الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

وجه الاحتجاج أنه قال «أبيضهم» وإذا جاز ذلك في «أفعلهم» جاز في «ما أفعله وأفعل به» لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب ، وقد قال الشاعر :

[٩٠] جارية في درعها الفضفاض

تقطّع الحديث بالإيماض

* أبيض من أخت بني أباض*

فقال «أبيض» وهو أفعل من البياض ، وإذا جاز ذلك في أفعل من كذا جاز في ما أفعله وأفعل به ؛ لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب ، ألا ترى أن ما لا يجوز فيه

______________________________________________________

وقوله «إذا الرجال شتوا» أي صاروا في زمان الشتاء ، والشتاء عندهم هو زمان القحط والجدب ، وفيه يظهر كرم الكرام وبخل البخلاء ، وقوله «واشتد أكلهم» أراد أنه تعسر على أكثرهم الحصول على ما يأكلون ، وقوله «فأنت أبيضهم سربال طباخ» معناه أن ثياب طباخك تكون في هذا الوقت بيضاء شديدة البياض نقية من الوضر ودهن اللحم وغيره ، يريد أنه لا يطبخ فلا تتدنس ثيابه ، وهذه العبارة كناية عن شدة البخل. والاستشهاد بالبيت في قوله «أبيضهم» حيث اشتق أفعل التفضيل من البياض ، وهذا مما يجيزه الكوفيون ، ويأباه البصريون ، وقد اختلفوا في التعليل للمنع ؛ فمنهم من ذهب إلى أن السر في منع صوغ أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من الألوان أن الألوان من المعاني اللازمة التي تشبه أن تكون خلقة كاليد والرجل ، ومنهم من ذهب إلى أن سبب المنع هو كون أفعال الألوان ليست ثلاثية مجردة. وإنما تأتي أفعال الألوان على أحد مثالين : أولهما أفعل ـ بتشديد اللام ـ نحو أبيض وأسود ، والثاني أفعال ـ بزيادة ألف بعد العين وبتشديد اللام ـ نحو ادهام وابياض واسواد وما أشبه ذلك.

[٩٠] نسب البغدادي نقلا عن ابن هشام اللخمي (٣ / ٤٨٣) هذا الرجز إلى رؤبة بن العجاج ، وقد أنشده رضي الدين في شرح الكافية (٢ / ١٩٩) وابن يعيش (٨٤٧ و ١٠٤٦) وابن منظور (ب ى ض) والميداني في مجمع الأمثال (١ / ٨١ بتحقيقنا) ولم يعزه أحد منهم إلى قائل معين ، والدرع ـ بكسر فسكون ـ القميص ، والفضفاض : الواسع ، ويروى بدل البيت الأول :

* جارية في رمضان الماضي*

ومعنى قوله «تقطع الحديث بالإيماض» أن القوم إذا كانوا يتحدثون فأومضت تركوا الحديث واشتغلوا بالنظر إليها لبراعة جمالها ، وبنو أباض ـ بفتح الهمزة ـ قوم اشتهروا ببياض ألوانهم. والاستشهاد بالبيت في قوله «أبيض» حيث جاء بأفعل التفضيل من البياض ، وهو يشهد للكوفيين الذين يجيزون مجيء أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من خصوص البياض والسواد دون سائر الألوان لكونهما أصلي الألوان كلها ، والبصريون يمنعون ذلك ، ويحكمون على ما جاء من كلام العرب مما ظاهره ذلك بأنه شاذ ، أو يكون «أفعل» في مثل قول هذا الراجز صفة مشبهة لا أفعل تفضيل ، وقد ذكر ذلك المؤلف وابن يعيش في الموضعين اللذين أرشدناك إليهما من شرحه على المفصل.

ونظير ذلك قول أبي الطيب المتنبي يذم الشيب :

أبعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظلم

١٢١

ما أفعله لا يجوز فيه أفعل من كذا ، وكذلك بالعكس منه : ما جاز فيه ما أفعله جاز فيه أفعل من كذا ، فإذا ثبت أنه يمتنع في كل واحد منهما ما يمتنع في الآخر ، ويجوز فيه ما يجوز في الآخر ، دلّ على أنهما بمنزلة واحدة ، [٦٩] وكذلك القول في «أفعل به» في الجواز والامتناع ، فإذا ثبت هذا فوجب أن يجوز استعمال ما أفعله من البياض.

وأما القياس فقالوا : إنما جوزنا ذلك من السواد والبياض دون سائر الألوان لأنهما أصلا الألوان ، ومنهما يتركب سائرها من الحمرة والصفرة والخضرة والصّهبة والشّهبة والكهبة إلى غير ذلك ، فإذا كانا هما الأصلين للألوان كلها جاز أن يثبت لهما ما لا يثبت لسائر الألوان ؛ إذ كانا أصلين لها ومتقدمين عليها.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه لا يجوز استعمال «ما أفعله» من البياض والسواد أنا أجمعنا على أنه لا يجوز أن يستعمل مما كان لونا غيرهما من سائر الألوان ؛ فكذلك لا يجوز منهما ، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يخلو امتناع ذلك : إما أن يكون لأن باب الفعل منهما أن يأتي على افعلّ نحو احمرّ واصفرّ واخضرّ وما أشبه ذلك ، أو لأن هذه الأشياء مستقرة في الشخص لا تكاد تزول فجرت مجرى أعضائه ، وأي العلتين قدرنا وجدنا المساواة بين البياض والسواد وبين سائر الألوان في علة الامتناع ؛ فينبغي أن لا يجوز فيهما كسائر الألوان.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقول الشاعر :

* فأنت أبيضهم سربال طباخ* [٨٩]

فلا حجّة فيه من وجهين ؛ أحدهما : أنه شاذ فلا يؤخذ به ، كما أنشد أبو زيد :

[٩١] يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا

إلى ربّنا صوت الحمار اليجدّع

______________________________________________________

[٩١] هذان البيتان من كلام ذي الخرق الطهوي ، وليسا متتاليين في كلامه كما قد يظن من صنيع المؤلف. بل بين أولهما وثانيهما بيتان ، وقد استشهد بالبيت الأول رضي الدين في شرح الكافية ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ١٥ و ٢ / ٤٨٨) وأنشده ابن منظور (ج د ع) مع بيت سابق عليه ونسبهما لذي الخرق ، وأنشده مرة أخرى (ل وم) وذكر له نظائر كثيرة ، وأنشده الأشموني (١ / ١٧١ بتحقيقنا) واستشهد به ابن هشام في المغني (رقم ٦٨) وقد روى أبو زيد في نوادره (ص ٦٦ و ٦٧) سبعة أبيات يقع أول هذين البيتين ثانيها ، ويقع ثاني البيتين خامسها ، والخنى : الفاحش من الكلام ، وأبغض : أفعل تفضيل من البغض ، وفعله بغض فلان إلي ، وتقول : ما أبغضني إلى فلان ؛ إذا كان هو المبغض لك ، وقالوا : ما أبغضني لفلان ؛ إذا كنت المبغض له ، والعجم : جمع أعجم أو عجماء ، والأعجم :

١٢٢

ويستخرج اليربوع من نافقائه

ومن جحره بالشّيخة اليتقصّع

فأدخل الألف واللام على الفعل ، وأجمعنا على أن استعمال مثل هذا خطأ لشذوذة قياسا واستعمالا ، فكذلك هاهنا ، وإنما جاء هذا لضرورة الشعر ، والضرورة لا يقاس عليها ، كما لو اضطر إلى قصر الممدود على أصلنا وأصلكم أو إلى مدّ المقصور على أصلكم ، وعلى ذلك سائر الضرورات ، ولا يدل جوازه في الضرورة على جوازه في غير الضرورة ، فكذلك هاهنا ، فسقط الاحتجاج به. وهذا هو الجواب عن قول الآخر :

* أبيض من أخت بني أباض* [٩٠]

[٧٠] والوجه الثاني : أن يكون قوله «فأنت أبيضهم» أفعل الذي مؤنثه فعلاء كقولك أبيض وبيضاء ، ولم يقع الكلام فيه ، وإنما وقع الكلام في أفعل الذي يراد به المفاضلة نحو «هذا أحسن منه وجها ، وهو أحسن القوم وجها» فكأنه قال مبيضّهم ، فلما أضافه انتصب ما بعده عن تمام الاسم ، وهذا هو الجواب عن قول الآخر :

* أبيض من أخت بني أباض* [٩٠]

ومعناه : في درعها جسد مبيض من أخت بني أباض ، ويكون «من أخت» ها هنا في موضع رفع ؛ لأنها صفة لأبيض ، كأنه قال أبيض كائن من أخت ، كقولهم «أنت كريم من بني فلان» ونحوه قول الشاعر :

[٩٢] وأبيض من ماء الحديد كأنّه

شهاب بدا والليل داج عساكره

______________________________________________________

الحيوان الذي لا ينطق ، والأعجم من الإنسان الذي في كلامه عجمة ، شبهوه بالحيوان الأعجم ، واليجدّع : الذي يقطع أنفه ، أو أذنه ، أو يده ، أو شفته ، كل ذلك يقال ، واليربوع : دويبة تحفر الأرض ، والنافقاء : جحر يكتمه اليربوع ويستره ويظهر جحرا آخر غيره ، وقوله «بالشيخة» هو بالخاء المعجمة رملة بيضاء في بلاد بني أسد وحنظلة ، واليتقصع : أراد الذي يتقصع ، وتقول «تقصع اليربوع» إذا دخل في قاصعائه ، والقاصعاء : جحر آخر من جحرة اليربوع. والاستشهاد بالبيت الأول في قوله «اليجدع» والاستشهاد بالبيت الثاني في قوله «اليتقصع» فإنه أراد الذي يجدع والذي يتقصع ، فوصل أل الموصولة بالفعل المضارع ، وقد اتفق الفريقان على أن وصل أل الموصولة بالفعل المضارع شاذ ، هكذا قال المؤلف ، لكن الذي نعرفه أن من الكوفيين قوما يجيزون ذلك في الاختيار ، وقد ذهب ابن مالك إلى مذهب وسط بين المذهبين ، فقال : إن ذلك قليل لا شاذ ، وانظر التصريح للشيخ خالد الأزهري (١ / ١٦٩) وشرح الأشموني بتحقيقنا (١ / ١٧١) فقد ذكرنا ثمة كثيرا من الشواهد ، وحاشية الصبان (١ / ١٦١ بولاق).

[٩٢] أنشد البغدادي هذا البيت في الخزانة (٣ / ٤٨٥ بولاق) والشريف المرتضى في أماليه (٢ / ٣١٧) وذكر أن ابن جني استشهد به ، ولم يعزه أحدهما إلى معين ، والشهاب : النجم ،

١٢٣

______________________________________________________

وبدا : أي ظهر ، والليل داج : أي مظلم. والاستشهاد بالبيت في قوله «وأبيض من ماء الحديد» فإن «أبيض» في هذه العبارة ليس أفعل تفضيل ، لكنه صفة مشبهة ، و «من» التالية له ليست من التي تدخل على المفضول في نحو قولك : فلان أكرم خلقا من فلان ، وأشرف نفسا منه ، وأطهر قلبا منه ، وما أشبه ذلك ، وعلى ذلك لا تكون «من» هذه متعلقة بأبيض ، بل هي متعلقة بمحذوف يقع صفة لأبيض ، وكأنه قد قال : وأبيض كائن من ماء الحديد ، أي مأخوذ ومصنوع من ماء الحديد ، والكلام في وصف سيف ، وإذا كان لفظ «أبيض» يأتي صفة مشبهة كما في هذا البيت وفي الشاهد الذي يليه فإنه لا يمتنع أن يكون أبيض في قول الراجز :

* أبيض من أخت بني أباض*

وفي البيت المنسوب إلى طرفة :

* ... أبيضهم سربال طباخ*

وأسود في قول المتنبي الذي أنشدناه لك :

* ... أسود في عيني من الظلم*

صفة مشبهة أيضا ، وكأن المتنبي قد قال : لأنت مسود في عيني ، ولأنت من الظلم ؛ وكأن طرفة قد قال : أنت مبيضهم سربال طباخ ، وكأن الراجز قد قال : جسد مبيض كائن من أخت بني أباض ، وقد اتفق مع المؤلف على هذا التخريج ابن يعيش والشريف المرتضى والحريري في درة الغواص ، وكلهم تابعون لابن جني. ويقول أبو رجاء : إنه ليس من المنكر أن يجيء وزن أفعل من البياض والسواد وغيرهما من الألوان ومن غير الألوان صفة مشبهة ، نقول : فلان أبيض اللون ، وفلان أسود ، أو أخضر ، أو أصفر ، وتقول : فلان أهيف البطن. وفلان أجب الظهر ، وفلان أوحد دهره ، وما لا يحصى من المثل ، ومن ذلك قول أبي الطيب المتنبي أيضا :

يلقاك مرتديا بأحمر من دم

ذهبت بخضرته الطلى والأكبد

ومن ذلك قول أبي تمام :

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع

وقد قال المفسرون في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ :) إن «أهون» في هذه الآية بمعنى هين ، كما قالوا في قول معن بن أوس :

لعمرك ما أدري وإني لأوجل

على أينا تغدو المنية أول

إن «أوجل» هنا صفة مشبهة وليست أفعل تفضيل ، أقول : نحن لا ننكر أن هذا الوزن يأتي صفة مشبهة خالية من معنى تفضيل شيء على شيء ، كما لا ننكر أن من هذه البابة قول الشاعر :

* وأبيض من ماء الحديد كأنه*

وما معه من الأبيات ، لكنا لا نستطيع أن نستسيغ أن يكون من هذه البابة قول الراجز :

* أبيض من أخت بني أباض*

مع قول الرواة الموثوق بهم : إن نساء بني أباض مشهورات ببياض ألوانهن ؛ وعلى هذا يكون هذا الجواب غير مستقيم ، ولو كان القائل به ابن جني ومن تبعه من فحولة النحاة.

١٢٤

فقوله «من ماء الحديد» في موضع رفع ؛ لأنه صفة أبيض ، وتقديره وأبيض كائن من ماء الحديد ، ونحوه أيضا قول الآخر :

[٩٣] لمّا دعاني السّمهريّ أجبته

بأبيض من ماء الحديد صقيل

وأما قولهم «إنما جوّزنا ذلك لأنهما أصلان للألوان ويجوز أن يثبت للأصل ما لا يثبت للفرع» قلنا : هذا لا يستقيم ، وذلك لأن سائر الألوان إنما لم يجز أن يستعمل منها «ما أفعله ، وأفعل منه» لأنها لازمت محالها ، فصارت كعضو من الأعضاء ، فإذا كان هذا هو العلة فنقول : هذا على أصلكم ألزم ، وذلك لأنكم تقولون : إن هذه الألوان ليست بأصل في الوجود ، على ما تزعمون ، بل هي مركبة من البياض والسواد ؛ فإذا لم يجز مما كان متركبا منها لملازمته المحل فلأن لا يجوز مما كان أصلا في الوجود وهو ملازم للمحل كان ذلك من طريق الأولى ، والله أعلم.

______________________________________________________

[٩٣] أنشد ابن يعيش (ص ١٠٤٦) عجز هذا البيت ، ولم يعزه إلى قائل ، والظاهر أن «السمهري» هنا اسم رجل ، وأصل السمهري الرمح ، منسوب إلى رجل كان يبيع الرماح بالخط ، واسم امرأته ردينة ، فأحيانا ينسبون الرماح إليه فيقولون : رمح سمهري ، ورماح سمهرية ، وأحيانا يضيفونها إلى امرأته فيقولون : رديني ، أو رماح ردينية ، وأحيانا ينسبونه إلى مكانهم فيقولون : خطي ، والقول في الاستشهاد بهذا البيت كالذي ذكرناه في الشاهد السابق.

١٢٥

١٧

مسألة

[القول في تقديم خبر «ما زال» وأخواتها عليهن](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم خبر «ما زال» عليها ، وما كان في معناها من أخواتها ، وإليه ذهب أبو الحسن بن كيسان ، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك ، وإليه ذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء من [٧١] الكوفيين ، وأجمعوا على أنه لا يجوز تقديم خبر «ما دام» عليها.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا ذلك لأن «ما زال» ليس بنفي للفعل ، وإنما هو نفي لمفارقة الفعل ، وبيان أن الفاعل حاله في الفعل متطاولة ، والذي يدل على أنه ليس بنفي أنّ «زال» فيه معنى النفي ، و «ما» للنفي ، فلما دخل النفي على النفي صار إيجابا ، والذي يدل على أن النفي إذا دخل على النفي صار إيجابا أنك إذا قلت «انتفى الشيء» كان ضدا للإثبات ، فإذا أدخلت عليه النفي نحو «ما انتفى» صار موجبا ؛ فدل على أن نفي النفي إيجاب ، وإذا كان كذلك صار «ما زال» بمنزلة «كان» في أنه إيجاب ، وكما أن «كان» يجوز تقديم خبرها عليها نفسها ، فكذلك «ما زال» ينبغي أن يجوز تقديم خبرها عليها ، ولذلك لم يقولوا «ما زال زيد إلا قائما» كما لم يقولوا «كان زيد إلا قائما» لأن «إلا» إنما يؤتى بها لنقض النفي ، كقولك «ما مررت إلا بزيد ، وما ضربت إلا زيدا» نفيت المرور والضرب أولا ، وأدخلت «إلا» فأثبتهما لزيد ، وأبطلت النفي ونقضته ، ولهذا إذا قلتم إنها إذا دخلت على «ما» التي ترفع الاسم وتنصب الخبر أبطلت عملها ؛ لأنها إنما عملت لشبهها بليس في أنها تنفي الحال ، كما أن ليس تنفي الحال ؛ فإذا دخلت «إلا» عليها أبطلت معنى النفي ، فزال شبهها بليس ، فبطل عملها ؛ فإذا كان الكلام ثابتا فلا يفتقر إلى إثباته ؛ ألا ترى أنك لو قلت «مررت إلا بأحد» لم يجز ؛ لأن إثبات الثابت

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : أسرار العربية للمؤلف (ص ٥٧) وشرح الأشموني (١ / ٣٥٢ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (١ / ٢٢٤) والتصريح للشيخ خالد (١ / ٢٣٦ بولاق) وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل (ص ١٠١٥) وشرح رضي الدين على الكافية (٢ / ٢٦٧).

١٢٦

ونقض النفي مع تعرّي الكلام منه محال ، فدلّ على أن «ما زال» في الإثبات بمنزلة «كان» فكما لا يقال «كان زيد إلا قائما» فكذلك لا يقال «ما زال زيد إلا قائما» فأما قول الشاعر :

[٩٤] حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

______________________________________________________

[٩٤] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ٤٢٨) والزمخشري وابن يعيش (١٠١٠) والرضي (٢ / ٢٧٥) والأشموني (رقم ٢١٠٠) وانظر خزانة الأدب (٤ / ٤٩ بولاق) والحراجيج : جمع حرجوج ، أو حرجيج وهي هنا الناقة الضامرة الهزيلة ، ومناخة : اسم المفعول المؤنث من قولك «أناخ الرجل بعيره أو ناقته» إذا أبركها ، والخسف ـ بالفتح ـ الجوع ، وذلك أن يبيت على غير علف ، وكان الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء يخطئان ذا الرمة في هذا البيت ؛ لأنه أدخل حرف الاستثناء ـ وهو إلا ـ على خبر تنفك ، وقد خلص العلماء ذا الرمة من هذا الخطأ ، ولهم في ذلك التخلص خمسة أوجه ؛ الأول أن الرواية ليست كما زعم أبو عمرو والأصمعي ، وليس التالي لقوله «ما تنفك» هو إلا التي هي حرف استثناء ، بل هو «آلا» بمد الألف ، والآل : الشخص ، وذلك نظير قول ذي الرمة نفسه في كلمة أخرى :

فلم نهبط على سفوان حتى

طرحن سخالهن وصرن آلا

ويروى أن ذا الرمة لما نبه إلى الخطأ فطن له وقال : أنا لم أقل «إلا مناخة» وإنما قلت «ما تنفك آلا مناخة» وعلى هذا الوجه يكون قوله «آلا» خبر تنفك ، ومناخة صفة ، وحينئذ يسأل عن وجه تأنيث الصفة مع أن الموصوف مذكر ، والجواب عن ذلك أن الآل ـ وهو الشخص ـ يطلق على المذكر والمؤنث كالشخص الذي هو بمعناه ، ولما كان المراد هنا النوق أنث الصفة ، وهذا التخريج قد ذكره كثير من العلماء ، وقد سمعت أنه يروى عن ذي الرمة نفسه ، والتخريج الثاني : أن «تنفك» ههنا تامة ، وليست ناقصة ، والتي يمنع دخول إلا عليها هي الناقصة ، وهذا تخريج ذكره الفراء في معاني القرآن ، ونسبه المؤلف إلى الكسائي ، وذكره الأعلم في شرح شواهد سيبويه ، والتخريج الثالث : أن تجعل تنفك ناقصة لكن لا يكون «مناخة» خبرها ، بل خبرها هو متعلق الجار والمجرور الذي هو قوله «على الخسف» وعلى هذا الوجه يكون قوله «مناخة» حالا ، وكأنه قد قال : ما تنفك كائنة على الخسف إلا في حال كونها مناخة ، وقد ذكر هذا التخريج الأعلم أيضا ، والتخريج الرابع : أن تكون تنفك ناقصة أيضا ، ولكن يكون خبرها محذوفا ، و «مناخة» حال ، و «على الخسف» يتعلق بمناخة ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : ما تنفك مقيمة في أوطانها إلا في إحدى حالتين : الأولى : أن تكون مناخة على الخسف والثانية : أن نرمي بها بلدا قفرا ، وهذا التوجيه قد ذكره الزمخشري ، والتخريج الخامس : أن تجعل «تنفك» ناقصة ، و «مناخة» خبرها ، ولكن «إلا» ليست للاستثناء ، بل هي حرف زائد لا يدل على معنى ، والممتنع إنما هو دخول إلا الدالة على الاستثناء على خبر «تنفك» وهذا التخريج ـ كما قال ابن يعيش ـ للمازني ، وتبعه أبو علي الفارسي في بعض كتبه ، ونسبه ابن هشام في مغني اللبيب إلى الأصمعي وابن جني ، وفي هذا القدر غناء أي غناء.

١٢٧

فالكلام عليه من أربعة أوجه ؛ فالوجه الأول : أنه يروى «ما تنفك آلا مناخة» والآل : الشخص ؛ يقال «هذا آل قد بدا» أي شخص ؛ وبه سمي الآل ؛ لأنه يرفع الشخوص أول النهار وآخره ؛ قال الشاعر :

[٩٥]* كأنّنا رعن قفّ يرفع الآلا*

أي يرفعه الآل ؛ وهو من المقلوب. والوجه الثاني : أنه يروى «ما تنفكّ إلا مناخة» [٧٢] بالرفع ، فلا يكون فيه حجة. والوجه الثالث : أنه قد روي بالنصب ، ولكن ليس هو منصوبا لأنه خبر «ما تنفك» وإنما خبرها «على الخسف» فكأنه قال : ما تنفك على الخسف ، أي تظلم إلا أن تناخ. والوجه الرابع : أنه جعل «ما تنفك»

______________________________________________________

[٩٥] هذا عجز بيت من كلام النابغة الجعدي ، وصدره قوله :

* حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا*

وتعدى فوارسنا : أي تحمل أفراسها على العدو ، وهو السير السريع ، والرعن ـ بفتح الراء وسكون العين ـ أنف الجبل ، والقف ـ بضم القاف وتشديد الفاء ـ الجبل ، غير أنه ليس بطويل في السماء ، والآل : الذي تراه في أول النهار وآخره كأنه يرفع الشخوص ، وليس هو السراب ، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «الآل» ومعناه ما ذكرنا يريد المؤلف أن الذي في بيت ذي الرمة هو «الآل» كالذي في هذا البيت ، وقد تقدم بيانه ، وقد تبين لك من تفسيرنا للآل وجه قول المؤلف «وهو من المقلوب» يعني أن المعروف أن الآل هو الذي يرفع الشخوص ، وقد جاء في هذا البيت أن رعن القف يرفع الآل ، فرعن القف في ظاهر هذا البيت رافع ، والآل مرفوع ، والجاري على ألسنة العرب أن تجعل الآل رافعا والشخوص التي منها رعن القف مرفوعة ، قال ابن منظور بعد أن أنشد البيت «أراد يرفعه الآل ، فقلبه» وقد أنكر ابن سيده القلب في هذا البيت ، وزعم أن كل واحد من رعن القف والآل يصلح أن يكون رافعا ويصلح كذلك أن يكون مرفوعا ، قال : «وجه كون الفاعل فيه مرفوعا والمفعول منصوبا باسم صحيح مقول به ، وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه الآل فرؤي فيه ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهورا لو لا هذا الرعن لم يبن للعين بيانه إذا كان فيه ، ألا ترى أن الآل إذا برق للبصر رافعا شخصه كان أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصا يزهاه فيزداد بالصورة التي حملها سفورا ، وفي مسرح الطرف تجليا وظهورا؟ فإن قلت : فقد قال الأعشى :

* إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا*

فجعل الآل هو الفاعل والشخص هو المفعول ، قيل : ليس في هذا أكثر من أن هذا جائز ، وليس فيه دليل على أن غيره ليس بجائز ، ألا ترى أنك إذا قلت : «ما جاءني غير زيد ، فإنما في هذا دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك ، فأما زيد نفسه فلم يعرض للأخبار بإثبات مجيء له أو نفيه عنه ؛ فقد يجوز أن يكون قد جاء وأن يكون أيضا لم يجئ» اه كلامه بحروفه.

١٢٨

كلمة تامة ؛ لأنك تقول «انفكت يده» فتوهم فيها التمام ، ثم استثنى ، وهذا الوجه رواه هشام عن الكسائي.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر «ما زال» عليها لأن «ما» للنفي ، والنفي له صدر الكلام ؛ فجرى مجرى حرف الاستفهام في أن له صدر الكلام ، والسّرّ فيه هو أن الحرف إنما جاء لإفادة المعنى في الاسم والفعل ؛ فينبغي أن يأتي قبلهما ، لا بعدهما ، وكما أن حرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله فكذلك هاهنا ، ألا ترى أنك لو قلت في الاستفهام «زيدا أضربت» لم يجز ؛ لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف الاستفهام عليه ؛ فكذلك هاهنا ؛ إذا قلت «قائما ما زال زيد» ينبغي أن لا يجوز لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف النفي عليه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن ما زال ليس بنفي للفعل ، وإنما هو نفي لمفارقة الفعل ، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا» قلنا : هذا حجّة عليكم ، فإنا كما أجمعنا على أن «ما زال» ليس بنفي للفعل أجمعنا على أن «ما» للنفي ، ثم لو لم تكن «ما» للنفي لما صار الكلام بدخولها إيجابا ، فالكلام إيجابء و «ما» نفي ؛ بدليل أنا لو قدرنا زوال النفي عنها لما كان الكلام إيجابا ، وإذا كانت للنفي فينبغي أن لا يتقدم ما هو متعلق بما بعدها عليها ؛ لأنها تستحق صدر الكلام كالاستفهام.

وأما «ما دام» فلم يجز تقديم خبرها عليها نفسها لأن «ما» فيها مصدرية لا نافية ، وذلك المصدر بمعنى ظرف الزمان ؛ ألا ترى أنك إذا قلت «لا أفعل هذا ما دام زيد قائما» كان التقدير فيه : زمن دوام زيد قائما ، كقولك «جئتك مقدم الحاجّ ، وخفوق النجم» أي زمن مقدم الحاجّ وزمن خفوق النّجم ، إلا أنه حذف المضاف الذي هو الزمن ، وأقيم المصدر الذي هو المضاف إليه مقامه ، وإذا كانت «ما» في «ما دام» بمنزلة المصدر فما كان من صلة المصدر لا يتقدم عليه ، والله أعلم.

١٢٩

[٧٣] ١٨

مسألة

[القول في تقديم خبر «ليس» عليها](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر «ليس» عليها ، وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين ، وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه ، وليس بصحيح ، والصحيح أنه ليس له في ذلك نص (٢). وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر «ليس» عليها كما يجوز تقديم خبر كان عليها (٣).

أما الكوفيّون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها وذلك لأن «ليس» فعل غير متصرّف ؛ فلا يجري مجرى الفعل المتصرّف كما أجريت «كان» مجراه لأنها متصرّفة ، ألا ترى أنك تقول : كان يكون فهو كائن وكن ، كما تقول : ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب واضرب ، ولا يكون ذلك في ليس ، وإذا كان كذلك فوجب أن لا يجري مجرى ما كان فعلا متصرّفا ، فوجب أن لا يجوز تقديم خبره عليه كما كان ذلك في الفعل المتصرّف ؛ لأن الفعل إنما يتصرّف عمله إذا كان متصرّفا في نفسه. فأما إذا كان غير متصرّف في نفسه فينبغي أن لا يتصرّف عمله ؛ فلهذا قلنا : لا يجوز تقديم خبره عليه ، والذي يدل على هذا أن «ليس» في معنى ما ؛ لأن ليس تنفي الحال كما أن ما تنفي الحال ، وكما أن ما لا تتصرّف ولا يتقدم معمولها عليها فكذلك ليس ، على أن من النحويين من يغلّب

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : أسرار العربية للمؤلف (ص ٥٨ ليدن) وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب (٢ / ٢٧٦) وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل (ص ١٠١٦) والأشموني (١ / ٣٥٥ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (١ / ٢٢٥) وتصريح الشيخ خالد الأزهري (١ / ٢٢٥ بولاق).

(٢) يريد أنّه لا يوجد في كتاب سيبويه نص في هذا الموضوع ، لا بالجواز ولا بالمنع.

(٣) الذي ذكره النحاة أن القائلين بامتناع تقديم خبر ليس عليها هم جمهور الكوفيين ، والمتأخرون من البصريين ، وقد اختار هذا الرأي شيخ المحققين ابن مالك فقال في الخلاصة (الألفية) :

* ومنع سبق خبر ليس اصطفى*

وأن الذين يجيزون تقديم خبر ليس عليها هم قدماء البصريين ، والفراء ، وتبعهم ابن برهان ، والزمخشري ، والشلوبين ، وابن عصفور ، وهم من المتأخرين الذين يؤيدون مذهب أهل البصرة غالبا.

١٣٠

عليها الحرفية ، ويحتج بما حكي عن بعض العرب أنه قال : «ليس الطّيب إلا المسك» فرفع الطّيب والمسك جميعا ، وبما حكي أن بعض العرب قيل له : فلان يتهدّدك ، فقال : «عليه رجلا ليسي» فأتى بالياء وحدها من غير نون الوقاية ، ولو كان فعلا لوجب أن يأتي بها كسائر الأفعال ، ولأنها لو كانت فعلا لكان ينبغي أن يرد إلى الأصل إذا اتصلت بالتاء فيقال في لست «ليست» ألا ترى أنك تقول في صيد البعير «صيد البعير» فلو أدخلت عليه التاء لقلت «صيدت» فرددته إلى الأصل وهو الكسر ، فلما لم يردّ هاهنا إلى الأصل ـ وهو الكسر ـ دل على أن المغلّب عليه الحرفية ، لا الفعلية ، وقد حكى سيبويه في كتابه أن بعضهم يجعل ليس بمنزلة ما في اللغة التي لا يعملون فيها «ما» ؛ فلا [٧٤] يعملون ليس في شيء ، وتكون كحرف من حروف النفي ؛ فيقولون : ليس زيد منطلق ، وعلى كل حال فهذه الأشياء وإن تكن كافية في الدلالة على أنها حرف فهي كافية في الدلالة على إيغالها في شبه الحرف ، وهذا ما لا إشكال فيه ، وإذا ثبت أنها لا تتصرف وأنها موغلة في شبه الحرف فينبغي أن لا يجوز تقديم خبرها عليها ، ولأن الخبر مجحود فلا يتقدم على الفعل الذي جحده على ما بيّنا.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على جواز تقديم خبرها عليها قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] وجه الدليل من هذه الآية أنه قدّم معمول خبر ليس على ليس ، فإن قوله (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) يتعلق بمصروف ، وقد قدّمه على ليس ، ولو لم يجز تقديم خبر ليس على ليس وإلا لما جاز تقديم معمول خبرها عليها ؛ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل ، ألا ترى أنه لم يجز أن تقول «زيدا أكرمت» إلا بعد أن جاز «أكرمت زيدا» فلو لم يجز تقديم «مصروف» الذي هو خبر ليس على ليس ، وإلا لما جاز تقديم معموله عليها ، والذي يدل على ذلك أن الأصل في العمل للأفعال ، وهي فعل ، بدليل إلحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة بها ، وهي تعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والظاهرة والمضمرة كالأفعال المتصرفة ، فوجب أن يجوز تقديم معمولها عليها ، وعلى هذا تخرج «نعم ، وبئس ، وفعل التعجب وعسى» حيث لا يجوز تقديم معمولها عليها ، أما «نعم ، وبئس» فإنهما لا يعملان في المعارف الأعلام ، بخلاف «ليس» فنقصتا عن رتبتها ، وأما فعل التعجب فأجروه مجرى الأسماء لجواز تصغيره فبعد عن الأفعال ، ومع هذا فلا يتصل به ضمير الفاعل ، وإنما يضمر فيه ، ولا تلحقه أيضا تاء التأنيث ، بخلاف «ليس» فنقص عن رتبتها ، وأما «عسى» وإن كانت تلحقها الضمائر وتاء التأنيث

١٣١

كليس ، إلا أنها لا تعمل في جميع الأسماء ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون معمولها إلا «أن» مع الفعل نحو «عسى زيد أن يقوم» ولو قلت «عسى زيد القيام» لم يجز ؛ فأما قولهم في المثل «عسى الغوير أبؤسا» فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه ، فلما كان مفعولها مختصا بخلاف «ليس» نقصت عن رتبة ليس ؛ فجاز أن يمنع من تقديم معمولها عليها ، ولا يجوز أن تقاس «ليس» على [٧٥] ما في امتناع تقديم خبرها عليها ؛ لأن ليس تخالف ما ، بدليل أنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها نحو «ليس قائما زيد» ولا يجوز تقديم خبر ما على اسمها ؛ فلا يقال : «ما قائما زيد» وإذا جاز أن تخالف ليس «ما» في جواز تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفه في جواز تقديم خبرها عليها ، وتلحق بأخواتها.

والصحيح عندي ما ذهب إليه الكوفيّون.

وأما الجواب عن كلمات البصريين : أما قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] فلا حجة لهم فيه ؛ لأنا لا نسلم أن (يَوْمَ) متعلق بمصروف ، ولا أنه منصوب ، وإنما هو مرفوع بالابتداء ، وإنما بني على الفتح لإضافته إلى الفعل ، كما قرأ نافع والأعرج قوله تعالى : (هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم) فإن يومُ في موضع رفع ، وبني على الفتح لإضافته إلى الفعل ، فكذلك ها هنا. وإن سلمنا أنه منصوب إلا أنه منصوب بفعل مقدر دل عليه قوله تعالى : (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] وتقديره : يلازمهم يوم يأتيهم العذاب ؛ لقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) [هود : ٨].

وأما قولهم «إن الأصل في العمل للأفعال ، وهي فعل يعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والمظهرة والمضمرة» قلنا : هذا يدل على جواز إعمالها ؛ لأنها فعل ، والأصل في الأفعال أن تعمل ، ولا يدل على جواز تقديم معمولها ؛ لأن تقديم المعمول على الفعل يقتضي تصرف الفعل في نفسه ، و «ليس» فعل غير متصرف ، فلا يجوز تقديم معموله عليه ؛ فنحن عملنا بمقتضى الدليلين : فأثبتنا لها أصل العمل لوجود أصل الفعلية ، وسلبناها وصف العمل لعدم وصف الفعلية وهو التصرف ؛ فاعتبرنا الأصل بالأصل ؛ والوصف بالوصف. والذي يشهد لصحة ذلك الأفعال المتصرفة نحو ضرب وقتل وشتم ، فإنها لما كانت أفعالا متصرفة أثبت لها أصل العمل ووصفه ؛ فجاز إعمالها ، وجاز تقديم معمولها عليها نحو «عمرا ضرب زيد» وكذلك سائرها ، والأفعال غير المتصرفة نحو عسى ونعم وبئس وفعل التعجب خصوصا على مذهب البصريين ؛ فإنها لما كانت أفعالا غير متصرفة أثبت لها أصل العمل فجاز إعمالها ، وسلبت وصف العمل ؛ فلم يجز تقديم معمولها عليها فكذلك هاهنا.

١٣٢

وأما قولهم «إنه لا يجوز أن تقاس ليس على ما» قلنا : قد [٧٦] بيّنا وجه المناسبة بينهما واتفاقهما في المعنى ؛ لأن كل واحد منهما لنفي الحال كالآخر.

وقولهم «إن ليس تخالف ما ؛ لأنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها ، بخلاف ما» قلنا : ليس من شرط القياس أن يكون المقيس مساويا للمقيس عليه في جميع أحكامه ، بل لا بد أن يكون بينهما مغايرة في بعض أحكامه.

قولهم «فإذا جاز أن تخالفها في تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفها في تقديم خبرها عليها» قلنا : هذا لا يلزم ؛ لأن «ليس» أخذت شبها من كان ؛ لأنها فعل كما أنها فعل ، وشبها من ما لأنها تنفي الحال كما أنها تنفي الحال ، وكان يجوز تقديم خبرها عليها ، وما لا يجوز تقديم خبرها على اسمها ، فلما أخذت شبها من كان وشبها من ما صار لها منزلة بين المنزلتين ، فجاز تقديم خبرها على اسمها ؛ لأنها أقوى من ما ؛ لأنها فعل وما حرف ، والفعل أقوى من الحرف ، ولم يجز تقديم خبرها عليها ؛ لأنها أضعف من كان ؛ لأنها لا تتصرف وكان تتصرف ، وهذا في غاية الوضوح والتحقيق ، والله أعلم.

١٣٣

١٩

مسألة

[القول في العامل في الخبر بعد «ما» النافية النّصب](١)

ذهب الكوفيون إلى أن «ما» في لغة أهل الحجاز لا تعمل في الخبر ، وهو منصوب بحذف حرف الخفض. وذهب البصريون إلى أنها تعمل في الخبر ، وهو منصوب بها.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنها لا تعمل في الخبر ، وذلك لأن القياس في «ما» أن لا تكون عاملة ألبتة ؛ لأن الحرف إنما يكون عاملا إذا كان مختصا ، كحرف الخفض لما اختص بالأسماء عمل فيها ، وحرف الجزم لما اختص بالأفعال عمل فيها ، وإذا كان غير مختص فوجب أن لا يعمل كحرف الاستفهام والعطف ؛ لأنه تارة يدخل على الاسم ، نحو «ما زيد قائم» وتارة يدخل على الفعل ، نحو «ما يقوم زيد» فلما كانت مشتركة بين الاسم والفعل وجب أن لا تعمل ؛ ولهذا كانت مهملة غير معملة في لغة بني تميم ، وهو القياس ، وإنما أعملها أهل الحجاز لأنهم شبّهوها بليس من جهة المعنى ، وهو [٧٧] شبه ضعيف فلم يقو على العمل في الخبر كما عملت ليس ؛ لأن ليس فعل ، وما حرف ، والحرف أضعف من الفعل ، فبطل أن يكون منصوبا بما ، ووجب أن يكون منصوبا بحذف حرف الخفض ؛ لأن الأصل «ما زيد بقائم» فلما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبا ؛ لأن الصّفات منتصبات الأنفس ، فلما ذهبت أبقت خلفا منها ، ولهذا لم يجز النصب إذا قدّم الخبر ، نحو «ما قائم زيد» أو دخل حرف الاستثناء نحو «ما زيد إلا قائم» لأنه لا يحسن دخول الباء معهما ؛ فلا يقال «ما بقائم زيد ، وما زيد إلا بقائم» فدل ذلك على ما قلناه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن «ما» تنصب الخبر وذلك

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : أسرار العربية للمؤلف (ص ٥٩) وتصريح الشيخ خالد (٢ / ٢٣٦) وكتاب سيبويه (١ / ٢٨) وحاشية الصبان على الأشموني (١ / ٢٣٤ بولاق).

١٣٤

أن ما أشبهت ليس ؛ فوجب أن تعمل عمل ليس ، وعمل ليس الرفع والنصب ، ووجه الشبه بينها وبين ليس من وجهين ؛ أحدهما : أنها تدخل على المبتدأ والخبر ، كما أن ليس تدخل على المبتدأ والخبر ، والثاني : أنها تنفي ما في الحال ، كما أن ليس تنفي ما في الحال ، ويقوّي الشبه بينهما من هذين الوجهين دخول الباء في خبرها كما تدخل في خبر ليس ؛ فإذا ثبت أنها قد أشبهت ليس من هذين الوجهين فوجب أن تجري مجراه ؛ لأنهم يجرون الشيء مجرى الشيء إذا شابهه من وجهين ، ألا ترى أن ما لا ينصرف لما أشبه الفعل من وجهين أجري مجراه في منع الجر والتنوين ، فكذلك هاهنا : لما أشبهت ما ليس من وجهين وجب أن تعمل عملها ؛ فوجب أن ترفع الاسم وتنصب الخبر كليس على ما بيّنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن القياس يقتضي أن لا تعمل» قلنا : كان هذا هو القياس ، إلا أنه وجد بينها وبين ليس مشابهة اقتضت أن تعمل عملها ، وهي لغة القرآن ، قال الله تعالى : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] وقال تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢].

قولهم «إن أهل الحجاز أعملوها لشبه ضعيف ، فلم يقو أن تعمل في الخبر» قلنا : هذا الشبه قد أوجب لها أن تعمل عملها ، وهي ترفع الاسم وتنصب الخبر ، على أنا قد عملنا بمقتضى هذا الضعف ؛ فإنه يبطل عملها إذا تقدم خبرها على اسمها ، أو إذا دخل حرف الاستثناء ، أو إذا فصل بينها وبين معمولها بإن الخفيفة ، ولو لا ذلك الضعف لوجب [٧٨] أن تعمل في جميع هذه المواضع.

وأما دعواهم أن الأصل «ما زيد بقائم» فلا نسلم ، وإنما الأصل عدمها ، وإنما أدخلت لوجهين ؛ أحدهما : أنها أدخلت توكيدا للنفي ، والثاني : ليكون في خبر ما بإزاء اللام في خبر إنّ ؛ لأن ما تنفي ما تثبته إنّ ، فجعلت الباء في خبرها نحو «ما زيد بقائم» لتكون بإزاء اللام في نحو «إنّ زيدا لقائم» كما جعلت السين جواب لن ، ألا ترى أنك تقول «لن يفعل» فيكون الجواب «سيفعل» وكذلك جعلت قد جواب لمّا ، ألا ترى أنك تقول «لمّا يفعل» فيكون الجواب «قد فعل» ولو حذفت لما فقلت «يفعل» لكان الجواب «فعل» من غير قد ؛ فدل على أن قد جواب لمّا ، فكذلك هاهنا.

وقولهم «إنه لما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبا ؛ لأن الصّفات منتصبات الأنفس ، فلما ذهبت أبقت خلفا منها» قلنا : هذا فاسد ؛ لأن الباء كانت في نفسها مكسورة غير مفتوحة ، وليس فيها إعراب ؛ لأن الإعراب لا يقع على حروف المعاني ، ثم لو كان حذف حرف الخفض يوجب النّصب كما زعموا لكان ذلك يجب في كل موضع يحذف فيه ، ولا خلاف أن كثيرا من الأسماء تدخلها

١٣٥

حروف الخفض ولا تنتصب بحذفها ، كقولك «كَفى بِاللهِ شَهِيداً ، وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً» ولو حذفت حرف الخفض لقلت : كفى الله شهيدا ، وكفى الله نصيرا ، بالرفع ، كما قال رجل من الأزد :

[٩٦] لمّا تعيّا بالقلوص ورحلها

كفى الله كعبا ما تعيّا به كعب

وقال عبد بني الحسحاس :

[٩٧] عميرة ودّع إن تجهّزت غاديا

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

______________________________________________________

[٩٦] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، ولا عثرت له على سوابق أو لواحق ، وتعيا ـ بوزن تقضى وتزكى ـ ومثله تعايا ـ مثل تغاضى وتقاضى ـ وأعيا ـ مثل أهدى وأبقى ـ وتقول : أعيا عليه الأمر ، وتعيا ، وتعايا ؛ إذا بهظه وأثقله وأعجزه والقلوص ـ بفتح القاف ـ الناقة ، ومحل الاستشهاد به قوله «كفى الله كعبا» فإن المؤلف قد زعم أن «كفى» في هذه العبارة هي التي يقترن فاعلها بالباء الزائدة غالبا ، وقد يجيء فاعلها غير مقترن بالباء كما في هذا البيت والذي يليه ، وهو انتقال نظر من المؤلف ، وبيان ذلك أن «كفى» على ثلاثة أضرب : الأول : أن يكون بمعنى حسب ، وهذه قاصرة لا تتعدى وهي التي يغلب اقتران فاعلها بالباء الزائدة ، نحو قوله تعالى : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) والثاني : أن تكون بمعنى وفي فتتعدى إلى اثنين ، ولا يقترن فاعلها بالباء ، نحو قول الله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ونحو قوله سبحانه : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) والثالث : أن تكون بمعنى أجزأ وأغنى ، فتتعدى إلى واحد ولا يقترن فاعلها بالباء الزائدة ، نحو قول الشاعر :

قليل منك يكفيني ، ولكن

قليلك لا يقال له قليل

وأنت إذا تأملت أدنى تأمل تبين لك أن «كفى» في البيت الذي استشهد به المؤلف من الضرب الثاني الذي تكون فيه بمعنى وفى وتتعدى إلى مفعولين ، وهذه ـ كما قلنا لك ـ لا يقترن فاعلها بالباء الزائدة لا في الغالب ولا في القليل ، وسبحان الذي تنزه عن السهو والغفلة ، وانظر ـ بعد ذلك ـ شرح الشاهد ١٠٢ الآتي.

[٩٧] هذا البيت لسحيم عبد بني الحسحاس ، وهو من شواهد ابن يعيش (ص ١٠٨٦ و ١١٤٨) والأشموني (رقم ٧٣٦ بتحقيقنا) ومغني اللبيب (رقم ١٥٣ بتحقيقنا) وأوضح المسالك لابن هشام (رقم ٣٧٩) وعميرة : اسم امرأة ، وتجهزت : أي اتخذت جهاز سفرك وأعددته وهيأته ، وغاديا : اسم فاعل فعله غدا يغدو غدوا ـ مثل سما يسمو سموا ـ وذلك إذا سار في وقت الغداة ، والغداة ـ ومثلها الغدوة ـ الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، ويروى في مكانه «غازيا» وقوله «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا» يروى أن عمر بن الخطاب سمع هذا البيت فقال : لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك ، والاستشهاد بهذا البيت في قوله «كفى الشيب» حيث أسقط الباء من فاعل «كفى» التي هي فعل قاصر لا يتعدى إلى مفعول وتدل على معنى حسب ، وسقوطها في هذه العبارة يدل على أن الباء ليست واجبة في فاعل هذا الفعل ، بخلاف اقتران الباء بفاعل «أفعل» في التعجب نحو «أكرم بزيد ، وأعظم به» فإنها لازمة لا يجوز سقوطها.

١٣٦

وقال الآخر :

[٩٨] أعان عليّ الدّهر إذ حلّ بركه

كفى الدّهر لو وكّلته بي كافيا

وكذلك قالوا «بحسبك زيد ، وما جاءني من أحد» وقال الشاعر :

[٩٩] بحسبك أن قد سدت أخزم كلّها

لكلّ أناس سادة ودعائم

وقال الآخر :

[١٠٠]بحسبك في القوم أن يعلموا

بأنّك فيهم غنيّ مضرّ

______________________________________________________

[٩٨] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وأعان عليّ الدهر : كان معه ينصره ويناوئني ، وأصل البرك ـ بفتح الباء وسكون الراء ـ الإبل الكثيرة ، أو الباركة ، ومنه قول متمم بن نويرة :

إذا شارف منهن قامت ورجعت

حنينا فأبكى شجوها البرك أجمعا

والاستشهاد بالبيت في قوله «كفى الدهر كافيا» حيث جاء بفاعل كفى التي بمعنى حسب غير مقترن بالباء الزائدة على نحو ما أوضحناه لك في البيتين السابقين.

[٩٩] هذا البيت ثالث أربعة أبيات رواها أبو تمام في ديوان الحماسة ، ولم يعزها ولا عزاها التبريزي ولا المرزوقي في شرحيهما ، وحسبك : أي كافيك ومجزئك ومغنيك ، وسدت : فعل ماض من السيادة ، وهي الرياسة ، وأخزم : رهط حاتم ، قال المرزوقي (ص ١٤٦٨) : «والمعنى : كافيك أن ترأست على أخزم ـ وأخزم رهط حاتم ـ ثم أزرى برياسته وبهم فقال : ولكل طائفة من الناس رؤساء وعمد ، وهذا يجري مجرى الإلتفات ، كأنه بعد ما قال ذلك التفت إلى من حوله يؤنسهم ويقول : ليس ذا بمنكر فلكل قوم من يسوسهم ويدعمهم» اه. والاستشهاد بالبيت في قوله «بحسبك» حيث زيدت الباء في المبتدأ الذي هو حسب الذي بمعنى كافيك ، وخبره هو المصدر المؤول من أن المخففة وما وليها ، وكأنه قال : كافيك سيادتك أخزم كلها ، والباء لا تزاد في المبتدأ إلا أن يكون المبتدأ هو لفظ حسب ، ولهذا البيت نظائر كثيرة في النثر ، والنظم ، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام «بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع له تغييرا أن يعلم الله أنه له منكر» وقوله «بحسب امرىء من الإيمان أن يقول : رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا» وقوله صلوات الله عليه : «بحسب امرىء من الشر أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصمه الله» وفي مثل من أمثال العرب «بحسبها أن تمتذق رعاؤها».

[١٠٠] هذا البيت من كلام الأشعر الرقبان الأسدي ـ وهو أحد شعراء الجاهلية ـ يهجو ابن عمه واسمه رضوان ، وقد رواه ثاني أربعة أبيات ابن منظور في لسان العرب (ض ر ر) وأنشده ابن يعيش (ص ١٠٨٦ و ١١٩٠) وأنشده الميداني في مجمع الأمثال (١ / ٦٦ بتحقيقنا) والمضر ـ بضم الميم وكسر الضاد ـ الذي يروح عليه ضرة من المال ، والضرة ـ بفتح الضاد وتشديد الراء ـ الكثير من المال ، وقيل : هو الكثير من الماشية خاصة ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بحسبك أن يعلموا» ومعناه كافيك علم القوم ، وذلك حيث زاد الباء في

١٣٧

[٧٩] وقال الآخر :

[١٠١] وقفت فيها أصيلانا أسائلها

أعيت جوابا ، وما بالرّبع من أحد

وقال الآخر :

[١٠٢] ألا هل أتاها والحوادث جمّة

بأنّ امرأ القيس بن تملك بيقرا

______________________________________________________

المبتدأ الذي هو لفظ حسب ، على نحو ما ذكرناه في الشاهد السابق ، وانظر في هذا الموضوع بحثا وافيا لنا في شرحنا على شرح الأشموني (١ / ٢٣٧).

[١٠١] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني من قصيدته التي مطلعها :

يا دارمية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقوله «وقفت فيها أصيلانا» الأصيلان : تصغير الأصلان الذي هو جمع أصيل ، والأصيل : هو الوقت قريب غروب الشمس ، ويروى في مكان هذا «وقفت فيها أصيلاكي أسائلها» كما يروى «وقفت فيها طويلا» وقوله «أعيت جوابا» يروى في مكانه «عيت جوابا» بتضعيف الياء ، والمراد على كل حال أنها عجزت عن الجواب ولم تجب عما سألها عنه ، والربع : الدار ، أو هو خاص بما ينزل فيه القوم أيام الربيع ، والاستشهاد بالبيت في قوله «وما بالربع من أحد» فإن هذه جملة من مبتدأ وخبر ، أما الخبر فهو الجار والمجرور المقدم الذي هو قوله «بالربع» وأما المبتدأ فهو قوله «أحد» وقد أدخل على هذا المبتدأ من الزائدة ، ونظير ذلك قول الله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) وقوله جلت كلمته : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) وقول وجيهة بنت أوس الضبية :

وما لي إن أحببت أرض عشيرتي

وأبغضت طرفاء القصيبة من ذنب

فإن قولها «ذنب» في آخر البيت مبتدأ دخلت عليه «من» الزائدة ، وخبره هو الجار والمجرور في أول البيت الذي هو قولها «لي» ونظير ذلك قول شاعر الحماسة :

وما لي من ذنب إليهم علمته

سوى أنني قد قلت : يا سرحة اسلمي

و «من» تزاد على المبتدأ بشرطين : الأول : أن يكون المبتدأ نكرة ، والثاني : أن يتقدم عليها نفي أو استفهام بهل خاصة ، وهذان الشرطان مستكملان فيما ذكرنا لك من الشواهد ، وانظر بحثا مستفيضا لنا في شرحنا على شرح الأشموني (١ / ٢٤٠).

[١٠٢] قد استشهد بهذا البيت الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه (ص ١٠٨٦) والرضي في شرح الكافية ، وشرحه البغدادي (٤ / ١٦١) وابن جني في شرح تصريف المازني (١ / ٨٤) وابن منظور في لسان العرب (ب ق ر) وكل واحد منهم نسبه إلى امرىء القيس ، وقد راجعت نسخ ديوان امرىء القيس بن حجر الكندي برواية الأصمعي وشرح الأعلم الشنتمري فلم أجد هذا البيت في قصيدته التي مطلعها :

سما لك شوق بعد ما كان أقصرا

وحلت سليمي بطن قوفعرعرا

ولكنني وجدته في زياداته التي زادها الطوسي والسكري وابن النحاس في هذه القصيدة ، وقوله «بيقرا» مأخوذ من قولهم «بيقر الرجل» إذا هاجر من أرض إلى أرض ، أو خرج إلى حيث لا يدري ، أو نزل الحضر وأقام هناك وترك قومه بالبادية ، وخص بعضهم به العراق ـ

١٣٨

وإذا حذفوا حرف الخفض قالوا «حسبك زيد ، وما جاءني أحد» بالرفع لا غير ، وكذلك جميع ما جاء من هذا النحو ، ولو كان كما زعموا لوجب أن يكون منصوبا ؛ فلما وقع الإجماع على وجوب الرفع دلّ على فساد ما ادّعوه ، والله أعلم.

______________________________________________________

قاله ابن منظور ، وفي شرح المفصل «وقيل : إذا ذهب إلى الشام» اه ، وقال ابن منظور بعد أن ذكر هذه المعاني كلها «وقول امرىء القيس يحتمل جميع ذلك» اه. والاستشهاد بالبيت في قوله «بأن امرأ القيس ـ الخ» فإن المصدر المنسبك من أن المؤكدة واسمها وخبرها في موضع رفع على أنه فاعل أتى في قوله «أتاها» وقد زاد الباء في هذا الفاعل وزيادة الباء في الفاعل على ثلاثة أضرب : الأول : زيادة واجبة ، وذلك في فاعل أفعل في التعجب نحو أجمل بكرم الأخلاق ، والثاني : زيادة غالبة ، وذلك في فاعل كفى القاصر الذي بمعنى حسب ، وقد أوضحنا ذلك في شرح الشاهد رقم ٩٦ ، والثالث : زيادة شاذة كما في الشاهد الذي نحن بصدد شرحه وكما في قول قيس بن زهير العبسي وهو الشاهد رقم ١٧ السابق :

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

١٣٩

٢٠

مسألة

[القول في تقديم معمول خبر «ما» النافية عليها]

ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز «طعامك ما زيد آكلا». وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين إلى أنه جائز من وجه فاسد من وجه ؛ فإن كانت «ما» ردا لخبر كانت بمنزلة لم ولا يجوز التقديم ، كما تقول لمن قال في الخبر «زيدا آكل طعامك» فتردّ عليه نافيا «ما زيد آكلا طعامك» فمن هذا الوجه يجوز التقديم ؛ فتقول «طعامك ما زيد آكلا» فإن كان جوابا للقسم إذا قال «والله ما زيد بآكل طعامك» كانت بمنزلة اللام في جواب القسم ؛ فلا يجوز التقديم.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما جوزنا ذلك لأن ما بمنزلة لم ولن ولا ؛ لأنها نافية كما أنها نافية ، وهذه الأحرف يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها ، نحو «زيدا لم أضرب ، وعمرا لن أكرم ، وبشرا لا أخرج» فإذا جاز التقديم مع هذه الأحرف فكذلك مع ما.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن «ما» معناها النفي ، ويليها الاسم والفعل ؛ فأشبهت حرف الاستفهام ، وحرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله ، فكذلك هاهنا : «ما» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «إن ما بمنزلة لم ولن ولا» قلنا [٨٠] لا نسلم ؛ لأن «ما» يليها الاسم والفعل ، وأما لم ولن فلا يليهما إلا الفعل ؛ فصارا بمنزلة بعض الفعل ، بخلاف ما فإنها يليها الاسم والفعل ، وأما لا فإنما جاز التقديم معها ـ وإن كانت يليها الاسم والفعل ـ لأنها حرف متصرف فعمل ما قبله فيما بعده ، ألا ترى أنك تقول : «جئت بلا شيء» فيعمل ما قبله فيما بعده ؛ فإذا جاز أن يعمل ما قبله فيما بعده جاز أن يعمل ما بعده فيما قبله ، فبان الفرق بينهما.

وأما ما ذكره أبو العباس ثعلب من التفصيل ـ من أنه إذا كانت ردا لخبر جاز التقديم ، وإن كانت جوابا للقسم لم يجز ـ ففاسد ؛ لأن ما في كلا القسمين نافية ؛ فينبغي أن لا يجوز التقديم فيهما جميعا ؛ لما بيّنا ، والله أعلم.

١٤٠