الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

ومن قال نعم ـ بفتح النون وسكون العين ـ حذف كسرة العين ، كقراءة يحيى بن وثّاب (فَنَعْمَ عقبى الدار) بفتح النون وسكون العين ، وكما قال الشاعر :

[٧٣] فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل

من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه

أراد «ضجر ، ودبرت» فحذف ، وقال الآخر :

[٧٤] إذا هدرت شقاشقه ونشبت

له الأظفار ترك له المدار

______________________________________________________

الثقل الخروج من الشيء إلى ما يخالفه ؛ ففي «نعم» بكسر النون والعين جميعا نوع من الثقل ونوع من التخفيف ، أما الثقل فناجم عن الكسر ، وأما التخفيف فمنشؤه أن اللسان حين ينطق بالنون مكسورة ثم يأتي بالعين مكسورة أيضا قد خرج من شيء إلى ما يشبهه ويوائمه فليس بحاجة إلى تغيير ضغطه وحركته ، أما حين ينتقل من النون المفتوحة إلى العين المكسورة فإنه ينتقل من الشيء إلى ما يغايره ويخالفه فهو مضطر إلى أن يغير ضغطه وحركته ؛ فلهذا كان نعم بكسر أوله وثانيه أخف من نعم بفتح أوله وكسر ثانيه ، فاعرف ذلك وتنبه له والله يرشدك.

[٧٣] هذا البيت للأخطل التغلبي ، من قصيدة يهجو فيها كعب بن جعيل ، وقد أنشده صاحب اللسان (ض ج ر) وصاحب الكشاف في تفسير سورة النساء (١ / ١٨٣ بولاق) وضجر ـ بوزن علم في الأصل ، وخفف هنا بإسكان ثانيه ـ أي قلق وتبرم وضاقت نفسه ، والبازل : من الجمال الذي انشقت نابه وذلك إذا بلغ سنه التاسعة ، والأدم : جمع آدم أو أدماء ، والآدم : الأسمر اللون ، ودبرت : أصله بوزن فرح ، وخفف هنا بإسكان ثانيه ، ومعناه جربت ، والدبر والجرب واحد في الوزن وفي المعنى ، وصفحتاه : جانباه ، وغاربه : أعلاه ، والاستشهاد به في قوله «ضجر» وقوله «دبرت» فإن أصل كل واحد من هذين الفعلين مفتوح الأول مكسور الثاني ، وقد خففه الشاعر بإسكان ثانيه ؛ لأن الكسرة كما قلنا ثقيلة وهم يطلبون التخفيف ما أمكن ، ولهذا لو كان ثاني الكلمة الثلاثية مفتوحا مثل كتب وضرب ونصر لم يلجأوا إلى تخفيفها بإسكان ثانيها ؛ لأن الفتحة في نفسها خفيفة وأول الفعل مفتوح فالخفة حاصلة ، فلا يرون أن بهم حاجة إلى تغير زنة الكلمة.

[٧٤] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وهدرت : أصله قولهم «هدر البعير» إذا ردد صوته في حنجرته ، والشقاشق : جمع شقشقة ـ بكسر الشينين جميعا ـ وأصله شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، ويقولون للفصيح البليغ الذي يخطب فيجيد : هدرت شقشقته ، هدرت شقاشقه ، وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة مشتملة على كثير من الحكم ، فقال له ابن عباس : لو اضطردت خطبتك من حيث أفضيت ، فقال له : هيهات ، تلك شقشقة هدرت ثم قرت ، وسموا هذه الخطبة «الشقشقية» بسبب هذه العبارة ، وقالوا «فلان شقشقة قومه» يريدون أنه شريفهم وفصيحهم ، ونشبت : أصله بفتح النون وكسر الشين ـ ومعناه علقت ، وقد خففه ههنا بإسكان شينه ، والمدار : أراد مدار الأمر ، وهو ما يجري عليه غالبا. والاستشهاد بالبيت في قوله «ونشبت» وقوله «ترك» فإن أصل الفعل الأول مكسور الشين مبنيا للمعلوم فسكن الشاعر شينه قصدا إلى التخفيف ، وأصل الفعل الثاني «ترك» بضم أوله وكسر ثانيه مبنيا للمجهول ، فسكن الراء للتخفيف أيضا.

١٠١

أراد «نشبت ، وترك» ، وقال الآخر وهو أبو النجم :

[٧٥] * هيّجها نضح من الطّلّ سحر*

[٥٧]وهزّت الرّيح النّدى حين قطر

لو عصر منها البان والمسك انعصر

أراد «عصر» وقال الآخر :

[٧٦]* رجم به الشّيطان من هوائه*

أراد «رجم» وقال الآخر :

[٧٧]* ونفخوا في مدائنهم فطاروا*

أراد «ونفخوا».

ومن قال نعم ـ بكسر النون والعين ـ كسر النون إتباعا لكسرة العين ، كقراءة زيد بن علي والحسن البصري ورؤبة الحمدِ لله بكسر الدّال إتباعا لكسرة اللام ، وكقراءة إبراهيم بن أبي عبلة الحمد لُله بضم اللام إتباعا لضمة الدّال ، وكقولهم «منتن» بكسر الميم إتباعا لكسرة التاء ، وكقولهم أيضا «منتن» بضم التاء إتباعا لضمة الميم.

______________________________________________________

[٧٥] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور قائلها أبو النجم العجلي كما قال المؤلف وقد أنشد ثالثها ـ وفيه محل الاستشهاد ـ ابن منظور (ع ص ر) ونسبه إلى أبي النجم ، والنضح ـ بالفتح ـ أصله رشاش الماء ، والطل : المطر الضعيف ، والندى ـ بفتح النون مقصورا ـ المطر ، والبان : شجر سبط القوام لين الورق يشبه به قدود الحسان ، له زهرة طيبة الريح ، والمسك معروف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «عصر» فإن أصله بضم العين وكسر الصاد ، ولكن الشاعر خففه بإسكان الصاد.

[٧٦] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، ورجم : فعل ماض مبني للمجهول ، وأصله بضم الراء وكسر الجيم ، ولكن الشاعر خففه بتسكين الجيم ، على نحو ما ذكرنا في شرح الشواهد السابقة ، ومعنى الرجم الرمي بالحجارة ، وكانوا في جاهليتهم إذا أرادوا أن يقتلوا رجلا رموه بالحجارة حتى يقتلوه ، ثم قيل لكل قتل رجم ، وقد ورد في القرآن الكريم الرجم بمعنى القتل في مواضع كثيرة ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «رجم» وقد بيّنا وجهه.

[٧٧] هذا عجز بيت من كلام القطامي ، وصدره قوله :

* ألم يخز التفرق جند كسرى*

وقد أنشده ابن منظور (ن ف خ) ونسبه للقطامي ، والمدائن : جمع مدينة ، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله «ونفخوا» فإن أصله فعل ماض مبني للمجهول بضم النون وكسر الفاء ، ولكن الشاعر خففه بإسكان الفاء.

١٠٢

ومن قال نعم ـ بكسر النون وسكون العين ـ نقل كسرة العين من نعم ـ بفتح النون وكسر العين ـ إلى النون ، وعليها أكثر القراء ؛ فلما جاز فيها هذه الأربع اللغات دلّ على أن أصلها نعم على وزن فعل ؛ لأن كل ما كان على وزن فعل من الاسم والفعل وعينه حرف من حروف الحلق فإنه يجوز فيه أربع لغات ، فالاسم نحو : فخذ وفخذ وفخذ وفخذ ، والفعل نحو : قد شهد وشهد وشهد وشهد ، على ما بيّنا في نعم ، وإذا ثبت أن الأصل في نعم نعم كانت الياء في «نعيم الرجل» إشباعا ؛ فلا يكون فيه دليل على الاسمية ؛ فدلّ على أنهما فعلان لا اسمان ، والله أعلم.

١٠٣

١٥

مسألة

[القول في «أفعل» في التعجب ، اسم هو أو فعل؟](١)

ذهب الكوفيون إلى أن أفعل في التعجب نحو «ما أحسن زيدا» اسم. وذهب البصريون إلى أنه فعل ماض ، وإليه ذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين.

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه اسم أنه جامد لا يتصرف ، ولو كان فعلا لوجب أن يتصرف ؛ لأن التصرف من خصائص الأفعال ، فلما لم يتصرف وكان جامدا وجب أن يلحق بالأسماء.

[٥٨] ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنه اسم أنه يدخله التصغير ، والتصغير من خصائص الأسماء ، قال الشاعر :

[٧٨] ياما أميلح غزلانا شدنّ لنا

من هاؤليّائكنّ الضّال والسّمر

______________________________________________________

[٧٨] استشهد بهذا البيت كثير من النحاة وأهل اللغة منهم ابن منظور (م ل ح) وابن يعيش (ص ١٠٤٢) والأشموني (رقم ٧٣٥) وابن هشام في المغني (رقم ٩٣٧) والرضي ، وشرحه البغدادي في الخزانة (١ / ٤٥ و ٤ / ٩٥) ، وقد عثرت به ثاني ثلاثة أبيات في دمية القصر للباخرزي (ص ٢٩ ط حلب) وقد نسبها إلى بدوي اسمه كاهل الثقفي. والغزلان : جمع غزال ، وأصله ولد الظبية ، ويشبه العرب به حسان النساء ، وشدن : أصله قولهم «شدن الظبي يشدن شدونا ـ من باب قعد» إذا قوي وترعرع واستغنى عن أمه ، وهؤلياء : تصغير هؤلاء على غير قياس ، والضال : السدر البري ، واحدته ضالة ، والسمر ـ بفتح السين وضم الميم ـ شجر الطلح ، واحدته سمرة ، والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله «أميلح» فإنه تصغير أملح ، وأصل التصغير من خصائص الأسماء ، ولهذا قال الكوفيون إن صيغة أفعل في التعجب اسم بدليل ـ

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : لسان العرب (م ل ح) وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل (١٠٤١) وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب (٢ / ٢٨٥) وشرح الأشموني (٤ / ١٦٧ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (٣ / ١٦ بولاق) والتصريح للشيخ خالد (٢ / ١٠٨ بولاق) ومغني اللبيب لابن هشام (ص ٦٨٢ بتحقيقنا) وسر العربية (٤٧).

١٠٤

فأميلح : تصغير أملح ، وقد جاء ذلك كثيرا في الشعر وسعة الكلام.

قالوا : ولا يجوز أن يقال «إن فعل التعجب لزم طريقة واحدة ، وضارع الاسم ، فلحقه التصغير» لأنا نقول : هذا ينتقض بليس وعسى فإنهما لزما طريقة واحدة ، ومع هذا لا يجوز تصغيرهما ، وأبلغ من هذا النقض وأوكد مثال «أفعل به» في التعجب فإنه فعل لزم طريقة واحدة ، ومع هذا فإنه لا يجوز تصغيره.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنه اسم أنه تصحّ عينه نحو «ما أقومه ، ولا أبيعه» كما تصح العين في الاسم في نحو «هذا أقوم منك ، وأبيع منك» ولو أنه فعل كما زعمتم لوجب أن تعلّ عينه بقلبها ألفا ، كما قلبت من الفعل في نحو : قام وباع وأقام وأباع في قولهم «أبعت الشيء» إذا عرّضته للبيع ، وإذا كان قد أجري مجرى الأسماء في التصحيح مع ما دخله من الجمود والتصغير وجب أن يكون اسما.

والذي يدلّ على أنه ليس بفعل وأنه ليس التقدير فيه : شيء أحسن زيدا قولهم «ما أعظم الله» ولو كان التقدير فيه ما زعمتم لوجب أن يكون التقدير : شيء أعظم الله ، والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل ، وقال الشاعر :

[٧٩] ما أقدر الله أن يدني على شحط

من داره الحزن ممّن داره صول

______________________________________________________

مجيئها مصغرة في هذا البيت ، والبصريون لا يرتضون ذلك ، ويقولون إن تصغير «أملح» في هذا البيت شاذ ، ألا ترى هذا الشاعر قد صغر هؤلاء في نفس البيت مع أننا متفقون على أن التصغير من خصائص الأسماء المعربة ؛ فهذا وجه ، ومنهم من يسلك في الرد مسلكا آخر ، فيقول : إن صيغة التعجب لما أشبهت صيغة التفضيل في الوزن وكان فعل التعجب ـ مع ذلك ـ جامدا أعطوا فعل التعجب حكم اسم التفضيل ؛ فأجازوا تصغيره ، وقد ذكر ذلك ابن منظور في اللسان وابن هشام في المغني ـ قال ابن هشام في المغني ، «الثالث ـ مما أعطي حكم الشيء لمشابهته له لفظا ومعنى ـ نحو اسم التفضيل وأفعل في التعجب ؛ فإنهم منعوا التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل في التعجب وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة ، وأجازوا تصغير أفعل في التعجب لشبهه بأفعل التفضيل فيما ذكرنا ، وقال :

* يا ما أميلح غزلانا ...*

ولم يسمع ذلك إلا في أحسن وأملح ، ذكره الجوهري ، ولكن النحويين مع هذا قاسوه» اه.

[٧٩] هذا البيت من كلمة لحندج بن حندج المري يصف فيها طول ليله وما يقاسيه من فرقة أحبابه ، وهي من شعر حماسة أبي تمام (انظر شرح المرزقي ص ١٨٢٨) ، والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٤١) والشحط ـ بفتح السين والحاء جميعا ـ هو البعد ، و «الحزن» بفتح الحاء وسكون الزاي ـ موضع بعينه ، وفي بلاد العرب موضعان بهذا الاسم : أحدهما : حزن بني يربوع ، والثاني : ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدا في بلاد نجد ، وصول :

١٠٥

ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يكون التقدير فيه : شيء أقدر الله ، والله تعالى قادر لا بجعل جاعل.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدّليل على أنه فعل أنه إذا وصل بياء الضمير دخلت عليه نون الوقاية ، نحو «ما أحسنني عندك ، وما أظرفني في عينك ، وما أعلمني في ظنك» ونون الوقاية إنما تدخل على الفعل لا على الاسم ، ألا ترى أنك تقول في الفعل «أرشدني ، وأسعدني ، وأبعدني» ولا تقول في الاسم «مرشدني» ولا «مسعدني» فأما قوله :

[٨٠] * وليس حاملني إلّا ابن حمّال*

______________________________________________________

مدينة من بلاد الخزر في نواحي باب الأبواب ، والاستشهاد به هنا في قوله «ما أقدر الله» فإن بعض الكوفيين زعم أن مثل هذه العبارة تدل على أن أفعل في التعجب ليس فعلا ؛ إذ لو كان فعلا لكان فيه ضمير مستتر يكون هو فاعله ، ويكون لفظ الجلالة منصوبا بهذا الفعل ، فيكون المعنى : شيء أقدر (هو ، أي ذلك الشيء) الله تعالى ، أي جعله قادرا وقد قام الدليل العقلي والنقلي على أن الله تعالى قادر من غير جعل جاعل ؛ فيكون هذا المعنى باطلا ، وإنما أدى إلى هذا المعنى الباطل ذهابكم إلى أن أفعل في باب التعجب فعل ، فوجب ألا نصير إليه.

[٨٠] هذا عجز بيت من البسيط ، وصدره قوله :

* ألا فتى من بني ذبيان يحملني*

وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في شرح الكافية ، في باب الإضافة ، وفي باب المضمرات ، وشرحه البغدادي في خزانة الأدب (٢ / ١٨٥ بولاق) وأنشده أبو العباس المبرد في الكامل ثالث خمسة أبيات ، وقال قبل إنشادها «أنشدنا أبو محلم السعدي». و «ألا» في أول البيت حرف دال على العرض ، و «فتى» منصوب بفعل محذوف ، والتقدير : ألا ترونني فتى ، و «بني ذبيان» أراد بني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر ، و «يحملني» أراد يعطيني دابة تحملني إلى المكان الذي أقصده ، و «حمال» صيغة مبالغة لحامل. ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله : «حاملني» حيث لحقت نون الوقاية الاسم عند إضافته إلى ياء المتكلم ، وذلك شاذ ، والقياس أن يقترن الاسم بياء المتكلم من غير توسط النون بينهما ، سواء أكان هذا الاسم جامدا نحو : غلامي وكتابي وداري ، أم كان مشتقا نحو : حاملي وضاربي ومكتوبي ومضروبي وما أشبه ذلك ؛ لأن النون إنما توسطت بين الفعل وياء المتكلم لأن ياء المتكلم تستوجب كسر ما قبلها ، ولما كان الفعل لا يدخله الجر ، وكان الكسر أخا الجر ؛ تحاموا أن يقرنوا الفعل بياء المتكلم ؛ لئلا ينكسر آخره فيدخلوا عليه ما ليس منه في شيء ، لكن الجر يدخل على الأسماء بغير نكير ، فلم يجدوا أنفسهم محتاجين إلى نون الوقاية معه حين يضيفونه إلى ياء المتكلم ، هذا ، والرواية عند أبي العباس المبرد «وليس يحملني ...» وعلى ذلك يكون البيت مستقيما لا شذوذ فيه ؛ لأن نون الوقاية حينئذ متوسطة بين الفعل والياء كما هو الأصل.

١٠٦

فمن الشّاذ الذي لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه ، وإنما دخلت هذه النون على [٥٩] الفعل لتقي آخره من الكسر ؛ لأن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسورا ، وإذا كانوا قد منعوه من كسرة الإعراب لثقلها وهي غير لازمة فلأن يمنعوه من كسرة البناء وهي لازمة كان ذلك من طريق الأولى ، فلما منعوه من الكسر أدخلوا هذه النون لتكون الكسرة عليها ؛ فلو لم يكن أفعل في التعجب فعلا وإلا لما دخلت عليه نون الوقاية كدخولها على سائر الأفعال.

اعترضوا على هذا بأن قالوا : نون الوقاية قد دخلت على الاسم في نحو «قدني وقطني» أي حسبي ، قال الشاعر :

[٨١] امتلأ الحوض وقال : قطني

مهلا ، رويدا ، قد ملأت بطني

ولا يدلّ ذلك على الفعلية ، فكذلك هاهنا.

وما اعترضوا فيه ليس بصحيح ؛ لأن «قدني ، وقطني» من الشّاذ الذي لا يعرج عليه ؛ فهو في الشذوذ بمنزلة مني وعني ، وإنما حسن دخول هذه النون على قد وقط لأنك تقول «قدك من كذا ، وقطك من كذا» أي اكتف به ، فتأمر بهما كما تأمر بالفعل ؛ فلذلك حسن دخول هذه النون عليهما ، على أنهم قالوا «قطي وقدي» من غير نون كما قالوا «قطني وقدني» بالنون ، قال الشاعر :

[٨٢] قدني من نصر الخبيبين قدي

ليس الإمام بالشّحيح الملحد

______________________________________________________

[٨١] هذان بيتان من الرجز المشطور ، ولم أجد أحدا نسبهما إلى قائل معين ، وقد استشهد به ابن منظور وشارح القاموس (ق ط ط) ، ومن النحاة : الأشموني (رقم ٦٣) وابن الناظم ، وابن يعيش (ص ٣١٨ و ٤٤٣). وقوله «امتلأ الحوض وقال» أطلق القول ههنا على ما يشهد به الحال وتدل عليه الطبيعة ، و «قطني» هو اسم بمعنى حسب ، أو اسم فعل بمعنى يكفي ، و «مهلا» هو مصدر نائب عن الفعل ، تقول : مهلا يا رجل ، ومهلا يا رجلان ، ومهلا يا رجال ، وتقول في التأنيث كذلك ، بلفظ واحد ، والمراد أمهل وتريث ولا تعجل و «رويدا» يأتي على واحد من أربعة أوجه : الأول : أن يكون اسم فعل بمعنى أرود ، أي أمهل ، والثاني : أن يكون مصدرا نائبا عن فعله كالذي قلناه في مهلا ، والثالث : أن يقع صفة كما تقول : ساروا سيرا رويدا ، والرابع : أن يقع حالا كما تقول : ساروا رويدا بحذف المصدر الذي نصبته على المفعولية المطلقة في الاستعمال الثالث. ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله «قطني» حيث وصل نون الوقاية بقط عند ما أراد أن يضيفه إلى ياء المتكلم وليس «قط» فعلا ؛ فيدل ذلك على أن نون الوقاية قد تلحق بعض الأسماء لغرض من الأغراض ، والغرض ههنا المحافظة على سكون «قط» حتى لا يذهب ما بني عليه اللفظ وهو السكون ، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لحاق نون الوقاية لكلمة من الكلمات دالا على أن هذه الكلمة فعل ، وهذا ظاهر إن شاء الله.

[٨٢] هذان بيتان من الرجز المشطور ، وقد رواهما الجوهري في الصحاح (ل ح د) ونسبهما

١٠٧

ولا خلاف أنه لا يجوز أن يقال «ما أكرمي» بحذف النون كما يقال «ما أكرمني» كما يقال «قدني ، وقدي» فلما لم يجز ذلك بان الفرق بينهما.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أن أفعل في التعجب فعل أنه ينصب المعارف والنكرات ، وأفعل إذا كان اسما لا ينصب إلا النكرات خاصة على التمييز ، نحو قولك «زيد أكبر منك سنا ، وأكثر منك علما» ولو قلت «زيد أكبر منك السنّ ، أو أكثر منك العلم» لم يجز ، ولما جاز أن يقال «ما أكبر السن له ، وما أكثر العلم له» دل على أنه فعل.

اعترضوا على هذا بأن قالوا : قد ادعيتم أن أفعل إذا كان اسما لا ينصب إلا

______________________________________________________

لحميد بن ثور الهلالي ، وقال ابن منظور (ل ح د) بعد أن رواهما عن الجوهري : «قال ابن بري : البيت المذكور لحميد بن ثور هو لحميد الأرقط ، وليس هو لحميد بن ثور كما زعم الجوهري» اه. ورواهما ابن منظور (خ ب ب ـ ق د د) منسوبين لحميد الأرقط ، وأنشدهما ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٤٤٢) ونسبهما لأبي بحدلة ، وهما من شواهد سيبويه (١ / ٣٨٧) وشواهد رضي الدين في شرح الكافية ، والأشموني (رقم ٦٢) وقد قال البغدادي في خزانة الأدب (٢ / ٤٥٣) : «قال ابن المستوفي : ولم أر البيت الأول في ديوانه (يريد ديوان حميد الأرقط) وكذلك أورد الأبيات القالي في أماليه ، ولم يورد بيت :

* قدني من نصر الخبيبين قدي*»

اه. المقصود من كلام البغدادي ، وقد : تأتي اسما بمعنى حسب ، وتأتي اسم فعل بمعنى يكفي ، مثل قط في الوجهين ، و «الخبيبين» يروى بصورة المثنى وبصورة جمع المذكر السالم ، فأما روايته بصورة المثنى فقيل : عنى عبد الله بن الزبير بن العوام الذي كان قد خرج على دولة مروان بن الحكم وتملك الحجازين وابنه خبيب بن عبد الله بن الزبير ، وقيل : عنى عبد الله وأخاه مصعب بن الزبير ، وأما روايته بصورة جمع المذكر السالم فالمعنى به عبد الله وشيعته كلهم ، وقوله :

* ليس الإمام بالشحيح الملحد*

يروى في مكانه :

* ليس أميري بالشحيح الملحد*

والشحيح : البخيل ، وكان عبد الله بن الزبير متهما بالبخل ، والملحد : مأخوذ من قولهم : «ألحد فلان في الحرم» إذا استحل حرمته وانتهكها. والاستشهاد بالبيت في قوله «قدني» وقوله : «قدي» فقد وصل الشاعر «قد» بنون الوقاية في المرة الأولى عند ما أضاف الكلمة إلى ياء المتكلم ، ولم يأت بهذه النون في المرة الثانية ، وهذا يدل على أن الوجهين جائزان في هذه الكلمة ، أما اقترانها بالنون فلقصد المحافظة على ما بنيت عليه الكلمة وهو السكون ، وأما حذف النون فلكون الكلمة اسما ، وفي هذا الكلام مقال لنا ذكرناه في شرحنا المطول على شرح أبي الحسن الأشموني (١ / ١١٢ وما بعدها) فارجع إليه هناك.

١٠٨

النكرة ، وقد وجدنا العرب قد أعملته في المعرفة ، قال الحارث بن ظالم :

[٨٣] فما قومي بثعلبة بن بكر

ولا بفزارة الشّعر الرّقابا

[٦٠] فنصب الرّقاب بالشّعر ، وهو جمع أشعر ، ولا خلاف أن الجمع في باب العمل أضعف من واحده ؛ لأن الجمع يباعده عن مشابهة الفعل ؛ لأن الفعل لا يجمع ، وإذا بعد عن مشابهة الفعل بعد عن العمل ، وإذا عمل جمع أفعل مع بعده عن العمل ؛ فالواحد أولى أن يعمل ، وقال الآخر :

[٨٤] ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام

______________________________________________________

[٨٣] هذا البيت من قصيدة للحارث بن ظالم المري ، وكان قد فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وهو في جوار النعمان بن المنذر ثم هرب يستجير القبائل ، والبيت من شواهد سيبويه (١ / ١٠٣) وابن يعيش (ص ٨٤٣) والأشموني (رقم ٧٢٩) وقوله «بثعلبة بن بكر» المحفوظ «بثعلبة بن سعد» وكذلك هو في رواية سيبويه وابن يعيش ، وكذلك هو في نسب ثعلبة ؛ فإنه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، وفزارة هو فزارة بن ذبيان أخو سعد بن ذبيان أبي ثعلبة ، والشاعر في هذا البيت ينتفي من بني سعد بن ذبيان ، والشعر ـ بضم الشين وسكون العين ـ جمع أشعر ، والأشعر : الكثير الشعر ، والرقاب : جمع رقبة ، والعرب ترى من علامات الغباء أن يكون الرجل كثير شعر القفا ، ويسمون ذلك الغمم ، وقال في ذلك شاعرهم :

ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا

أغم القفا والوجه ليس بأنزعا

ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «الشعر الرقابا» حيث نصب قوله «الرقابا» بقوله «الشعر» والشعر جمع أشعر وهو هنا صفة مشبهة ، واتفق الفريقان الكوفيون والبصريون على أنه يجوز أن يكون انتصابه على التشبيه بالمفعول به ، وزاد الكوفيون أنه يجوز أيضا أن يكون انتصابه على التمييز ، وذلك لأن الكوفيين يجوزون أن يجيء التمييز معرفة ، فأما علماء البصرة فلكونهم يوجبون كون التمييز نكرة لم يجيزوا انتصاب «الرقاب» في هذا البيت على التمييز ، فاعرف هذا ، ويروى في هذه العبارة «الشعرى رقابا» بتجريد المعمول من أل ، والبصريون لا يرون بأسا في نصبه حينئذ على التمييز ، وقد روى سيبويه البيت بالروايتين جميعا.

[٨٤] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٠٠) وابن يعيش (ص ٨٤١) والأشموني (رقم ٧٢٢) والرضي ، وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ٩٥) وقبل بيت الشاهد قوله :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والبلد الحرام

وقوله «ربيع الناس» شبه الملك النعمان بالربيع الذي تترادف فيه الخيرات لكثرة عطائه ووفرة بره ، و «البلد الحرام» شبهه أيضا بالبلد الحرام لأن رحابه موضع الأمن من كل مخافة وفي كنفه يلجأ اللاجئون فلا تجسر يد على أن تمتد إليهم بسوء ، وقوله «بذناب

١٠٩

فنصب الظّهر بأجبّ ، وقال الآخر :

[٨٥] ولقد أغتدي وما صقع

الدّيك على أدهم أجشّ الصّهيلا

فنصب الصّهيل بأجشّ ، فبطل ما ادّعيتموه.

وما اعترضوا به ليس بصحيح : أما بيت الحارث بن ظالم :

* ولا بفزارة الشّعر الرّقابا* [٨٣]

______________________________________________________

عيش» ذناب كل شيء ـ بكسر الذال المعجمة ـ عقبة وما يأتي في أواخره ، و «أجب الظهر» مقطوع الظهر كأنه جمل قد قطع سنامه ، ويقال : بعير أجب ، وناقة جباء ؛ إذا كان قد قطع سنامهما. والاستشهاد بالبيت في قوله «أجبّ الظهر» وهذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه : برفع الظهر ، وتخريج هذه الرواية أن تجعل الظهر فاعلا لأجبّ ، وبنصب الظهر ، وتخريج هذه الرواية أن تجعل فاعل الصفة التي هي أجبّ ضميرا مستترا وتنصب الظهر على أنه مشبه بالمفعول به ، وهذه الرواية هي محل الخلاف بين الكوفيين والبصريين ، ويجرّ الظهر ، وتخريج هذه الرواية أن يكون أجب مضافا والظهر مضافا إليه. والوجه الأول : قبيح ، والثاني : ضعيف ، والثالث : حسن.

[٨٥] لم أعثر على نسبة هذا البيت إلى قائل معين ، وقوله «أغتدي» معناه أخرج في وقت الغداة ، والغداة ـ بفتح الغين ـ ما بين انبثاق الفجر وطلوع الشمس ، ويقال «غدية» بوزن قضية ، و «غدوة» بضم فسكون ، وربما قيل «غدية» بضم الغين وفتح الدال ، وهو تصغير الغدوة أو الغداة ، ومراد الشاعر أنه يخرج من داره مبكرا ، وقوله «وما صقع الديك» معناه صاح ، وهذا تأكيد لما استفيد من معنى «أغتدي» وقوله «على أدهم» أراد على فرس أدهم ، وهو الذي لونه الدهمة ، والدهمة ـ بضم الدال وسكون الهاء ـ لون قريب من الأسود ، و «أجش» الغليظ الصوت من الإنسان والخيل ، وقال النجاشي :

ونجى ابن حرب سابح ذو علالة

أجش هزيم ، والرماح دواني

ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «أجش الصهيلا» حيث نصب الصهيل بقوله أجش ، وأجش هذا صفة مشبهة ، ومعمولها مقترن بالألف واللام ، وبه استدل الكوفيون على أنه يجوز أن ينتصب بعد «أفعل» كل من المعرفة والنكرة ، وقد سوى المؤلف في التمثيل والاستشهاد بين أفعل الذي هو اسم تفضيل وأفعل الذي هو صفة مشبهة ؛ فهو يمثل أولا بقوله «زيد أكبر منك سنا ، وأكثر منك علما» ثم يستشهد بأجب الظهر ، والشعر الرقابا ، وأجش الصهيلا ، ثم يلزم الكوفيين الحجة بأن المنصوب في هذه الشواهد منصوب على التشبيه بالمفعول به ، لا على التمييز ، وكأنه ينكر أن يكون التمييز مقترنا بأل ، وقد ورد التمييز مقترنا بأل من غير أن يكون العامل أفعل التفضيل ولا أفعل الصفة المشبهة ، وذلك في قول الشاعر :

رأيتك لما أن عرفت وجوهنا

صددت وطبت النفس يا قيس عن عمرو

ولكن البصريين لم يرقهم أن يجيء هذا البيت ونحوه على غير ما أصلوا من القواعد ، فذهبوا إلى أن «ال» في «طبت النفس» زائدة ، وليست معرفة ؛ فيكون على ما ذهبوا إليه مدخول أل نكرة كالمجرد منها ، وهذا هو المسلك الذي سلكوه في هذه الشواهد.

١١٠

فقد روي «الشّعرى رقابا» حكى ذلك سيبويه عن أبي الخطاب عن بعض العرب أنهم ينشدون البيت كذلك ، على أنا وإن لم ننكر صحة ما رويتموه ، فلا حجة لكم فيه ؛ لأنه من باب «الحسن الوجه ، والحسان الوجوه» وقد قالوا «الحسن الوجه» بنصب الوجه تشبيها بالضارب الرجل ، كما قالوا «الضارب الرجل» بالجر تشبيها ب «الحسن الوجه» وقد ذهب بعض البصريين إلى زيادة الألف واللام فيه ، فلما كان في تقدير التنكير جاز نصبه على التمييز ، فبان أن ما عارضتم به ليس بشيء.

وأما قول النابغة :

* أجبّ الظّهر ليس له سنام* [٨٤]

بفتحهما قد روي «أجبّ الظّهر» بجرهما ، وروي «أجبّ الظّهر» برفع الظهر لأنه فاعل والتقدير فيه عندنا : أجبّ الظهر منه ، وعندكم الألف واللام قامتا مقام الضمير العائد ؛ فلا حجة لكم في هذا البيت ، والجرّ فيهما هو القياس ، وإن صحت رواية النصب ؛ فيكون على التشبيه بالمفعول على ما بيّنا في البيت الأول ، لا على تقدير زيادة الألف واللام ونصبه على التمييز على ما ذهبتم إليه ، ولئن سلمنا على قول بعض البصريين ، وهو الجواب عن جميع ما احتججتم به ؛ لأنكم إذا قدرتم أن الألف واللام فيه زائدة فهو عندكم نكرة ، فإذن ما عمل [٦١] في معرفة ، وإنما عمل في نكرة ، والخلاف ما وقع في أنّ «أفعل» تعمل في النكرة ، وإنما وقع الخلاف في أنها تعمل في المعرفة.

وأما قول الآخر :

* على أدهم أجشّ الصّهيلا* [٨٥]

فالوجه جرّ «الصهيلا» إلا أنه نصبه على التشبيه بالمفعول ، أو على زيادة الألف واللام على ما قدّمنا.

ثم لو سلمنا لكم صحة ما ادّعيتموه في هذه الأبيات ، وأجريناها في ذلك مجرى «ما أحسن الرجل» فهل يمكنكم أن توجدونا أفعل وصفا نصب اسما مضمرا أو علما أو اسما من أسماء الإشارة؟ وإذا لم يمكن ذلك ووجدنا أفعل في التعجب تعمل في جميع أنواع المعارف النّصب دلّ على بطلان ما ذهبتم إليه من دعوى الإسمية.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدّليل على أنه فعل ماض أنّا وجدناه مفتوح الآخر ، ولو لا أنه فعل ماض لم يكن لبنائه على الفتح وجه ؛ لأنه لو كان اسما لارتفع لكونه خبرا ل «ما» على كلا المذهبين ، فلما لزم الفتح آخره دل على أنه فعل ماض.

١١١

اعترضوا على هذا من وجهين ؛ أحدهما : أنهم قالوا : ما احتججتم به من فتح آخره ليس فيه حجة ؛ لأن التعجب أصله الاستفهام ، ففتحوا آخر أفعل في التعجب ونصبوا زيدا فرقا بين الاستفهام والتعجب. والثاني : أنهم قالوا : إنما فتح آخر أفعل في التعجب لأنه مبني لتضمنه معنى حرف التعجب ؛ لأن التعجب كان يجب أن يكون له حرف كغيره من الاستفهام والشرط والنفي والنهي والتّمني والتّرجي والتّعريف والنّداء والعطف والتّشبيه والاستثناء ، إلى غير ذلك ، إلا أنهم لما لم ينطقوا بحرف التّعجّب وضمّنوا معناه هذا الكلام استحقّ البناء ، ونظير هذا أسماء الإشارة ؛ فإنها بنيت لتضمنها معنى حرف الإشارة ، وإن لم ينطق به فكذلك هاهنا.

وما اعترضوا به ليس بصحيح : أما قولهم «إن التّعجّب أصله الاستفهام ففتحوا آخر أفعل في التعجب للفرق بين الاستفهام والتعجب» فمجرد دعوى لا يقوم عليها دليل ، إلا بوحي وتنزيل ، وليس ذلك سبيل ، مع أنه ظاهر الفساد والتعليل ؛ لأن التفريق بين المعاني لا توجب إزالة الإعراب عن وجهه في موضع ما ، فكذلك هاهنا ولأن التعجب إخبار يحتمل الصدق والكذب ، [٦٢] والاستفهام استخبار لا يحتمل الصدق والكذب ؛ فلا يصح أن يكون أصلا له.

وأما قولهم «إنه بني لتضمنه معنى حرف التعجب وإن لم ينطق به» ؛ فكذلك نقول : كان يجب أن يوضع له حرف كما وضع لغيره من المعاني ، ولكن لما لم يفعلوا ذلك ضمّنوا «ما» معنى حرفه فبنوها ، كما ضمنوا «ما» الاستفهامية معنى الهمزة ، وضمّنوا «ما» الشرطية معنى إن التي وضعت للشرط ، وبنوهما وإن لم يكن للكلمة التي بعدهما تعلق بالبناء ؛ فكذلك ما بعد «ما» التعجبية لا يكون له تعلق بالبناء ، فبان بذلك فساد اعتراضهم ، وأنه إنما فتح لأنه فعل ماض على ما بيّنا.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «الدليل على أنه اسم أنه لا يتصرف» قلنا : عدم تصرفه لا يدل على أنه اسم ؛ فإنا أجمعنا على أن «ليس ، وعسى» فعلان ، ومع هذا فإنهما لا يتصرفان ، وإنما لم يتصرف فعل التعجب لوجهين ؛ أحدهما : أنهم لما لم يضعوا للتعجب حرفا يدل عليه جعلوا له صيغة لا تختلف ؛ لتكون أمارة للمعنى الذي أرادوه ، وأنه مضمن معنى ليس في أصله ، والثاني ـ وهو الصحيح ـ إنما لم يتصرف لأن المضارع يحتمل زمانين الحال والاستقبال ، والتعجب إنما يكون مما هو موجود مشاهد ، وقد يتعجب من الماضي ، ولا يكون التعجب مما لم يكن ، فكرهوا أن يستعملوا لفظا يحتمل الاستقبال ؛ لئلا يصير اليقين شكا ، وأما قولهم «ما أملح ما يخرج هذا الغلام ، وما أطول ما يكون هذا» فلا يقال ذلك حتى يرى فيه مخيلة ذلك ، فدلّك ما رأيت في

١١٢

وقتك على ما يكون بعد ذلك ، فكأنك قد شاهدته موجودا ، ولما كرهوا استعمال المضارع كانوا لاستعمال اسم الفاعل أكره لأنه لا يختص زمانا بعينه ؛ فلهذا منعوه من التصرف ، وعدم التصرف لا يدل على أنه اسم كما قلنا في «ليس ، وعسى».

وأما قولهم «إنه يصغر ، والتصغير من خصائص الأسماء» فنقول : الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن التصغير في هذا الفعل ليس على حد التصغير في الأسماء ؛ فإن التصغير على اختلاف ضروبه : من التحقير كقولك رجيل ، والتقليل كقولك دريهمات ، والتقريب كقولك قبيل المغرب ، والتعطف كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أصيحابي أصيحابي» والتعظيم [٦٣] كقول الشاعر :

[٨٦] وكلّ أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفرّ منها الأنامل

يريد الموت ، ولا داهية أعظم من الموت ، والتمدّح كقول الحباب بن المنذر يوم السّقيفة : «أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب» فإنه يتناول الاسم لفظا ومعنى ، والتصغير اللاحق فعل التعجب إنما يتناوله لفظا لا معنى ، من حيث كان متوجّها إلى المصدر ، وإنما رفضوا ذكر المصدر هاهنا لأن الفعل إذا أزيل عن التصرف لا يؤكّد بذكر المصدر ؛ لأنه خرج عن مذهب الأفعال ، فلما رفضوا المصدر وآثروا تصغيره صغّروا الفعل لفظا ، ووجّهوا التصغير إلى المصدر ، وجاز تصغير المصدر بتصغير فعله ؛ لأن الفعل يقوم في الذكر مقام مصدره ؛ لأنه يدل عليه بلفظه ، ولهذا يعود الضمير إلى المصدر بذكر فعله ، وإن لم يجر له ذكر ، قال الله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : ١٨٠]

______________________________________________________

[٨٦] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري ، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل (ص ٧٠٩) والمحقق رضي الدين في شرح شافية ابن الحاجب (رقم ٣٨). والأناس : هو أصل الناس ، وحذفت الهمزة من الأناس للتخفيف ، وهذا عند من يرى أن الناس مأخوذ من الأنس ، ومن العلماء من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من النوس ومعناه الحركة ، ومنهم من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من النسيان ، و «سوف» في هذا الموضع للتحقيق والتأكيد ، و «دويهية» تصغير داهية ، وأصل الداهية المصيبة من مصائب الدهر ، وأراد بها ههنا الموت ، ويروى في مكانه «خويخية» وهو مصغر الخوخة ـ بفتح الخاءين وسكون الواو بينهما ـ والمراد بالمصغر الداهية أيضا ، وقوله «تصفر منها الأنامل» أراد بالأنامل ههنا الأظفار ؛ لأنها هي التي تصفر بالموت ، والاستشهاد بالبيت في قوله «دويهية» فإن تصغير هذه الكلمة عند علماء الكوفة للتعظيم ، لا للتحقير ، وقد حقق العلامة رضي الدين أن تصغير هذه الكلمة للتحقير ، لا للتعظيم كما زعمه الكوفيون ، وكذلك قال ابن يعيش وفسره بقوله «فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول العظام» اه.

١١٣

قوله (هُوَ) ضمير للبخل وإن لم يكن مذكورا ؛ لدلالة (يَبْخَلُونَ) عليه ، ومنه قولهم «من كذب كان شرا له» أي كان الكذب شرا له ، ومنه قول الشاعر :

[٨٧] إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف ، والسّفيه إلى خلاف

يريد جرى إلى السّفه ، وهذا كثير في كلامهم ؛ فكما أنه يجوز أن يعود الضمير إلى المصدر وإن لم يجر له ذكر استغناء بذكر فعله ، فكذلك يجوز أن يتوجّه التصغير اللاحق لفظ الفعل إلى مصدره وإن لم يجر له ذكر ، ونظير هذا إضافتهم أسماء الزمان إلى الفعل نحو قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] وإن كانت الإضافة إلى الأفعال غير جائزة ، وإنما جاز ذلك لأن المقصود بالإضافة إلى الفعل مصدره من حيث كان ذكر الفعل يقوم مقام ذكر مصدره ؛ فالتقدير فيه : هذا يوم نفع الصادقين صدقهم ، وإنما خصّوا أسماء الزمان (١) بهذه الإضافة لما بين

______________________________________________________

[٨٧] هذا البيت من الشواهد التي لم أقف لها على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده رضي الدين في شرح الكافية (٢ / ٤) وذكر البغدادي في الخزانة (٢ / ٣٨٤) أن جماعة من النحاة أنشدوه منهم ابن جني في إعراب الحماسة والفراء في معاني القرآن وثعلب في أماليه ، ولم يعزه واحد منهم ، وزجر ـ بالبناء للمجهول ـ ويروى «إذا نهي السفيه» ومتعلق الزجر أو النهي عام ، والتقدير : إذا زجر عن شيء ما ، أو إذا نهي عن شيء ما ، والسفيه : وصف من السفه ، وهو الطيش والحمق ورقة العقل ، وجرى : سارع ، ومفعول «خالف» محذوف للعلم به ، وتقدير الكلام : خالف زاجره أو خالف ناهيه ، وجملة «والسفيه إلى خلاف» للتذييل ، والمعنى : ومن شأن السفيه وديدنه وطبعه مخالفة ناصحه. والاستشهاد بالبيت في قوله «جرى إليه» فإن مرجع الضمير المجرور محلا بإلى لم يتقدم صريحا في الكلام ، ولكن تقدم الوصف الدال عليه وهو قوله «السفيه» فإن هذه الكلمة دالة على الذات والحدث الذي تتصف به وهو السفه ، فاكتفى الشاعر بتقدم المرجع في ضمن الوصف ، ونظيره قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) فإن «هو» في هذه الآية راجع إلى البخل المستفاد من «يبخلون» ولم يتقدم ذكر البخل صراحة ، وقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) فإن «هو» راجع إلى العدل ، ولم يتقدم ذكر العدل صراحة ولكنه تقدم في ضمن قوله (اعْدِلُوا) لأن الفعل يدل على الحدث والزمان كما هو معلوم ، ونظيرهما قوله جلت كلمته : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَزادَهُمْ إِيماناً) فإن فاعل «زادهم» ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود إلى قول الناس ولم يتقدم صراحة ، وإنما تقدم في ضمن الفعل الذي هو قوله (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ونظير ذلك أيضا قوله تباركت أسماؤه : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي يرض الشكر ، ولم يتقدم ذكر الشكر صراحة ، ولكنه تقدم في ضمن قوله سبحانه (وَإِنْ تَشْكُرُوا).

__________________

(١) أضيف بعض أسماء المكان أيضا إلى الجملة الفعلية ، ومنه قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته.

١١٤

الزمان والفعل من المناسبة ، من حيث اتفقا في كونهما عرضين ، وأن الزمان حركات الفلك كما أن الفعل حركة الفاعل ، وكما أن هذه الإضافة لفظية ، فكذلك التصغير اللاحق فعل التعجب لفظيّ ؛ وكما أن هذه الإضافة لا اعتداد [٦٤] بها ، فكذلك هذا التصغير لا اعتداد به.

والوجه الثاني : إنما دخله التصغير حملا على باب أفعل الذي للمفاضلة ؛ لاشتراك اللفظين في التفضيل والمبالغة ، ألا ترى أنك تقول «ما أحسن زيدا» لمن بلغ الغاية في الحسن ، كما تقول «زيد أحسن القوم» فتجمع بينه وبينهم في أصل الحسن وتفضّله عليهم ؛ فلوجود هذه المشابهة بينهما جاز «ما أحيسن زيدا ، وما أميلح غزلانا» كما تقول : «غلمانك أحيسن الغلمان ، وغزلانك أميلح الغزلان» ولهذه المشابهة حملوا «أفعل منك» و «هو أفعل القوم» على قولهم «ما أفعله» فجاز فيهما ما جاز فيه ، وامتنع منهما ما امتنع منه ، ألا ترى أنك لا تقول «هو أعرج منك» ولا «أعرج القوم» لأنك لا تقول «ما أعرجه» وتقول «هو أقبح عرجا منك» و «هو أقبح القوم عرجا» كما تقول «ما أقبح عرجه» وكذلك لا تقول «هو أحسن منك حسنا» فتؤكده بذكر المصدر ؛ لأنك لا تقول «ما أحسن زيدا حسنا» فأما قولهم «ألجّ لجاجة من الخنفساء» وما أشبهه فمنصوب على التمييز.

والوجه الثالث : إنما دخله التصغير لأنه ألزم طريقة واحدة ، فأشبه بذلك الأسماء ، فدخله بعض أحكامها ، وحمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه لا يخرجه عن أصله ، ألا ترى أنّ اسم الفاعل محمول على الفعل في العمل ، ولم يخرج بذلك عن كونه اسما ، وكذلك الفعل المضارع محمول على الاسم في الإعراب ، ولم يخرج بذلك عن كونه فعلا ؛ فكذلك تصغيرهم فعل التعجب تشبيها بالاسم لا يخرجه عن كونه فعلا.

وأما ما ذكروه من «ليس ، وعسى» فالكلام عليه من أربعة أوجه :

أحدها : أن «ليس ، وعسى» وإن كانا قد أشبها فعل التعجب في سلب التصرف فإنهما قد فارقاه من وجهين ؛ أحدهما : أنهما يرفعان الظاهر والمضمر ، كما ترفعهما الأفعال المتصرفة ، فبعدا عن شبه الاسم ، وأفعل في التعجب إنما يرفع المضمر دون الظاهر ، فقرب من الاسم الجامد ؛ فلهذا دخله التصغير دونهما.

والثاني : أنّ «ليس ، وعسى» وصلا بضمائر المتكلمين والمخاطبين والغائبين ، نحو : لست ولستم وليسوا ، وعسيت وعسيتم وعسوا ، كما تتصل بالأفعال المتصرفة ، وأفعل في التعجب ألزم ضمير الغيبة لا غير ، فلما تصرف ليس وعسى

١١٥

في الاتصال بضمائر الأفعال الماضية هذا التصرف وألزم [٦٥] هذا الفعل في الإضمار وجها واحدا جاز أن يدخله التصغير دونهما.

والثالث : أن «ليس ، وعسى» لا مصدر لهما من لفظهما ، فتنزل اللفظ بهما منزلة اللفظ به ، والتصغير هاهنا في الحقيقة للمصدر ، فإذا لم يكن لهما مصدر من لفظهما بطل تصغيرهما ، بخلاف فعل التعجب ؛ فإن له مصدرا من لفظه نحو الحسن والملاحة وإن لم يكن جاريا عليه على ما يقتضيه القياس ، فقام تصغيره مقام تصغير مصدره ، فبان الفرق بينهما.

والرابع : أن «ليس ، وعسى» لا نظير لهما من الأسماء يحملان عليه كما حمل ما أفعله على أفعل الذي للمفاضلة ؛ فيحمل «ما أحسنهم» على قولهم «هو أحسنهم» فبان الفرق بينهما.

فإن قالوا : هذا يبطل بنعم وبئس ؛ فإنهما للمبالغة في المدح والذم ، كما أن التعجب موضوع للمبالغة ، وإنهما لا يتصرفان ، ومع هذا فلا يجوز تصغيرهما.

قلنا : هذا الإلزام على مذهبكم ألزم ؛ لأنهما عندكم اسمان كأفعل في التعجب فهلا جاز فيهما التصغير كما جاز فيه؟ فإن قلتم «إن ذلك لم يسمع من العرب» قلنا : كما قلتم ، ثم فرقنا بينهما ، وذلك أنهما وإن كانا لا يتصرفان فهما أشبه منه بالأفعال المتصرفة ، وذلك من ثلاثة أوجه ؛ أحدها : اتصال الضمير بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف نحو قولهم «نعما رجلين ، ونعموا رجالا» والثاني : اتصال تاء التأنيث الساكنة بهما نحو «نعمت المرأة ، وبئست الجارية» والثالث : أنهما يرفعان الظاهر والمضمر كالفعل المتصرف ، فلما قربا من الفعل المتصرف هذا القرب بعدا من الاسم ؛ فلهذا لم يجز تصغيرهما ، بخلاف فعل التعجب على ما بيّنا ، وأما مثال «أفعل به» فإنما لم يجز تصغيره لأنه لا نظير له في الأسماء إلا أصبع ؛ وهي لغة رديئة في إصبع ـ وفيها سبع لغات : فصحاهن إصبع ـ بكسر الهمزة وفتح الباء ـ ثم أصبع ـ بضم الهمزة وفتح الباء ـ ثم أصبع ـ بفتح الهمزة والباء ـ ثم أصبع ـ بضم الهمزة والباء ـ ثم إصبع ـ بكسر الهمزة والباء ـ ثم أصبع ـ بفتح الهمزة وكسر الباء ـ ثم أصبوع ـ وإذا لم يكن له في كلامهم نظير سوى هذا الحرف في لغة رديئة باعده ذلك من الاسم ، فلم يجز فيه التصغير. ألا ترى أن وزن الفعل الذي يغلب عليه أو يخصّه أحد الأسباب المانعة من الصرف ، فإذا كان الاسم يقرب من الفعل [٦٦] لمجيئه على بعض أبنيته حتى يكون ذلك علة مانعة له من الصرف فكذلك الفعل يبعد من الاسم لمخالفته له في البناء ، هذا مع أن لفظه لفظ الأمر ، والأمر يختص به الفعل ، فأما ما جاء من الأسماء مضمنا معنى

١١٦

الأمر نحو «صه ، ومه» وما أشبه ذلك فإنه أقيم مقام الأفعال وهي الأصل في الأمر ، وإنما فعلوا ذلك توخّيا للاختصار لئلا يفتقر إلى إظهار ضمير التثنية والجمع والتأنيث الذي يظهر في الفعل نحو «اسكتا ، واسكتوا ، واسكتن» وما أشبه ذلك.

وأما قولهم «الدليل على أنه اسم تصحيح عينه في «ما أقومه ، وما أبيعه» قلنا : التصحيح حصل له من حيث حصل له التصغير ، وذلك بحمله على باب أفعل الذي للمفاضلة ، فصحح كما صحح من حيث إنه غلب عليه شبه الأسماء بأن ألزم طريقة واحدة ، والشبه الغالب على الشيء لا يخرجه عن أصله ، ألا ترى أن الأسماء التي لا تنصرف لما غلب عليها شبه الفعل منعت الجر والتنوين كما منعهما الفعل ، ولم تخرج بشبهها للفعل عن أن تكون أسماء ؛ فكذلك هاهنا : تصحيح العين في نحو : «ما أقومه ، وما أبيعه» لا يخرجه عن أن يكون فعلا ، على أن تصحيحه غير مستنكر في كلامهم ؛ فإنه قد جاءت أفعال متصرفة مصححة في نحو قولهم : أغيلت المرأة ، وأغيمت السماء ، واستنوق الجمل ، واستتيست الشاة ، واستحوذ يستحوذ. قال الله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩] وقال تعالى : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١] وقد قرأ الحسن البصري : (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزْيَنَت) على وزن أفعلت ، ونحو قولهم : استصوبت ، وأجودت ، وأطيبت ، وأطولت ، قال الشاعر :

[٨٨] صددت وأطولت الصّدود ، وقلّما

وصال على طول الصّدود يدوم

______________________________________________________

[٨٨] هذا البيت للمرار الفقعسي ، وقد أنشده ابن منظور في اللسان (ط ول) ولم يعزه ، وقد استشهد به سيبويه (١ / ١٢ و ٤٥٩) وقد نسب في صدر الكتاب إلى عمر بن أبي ربيعة ، ونسب في شواهد الأعلم إلى المرار الفقعسي كما ذكرنا ، وممن استشهد به ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٥١٤) ورضي الدين في شرح الكافية (٢ / ٣٢٠) وانظر خزانة البغدادي (٤ / ٢٨٧) وابن يعيش (ص ١٤١٧) وقوله «صددت» معناه أعرضت ، و «أطولت» كان قياسه أن يقول «أطلت» بحذف العين التي هي الواو ؛ لأن هذه الواو تنقلب ألفا في الفعل ، تقول : أطال ، وأقام ، وأفاء ، وأقاد ، وأنال ، وأمال ، وما أشبه ذلك ، فإذا وصلت تاء الضمير بالفعل حذفت هذه الألفات فقلت : أطلت ، وأقمت ، وأفأت ، وأقدت ، وأنلت ، وأملت ، وذلك لأن آخر الفعل يسكن عند اتصال الضمائر المتحركة به ، فيلتقي ساكنان : الألف المنقلبة عن الواو أو الياء ، وآخر الفعل ، فتحذف الألف للتخلص من التقاء الساكنين ، هذه لغة جمهرة العرب ، ومن العرب من لا يقلب حرف العلة ألفا ، بل يبقيه على أصله في صيغة أفعل وصيغة استفعل ، فيقول : أغيمت السماء ، وأغيل الصبي ، واستتيست الشاة ، واستنوق الجمل ، فإذا اتصل الفعل بالضمير المتحرك على هذه اللغة لم يلتق ساكنان فيبقى الفعل على حاله ، وعلى هذه اللغة جاءت هذه الكلمة ، وانظر كتابنا «دروس التصريف

١١٧

وإذا جاء التصحيح في هذه الأفعال المتصرفة تنبيها على الأصل مع بعدها عن الاسم فما ظنك بالفعل الجامد الذي لا يتصرف؟

فإن قالوا : التصحيح في هذه الأفعال إنما جاء عن طريق الشّذوذ ، وتصحيح أفعل في التعجب قياس مطرد.

قلنا : قد جاء التصحيح في الفعل المتصرف على غير طريق الشّذوذ ، وذلك نحو تصحيح «حول ، وعور ، وصيد» حملا على «احولّ ، واعورّ ، واصيدّ» وكذلك جاء [٦٧] التصحيح أيضا في قولهم «اجتوروا ، واعتونوا» حملا على «تجاوروا ، وتعاونوا» فكذلك أيضا هاهنا : حمل «ما أقومه وما أبيعه» على «هذا أقوم منك ، وأبيع منك» ومع هذا فلا ينبغي أن تحكموا له بالاسمية لتصحيحه ؛ لأن أفعل به قد جاء مصححا وهو فعل ، كما أن التصحيح في قولهم «أقوم به ، وأبيع به» لا يخرجه عن كونه فعلا ، فكذلك التصحيح في ما أفعله لا يخرجه عن كونه فعلا.

وأما قولهم «لو كان التقدير فيه شيء أحسن زيدا لوجب أن يكون التقدير في قولنا ما أعظم الله شيء أعظم الله ، والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل» قلنا : معنى

______________________________________________________

ص ١٦٤». والاستشهاد بالبيت هنا في قوله «أطولت» حيث صحت عين الفعل مع أن قياس نظائرها أن تعتل بقلبها ألفا ثم تحذف الألف عند الاتصال بالضمائر المتحركة ، في لغة جمهرة العرب ، على ما بيّنّا ، وقد أتى الشاعر بهذا الفعل على أصله من غير أن يقلب أو يحذف ، والعلماء يختلفون في هذا وأشباهه ؛ فمنهم من يقول : هو شاذ يحفظ ما سمع منه ولا يقاس عليه ، ومنهم من يقول : هو لغة لجماعة من العرب ، يجوز القياس عليها ، وفي قول الشاعر «وقلما وصال ـ الخ» شاهد آخر للنحاة ، وذلك حيث اتصلت «ما» بقل ، واعلم أولا أن «ما» هذه تتصل بثلاثة أفعال ـ وهي : قل ، وطال ، وكثر ـ تقول : قلما كان ذلك ، وطالما نهيتك عن الشر ، وكثر ما أرشدتك ، هذا هو الأصل ، نعني أنه إذا اتصلت «ما» بواحد من هذه الأفعال الثلاثة كفّته عن طلب الفاعل ووليه الفعل ، وربما وليه الاسم المرفوع كما في هذا البيت ، وللعلماء في ذلك الأسلوب أربعة أقوال : الأول : أن «ما» كافة على أصلها ولا يحتاج الفعل المقترن بها إلى فاعل ، والاسم المرفوع بعدها مبتدأ خبره ما بعده ، وهذا هو ما ذهب إليه سيبويه ، وجعل ذلك من ضرورات الشعر ، والثاني : أن «ما» هذه زائدة لا كافة ، والاسم المرفوع بعدها فاعل ، وكأن الشاعر قد قال : وقل وصال يدوم على طول الصدود ، والثالث : أن «ما» كافة أيضا ، والاسم المرفوع بعدها فاعل لفعل محذوف يفسره الفعل الآخر ، وكأنه قد قال : قلما يدوم وصال على طول الصدود ، وهو مذهب ذهب إليه الأعلم الشنتمري ، والرابع : أن «ما» حينئذ كافة أيضا ، والاسم المرفوع بعدها فاعل بنفس الفعل المتأخر ، وهذا مذهب كوفي ؛ لأنهم هم الذين يجوزون تقدم الفاعل على ما هو معلوم.

١١٨

قولهم شيء أعظم الله أي وصفه بالعظمة ، كما يقول الرجل إذا سمع الأذان : كبّرت كبيرا ، وعظّمت عظيما ، أي وصفته بالكبرياء والعظمة ، لا صيّرته كبيرا عظيما ، فكذلك هاهنا ، ولذلك الشيء ثلاثة معان : أحدها : أن يعنى بالشيء من يعظمه من عباده ، والثاني : أن يعنى بالشيء ما يدل على عظمة الله تعالى وقدرته من مصنوعاته : والثالث : أن يعنى به نفسه ، أي أنه عظيم لنفسه لا لشيء جعله عظيما ، فرقا بينه وبين خلقه.

وحكي أنّ بعض أصحاب أبي العباس محمد بن يزيد المبرد قدم من البصرة إلى بغداد قبل قدوم المبرد إليها ، فحضر في حلقة أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، فسئل عن هذه المسألة ، فأجاب بجواب أهل البصرة ، وقال : التقدير في قولهم «ما أحسن زيدا» شيء أحسن زيدا ، فقيل له : ما تقول في قولنا «ما أعظم الله»؟ فقال : شيء أعظم الله ، فأنكروا عليه ، وقالوا : هذا لا يجوز ؛ لأن الله تعالى عظيم لا بجعل جاعل ، ثم سحبوه من الحلقة وأخرجوه ، فلما قدم المبرد إلى بغداد أوردوا عليه هذا الإشكال ، فأجاب بما قدمنا من الجواب ، فبان بذلك قبح إنكارهم عليه ، وفساد ما ذهبوا إليه.

وقيل : يحتمل أن يكون قولنا «شيء أعظم الله» بمنزلة الإخبار أنه عظيم ، لا على معنى شيء أعظمه ؛ فإن الألفاظ الجارية عليه سبحانه يجب حملها على ما يليق بصفاته ، ألا ترى أن «عسى ، ولعل» فيها طرف من الشك ، ولا يحمل في حقه سبحانه على الشك ، وكذلك الامتحان يحمل منا على معان تستحيل في حقه سبحانه ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، فكذلك هاهنا : يكون المراد بقولهم «ما أعظم الله» الإخبار أنه [٦٨] عظيم ، لا شيء جعله عظيما لاستحالته ؛ وإن كان ذلك يقدّر في غيره لجوازه وعدم استحالته.

وأما قول الشاعر :

ما أقدر الله أن يدني على شحط

من داره الحزن ممّن داره صول [٧٩]

فإنه وإن كان لفظه لفظ تعجب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى بالقدرة ، كقوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] فجاء بصيغة الأمر ، وإن لم يكن في الحقيقة أمرا ؛ لامتناع ذلك في حق الله تعالى ، وإن شئت قدّرته تقدير : «ما أعظم الله» على ما بيّنا ، والله أعلم.

١١٩

١٦

مسألة

[القول في جواز التعجب من البياض والسواد ، دون غيرهما من الألوان](١)

ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل «ما أفعله» في التعجّب من البياض والسّواد خاصة من بين سائر الألوان ، نحو أن تقول : هذا الثوب ما أبيضه ، وهذا الشّعر ما أسوده. وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان.

أما الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا : إنما جوّزنا ذلك للنقل ، والقياس :

أما النقل فقد قال الشاعر :

[٨٩] إذا الرّجال شتوا واشتدّ أكلهم

فأنت أبيضهم سربال طبّاخ

______________________________________________________

[٨٩] روى صاحب اللسان (ب ى ض) هذا البيت كما رواه المؤلف ، ولم يعزه لقائل معين ، ورواه ابن يعيش (ص ٨٤٧ و ١٠٤٦) كذلك من غير عزو ، ورواه في مجمع الأمثال (١ / ٨١ بتحقيقنا) ونسب قوم هذا البيت إلى طرفة بن العبد البكري من أبيات يهجو فيها عمرو بن هند الملك ، لكنني رجعت إلى ديوان طرفة فوجدت فيه (ص ١٥) أبياتا يهجو فيها عمرو بن هند فيها كلمته التي يستشهد بها المؤلف ، لكن رواية هذا البيت على غير ما جاء في اللسان وفي كلام المؤلف ، وهي هكذا :

أنت ابن هند فأخبر من أبوك إذا

لا يصلح الملك إلا كل بذاخ

إن قلت نصر فنصر كان شرفتى

قدما ، وأبيضهم سربال طباخ

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : شرح المفصل لابن يعيش (ص ٨٤٧ و ١٠٤٦) وشرح كافية ابن الحاجب للرضي (٢ / ١٩٨) وأسرار العربية لصاحب الإنصاف (ص ٥١ ليدن) وقد بنى رضي الدين الكلام على أنه لا يبنى اسم التفضيل من فعل الألوان ، جعل «أبيضهم ، وأسودهم» أفعل تفضيل ، وأنت ترى المؤلف يبني الكلام على أنه لا يبنى فعل التعجب من الفعل الدال على الألوان ، ثم يستشهد بالشواهد التي تشتمل على أفعل التفضيل ، والخطب في ذلك سهل ؛ لأنك تعلم أن كل ما يشترط في صوغ أفعل التفضيل هو بعينه يشترط في اشتقاق صيغ التعجب ، وقد ذكر المؤلف نفسه ذلك ، ثم انظر شرح الأشموني (٤ / ٢٥٤ بتحقيقنا) وحاشية الصبان (٣ / ١٩ و ٣٧) والتصريح للشيخ خالد (٢ / ١١٣ ـ ١١٦ بولاق) ولسان العرب (ب ى ض).

١٢٠