذفت اللام الأولى ، فصار «عا» فأبدل من التنوين لاما فصار «عل» بفتح العين وسكون اللام ، واللام الثانية هي لام الجر ، وكأن الراجز قد قال «لعا لصروف الدهر» وهو كلام يشبه الأحاجي. وهاك كلام ابن منظور : «قال الكسائي : العرب تصير لعل مكان لعا ، وتجعل لعا مكان لعل ، وقال في قوله :

* عل صروف الدهر أو دولاتها*

١٧٨

وقال الآخر :

[١٣٧] ولا تهين الفقير ؛ علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه

______________________________________________________

معناها : عا لصروف الدهر ، فأسقط اللام من لعا لصروف الدهر ، وصير نون لعا لاما لقرب مخرج النون من اللام ، هذا على قول من كسر صروف ، ومن نصبها جعل عل بمعنى لعل ، فنصب صروف الدهر ، ومعنى لعا لك أي ارتفاعا ، قال ابن رومان : وسمعت الفراء ينشد عل صروف الدهر (أي بالجر) فسألته : لم تكسر على صروف؟ فقال : إنما معناه لعا لصروف الدهر ودولاتها ، فانخفضت صروف باللام ، والدهر بإضافة الصروف إليها ، أراد : أو لعا لدولاتها ليدلننا من هذا التفرق الذي نحن فيه اجتماعا ولمة من اللمات. قال : دعا لصروف الدهر ولدولاتها ؛ لأن لعا معناه ارتفاعا وتخلصا من المكروه ، وألقى اللام وهو يريدها ، كقوله :

* لئن ذهبت إلى الحجاج يقتلني*

أراد ليقتلني» اه. وهو كما ترى.

[١٣٧] هذا البيت من كلمة للأضبط بن قريع ، وقد رواها أبو علي القالي في أماليه ، وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ٢٥٧) والأشموني (رقم ٩٦٨) وأوضح المسالك (رقم ٤٧٦) وشرح المفصل (ص ١٢٤٢) وشرح الكافية في باب نوني التوكيد ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٥٨٨ بولاق) والاستشهاد به ههنا في قوله «علك أن تركع» حيث أسقط اللام الأولى من لعل ، على نحو ما بيّناه في الشواهد السابقة ، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضا بقوله «لا تهين الفقير» فإن أصله عندهم : لا تهينن الفقير ، بنون توكيد خفيفة ، فحذف هذه النون الخفيفة تخلصا من التقاء الساكنين اللذين هما نون التوكيد ، ولام التعريف في «الفقير» والعرب تحذف نون التوكيد الخفيفة الساكنة وهي تريدها ، فتبقى الكلمة على ما كانت عليه والنون متصلة بها ، سواء أكان بعدها ساكن أم لم يكن ، ولذلك نظائر كثيرة في كلام العرب ، منها قول الشاعر ، وأنشده أبو زيد في نوادره :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسيف قونس الفرس

فإنه أراد أن يقول : اضربن عنك الهموم ، فحذف النون تخفيفا وإن لم يكن بعدها ساكن ، ومثله ما أنشده الجاحظ في البيان :

خلافا لقولي من فيالة رأيه

كما قيل قبل اليوم : خالف تذكرا

فقد أراد أن يقول : خالفن تذكر ، فحذف نون التوكيد من «خالفن» وإن كان بعدها متحرك ، وأبقى الفتحة على الفاء لتدل على النون ، ومثله ما أنشده أبو علي الفارسي :

إن ابن أحوص مغرور فبلغه

في ساعديه إذا رام العلا قصر

فقد أراد أن يقول «فبلغنه» فحذف نون التوكيد للتخفيف وهو يريدها ، بدليل أنه أبقى الفتحة ، ومثله قول الآخر :

يا راكبا بلغ إخواننا

من كان من كندة أو وائل

أراد أن يقول «بلغن إخواننا» فحذف نون التوكيد لقصد التخفيف وهو يريدها ؛ بدليل إبقائه الفتحة على الغين ، وليس سبب الحذف هو قصد التخلص من التقاء الساكنين لأن ما بعد

١٧٩

[٩٧] وقال الآخر :

[١٣٨]* يا أبتا علّك أو عساكا*

وقالت أم النّحيف وهو سعد بن قرط :

[١٣٩]تربّص بها الأيام علّ صروفها

سترمي بها في جاحم متسعّر

______________________________________________________

الغين متحرك كما ترى ، ونظيره أيضا ما أنشده أبو زيد :

في أي يومي من الموت أفر

في يوم لم يقدر أم يوم قدر

فقد أراد أن يقول : في يوم لم يقدرن ـ بتوكيد الفعل المضارع المبني للمجهول المنفي بلم ـ لكنه حذف نون التوكيد الخفيفة وهو يريدها ، ولو لا ذلك لسكن «يقدر» لكونه مسبوقا بلم. وفي هذا القدر كفاية.

[١٣٨] هذا البيت من شواهد سيبويه (١ / ٣٨٨) ونسبه إلى رؤبة ، وكذلك نسبه الأعلم الشنتمري ، ولكنه لا يوجد في ديوانه. وهو من شواهد شرح المفصل (ص ١١٤٢) والأشموني (رقم ٢٥٢) ومغني اللبيب (رقم ٢٤٨) وشرح رضي الدين على الكافية في باب الضمير ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٤٤١) وابن جني في الخصائص (٢ / ٩٦) والاستشهاد به ههنا في قوله «علك» حيث أسقط اللام الأولى من لعل ، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة ، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضا بقوله «عساكا» ولهم في ذلك ثلاثة آراء : أولها : مذهب أبي العباس المبرد وأبي على الفارسي ، وتلخيصه أن «عسى» ههنا هي عسى الدالة على رجاء الخبر الرافعة للاسم الناصبة للخبر ، وهي فعل ماض ، والضمير المتصل بها باق على أصله من كونه ضمير نصب ، لكن هذا الضمير هو خبر عسى فهو مبني على الفتح في محل نصب ، واسمها محذوف أو هو ما يذكر بعد الضمير في بعض التراكيب نحو قولك «عساك أن تزورنا» فالاسم هو الصدر المنسبك من أن المصدرية ومدخولها. والمذهب الثاني : مذهب يونس بن حبيب وأبي الحسن الأخفش ، وتلخيصه أن الضمير المتصل بعسى هو اسمها ، وهي عاملة الرفع والنصب ، وهذا الضمير في هذا الموضع ضمير رفع لا ضمير نصب ، والمذهب الثالث : مذهب شيخ النحاة سيبويه ومن تابعه ، وتلخيصه أن عسى في هذا البيت ونحوه ليست هي عسى التي ترفع الاسم وتنصب الخبر ، بل هي ههنا حرف ترج ونصب مثل لعل ، والضمير المتصل بها في محل نصب اسمها ، وخبرها محذوف ، أي عساك تبقى ، مثلا. وقد أشبعنا القول في هذه المسألة في شرحنا على الأشموني.

[١٣٩] قد نسب المؤلف هذا البيت لأم النحيف ، وتربص : ارتقب وانتظر ، والجاحم : الشديد الاشتعال ، يقولون : جمر جاحم ، ونار جاحمة ، ومتسعر : ملتهب متوقد. والاستشهاد من هذا البيت في هذا الموضع بقوله «عل صروفها» حيث أسقط اللام الأولى من لعل ، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.

ونظير هذه الشواهد التي أثرها المؤلف ما أنشده موفق الدين بن يعيش (١١٤٢) :

عل الهوى من بعيد أن يقربه

أم النجوم ومن القوم بالعيس

وما أنشده ابن منظور ونسبه لمجنون بني عامر :

يقول أناس : عل مجنون عامر

يروم سلوا ، قلت : إني لما بيا

١٨٠