الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

٢١

مسألة

[القول في تقديم معمول الفعل المقصور عليه](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز «ما طعامك أكل إلا زيد».

وذهب البصريون إلى أنه يجوز ، وإليه ذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن الأصل في «زيد» أن لا يكون هو الفاعل ، وإنما الفاعل في الأصل محذوف قبل إلّا ؛ لأن التقدير فيه : ما أكل أحد طعامك إلا زيد ، والذي يدل على ذلك قولهم «ما خرج إلا هند ، وما ذهب إلا دعد» ولو كان الفعل لدعد وهند في الحقيقة لأثبتوا فيه علامة التأنيث ؛ لأن الفاعل مؤنث حقيقي ، فلما لم يثبتوا في الفعل علامة دل على أن الفاعل هو «أحد» المحذوف ، ويدل عليه أيضا أن «إلا» بابها الاستثناء ، والاستثناء يجب أن يكون من الجملة ، ولا بد أن يقدر قبلها ما يصحّ أن يكون الذي بعدها مستثنى منه ؛ فوجب أن يكون التقدير : ما أكل أحد طعامك إلا زيد ، إلا أنه اكتفى بالفعل من «أحد» فصار بمنزلته ، والاسم لا يتقدم صلته عليه ، ولا يفرق بينها وبينه ، فكذلك الفعل الذي قام مقامه.

وأما البصريون فاحتجّوا بأن قالوا : إنما جوّزنا ذلك لأن «زيد» مرفوع بالفعل ، والفعل متصرف ؛ فجاز تقديم معموله عليه كقولهم «عمرا ضرب زيد» [٨١] وكذلك سائر الأفعال المتصرفة.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن الأصل ألا يكون زيد هو الفاعل ؛ لأن التقدير ؛ ما أكل أحد طعامك إلا زيد» قلنا : لا نسلم أن «أحدا» مقدّر من جهة اللفظ ، وإنما هو مقدر من جهة المعنى ، كما أن المعنى يدل على أن

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : تصريح الشيخ خالد (١ / ٣٤٢) وحاشية الصبان على الأشموني (٢ / ٤٤ وما بعدها).

١٤١

«عرقا» في قولهم «تصبّب زيد عرقا» فاعل معنى ، وإن لم يكن فاعلا لفظا ، ولهذا لم تثبت علامة التأنيث في قولهم «ما خرج إلا هند ، وما ذهب إلا دعد» وما أشبه ذلك ، على أنه قد حذف علامة التأنيث الحقيقي مع الفصل في قولهم «حضر القاضي اليوم امرأة» وقال الشاعر :

[١٠٣] إنّ امرأ غرّه منكنّ واحدة

بعدي وبعدك في الدّنيا لمغرور

وقال الآخر :

[١٠٤] لقد ولد الأخيطل أمّ سوء

على قمع استها صلب وشام

فقال «ولد» ولم يقل «ولدت».

وأما قولهم «إنه اكتفى بالفعل من أحد» قلنا : لا نسلّم أن الفعل اكتفى به من الاسم ؛ لأن الفعل لا بدّ له من فاعل ، وإنما الاسم بعد «إلا» قام مقامه واكتفى به منه ؛ لأنه لما حذف المستثنى منه قبل «إلا» قام ما بعد «إلا» حين حذفته مقامه ، كما يقوم المفعول مقام الفاعل إذا حذف نحو «ضرب زيد ، وأعطي عمرو درهما ،

______________________________________________________

[١٠٣] هذا البيت من شواهد الأشموني (رقم ٣٦٥) وقد استشهد به ابن الناظم في باب الفاعل من شرحه على ألفية والده ابن مالك ، وابن هشام في شرح شذور الذهب (رقم ٧٩) وقد ذكر العيني أنه من شواهد سيبويه ، ولكني بحثت كتاب سيبويه من أوله إلى آخره فلم أجده فيه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله «غره واحدة» حيث لم يصل تاء التأنيث بالفعل الذي هو «غره» مع أن فاعله ـ وهو قوله «واحدة» ـ مؤنث حقيقي التأنيث ؛ فإنه في الأصل صفة لموصوف محذوف ، وتقدير الكلام : غره منكن امرأة واحدة ، والأصل في الفاعل الحقيقي التأنيث أن تلزم في فعله التاء ، والذي جرأ هذا الشاعر على حذف التاء هو الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول الذي هو الضمير المتصل وبالجار والمجرور ـ وهو قوله «منكن» ـ وهذا مما يجيزه جماعة من النحاة منهم ابن مالك الذي يقول في الألفية :

وقد يبيح الفصل ترك التاء في

نحو «أتى القاضي بنت الواقف»

[١٠٤] هذا البيت من قصيدة طويلة لجرير بن عطية بن الخطفي يهجو فيها الأخطل التغلبي وقومه ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٣٦٤) وأوضح المسالك (رقم ٢١٣) والأخيطل :

تصغير الأخطل ، وأصل الأخطل وصف بمعنى الفحاش الكثير الخطل ، ثم لقب به الشاعر المشهور ؛ وقوله «على قمع استها» يروى في مكانه «على باب استها» والصلب ـ بضم الصاد واللام جميعا ـ جمع صليب ، ووزانه وزان سرير وسرر «وشام» جمع شامة ، وهي العلامة ، والاستشهاد به في قوله «ولد الأخيطل أم سوء» فإن هذه جملة من فعل ماض هو «ولد» وفاعل مؤنث وهو «أم» ولم يصل به تاء التأنيث ، وقد علم أن الفعل الذي يسند إلى فاعل مؤنث حقيقي التأنيث يجب أن يؤنث لفظ الفعل بأن توصل به التاء التي للتأنيث إذا كان ماضيا ، لكنه ترك التاء في هذه الجملة لكون الفعل قد فصل بينه وبين فاعله بالمفعول الذي هو قوله «الأخيطل» وقد بيّنا مثل ذلك في الشاهد السابق.

١٤٢

وكسي عمرو قميصا» وما أشبه ذلك ، وهذا لا يوجب أن يجري الفعل مجرى الاسم في امتناع تقديم معموله عليه ، ألا ترى أنك تقول : «درهما أعطي زيد ، وقميصا كسي عمرو».

ثم لو سلمنا أن الأمر على ما زعمتم فالفعل إنما جاز تقديم معموله عليه لتصرفه في نفسه ، وهذا المعنى الذي ادعيتموه لم يوجب تغير الفعل عن تصرفه في نفسه ؛ فينبغي أن يجوز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة ، والله أعلم.

١٤٣

٢٢

مسألة

[القول في رافع الخبر بعد «إنّ» المؤكدة](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «إنّ» وأخواتها لا ترفع الخبر ، نحو «إنّ زيدا قائم» وما أشبه ذلك. وذهب البصريون إلى أنها ترفع الخبر.

أما الكوفيون [٨٢] فاحتجوا بأن قالوا : أجمعنا على أن الأصل في هذه الأحرف أن لا تنصب الاسم ، وإنما نصبته لأنها أشبهت الفعل ؛ فإذا كانت إنما عملت لأنها أشبهت الفعل فهي فرع عليه ، وإذا كانت فرعا عليه فهي أضعف منه ؛ لأن الفرع أبدا يكون أضعف من الأصل ؛ فينبغي أن لا يعمل في الخبر ، جريا على القياس في حطّ الفروع عن الأصول ؛ لأنا لو أعملناه عمله لأدّى ذلك إلى التسوية بينهما ، وذلك لا يجوز ؛ فوجب أن يكون باقيا على رفعه قبل دخولها. والذي يدلّ على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على الفعل لو ابتدىء به ، قال الشاعر :

[١٠٥] لا تتركنّي فيهم شطيرا

إنّي إذن أهلك أو أطيرا

______________________________________________________

[١٠٥] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده ابن منظور (ش ط ر) ولم يعزه ، وأنشده الرضي في شرح الكافية في نواصب المضارع ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ٥٧٤) والأشموني (رقم ١٠١٣) وابن هشام في المغني (رقم ٢١) وفي أوضح المسالك (رقم ٤٩٦). والشطير ـ بفتح الشين ـ مثل الغريب والبعيد في الوزن وفي المعنى ، وأهلك : معناه أموت ، وأطير : معناه الأصلي أذهب بعيدا ، أو أحلق في الجو. والاستشهاد به في قوله «إني إذن أهلك» حيث نصب الفعل المضارع الذي هو قوله «أهلك» بعد إذن الذي هو حرف جواب ، مع أن إذن في ظاهر اللفظ غير واقعة في صدر الكلام ، بل هي مسبوقة بإني ، وقد أخذ جماعة من النحاة بظاهر اللفظ وحكموا بأن جملة «إذن أهلك» في محل رفع خبر إن ، وقالوا : إن نصب المضارع بعد إذن هنا ضرورة من

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : حاشية الصبان على الأشموني (١ / ٢٥٠) والتصريح للشيخ خالد (١ / ٢٥٣ بولاق).

١٤٤

فنصب ب «إذن».

والذي يدلّ على ذلك أيضا أنه إذا اعترض عليها بأدنى شيء بطل عملها واكتفي به ، كقولهم «إنّ بك يكفل زيد» كأنها رضيت بالصفة لضعفها ، وقد روي أن ناسا قالوا : «إنّ بك زيد مأخوذ» فلم تعمل «إنّ» لضعفها ؛ فدلّ على ما قلناه.

وأما البصريون فاحتجّوا بأن قالوا : إنما قلنا إن هذه الأحرف تعمل في الخبر ، وذلك لأنها قويت مشابهتها للفعل ؛ لأنها أشبهته لفظا ومعنى ، ووجه المشابهة بينهما من خمسة أوجه ؛ الأول : أنها على وزن الفعل ، والثاني : أنها مبنيّة على الفتح كما أن الفعل الماضى مبنيّ على الفتح ، والثالث : أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضي الاسم ، والرابع : أنها تدخلها نون الوقاية نحو «إنني ، وكأنني» كما تدخل على الفعل نحو «أعطاني ، وأكرمني» وما أشبه ذلك ، والخامس : أن فيها معنى الفعل ؛ فمعنى «إنّ ، وأنّ» حقّقت ، ومعنى «كأن» شبّهت ، ومعنى «لكن» استدركت ، ومعنى «ليت» تمنّيت ، ومعنى «لعل» ترجّيت ، فلما أشبهت الفعل من هذه الأوجه وجب أن تعمل عمل الفعل ، والفعل يكون له مرفوع ومنصوب ، فكذلك هذه الأحرف ينبغي أن يكون لها مرفوع ومنصوب ؛ ليكون المرفوع مشبها بالفاعل والمنصوب مشبها بالمفعول ، إلا أن المنصوب هاهنا قدّم على المرفوع لأن عمل «إنّ» فرع ، وتقديم المنصوب على المرفوع فرع ؛ فألزموا الفرع الفرع ، أو لأن هذه الحروف لما أشبهت الفعل لفظا ومعنى ألزموا فيها تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها حروف أشبهت الأفعال ، وليست أفعالا ، وعدم التصرف فيها لا يدل [٨٣] على الحرفية ؛ لأن لنا أفعالا لا تتصرف ؛ نحو «نعم ، وبئس ، وعسى ، وليس ، وفعل التعجب ، وحبّذا».

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن هذه الأحرف إنما نصبت لشبه الفعل ؛ فينبغي أن لا تعمل في الخبر ؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع» قلنا : هذا يبطل باسم الفاعل ؛ فإنه إنما عمل لشبه الفعل ، ومع هذا فإنه

______________________________________________________

ضرورات الشعر ، فأما المحققون من النحاة فقد أجروا نصب المضارع في هذا البيت على القياس ، وذكروا أن شرط النصب متحقق ، وأن «إذن» واقعة في صدر الجملة ، وبيان ذلك أن خبر إن محذوف ، وأن جملة «إذن أهلك» مستأنفة وتقدير الكلام : إني لا أستطيع ذلك إذن أهلك أو أطيرا ، وقد ذكر الفراء في عدة مواضع من تفسيره أن «إذن» إذا وقعت بعد «إن» ووقع بعدها مضارع جاز في هذا المضارع الرفع والنصب ، وأن كل واحد منهما لغة من لغات العرب ، وأن ذلك مختص بوقوعها بعد إن ، وقد ذكر المؤلف في رده تقدير خبر إن محذوفا.

١٤٥

يعمل عمله ، ويكون له مرفوع ومنصوب كالفعل ، تقول : زيد ضارب أبوه عمرا ، كما تقول : يضرب أبوه عمرا.

والذي يدل على فساد ما ادعيتموه من ضعف عملها أنها تعمل في الاسم إذا فصلت بينها وبينه بظرف أو حرف جر ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) [المزمل : ١٢] و (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) [البقرة : ٢٤٨] وما أشبه ذلك ، على أنا قد عملنا بمقتضى كونها فرعا ، فإنا ألزمناها طريقة واحدة ، وأوجبنا فيها تقديم المنصوب على المرفوع ، ولم نجوّز فيها الوجهين كما جوزنا مع الفعل ؛ لئلا يجري مجرى الفعل فيسوّى بين الأصل والفرع ، وكان تقديم المنصوب أولى ليفرق بينها وبين الفعل ؛ لأن الأصل أن يذكر الفاعل عقيب الفعل قبل ذكر المفعول ، فلما قدّم هاهنا المنصوب وأخر المرفوع حصلت مخالفة هذه الأحرف للفعل وانحطاطها عن رتبته.

وقولهم «إن الخبر يكون باقيا على رفعه قبل دخولها» فاسد ، وذلك لأن الخبر على قولهم مرفوع بالمبتدأ ، كما أن المبتدأ مرفوع به ؛ فهما يترافعان ، ولا خلاف أن الترافع قد زال بدخول هذه الأحرف على المبتدأ ونصبها إياه ؛ فلو قلنا «إنه مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخولها مع زواله» لكان ذلك يؤدي إلى أن يرتفع الخبر بغير عامل ، وذلك محال.

وأما قولهم «الدليل على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على الفعل لو ابتدىء به كقول الشاعر :

* إنّي إذن أهلك أو أطيرا*» [١٠٥]

قلنا : الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن هذا شاذ ؛ فلا يكون فيه حجة ، والثاني : أن الخبر هاهنا محذوف ، كأنه قال : لا تتركني فيهم غريبا بعيدا ، إني أذلّ ، إذن أهلك أو أطيرا ، وحذف الفعل الذي هو الخبر ؛ لأن في الثاني دلالة على الأول المحذوف ، فإذن ما دخلت على الخبر ، والثالث : أن يكون جعل [٨٤] «إذن أهلك أو أطيرا» في موضع الخبر ، كقولك «إنّي لن أذهب» فشبّه إذن بلن ، وإن كانت لن لا يلغى في حال بخلاف إذن.

وأما قولهم «إن بك يكفل زيد ، وإن بك زيد مأخوذ» فالتقدير فيه : إنه بك يكفل زيد ، وإنه بك زيد مأخوذ ، كما قال الراعي :

[١٠٦] فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة

وإن كان سرح قد مضى فتسرّعا

______________________________________________________

[١٠٦] هذا البيت للراعي كما قال المؤلف ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٤٣٩) وكذلك أنشده ابن منظور (س ر ح) وأنشده البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٨١) نقلا عن ابن عصفور في كتاب

١٤٦

أراد فلو أنه حقّ ، ولو لم يرد الهاء لكان الكلام محالا ، وقال الأعشى :

[١٠٧] إنّ من لام في بني بنت حسّا

ن ألمه وأعصه في الخطوب

______________________________________________________

الضرائر ، و «لو» ههنا للتمني ، وحق : أي ثبت ، و «سرح» في هذا البيت اسم رجل ، والاستشهاد بالبيت في قوله «ولو أن حق اليوم منكم» حيث وقع الفعل الماضي ـ الذي هو قوله «حق» ـ بعد إن المؤكدة الناصبة للاسم الرافعة للخبر ، في ظاهر اللفظ ، ولو أبقى الكلام على ظاهره لكان كلاما فاسدا ؛ لأن «إن» المشددة وأخواتها مختصة بالدخول على الجمل الإسمية وأن تعمل فيها النصب والرفع ، إلا إذا اقترنت بهن «ما» فإن اقترنت بهن «ما» جاز دخولها على الجمل الفعلية. ولم تقترن «ما» بإن في هذا البيت ، فوجب أن يكون ثمة محذوف يقدر دخول إن عليه لكي يصح الكلام ، وقد قدر بعض العلماء أن المحذوف في هذا البيت ضمير الشأن والقصة ، وعلى هذا يكون تقدير الكلام : ولو أنه (أي الحال والشأن) حق اليوم منكم إقامة ، فيكون اسم إن هو هذا الضمير وخبرها هو الجملة الفعلية ، وقدره جماعة آخرون ضمير خطاب ، وعلى هذا يكون أصل الكلام : ولو أنكم حق اليوم منكم إقامة ، والعلماء يجعلون التقدير الثاني خيرا من التقدير الأول.

ونظير هذا البيت قول الشاعر ، وهو من شواهد الرضي :

كأن على عرنينه وجبينه

أقام شعاع الشمس أو طلع البدر

أراد كأنه (أي الحال والشأن) أقام على عرنينه وجبينه شعاع الشمس ، ومثلهما قول الآخر :

فلا تشتم المولى وتبلغ أذاته

فإن به تثأى الأمور وترأب

أراد فإنه (أي الحال والشأن) تثأى به الأمور ـ أي تصلح ـ وترأب ، ونظير ذلك البيتان الآتيان برقمي ١١٠ و ١١١.

[١٠٧] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس من قصيدة يمدح فيها أبا الأشعث بن قيس الكندي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٤٣٩) وشواهد الرضي في شرح الكافية ، وقد شرحه البغدادي في الخزانة (٣ / ٤٦٣) وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٤٣٥ أوربة) وحسان : أحد تبابعة اليمن ، والاستشهاد بالبيت في قوله «إن من لام ـ الخ» فإن «من» التي دخلت عليها «إن» في هذا البيت شرطية تطلب فعلين أحدهما فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه ؛ والدليل على أنها شرطية أن الجواب الذي هو قوله «ألمه» وما عطف عليه مجزومان ، ومن المعلوم أن أسماء الشرط لها صدر الكلام ، نعني أنه لا يجوز أن تقع إلا في أول الجملة التي هي منها ، وعلى هذا لا يجوز أن تكون «من» هذه اسما لأن ، وقد خرج العلماء هذا الكلام على تقدير ضمير الشأن والحال ، وعلى أن يكون هذا الضمير المقدر هو اسم إن ، وتكون «من» الشرطية مبتدأ ، وخبره هو جملة الشرط وحدها أو جملة الجواب وحدها أو الجملتان معا ، ونحن نرجح الثالث ، وجملة المبتدأ والخبر في محل رفع خبر إن.

ونظير هذا البيت قول الأخطل التغلبي :

إن من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء

والتقدير فيه : إنه (أي الحال والشأن) من يدخل الكنيسة ـ الخ. ـ

١٤٧

وقال أميّة بن أبي الصّلت :

[١٠٨] ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه

بعدّته ينزل به وهو أعزل

وقال الآخر :

[١٠٩] فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّ عظيم المشافر

______________________________________________________

هذا وبيت الأعشى يروى :

* من يلمني على بني بنت حسان*

وهذا هو الموجود في ديوانه ، وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد لما جاء به المؤلف من أجله.

[١٠٨] هذا البيت كما قال المؤلف لأمية بن أبي الصلت ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٤٣٩) وينوبه : مضارع نابه الأمر ، أي نزل به ، والأعزل : الذي ليس معه سلاح. يقول : من لم يتخذ لنوازل الدهر العدة قبل أن تنزل به ، فإنها ستدهمه وتنزل به في الوقت الذي لا يكون معه من عدد الدفاع شيء فلا ينجو منها ، يرغب في أن يتبصر الإنسان العواقب ويهيّئ نفسه لملاقاة المصاعب وهو قادر على حلها. والاستشهاد بالبيت في قوله «ولكن من لا يلق أمرا ـ الخ» فإن «من» في هذا الكلام شرطية ، بدليل أنها جزمت الشرط الذي هو قوله «يلق» بحذف الألف وجزمت الجواب الذي هو قوله «ينزل به» بالسكون ، وقد علمنا أن أسماء الشرط لا يعمل فيها ما قبلها ، نعني أنها لا بدّ أن تتصدر جملتها فلا يتقدم عليها شيء من جملتها ولا العامل فيها ، وقد تقدم على «من» الشرطية في هذا البيت «لكن» ومن أجل هذا قال العلماء : إن اسم لكن في هذا البيت ضمير الشأن محذوفا ، وإن «من» مبتدأ خبره ما بعده على ما بيّناه في شرح الشاهد السابق ، وجملة المبتدأ والخبر في محل رفع خبر لكن ، وعلى هذا تكون «من» واقعة في صدر جملتها نظير ما ذكرناه في الشاهد ١٠٧.

[١٠٩] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة ، وقد أنشده ابن منظور (ش ف ر) وسيبويه (١ / ٢٨٢) ورضي الدين في باب إن وأخواتها من شرح الكافية ، وهو باب الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٧٨) ورواه ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٣٨) وابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٤٨٦) وكلهم يروي قافيته على الوجه الذي رواها المؤلف عليه ، والصواب في إنشاده :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكن زنجيا غلاظا مشافره

والمشفر ـ بوزن المنبر أو المقعد ـ للبعير مثل الشفة للإنسان ، والاستشهاد بالبيت على الرواية التي ذكرها النحاة في قوله «ولكن زنجي» حيث حذف اسم لكن ، وهو غير ضمير الشأن ، والتقدير : ولكنك زنجي غليظ المشافر ، وحذف اسم لكن وأخواتها لا يجوز إلا أن يكون هذا الاسم ضمير الشأن ، والاسم المقدر في هذا البيت ضمير المخاطب على ما عرفت ، ولهذا رأى العلماء أن الحذف في هذا البيت ضرورة ، وقد رواه ابن منظور «ولكن زنجيا» بالنصب فيكون المحذوف هو خبر لكن ، والتقدير : ولكن زنجيا عظيم المشافر لا

١٤٨

وقال الآخر :

[١١٠] فليت دفعت الهمّ عنّي ساعة

فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال

______________________________________________________

يعرف قرابتي ، قال الأعلم : «الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر ، وحذف اسم لكن ضرورة ، والتقدير : ولكنك زنجي ، ويجوز نصب زنجي بلكن على إضمار الخبر ، وهو أقيس ، والتقدير : ولكن زنجيا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي» اه كلامه.

ونظير هذا البيت ما أنشده سيبويه :

فما كنت ضفاطا ، ولكن طالبا

أناخ قليلا فوق ظهر سبيل

والضفاط : الذي يقضي حاجته من جوفه ، وهو أيضا المسافر على الحمير من قرية إلى قرية ، والطالب : الذي يطلب الإبل الضالة ، كأنه نزل عن راحلته لأمر فظن قوم أنه يقضي حاجته ، فقال ذلك. والاستشهاد به في قوله «ولكن طالبا» حيث حذف خبر لكن وذكر اسمها ، وتقدير الكلام : ولكن طالبا أناخ قليلا أنا ، قال سيبويه «النصب أجود ؛ لأنه لو أراد إضمارا لخفف ولجعل المضمر مبتدأ ، كقولك : ما أنت صالحا ، ولكن طالح» اه ، والكلام واضح إن شاء الله.

ومثل هذا البيت قول الآخر وهو من شواهد الأشموني (رقم ١٤١) :

فأما القتال لا قتال لديكم

ولكن سيرا في عراض المواكب

التقدير : ولكن سيرا في عراض المواكب لكم ، مثلا ، ومن العلماء من يجعل التقدير : ولكنكم تسيرون سيرا في عراض المواكب ، ولا داعي له ؛ لأنه يلزم عليه تكثير المحذوف ، ومتى أمكن تقليل المحذوف كان هو الأمثل ، ومثله قول الآخر :

فأما الصدور لا صدور لجعفر

ولكن أعجازا شديدا صريرها

تقديره على ما نرجح : ولكن لهم أعجازا ـ الخ.

[١١٠] أنشد ابن منظور (ب ول) عجز هذا البيت ، ولم يعزه إلى قائل معين ، والبال : الحال والشأن ، ومحل الشاهد فيه قوله «فليت دفعت الهم» حيث وقع الفعل بعد ليت ، وقد علمنا أن «ليت» من الأدوات المختصة بالدخول على الجمل الإسمية فتنصب المبتدأ وترفع الخبر ، ومن أجل هذا جعل النحاة اسم ليت في هذا البيت محذوفا ، وتقدير الكلام : فليتك دفعت الهم ـ الخ ؛ فيكون هذا الفعل مع فاعله جملة في محل رفع خبر ليت ، ولا يكون الفعل واقعا عند التحقيق بعد ليت ؛ لأن الواقع بعد ليت هو اسمها المقدر ، ويجوز أن يكون الضمير المحذوف هو ضمير الشأن والحال ، وتقدير الكلام حينئذ : فليته (أي الحال والشأن) دفعت الهم ـ الخ ، ولكن ما ذكرناه أولا أمثل من هذا ، للعلة التي ذكرناها في شرح الشاهد رقم ١٠٦ ، ومن العلماء من يجعل نظير هذا قول جميل بن معمر :

ألا ليست أيام الصفاء جديد

ودهر تولى بابثين يعود

وذلك إذا رويت «أيام» بالرفع على الابتداء ، وخبره قوله «جديد» فإن اسم ليت حينئذ يكون محذوفا مقدرا بضمير الشأن ، وكأنه قال : ألا ليته (أي الحال والشأن) أيام الصفاء جديد ، فاعرف ذلك.

١٤٩

وقال الآخر :

[١١١] فليت كفافا كان خيرك كلّه

وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي

أراد «ليته» إن جعلت «كفافا» خبر كان مقدما عليها ، والتقدير فيه : ليته كان خيرك وشرك كفافا عني ، أو مكفوفين عني ؛ لأن الكفاف مصدر فيقع على الواحد والاثنين والجميع ، كقولهم : رجل عدل ورضا ، ورجلان عدل ورضا ، وقوم عدل ورضا ، وما أشبه ذلك ، وإن جعلت «كفافا» منصوبا بليت لم يكن من هذا الباب ، والأول أجود.

والذي يدلّ على فساد ما ذهبوا إليه أنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النّصب إلا ويعمل الرفع ؛ فما ذهبوا إليه يؤدي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة ، وذلك لا يجوز ، فوجب أن تعمل في الخبر الرفع كما عملت في الاسم النّصب على ما بيّنا ، والله أعلم.

______________________________________________________

[١١١] هذا البيت من قصيدة جيدة ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي يقولها في عتاب ابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص ، وقد روى هذه القصيدة أبو علي القالي في أماليه (١ / ٦٨ ط دار الكتب) وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (١١ / ١٠٠ بولاق) والبغدادي في خزانة الأدب (١ / ٤٩٦) نقلا عن أبي علي الفارسي في المسائل البصرية ، وقد استشهد الرضي بعدة أبيات من هذه القصيدة ، واستشهد بالبيت الذي استشهد به المؤلف ههنا في باب «الحروف المشبهة بالفعل» وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٩٠) والكفاف ـ بفتح الكاف بزنة السحاب ـ الذي لا يزيد عن قدر الحاجة ، و «ما» مصدرية ظرفية ، وارتوى : أراد به شرب ، ومرتوي : اسم الفاعل من قولهم «ارتوى فلان» إذا طلب الري وذهاب العطش ، ومحل الاستشهاد في البيت قوله «ليت كفافا كان خيرك» فإن هذه العبارة ـ على ما ذكر المؤلف ـ تحتمل وجهين : الأول : أن يكون قوله كفافا خبر كان تقدم عليها وعلى اسمها جميعا ، وأصل الكلام : ليت كان خيرك كفافا ، وعلى هذا الوجه يكون الشاعر قد أولى «ليت» في الظاهر الفعل الذي هو كان ، وقد علمنا أن «ليت» مختصة بالجمل الإسمية ، ولهذا يجب على هذا الوجه تقدير اسم ليت إما ضمير شأن وإما ضمير مخاطب ؛ فعلى الأول يكون تقدير الكلام : ليت هو (أي الحال والشأن) كان خيرك كفافا ، وعلى الثاني يكون التقدير : فليتك كان خيرك كفافا ، والوجه الثاني : من الوجهين اللذين تحتملهما العبارة أن يكون قوله «كفافا» اسم ليت ، وجملة كان في محل رفع خبر ليت ، واسم كان على هذا الوجه ضمير مستتر فيها يعود على كفاف ، ويكون «خيرك» بالنصب على أنه خبر كان ، وقوله «عني» على هذا الوجه جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من قوله «خيرك» أي : ليت كفافا يكون (هو) خيرك منفصلا عني ، ولا يجوز لك أن ترفع «خيرك» على أنه فاعل كان وهي تامة ، وتجعل «كفافا» اسم ليت وخبرها جملة كان وفاعلها ؛ لأن جملة كان حينئذ تصير خالية من رابط يربطها باسم ليت ، فاعرف ذلك كله وتنبه له ، وللعلماء في شرح هذا البيت كلام طويل أعرضنا عنه.

١٥٠

[٨٥] ٢٣

مسألة

[القول في العطف على اسم «إنّ» بالرفع قبل مجيء الخبر](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على موضع «إنّ» قبل تمام الخبر ، واختلفوا بعد ذلك ؛ فذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي إلى أنه يجوز ذلك على كل حال ، سواء كان يظهر فيه عمل «إنّ» أو لم يظهر ، وذلك نحو قولك : «إن زيدا وعمرو قائمان ، وإنك وبكر منطلقان». وذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء إلى أنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إنّ : وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر على كل حال.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على جواز ذلك النقل والقياس :

أما النقل فقد قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) [المائدة : ٦٩] وجه الدليل أنه عطف (الصَّابِئُونَ) على موضع «إنّ» قبل تمام الخبر ـ وهو قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ٦٢] ـ وقد جاء عن بعض العرب فيما رواه الثقات «إنّك وزيد ذاهبان» وقد ذكره سيبويه (٢) في كتابه ؛ فهذان دليلان من كتاب الله تعالى ولغة العرب.

وأما من جهة القياس فقالوا : أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا ، نحو «لا رجل وامرأة أفضل منك» فكذلك مع «إنّ» لأنها بمنزلتها ، وإن كانت إنّ للإثبات ولا للنفي ؛ لأنهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره ، يدل عليه أنا أجمعنا على أنه يجوز العطف على الاسم بعد

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : تصريح الشيخ خالد وحاشية يس الحمصي عليه (١ / ٢٧٢ وما بعدها) وشرح الأشموني بحاشية الصبان (١ / ٢٦٥ وما بعدها) وشرح ابن يعيش على المفصل (ص ١١٢٢ ـ ١١٢٧) وشرح الكافية لرضي الدين (٢ / ٣٢٧ ـ ٣٣٠).

(٢) قال سيبويه «واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون ، وإنك وزيد ذاهبان» فذكر سيبويه لهذا المثال لا يدل على جوازه ، وكيف يدل على ذلك وهو ينص على غلطه؟ وسيذكر ذلك المؤلف في ص ١٩١.

١٥١

تمام الخبر ، فكذلك قبل تمام الخبر ؛ لأنه لا فرق بينهما عندنا ، وأنه قد عرف من مذهبنا أن «إنّ» لا تعمل في الخبر لضعفها ، وإنما يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها ، فإذا كان الخبر يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها ؛ فلا إحالة إذن ؛ لأنه إنما كانت المسألة تفسد أن لو قلنا إن «إنّ» هي العاملة في الخبر فيجتمع عاملان فيكون محالا ، ونحن لا نذهب إلى ذلك ؛ فصحّ ما ذهبنا إليه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن ذلك لا يجوز أنك إذا قلت «إنّك وزيد قائمان» وجب أن يكون «زيد» مرفوعا [٨٦] بالابتداء ، ووجب أن يكون عاملا في خبر «زيد» وتكون «إنّ» عاملة في خبر الكاف ، وقد اجتمعا في لفظ واحد ؛ فلو قلنا «إنه يجوز فيه العطف قبل تمام الخبر» لأدى ذلك إلى أن يعمل في اسم واحد عاملان ، وذلك محال.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنا نقول : في هذه الآية تقديم وتأخير ، والتقدير فيها : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصّابئون والنّصارى كذلك ، كما قال الشاعر :

[١١٢] غداة أحلّت لابن أصرم طعنة

حصين عبيطات السّدائف والخمر

______________________________________________________

[١١٢] هذا البيت من كلام الفرزدق ، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢٧) وابن هشام في أوضح المسالك (رقم ٢٠٥ بتحقيقنا) ، وابن أصرم : هو حصين كما سيذكره بعد ، والعبيطات : جمع عبيطة ـ بفتح العين ـ وهي القطعة من اللحم الطري غير النضيج ، والسدائف : جمع سديف ، وهو السنام ، ومحل الاستشهاد في قوله «والخمر». واعلم أولا أن قوله «أحلت لابن أصرم طعنة عبيطات السدائف والخمر» يروى على وجهين : الأول :

بنصب «طعنة» ورفع كل من «عبيطات» و «الخمر» والوجه الثاني : برفع «طعنة» ونصب عبيطات بالكسرة نيابة عن الفتحة ورفع «الخمر» وهذه الرواية هي التي يقصدها المؤلف ههنا ، فأما الرواية الأولى فتخرج على أن «طعنة» مفعول به في اللفظ وإن كان فاعلا في المعنى ، و «عبيطات» فاعل في اللفظ وإن كان مفعولا به في المعنى ، و «الخمر» معطوف على عبيطات السدائف ، وقد أتى الشاعر ـ على هذه الرواية ـ بالفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا على طريقة من قال : خرق الثوب المسمار ، وكسر الزجاج الحجر ، وقد صرح ابن مالك بأن العرب قد يدعوهم ظهور المعنى إلى أن يغيروا من إعراب الفاعل فينصبوه وإعراب المفعول فيرفعوه ، وأما تخريج الرواية الثانية فقد اختلف النحاة فيه ، فمنهم من ذهب إلى أن «طعنة» فاعل أحلت مرفوع بالضمة الظاهرة ، و «عبيطات» مفعول به ، و «الخمر» فاعل بفعل محذوف يدل عليه الفعل السابق ، وتقدير الكلام : أحلت الطعنة

١٥٢

فرفع «الخمر» على الاستئناف ، فكأنه قال : والخمر كذلك. وقال الآخر :

[١١٣] وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّف

______________________________________________________

عبيطات السدائف وحلت الخمر ، ويروى أن الكسائي سئل في حضرة يونس بن حبيب عن توجيه رفع الخمر في هذا البيت ، فقال الكسائي : يرتفع بإضمار فعل ، أي وحلت له الخمر ، فقال يونس : ما أحسن والله توجيهك ، غير أني سمعت الفرزدق ينشده بنصب طعنة ورفع عبيطات ، على جعل الفاعل مفعولا في اللفظ. ومنهم من جعل قوله «الخمر» مبتدأ حذف خبره ، والتقدير : والخمر كذلك ، وهذا هو الذي أراده المؤلف ههنا ، وهو الذي وجه به البيت ابن يعيش في شرح المفصل.

[١١٣] وهذا البيت أيضا من كلام الفرزدق ، وقد استشهد به رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف العطف ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ٣٤٧ بولاق) وأنشده ابن منظور (س ح ت ـ ج ل ف) ونسبه إليه في المرتين ، وأنشده ابن جني في الخصائص (١ / ٩٩) ، وهو من قصيدة من قصائد النقائض ، وأولها قوله :

عزفت بأعشاش وما كدت تعزف

وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف

ويروى أن الفرزدق أنشد هذه القصيدة لعبد الله بن إسحاق ، فلما بلغ البيت المستشهد به قال له عبد الله : علام رفعت «أو مجلف» فقال الفرزدق : على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول ، وعليكم أن تتأولوا. ولم يدع : أي لم يترك ، والمسحت ـ بضم أوله على زنة اسم المفعول ـ هو المستأصل الذي فني كله ولم يبق منه شيء ، والمجلف ـ بالجيم ، على زنة المعظم ـ الذي قد ذهب أكثره وبقي منه شيء يسير. واعلم قبل كل شيء أن أصل الرواية في هذا البيت على ما رواها المؤلف بنصب «مسحتا» ورفع «مجلف» وقد تكلم العلماء في ذلك فأطالوا وقالوا فأكثروا وتعبوا في طلب الحيلة ولم يأتوا بشيء يرتضى ، هكذا قال ابن قتيبة ، وقال الزمخشري كلاما قريبا منه ، ونحن نذكر لك أربعة تخريجات لهذه الرواية الأصلية ، التخريج الأول : أن قوله «مجلف» مبتدأ حذف خبره وتقدير الكلام : أو مجلف كذلك ، والثاني : أن «مجلف» فاعل بفعل محذوف دل عليه سابق الكلام ، والتقدير : أو بقي مجلف ؛ لأن قوله «لم يدع إلا مسحتا» معناه بقي مسحت ، وهذان التخريجان مثل التخريجين اللذين ذكرناهما في شرح البيت السابق ، والتخريج الثالث : أن قوله «مجلف» معطوف على قوله «عض زمان» في أول البيت وهو مصدر ميمي بمعنى التجليف ، وليس اسم مفعول ، وتقدير الكلام على هذا : وعض زمان وتجليفه لم يدع من المال إلا مسحتا ، وهذا توجيه أبي على الفارسي ، والتخريج الرابع : أن قوله «مسحتا» اسم مفعول منصوب على أنه مفعول به لقوله لم يدع ، وفيه ضمير مستتر نائب فاعل ، وقوله «أو مجلف» معطوف على الضمير المستتر في مسحت ، وهذا توجيه الكسائي.

ومن العلماء من ذهب يغير في رواية البيت أو في تفسير كلماته ؛ فمن ذلك ما حكاه الفراء من أن بعضهم روى البيت هكذا :

وعض زمان يا ابن مروان ما به

من المال إلا مسحت أو مجلف

ومن ذلك أن أبا جعفر بن حبيب روى البيت في كتابه النقائض برفع مسحت ومجلف

١٥٣

فرفع «مجلف» على الاستئناف ، فكأنه قال : أو مجلف كذلك ، وهذا كثير في كلامهم.

والوجه الثاني : أن تجعل قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ٦٢] خبرا للصّابئين والنّصارى ، وتضمر للذين آمنوا والذين هادوا خبرا مثل الذي أظهرت للصابئين والنصارى ؛ ألا ترى أنك تقول «زيد وعمرو قائم» فتجعل قائما خبرا لعمرو ، وتضمر لزيد خبرا آخر مثل الذي أظهرت لعمرو ، وإن شئت أيضا جعلته خبرا لزيد وأضمرت لعمرو خبرا آخر.

وقال الشاعر ، وهو بشر بن أبي خازم :

[١١٤] وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ، ما بقينا في شقاق

______________________________________________________

جميعا من غير تغيير في صدر البيت ، وخرجها ابن الأعرابي على أن التقدير : لم يدع من المال إلا أن يكون مسحت أو مجلف ، قال : وهو نظير قول شعيب بن البرصاء :

ولا خير في العيدان إلا صلابها

ولا ناهضات الطير إلا صقورها

برفع «صلابها» على تقدير : إلا أن يكون صلابها ، ورفع «صقورها» على أن يكون التقدير : إلا أن يكون صقورها. ومن ذلك أن عيسى بن عمر روى البيت بكسر الدال من «لم يدع» على أن معناه يقر ويمكث ، وبرفع مسحت ومجلف على أن الأول فاعل والثاني معطوف عليه ، وخرجه على ذلك ابن جني في الخصائص.

وبعد ؛ فقد قال ابن قتيبة : ومن ذا الذي يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه.

[١١٤] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ لبشر بن أبي خازم ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٢٩٠) واستشهد به ابن يعيش في شرح المفصل (ص ١١٢٦) وأنشده رضي الدين في شرح الكافية في باب الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣١٥) وبغاة : جمع باغ ، وهو هنا بمعنى طالب ، تقول : بغيت الشيء أبغيه بغيا ، تريد طلبته ، و «ما» مصدرية ظرفية ، وفي شقاق : أي في اختلاف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «أنا وأنتم بغاة» حيث وقع الضمير المنفصل الذي يكون في محل الرفع بعد اسم أن وقبل ذكر خبرها ، وقد تمسك بظاهر هذا الفرّاء وشيخه الكسائي فقالا : يجوز أن يعطف بالرفع على اسم إن قبل أن يذكر الخبر ، فتقول : إنني ومحمد على وفاق ، ولم يرتض سيبويه ذلك ، وقال : إن الكلام مؤلف من جملتين : إحداهما : إن واسمها وخبرها ، والثانية : هذا الاسم المرفوع المتوسط بين اسم إن وخبرها فهو مبتدأ وخبره محذوف ، والجملة معطوفة على جملة إن واسمها وخبرها ، وأصل مكان هذا الاسم المرفوع بعد خبر إن ، لكن الشاعر في هذا البيت قد قدمه ، وأصل الكلام : وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، وأجاز الأعلم وجها آخر ، وهو أن يكون خبر إن محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، و «بغاة» المذكور خبر المبتدأ الذي هو «أنتم» فيكون الشاعر قد حذف من الجملة الأولى لدلالة ما في الجملة الثانية على المحذوف ، وعلى الوجه السابق يكون الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه ، وهو أفضل من تقدير الحذف من الأول.

١٥٤

فإن شئت جعلت قوله : «بغاة» خبرا للثاني وأضمرت للأول خبرا ، ويكون التقدير : وإلا فاعلموا أنّا بغاة وأنتم بغاة ، وإن شئت جعلته خبرا للأول وأضمرت للثاني خبرا ، على ما بيّنا.

والوجه الثالث : أن يكون عطفا على المضمر المرفوع في «هادوا» وهادوا بمعنى تابوا. وهذا الوجه عندي ضعيف ؛ لأن العطف على المضمر المرفوع قبيح وإن كان لازما للكوفيين ؛ لأن العطف على المضمر المرفوع عندهم [٨٧] ليس بقبيح ، وسنذكر فساد ما ذهبوا إليه في موضعه ، إن شاء الله تعالى.

وأما ما حكوه عن بعض العرب «إنك وزيد ذاهبان» فقد ذكر سيبويه أنه غلط من بعض العرب ، وهذا لأن العربي يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضرب من الغلط فيعدل عن قياس كلامه ، كما قالوا «ما أغفله عنك شيئا» ، وكما قال زهير ، ويقال صرمة الأنصاري :

[١١٥] بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

فقال «سابق» على الجر ؛ وكان الوجه «سابقا» بالنّصب!

وقال الآخر :

[١١٦]أجدّك لست الدّهر رائي رامة

ولا عاقل إلّا وأنت جنيب

______________________________________________________

[١١٥] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني ، وهو ثابت في ديوانه بشرح الأعلم الشنتمري ، وهو من شواهد سيبويه ، أنشده في (١ / ٨٣ و ٤١٨ و ٤٥٢) ونسبه في هذه المرات إلى زهير ، وأنشده في (١ / ١٥٤) ونسبه إلى صرمة الأنصاري ، والبيت من شواهد مغني اللبيب لابن هشام (ص ٩٦ و ٢٨٨ و ٤٦٠ و ٤٧٦ و ٥٥١ و ٦٧٨ بتحقيقنا) وشواهد الأشموني (رقم ٥٨٤) وأنشده في اللسان (ن م ش) ونسبه إلى زهير ، وأنشده ابن جني في الخصائص (٢ / ٣٥٣ و ٤٢٤) والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا سابق» حيث جاء به مجرورا مع كونه معطوفا على مدرك المنصوب لكونه خبر ليس ، وإنما جاء به مجرورا لأن الباء تدخل في خبر ليس كثيرا ، فلما قال الشاعر «أني لست مدرك ما مضى» توهم أنه أدخل الباء على خبر ليس لكونه مما يجري على لسانه كثيرا ؛ فجر المعطوف على هذا التوهم ، قال سيبويه بعد أن أنشده «فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرا» اه. وقال الأعلم : «حمل قوله ولا سابق على معنى الباء في مدرك ؛ لأن معناه لست بمدرك ، فتوهم الباء وحمل عليها» اه.

[١١٦] لم أعثر لهذين البيتين على نسبة إلى قائل معين ، ورامة وعاقل ومنعج وشطيب : أسماء أماكن بأعينها ، والاستشهاد بالبيتين في قوله «ولا مصعد» فإنه مجرور وهو معطوف على قوله «رائي رامة» المنصوب لكونه خبر ليس ، وسهل ذلك أن خبر ليس يكثر دخول الباء الزائدة عليه فتجر لفظه ، فكأن الشاعر بعد أن قال «لست رائي رامة» توهم أنه أدخل الباء فقال : لست برائي رامة ، فجر المعطوف لهذا التوهم.

١٥٥

ولا مصعد في المصعدين لمنعج

ولا هابط ما عشت هضب شطيب

______________________________________________________

وربما عكسوا ذلك فجاءوا بخبر ليس مقترنا بالباء الزائدة فجروا لفظه ، ثم عطفوا عليه اسما منصوبا ، ومن شواهد ذلك قول عدي بن خزاعي ، وقد أنشده في اللسان (ن ر ب) وهو الشاهد رقم ٢٠٧ الآتي في المسألة ٤٥ :

ولست بذي نيرب في الكلام

ومناع قومي وسبابها

ولا من إذا كان في معشر

أضاع العشيرة واغتابها

عطف قوله «ومناع قومي» بالنصب على قوله «بذي نيرب» المجرور بالباء الزائدة ومثله قول عقيبة الأسدي ، وأنشده سيبويه (١ / ٣٤) وهو الشاهد ٢٠٨ الآتي :

معاوي إننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

أديروها بني حرب عليكم

ولا ترموا بها الغرض البعيدا

ووجه ذلك أن الباء الداخلة على خبر ليس زائدة ، تجر لفظ الخبر ليس غير ، ويبقى محله نصبا كما يكون لو لم تدخل عليه الباء ، وليس لهذه الباء متعلق ، فإذا عطفت على هذا الخبر جاز لك من غير ضرورة أن تعطف عليه بالنصب نظرا إلى محله ، وجاز لك أن تعطف عليه بالجر نظرا إلى لفظه ، ولذلك نظائر كثيرة : منها الوصف المضاف إلى معموله ، كاسم الفاعل والمصدر مثلا إذا أضيف إلى مفعوله أو فاعله فإن المعمول يكون مجرورا لفظا بإضافة اسم الفاعل إليه ، فإذا عطفت عليه جاز لك أن تجيء بالمعطوف مجرورا نظرا إلى لفظ المعطوف عليه ، وجاز لك أن تجيء بالمعطوف منصوبا إن كان المعطوف عليه مفعولا ومرفوعا إن كان المعطوف عليه فاعلا ، ومن ذلك قول زياد العنبري ، وقد نسبوه في كتاب سيبويه (١ / ٩٨) إلى رؤبة بن العجاج :

قد كنت داينت بها حسانا

مخافة الإفلاس والليانا

فقد عطف «الليان» بالنصب على «الإفلاس» المجرور ، لكون هذا المجرور مفعولا به للمصدر ، ومثل ذلك قول لبيد بن ربيعة العامري ، وهو الشاهد رقم ١٤٦ الآتي :

حتى تهجر في الرواح ، وهاجها

طلب المعقب حقه المظلوم

فقد وصف بالمظلوم المرفوع قوله «المعقب» المجرور بإضافة المصدر الذي هو «طلب» إليه ، لكون هذا المضاف مصدرا والمضاف إليه فاعلا لذلك المصدر ، ونظير ذلك قول الأعشى ميمون :

الواهب المائة الهجان وعبدها

عوذا تزجي بينها أولادها

عطف «عبدها» بالنصب على «المائة» المجرور بإضافة اسم الفاعل الذي هو «الواهب» إليه ، ومثله قول الشاعر وأنشده سيبويه (١ / ٨٧) :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد رب أخا عمرو بن مخراق

ومثله قول رجل من قيس عيلان ، وأنشده سيبويه أيضا (١ / ٨٧) :

فبينا نحن نطلبه أتانا

معلق وفضة وزناد راع

عطف قوله «زناد راع» بالنصب على قوله «وفضة» المجرور بإضافة «معلق» إليه ، لكون المعطوف عليه مفعولا به لاسم الفاعل الذي هو معلق ، وفي هذا القدر كفاية.

١٥٦

وقال الأحوص الرّياحيّ :

[١١٧] مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها

فقال «ناعب» بالجر ، وكان الوجه أن يقول «ناعبا» بالنصب ، وقد تؤوّل ذلك بما لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه ؛ فإذا كان كذلك فلا يجوز الاحتجاج بما رووه مع قلّته في الاستعمال وبعده عن القياس على ما وقع فيه الخلاف.

وأما قولهم «أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا ؛ فكذلك مع إن» قلنا الجواب على هذا من وجهين :

أحدهما : إنما جاز ذلك مع «لا» لأن لا لا تعمل في الخبر ، بخلاف «إن»

______________________________________________________

[١١٧] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ للأحوص الرياحي ، وهو من شواهد سيبويه ، وقد أنشده سيبويه في كتابه ثلاث مرات نسبه في واحدة (١ / ٤١٨) للفرزدق وقد بحثت ديوان الفرزدق فلم أعثر عليه فيه ، ونسبه في المرتين الأخريين (١ / ٧٣ و ١٥٤) إلى الأحوص ، وقد استشهد به الأشموني (رقم ٥٨٦ بتحقيقنا) ورواه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في البيان (٢ / ٢٦٠) ثالث ثلاثة أبيات ، ونسبها للأحوص ، واستشهد به رضي الدين في شرح الكافية (١ / ٤٢٨) وشرحه البغدادي في الخزانة (٢ / ١٤٠) والمشائيم : جمع مشؤوم ، وتقول : شأم فلان قومه يشأمهم ـ من باب فتح ـ إذا جر عليهم الشؤم ، وعشيرة الرجل : بنو أبيه الأدنون ، وناعب : اسم فاعل من النعيب ، وهو صوت الغراب ، وهم يتشاءمون به ويجعلونه نذيرا بالفرقة وتصدع الشمل والاستشهاد بالبيت في قوله «ولا ناعب» حيث جاء مجرورا مع أنه معطوف على خبر ليس المنصوب الذي هو قوله «مصلحين» وذلك لأنه بعد أن قال «ليسوا مصلحين عشيرة» توهم أنه قرن خبر ليس بالباء الزائدة من قبل أن لسانهم كثيرا ما يجري بذلك من غير نكير ، وقد بيّنا ذلك في شرح الشاهدين السابقين.

ونظير هذه الشواهد قول عبد الله بن الدمينة ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٣٥٤ بتحقيقنا) :

أحقا عباد الله أن لست صاعدا

ولا هابطا إلا عليّ رقيب

ولا سالك وحدي ولا في جماعة

من الناس إلا قيل : أنت مريب

فقد جاء بالمعطوف ـ وهو قوله «ولا سالك» ـ مجرورا ، مع أن المعطوف عليه وهو قوله «صاعدا» منصوب ، وبعد أن عطف عليه اسما منصوبا وهو وقوله «ولا هابطا».

وربما جر بعض الشعراء المعطوف على خبر كان المنفية المنصوب لأن الباء الزائدة تدخل على خبر كان المنفية ، وإن كان ليس من الكثرة في لسانهم كخبر ليس ، ومن هذا قول الشاعر ، وأنشده ابن منظور (ن م ش) :

وما كنت ذا نيرب فيهم

ولا منمش فيهم منمل

ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله «ولا منمش» حيث جاء به مجرورا وهو معطوف على قوله «ذا نيرب» الذي هو خبر كان المسبوقة بما النافية ، وذلك ظاهر إن شاء الله.

١٥٧

فلم يجتمع فيه عاملان ، فجاز معها العطف على الموضع قبل تمام الخبر ، دون «إن» على ما بيّنا.

والوجه الثاني : أنا نسلم أن «لا» تعمل في الخبر كإن ، ولكن إنما جاز ذلك مع «لا» دون «إن» ، وذلك لأن «لا» ركبت مع الاسم النكرة بعدها فصارا شيئا واحدا ؛ فكأنه لم يجتمع في الخبر عاملان ، وأما «إن» فإنها لا تركب مع الاسم بعدها ؛ فيجتمع في الخبر عاملان ، وذلك لا يجوز ، فبان الفرق بينهما.

وأما قولهم «إنّ إنّ لا تعمل في الخبر» فقد بيّنا فساد ذلك مستوفى في المسألة التي قبل هذه المسألة ؛ فلا يفتقر إلى الإعادة ، والله أعلم.

١٥٨

[٨٨] ٢٤

مسألة

[القول في عمل «إن» المخففة النّصب في الاسم](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «إن» المخففة من الثقيلة لا تعمل النّصب في الاسم. وذهب البصريون إلى أنها تعمل.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها لا تعمل لأنّ المشدّدة إنما عملت لأنها أشبهت الفعل الماضي في اللفظ ؛ لأنها على ثلاثة أحرف كما أنه على ثلاثة أحرف ، وإنها مبنية على الفتح كما أنه مبني على الفتح ، فإذا خففت فقد زال شبهها به ؛ فوجب أن يبطل عملها.

ومنهم من تمسّك بأن قال : إنما قلنا ذلك لأن «إنّ» المشدّدة من عوامل الأسماء ، و «إن» المخففة من عوامل الأفعال ؛ فينبغي ألّا تعمل المخففة في الأسماء كما لا تعمل المشدّدة في الأفعال ؛ لأن عوامل الأفعال لا تعمل في الأسماء ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على صحة الإعمال قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١١١] في قراءة من قرأ بالتخفيف ، وهي قراءة نافع وابن كثير ، وروى أبو بكر عن عاصم بتخفيف «إن» وتشديد «لما».

قالوا : ولا يجوز أن يقال بأن «كلا» منصوب بليوفينهم ، لأنا نقول : لا يجوز ذلك ؛ لأن لام القسم تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها ؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول «زيدا لأكرمنّ ، وعمرا لأضربنّ» فتنصب زيدا بلأكرمن وعمرا بلأضربن ، فكذلك هاهنا : لا يجوز أن يكون «كلا» منصوبا بليوفينهم.

قالوا : ولا يجوز أيضا أن يقال إن «إن» بمعنى ما ، ولما بمعنى إلّا ؛ لأنا

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح المفصل لموفق الدين بن يعيش (ص ١١٢٨) وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب (٢ / ٣٣٣) والتصريح للشيخ خالد الأزهري (١ / ٢٧٨ بولاق) وحاشية الصبان على الأشموني (١ / ٢٦٧ بولاق).

١٥٩

نقول : إن إن التي بمعنى ما لا يجيء معها اللام بمعنى إلا ، كما قال تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] وأما «لما» فلا يجوز أن يجعل هاهنا بمعنى إلّا ؛ لأنه لو جاز أن تجعل «لما» بمعنى إلا لجاز أن يقال : ما قام القوم لما زيدا ، وقام القوم لما زيدا ، بمعنى إلا زيدا ، وفي امتناع ذلك دليل على فساده ، وإنما جاءت لما بمعنى إلّا في الأيمان خاصة نحو قولهم : «عمرك الله لما فعلت كذا» أي إلّا ، ثم لو جعلت «لما» في قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١١] بمعنى إلا لما كان لكل ما ينصبه ؛ لأن إلا لا يعمل ما بعدها [٨٩] فيما قبلها ، فدلّ على صحة ما ذكرناه.

والذي يدل على صحة ذلك أيضا أنه قد صحّ عن العرب أنهم يقولون «إلّا أن أخاك ذاهب» بمعنى أنّ المشددة ، وقد قال الشاعر :

[١١٨] وصدر مشرق النّحر

كأن ثدييه حقّان

فنصب «ثدييه» بكأن المخففة من الثقيلة ، وأصلها أن أضيف إليها الكاف

______________________________________________________

[١١٨] أنشد سيبويه هذا البيت (١ / ٢٨١) وأنشده ابن يعيش (ص ١١٣٨) ولم يعزواه ، وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٣٥٨) وقال عنه : «هو أحد أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل» اه. وهو من شواهد الأشموني (رقم ٢٨٦) وأوضح المسالك (رقم ١٥٢) وابن عقيل (رقم ١٠٨) ويروى صدره :

* ووجه مشرق اللون*

وهي رواية سيبويه ، ويروى :

* ونحر مشرق اللون*

وعلى هاتين الروايتين يكون قوله «كأن ثدييه» على تقدير مضاف بين المضاف والمضاف إليه ، أي كأن ثدي صاحبه ، ومشرق : أي مضيء ، وحقان : مثنى حق ، بضم الحاء وتشديد القاف ـ وهو ما ينحت من خشب أو عاج أو نحوهما ، والعرب تشبه الثديين بالحق في اكتنازهما ونهودهما ، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم :

وثديا مثل حق العاج رخصا

حصانا من أكف اللامسينا

والاستشهاد بالبيت في قوله «كأن ثدييه» حيث خفف الشاعر كأن الدالة على التشبيه ثم أعملها في الاسم والخبر ؛ فنصب بها الاسم الذي هو قوله «ثدييه» ورفع بها الخبر الذي هو قوله «حقان» ويرويه بعض العلماء «كأن ثدياه حقان» برفع الاسمين جميعا على أن يكون اسمها ضمير شأن محذوف ، وما بعدها جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبر كأن ، والرواية التي أثرها المؤلف تدل على أن تخفيف الحرف الذي يعمل لمشابهته الفعل لا يمنع إعماله في اللفظ.

١٦٠