وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب اللّٰه وسنّة نبيّه. إذن لتفرّقوا عنّي.

واللّٰه لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادي بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي : يا أهل الإسلام! غيّرت سنّة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري.

ما لقيت من هذه الأمّة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار!! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال اللّٰه عزوجل (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَمٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ الْفُرْقٰانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعٰانِ) (١) ، فنحن واللّٰه عنى بذي القربى الذين قرننا اللّٰه بنفسه وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال تعالى (فَلِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبىٰ وَالْيَتٰامىٰ وَالْمَسٰاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لٰا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ ، وَمٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ ..) (٢).

وروى الطوسيّ في «التهذيب» عن الصادق قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا قدم الكوفة وأمر الحسن بن عليّ أن ينادي في الناس : (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة) ، فنادى في الناس الحسن بن عليّ بما أمره به أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن عليّ صاحوا : وا عمراه! وا عمراه! فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال له : ما هذا الصوت؟

فقال : يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون : وا عمراه! وا عمراه! فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قل لهم : صلّوا (٣).

وعنه عليه‌السلام : يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا ، إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن تفلتت منهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعيتهم السنة أن يعوها فاتخذوا عباد اللّٰه خولا ، وماله دولا ، فذلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب ، ونازعوا الحق اهله ، وتمثلوا بالأئمة الصادقين ، وهم من الكفار الملاعين.

فسئلوا عما لا يعلمون فأنفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون فعارضوا الدين

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) انظر روضة الكافي : ٨ : ٥٨ ح ٢١. والآية : ٧ من سورة الحشر.

(٣) تهذيب الأحكام ٣ : ٧٠ / ح ٢٧.

٣٤١

بآرائهم فضلوا وأضلوا ، أمّا لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين اولى بالمسح من ظاهرهما .. (١).

عرفنا من مجمل الخبرين الأولين عدّة أمور :

١ ـ إنّ هناك سننا قد شرّعت من قبل الخلفاء لا يرتضيها عليّ ، لمخالفتها لسنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ سعي عليّ لرفعها لكنّه لم يقدر على كثير منها ، لقوّة التيّار المدافع عن عمر ، والمتابع لاجتهاداته وآرائه.

٣ ـ إنّ الخلاف بين عليّ وعمر ليس على موضوع الخلافة وحده ، بل على الفقه والشريعة كذلك وهو المشاهد في تخطئات الصحابة للخليفتين ، بل يمكن ترجيح جانب الفقه ـ في غالب الأحيان على غيره ـ وهذا ما نقوله كذلك في سبب منع عمر للتدوين! وعليه فان هذه النصوص وضّحت لنا حقائق كثيرة في تاريخ التشريع الإسلامي وعرفتنا بتغيير أحكام كثيرة في الإسلام ، وذلك بتحكيم الرأي في الشريعة ، وأنّ الإمام عليّا لم يكن الوحيد من الصحابة الذين اعترضوا على المحاولين لتحريف الشريعة بإدخال الأهواء فيها ، بل كان هناك صحابة آخرون ـ توفي بعضهم في عهد الشيخين ـ قد بينوا آفاق هذا الانحراف وبكوا على الإسلام ، فخذ موضوع الصلاة مثلا وهو أمر عبادي يمارسه المسلم عده مرات في اليوم ، لتعرف سعة الاختلاف فيه.

الصحابة وأسفهم على تلاعب الحكّام بالأحكام

فعن حذيفة بن اليمان قوله : ابتلينا حتى جعل الرجل لا يصلّي إلّا سرا (٢).

وعن عبد اللّٰه بن مسعود. إنّها ستكون أئمّه يؤخّرون الصلاة عن مواقيتها فلا تنتظروهم واجعلوا الصلاة معهم سبحة (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٨٤.

(٢) صحيح المسلم ١ : ٩١ ، وشرحه ٥ : ١٨ ، صحيح البخاري ٢ : ١١٦.

(٣) مسند أحمد ١ : ٤٥٥ ، ٤٥٩.

٣٤٢

وفي آخر. نظر عبد اللّٰه بن مسعود إلى الظلّ فرآه قدر الشراك ، فقال : إن يصب صاحبكم سنّة نبيكم يخرج الآن ، قال : فو اللّٰه ما فرغ عبد اللّٰه من كلامه حتى خرج عمّار بن ياسر يقول الصلاة (١).

وعن عمران بن حصين ، قوله لمطرف بن عبد اللّٰه لما صلّيا خلف عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : لقد صلّى صلاة محمد ، ولقد ذكّرني صلاة محمد (٢).

ومثله قول أبي موسى الأشعري لما صلى خلف الإمام علي عليه‌السلام.

روى الطحاوي عن أبي موسى الأشعري ، قال : ذكّرنا عليّ صلاة كنا نصليها مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إمّا نسيناها وإمّا تركناها عمدا ، يكبّر كلّما خفض وكلّما رفع ، وكلما سجد (٣).

ويقول الزهري : دخلنا على أنس بن مالك بدمشق وهو وحده يبكي قلت :ما يبكيك؟

قال : لا أعرف شيئا مما أدركت إلّا هذه الصلاة وقد ضيّعت (٤). وأخرج البخاري بسنده عن أمّ الدرداء ، قالت : دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب ، قلت : ما أغضبك؟

فقال أبو الدرداء : واللّٰه لا أعرف فيهم من أمر محمّد شيئا إلّا أنهم يصلّون جميعا (٥).

وعن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص أنه قال : لو أنّ رجلين من أوائل هذه الأمة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية ، لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا مما كانا

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٤٥٩.

(٢) مسند أحمد ٤ : ٤٢٨ ، ٤٢٩ ، ٤٤١ ، ٤٤٤ ، ٤٠٠ ، ٤١٥ ، كنز العمال ٨ : ١٤٣ ، السنن الكبرى ٢ : ٦٨.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٢٠٩ وصحيح مسلم ١ : ٢٩٥ وسنن النسائي ١ : ١٦٤ وسنن أبي داود ٥ : ٨٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٩٦ ، فتح الباري ٢ : ٢٠٩ والمصنف لابن أبي شيبة ١ : ٢٤١. شرح معاني الآثار ١ : ١٣٠ الروض النصير ١ : ٦٣٨ كما في الموسوعة ٣٧٦.

(٤) جامع بيان العلم ٢ : ٢٤٤ الطبقات الكبرى ترجمة أنس صحيح البخاري ١ : ١٤١ ، الجامع الصحيح للترمذي ٤ : ٦٣٢.

(٥) مسند أحمد ٦ : ٢٤٤ ، البخاري ١ : ١٦٦ ، فتح الباري ٢ : ١٠٩.

٣٤٣

عليه (١).

وفي المحلّى وغيره : أنّ عثمان اعتلّ وهو بمنى ، فأتى عليّ فقيل له : صلّ بالناس ، فقال : إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يعنى ركعتين ـ قالوا : لا ، إلّا صلاة أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ أربعا ، فأبى (٢).

وروى الإمام مالك ، عن عمّه أبي سهيل بن مالك ، عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت الناس إلّا النداء بالصلاة (٣).

وأخرج الشافعي من طريق وهب بن كيسان ، قال : رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثمّ قال : كلّ سنن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غيّرت ، حتّى الصلاة (٤).

وقال الحسن البصريّ : لو خرج عليكم أصحاب رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما عرفوا منكم إلّا قبلتكم (٥).

وعن الصادق : لا واللّٰه ما هم على شي‌ء مما جاء به رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا استقبال الكعبة فقط (٦).

وممّا يجب الإشارة إليه هنا أنّ ابن الزبير لما استولى على مكة والحجاز بادر عبد الملك بن مروان إلى منع الناس من الحجّ ، فضجّ الناس عليه فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ، وليستعطف قلوبهم ، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وينحرون يوم العيد ويحلقون رءوسهم.

قال الجاحظ «.. حتى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وعاملهما الحجّاج ومولاهما يزيد بن أبي مسلم ، فأعادوا على البيت بالهدم ، وعلى حرم المدينة بالغزو فهدموا الكعبة ، واستباحوا الحرمة وحولوا قبلة واسط». إلى أن قال : «.. فأحسب

__________________

(١) الزهد والرقائق : ٦١ كما في الصحيح من سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ١ : ١٤٤.

(٢) المحلى ٤ : ٢٧٠ كما في موسوعة علي : ٣٣٦.

(٣) الموطأ (المطبوع مع تنوير الحوالك) ١ : ٩٣ ، جامع بيان العلم ٢ : ٢٤٤.

(٤) الأم ، للشافعي ١ : ٢٠٨ ، والغدير ٨ : ١٦٦ عنه.

(٥) جامع بيان العلم ٢ : ٢٤٤.

(٦) البحار ٦٨ : ٩١ ، قصار الجمل ١ : ٣٦٦.

٣٤٤

أن تحويل القبلة كان غلطا ، وهدم البيت كان تأويلا ، وأحسب ما رووا من كلّ وجه : أنهم كانوا يزعمون .. إلخ».

ثمّ يقول الجاحظ : وتفخر هاشم بأنهم لم يهدموا الكعبة ولم يحولوا القبلة ولم يجعلوا ..

وممّا يدل على تحويل قبلة واسط : أنّ أسد بن عمرو بن جاني قاضي واسط (قد رأى قبلة واسط رديئة فتحرّف فيها فاتهم بالرفض) فأخبرهم أنّه رجل مرسل من قبل الحكّام ليتولى قضاء بلدهم.

وهذا يعني أنّ الشيعة رفضوا قبلة واسط بعكس غيرهم الذين قبلوا بالأمر الواقع ، حتى أصبح تحرّى القبلة مساوقا للاتهام بالرفض ، وقد يمكن أن يكون أمر الأئمة من أهل البيت باستحباب التياسر لأهل العراق جاء من هذا الباب.

وبهذا فقد عرفنا أنّ التلاعب بالدين وتحكيم الهوى في الشريعة لم يكن وليد عهد معاوية والأمويين ، بل كانت له جذور سبقت ذلك العهد ، لأنّ ابن مسعود مات في خلافة عثمان ، فكلامه ناظر لعثمان ومن سبقه بالخلافة ، وكذلك كلام حذيفة بن اليمان ، فإنه قد مات بعد مقتل عثمان وبعد أربعين يوما من خلافة الإمام علي ، ومثله كلام أبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وغيرهم ، فهي ترجع إلى ما قبل الأمويين ، وفي كلام ابن أبي الحديد إشارة إلى تحكيم المصلحة على النصوص عند غالب الصحابة في الصدر الأول ، إذ قال في شرحه للنهج : قد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على ترك الكثير من النصوص لمّا رأوا المصلحة في ذلك (١).

وقال في مكان آخر : «.. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقا للشرع أم لم يكن ، ولا ريب أنّ من يعمل بما يؤدّي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها ممّا يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله إلى الانتظام أقرب» (٢).

وهذه النصوص وغيرها أوقفتنا على وجود انحراف في الشريعة قبل عهد الإمام علي عليه‌السلام ، وأنّ الإمام كان من الذين لا يرتضون هذا الانحراف ، وفي كلامه آنف

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٨٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ : ٢٨.

٣٤٥

الذكر (لم يبق من الإسلام إلّا اسمه ومن الإيمان إلّا رسمه) إشارة إلى عظم المصيبة على الدين ، وتردّي حال الأمّة خلال عقدين ونصف من الزمن بعد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحيث طمست معالم الدين ومحقت أحكام الشريعة.

ولمخالفة عليّ لذلك النهج وجدنا الاتجاه الحاكم ينسب إلى عليّ وغيره من أعيان الصحابة ما أفتى به الخليفة عمر بن الخطّاب وغيره من أئمة النهج الحاكم وما ذهب إليه من رأي ، كي يعززوا موقعية الخليفة وغيره بنسبة هذه الأقوال إلى هؤلاء ، فلننظر مثلا (مشروعية الطلاق ثلاثا) و (صلاة التراويح) و (النهي عن المتعتين) و (جواز المسح على الخفين وأنه للمسافر ثلاثا وللمقيم يوم وليلة) و (النهي عن الصلاة بين طلوع الشمس وغروبها) ، وما أفتى به عمر في الجدة وغيرها فقد نسبت كل هذه الأقوال إلى الإمام عليّ بن أبي طالب ، مع علمنا ـ وعلم الجميع ـ بأنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان وراءها لا غير ، ويرشدك إلى ذلك أنّهم عللوا صحّة الطلاق ثلاثا بأنّ الناس في عهده استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى الخليفة من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم (١).

ومثله الحال بالنسبة إلى صلاة التراويح ، فقد شرعها عمر بن الخطّاب ودافع عنها بقوله : نعمت البدعة هذه.

ولا ينكر أحد نهي الخليفة عن المتعة وتهديده وتوعّده لمن فعلها؟ بعكس الإمام علي الذي أصرّ على كونها سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ودافع عنها.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمور الشرعية الأخرى ، فقد نسبت مسائل كثيرة قهرا إلى علي ، مع أنّ الثابت عنه عليه‌السلام هو عكس ما قالوه ، وسيتحقق للباحث ذلك لو درسها دراسة علميّة متأنية ونحن قد تعرضنا ـ على عجل ـ في نسبة الخبر إلى ابن عباس لبعض نماذجه وها هنا نحن نؤكد تارة أخرى على لزوم الوقوف على جذور كل مسألة ، ومعرفة من هو وراء هذه الأحكام؟ ومن هو المستفيد منها؟

فلو عرفنا أنّ القائل الأوّل هو الخليفة أو من له شخصية اجتماعية عالية بحيث يجب تأييد رأيه ، فلا يستبعد أن تنسب هذه الأقوال إلى علي أو غيره من أعيان

__________________

(١) اجتهاد الرسول : ٢٤٠ ، اثر الدلالة المختلف فيها : ٢٧٧.

٣٤٦

الصحابة لتصحيح ما ذهب إليه الحاكم أو تلك الشخصية ، لأن أنصار الاتجاه المعاكس ، وتصحيحا لموقف زعيمهم ينسبون هذه الأقوال إلى هذا أو ذاك دون أيّ مهابة أو محاشاة.

والآن مع دراسة إمكان نسبة الغسل أو المسح إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد أن عرفنا كليّات هذه الأمور ، وهل أنّ هذا المنسوب إليه يتفق مع مدرسته الفكرية والفقهية ، ومع نقول تلامذته وأهل بيته ، واتجاهه العلمي ، أم لا يتفق؟

وهل يمكننا بمجرّد نسبة نقل أو رأي لشخص ما تثبيت ذلك في أرقامه العلميّة؟

إنّ هذا ما سنبحثه هنا للوقوف على النقل الصحيح عن علي وابن عباس وغيرهما.

علي والمرويّات الوضوئية

اختلف النقل في الوضوء عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

فأبو حية الوادعي ، وزر بن حبيش ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم ، رووا عنه أنّه غسل رجليه. وأمّا النزّال بن سبرة وحبة العرني وأبو مطر الوراق وغيرهم فقد رووا عن علي مسحه على قدميه.

فأما روايات عبد خير فهي متعارضة ، فبعضها مسحيّ والآخر غسلي. ونحن تكلمنا عن قيمة تلك المرويات الغسليّة والمسحيّة سندا ودلالة ، فلا بد لنا بعدها من التعرّف على قرب كل من النسبتين إلى سلوكه وسيرته ، وإن كنّا قد أعطينا صورة إجماليّة عن المسارات الفكرية في صدر الإسلام ، ووقفنا على ملابسات بعض الأمور في الشريعة ، وجذور الاختلاف بين المسلمين ، وأنّ القرشيين منعوا تدوين حديث رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله على عهده ، لقول عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص : «نهتني قريش أن أكتب حديث رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومواصلتهم لهذا النهج من بعده ، في عهد الشيخين وعهد عثمان ومعاوية و .. وأنهم قد سدّوا فراغ عدم التحديث والتدوين بتشريعهم الرأي والاجتهاد وذهابهم إلى أنّ ما يقولونه هو الشرع ، لقياسهم الأشياء بأمثالها!! وأنهم يعرفون ملاكات الأحكام الشرعيّة و!!!

٣٤٧

مع أنّ الإمام على وجمع من الصحابة لم يستسيغوا هذا النمط من التفكير وتحكيم قول الرجال على النص في الشريعة ، وعدّوا هذا العمل خارجا عن التعبّد المحض بأقوال اللّٰه وسنة رسوله ، فتراهم يعترضون على اتجاه الرأي وتحكيم قول الرجال في الشريعة! وبما أنّ الخليفة عثمان بن عفان كان من دعاة الرأي والاجتهاد على ما صرح هو بذلك لمّا اعترض عليه لإتمامه الصلاة بمنى ، فقال : «رأي رأيته» ، وقال لعلي عند اعتراضه عليه في نهيه من الإقران بين الحج والعمرة «ذلك رأي» (١) وغيرها.

وقد ثبت لديك أنّ المعارضين لعثمان في الوضوء كانوا من المحدثين ، لقوله : (إنّ ناسا يتحدثون) ، وبعد هذا فنحن ـ حسب الأدلة والقرائن ـ أن يكون الوضوء مما تصرف فيه الرأي وأثر فيه الاجتهاد ، حتى تحول مسح الرجلين فيه إلى غسل ، وقد مر عليك تعليل الحجّاج لذلك حين قال : ليس لابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فإن هذا النص وغيره من النصوص شاهد على أن مسألة غسل الرجلين اجتهادية محضة ، والا فما كان للحجاج أن يستدل بالرأي لو كان عنده نصا نبويا ثابتا في الغسل.

وقبله الحال بالنسبة لأنس بن مالك فإنه كان لا يرتضي تعليل الحجّاج في الغسل ، ويستشهد بالقرآن على كذبه ، بقوله «صدق اللّٰه وكذب الحجاج ، قال تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) (٢) ، ومثله موقف ابن عباس من الربيع وقوله : إنّ الناس أبوا إلا الغسل ولا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح» (٣).

فان في تعليل ابن عباس «أبى الناس إلّا الغسل» وكذا قول الإمام علي «هذا وضوء من لم يحدث» ، وقوله «لرأيت أنّ باطن القدم أولى بالمسح من ظاهرها» ، دلالات على أنّ الإمام عليا وابن عباس كانا لا يرتضيان ما رسم للناس من

__________________

(١) الموطأ ١ : ٣٣٦ / ٤٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢ ، تفسير الطبري ٦ : ٨٢ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، الدر المنثور ٢ : ٢٦٢ ، تفسير الخازن ١ : ٤٣٥.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ / ٤٥٨.

٣٤٨

مشروعية الغسل ، فأرادا بكلامهما إلزام الآخرين بما ألزموا به أنفسهم ، لا اعتقادا منهم بمشروعية الرأي والاستحسان.

ومع أننا نلاحظ وحدة المنقولات عن علي وابن عباس نلاحظ العكس في مرويات الاتجاه المقابل.

فعثمان وأنصاره ـ من أنصار الغسل ـ قد اختلفوا في النقل عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأحدهم يروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه مسح رأسه ثلاثا ، والآخر يقول أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسحه واحدة ، وثالث يزيد قيد «مقبلا ومدبرا» فيه ، ورابع يجعل باطن الأذن في الوجه وظاهرها من الرأس ، وخامس ينقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : الأذنان من الرأس ، وسادس يفرّق عدد الغسلات للأعضاء فيجعل عدد غسل الوجه ثلاثا واليدين مرّتين والرجل واحدة ـ كما فيما روى عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم ـ والآخر يجعلها ثلاثا في الكل ، وهكذا دواليك إلى ما شاء اللّٰه من الاختلافات.

فهذا الاختلاف في النقل ينبئ عن تحكيم الرأي وتعدّده فيه ، فرسول اللّٰه إمّا أن يكون مسح رأسه مقبلا ومدبرا ثلاثا ، أو مسح ببعض الرأس ولا غير. وهكذا الحال بالنسبة إلى غسل اليدين ، فهل السنة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله هي المرتان ـ كما روي عن عبد اللّٰه ابن زيد بن عاصم ـ أم الثلاث ـ كما نقل عن الآخرين ـ؟؟

إنّ كثرة الاختلاف تنبئ عن تعدّدية الرأي واختلاف المشارب والاتجاهات ، وأنّ كلّا يريد تحكيم رأيه بنسبته إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومما تجب الإشارة إليه هنا هو إنّ أكثر الصحابة إن لم نقل كلهم ـ من رواة الغسل ـ كانت الأسانيد إليهم ضعيفة والطرق إليهم واهية ، وبخاصة لو لاحظنا معارضتها للطرق المسحية الصادرة عنهم ، وإنّا إن شاء اللّٰه سنثبت بأن الغسل موقوف على عثمان بن عفان وقد فهمه برأيه الخاص ، وهو من قبيل ما قاله في : (رأي رأيته) ، وذلك عند مناقشتنا لمروياته ، وأنه ليس في مرويات الآخرين ما يؤكد رفعها إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله لثبوت ضعف النسبة إليهم.

وعلى ذلك فقد يكون عثمان بن عفان قد التبس عليه أمر الوضوء ، فاعتبر ذي المقدمة هو المقدمة ، وأكّد على كونه السنة المفروضة ، وأنّه من أجزاء الوضوء وهذا هو الذي كان يتخوف رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله منه على أمّته من بعده ، حيث صح عنه قوله

٣٤٩

لعلي عليه‌السلام : قاتلت على التنزيل وتقاتل على التأويل (١).

كل هذا ما سنبحثه لاحقا عند مناقشتنا لمرويات عثمان بن عفان إن شاء اللّٰه تعالى.

وبذلك فقد عرفنا وجود نهجين في الوضوء.

الأوّل : النهج الحاكم ـ نهج الوضوء الثلاثي الغسلي ، فهؤلاء قد منعوا من تدوين الحديث وشرّعوا الرأي (الوضوء الثلاثي الغسلي).

الثاني : غيرهم من الناس (الوضوء الثنائي المسحي) وهؤلاء قد دونوا حديث رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله على عهده وأصروا على التحديث به وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم في عهد عثمان بالذات.

وحدة الآراء والفقه عند الطالبيين

أشرنا في نسبة الخبر إلى ابن عباس وفي مدخل هذه الدراسة إلى وحدة الفكر والهدف بين ابن عباس وعليّ بن أبي طالب ، وتخالفهما مع الاتّجاه الحاكم ، وأكدنا كذلك على أنّ النهج الحاكم وتصحيحا لما يذهبون إليه راحوا ينسبون أقوالا إلى علي وابن عباس وغيرهم من أعيان الصحابة مع أنّ الثابت عنهم غير ذلك ، ومن تلك المفردات هي مفردة الوضوء :

أ ـ ابن عباس والوضوء

لا ينكر أحد بأنّ ابن عباس كان من دعاة المسح والمنكرين للغسل ، وقد مر عليك اعتراضه على الربيع وقوله لها : «لا أجد في القرآن إلّا غسلتين ومسحتين» ، والمطالع في كتب الفقهاء والمحدثين يعلم بان الثابت عندهم من مذهب ابن عباس هو المسح لا الغسل.

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٣.

٣٥٠

ب ـ الإمام السجاد والوضوء

قد مر عليك في خبر عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ـ من أسانيد ابن عباس المسحيّة ـ أنّ الإمام علي بن الحسين السجاد قد أرسل عبد اللّٰه بن محمد إلى الربيع بنت المعوذ ليسألها عمّا تدّعيه من وضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا يعني أن سؤاله إياها كان استنكاريّا لا حقيقيا ، إذ لا يعقل أن لا يعرف علي بن الحسين الوضوء عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يأتي ليسأل الربيع عن ذلك.

ج ـ عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل والوضوء

أخرج الحميدي بسنده إلى عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، أنّه جاء إلى الربيع ليسألها عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذكرت له أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله غسل رجليه ، ثمّ قالت : وقد أتاني ابن عم لك ـ تعني ابن عباس ـ فأخبرته ، فقال : ما أجد في كتاب اللّٰه إلّا غسلتين ومسحتين.

وهذه الجملة من الربيع تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّها علمت مغزى سؤال ابن عقيل وكونه استنكاريا وليس بحقيقيّ ، فأرادت أن تفهمه بأنّها ثابتة على رأيها رغم عدم استساغة الطالبيّين لهذا النقل.

د ـ أطباق أئمة أهل البيت على نسبة المسح لعلي

إنّ الخبير بالروايات الحديثية عند مدرسة أهل البيت يقرّ بأنّ الثابت عندهم عن عليّ هو المسح ، ونحن سنثبت في القسم الثالث من البحث الروائي لهذه الدراسة ، وحين مناقشتنا لما رواه أهل البيت في صفة وضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ نقل أهل البيت هو الأقرب إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر عليا بكتابة حديثه ، وأنّ الأئمة من ولده قد تداولوا كتاب علي بينهم ، واعتبروه وديعة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله عندهم ، فكانوا يكنزونه كما يكنز الناس الذهب والفضة.

بخلاف أهل السنة والجماعة الذين منعوا من تدوين حديث رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمدة قرن أو أكثر من الزمن ، وشرّعوا الرأي والاجتهاد في الأحكام بجنبه ، ثمّ دونوا سنة

٣٥١

رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله مخلوطة بأفهام وآراء الآخرين في كتاب اعتبروه سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ه ـ جزومات العامة على أن مذهب الباقر هو المسح

والمراجع لكتب التفسير والفقه يرى اسم الإمام الباقر فيمن ذهب إلى المسح ، وأنّه فعل رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون ما يدّعى من الغسل.

قال الفخر الرازي في تفسيره : (المسألة الثامنة والثلاثون) :

اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما ، فنقل القفّال عن ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبيّ وأبي جعفر محمد ابن علي الباقر أنّ الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية من الشيعة (١).

فإن ثبوت المسح عن الباقر في الصّحاح والمسانيد الحديثية ، لدليل صحّة خبر المسح عنه في مرويّات مدرسة أهل البيت وأنّه ليس بدعا من الأمر ، وهذا ما سنوضّحه لاحقا عند مناقشتنا لمرويات أهل البيت إن شاء اللّٰه تعالى.

و ـ جزومات العامة بأنّ مذهب عليّ عليه‌السلام هو المسح

لفقهاء العامة نصوص كثيرة تدلّ على أنّ مذهب الإمام عليّ بن أبي طالب هو المسح ، وهو الذي يتّفق مع ما نقله أهل بيته عنه ، وإليك بعض النقول كي تقف على حقيقة الأمر : قال ابن حجر : ..

ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك [أي الغسل] إلّا عن علي وابن عباس وأنس (٢).

وقال ابن حزم : وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف منهم : عليّ بن أبي طالب وابن عباس (٣).

__________________

(١) التفسير الكبير ، للرازي ١١ ـ ١٢ : ١٦١. تفسير غرائب القرآن (تفسير الطبري) ٦ : ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) فتح الباري ١ : ٢١٣ ونحوه عن الشوكاني في نيل الأوطار ١ : ٢٠٩.

(٣) المحلى ١ ـ ٢ : ٥٦ م ٢٠٠.

٣٥٢

وقال موفق الدين ابن قدامة : ولم يعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح غير من ذكرنا (١). وكان عليّ بن أبي طالب وابن عباس ممّن ذكرهم.

وقد نسب أهل العلم المسح إلى علي كابن جرير الطبري في تفسيره (٢).

والجصاص في احكامه (٣) وابن كثير في تفسيره (٤) والمتقي الهندي في كنزه (٥) وغيرهم.

وقد جزم العيني بثبوت القول بالمسح عن علي وابن عباس وأنس بن مالك في عمدة القارئ (٦).

ونسبة هؤلاء الأعلام المسح إلى عليّ بن أبي طالب تدلّنا بصراحة على أنّ مذهبه كان المسح لا غير ، وأنّ نسبة الغسل إليه ما هي إلّا أكاذيب ، وافتراءات وضعت من قبل الاتجاهات المخالفة لتصحيح مذهب عثمان بن عفان ، لأنّه قد ثبت أنّ عليا وأهل بيته كانوا من المعارضين للرأي ومن المدوّنين لحديث رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثبوت هذان الأمران عنه ينافي ما وضحناه للقارئ من تحكيم الرأي في الوضوء الغسلي ، إذ وقفت على نصوص علي الزارية بهم ، كقوله (لرأيت) و (هذا وضوء من لم يحدث) ، كل هذه النصوص ترجّح أن يكون مذهب الإمام هو المسح لكونه لا يرتضي الغسل بل يعتبره بدعة وإحداثا قد أدخل في الدين ، هذا من زاوية.

ومن زاوية أخرى نلاحظ في الروايات التي نسبت الوضوء الثلاثي الغسلي لعلي وابن عباس أنّها تدّعي الابتداء منهم تبرّعا بإراءة الوضوء دون سؤال مسبق ، بخلاف روايات المسح التي تنقل عنهما ، فإنّها جاءت بعد سؤال من سائل ، أو بصيغة اعتراض على خطأ وإحداث عند الناس يراد رفعه.

ففي الروايات الأربع الغسليّة التي رواها عطاء عن ابن عباس ، وجدنا ادعاء

__________________

(١) المغني ١ : ١٥١ م ١٧٥.

(٢) تفسير الطبري ٦ : ٨٦.

(٣) أحكام القرآن للجصاص ٢ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٤) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٢ : ٤٥.

(٥) كنز العمال ٩ : ٤٣٩.

(٦) عمدة القارئ ٢ : ٢١.

٣٥٣

ابن عباس دون أيّ مبرر بقوله «أتحبّون أن أريكم كيف كان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ»؟ ، وفي الروايات التي تدعى الوضوء الثاني الغسلي لعلي ، تجد عشر روايات منها تدعي الابتداء التبرّعي بمثل قوله «أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله» و «من سرّه أن يعلم وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو هذا» و «هكذا توضأ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله» و «هكذا كان وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله» و «من سرّه أن ينظر إلى طهور رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا طهوره» وما قاربها من العبارات ، التي تستبطن أنّ المدّعي يريد إثبات شي‌ء في عقله وإشاعته بين المسلمين ، وإلّا فإن الوضوء من الأمور البديهيّة التي لا معنى للإصرار والتأكيد على الابتداء بها ، وقد سبق أن ذكرنا في المدخل أنّ عثمان قد استعمل نفس هذه الأساليب ، فقال في أحد نصوصه : كنت على وضوء ولكن أحببت أن أريكم كيف توضأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وفي آخر : هكذا وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحببت أن أريكموه (٢).

وهذا بخلاف روايات المسح التي تنقل وجود ناس يكرهون أن يشربوا فضل الوضوء قياما ، وأنّ عليا حدّث بذلك ، فأراد إيضاح بطلان ذلك التوهّم للمسلمين ، فيكون من المنطقي جدّا أن يأتي بالوضوء فيشرب بعده من فضل وضوئه ويقول بلسان قاطع : أين الذين يزعمون أنّه لا ينبغي لأحد أن يشرب قائما؟! مضافا إلى أنّها تنقل لنا حضور الصلاة (صلاة العصر) التي أراد أن يصليها علي في الرحبة ، وهي تستدعي الوضوء ـ وجوبا أو استحبابا ـ فيكون من الملائم جدّا أن يأتي علي بالوضوء أمام الملأ من المسلمين.

بل الذي في رواية أبي مطر الوراق التصريح بأنّ رجلا طلب من علي أن يريه وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الزوال ، أي في وقت يناسب التعلّم ، وعند ذاك يستجيب الإمام علي فيدعو قنبرا مولاه ليأتيه بماء للوضوء ، فيتوضّأ إمام المسلمين ثمّ يقول : أين السائل عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كذا كان وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإذا أردنا تطبيق المدّعى من الوضوءين مع منطق وقوع الحدث وملابساته وجدنا روايات المسح أولى وأوفق من روايات الغسل التي تبتدئ بطرح أفكار أقل

__________________

(١) سنن الدار قطني ١ : ٩٣ / ٨.

(٢) سنن الدار قطني ١ : ٩١ / ٤.

٣٥٤

ما يقال في حقها : أنها متنازع فيها في تلك الفترة ، فيكون ادعاؤهم مصادرة بالمطلوب.

الروايات الوضوئية وما تحمل من شواهد :

وفي تتبّع آخر للمرويات الوضوئية انفرجت لنا زاوية جديدة وظهرت لنا حقيقة قيّمة ، هي أنّ الروايات المسحيّة تنقل عن الماسحين ـ إلى هذا الموطن من البحث ـ أنّهم لم يدّعوا الوضوء المسحيّ مجرّدا عن الدليل ، أو بادّعاء محض الرؤية ، لأنّ التمسك بمجرّد ادعاء رؤيتهم للنبي قد يعارض بادّعاء مقابل من الغاسلين ، أو يؤوّل بتأويلات مختلفة ، فمن هنا جاءت مرويّاتهم المسحيّة مقرونة بالدليل الدامغ من الكتاب ومن السنة ، وبردّ الوجوه المرتأة والأدلة الاستحسانية ، وهذه الجهات خلت عنها الروايات المدّعية للغسل.

فروايات ابن عباس مشحونة بقوله : «افترض اللّٰه غسلتين ومسحتين» وقوله : «لا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح» و «نجد في كتاب اللّٰه المسح» وما شاكلها من العبائر التي تصرّح بان كتاب اللّٰه نزل بالمسح لا غير ، وأنّ من ذهب إلى غير المسح ، فقد خالف الظهور القرآني وترك العمل بكتاب اللّٰه.

ونفس هذه النبرة تجلّت في كلام أنس بن مالك في ردّه للحجّاج حيث أعلن أنس احتجاجه بكتاب اللّٰه فقال : صدق اللّٰه كذب الحجاج ، قال تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) كان يقول : نزل القرآن بالمسح.

وفي نفس الوقت رأيناهم يعرّضون بأصحاب الرأي ويضربون بآرائهم عرض الجدار ، فيقول ابن عباس : «أبي الناس إلّا الغسل» ، و «يأبى الناس إلّا الغسل» ، كما يقول أنس في ردّ تعليل الحجّاج الغسل بأنّ الرجل أقرب أعضاء الإنسان للخبث ، «كذب الحجّاج» ، لأنّ دين اللّٰه لا يصاب بالرأي ، وإذا سلمنا حجية الرأي فليس على إطلاقه ، إذ ما قيمته بعد وضوح وظهور قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)؟! وجاء الإمام علي بنص يحمل في ثناياه الاستدلال بالكتاب وبالسنة ويفند الرأي في آن واحد ، لأنّه عليه‌السلام قال : «لو لا إنّي رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح على ظهورهما

٣٥٥

لظننت أنّ بطونهما أحقّ» فأرسل الإمام ظهور المسح من كتاب اللّٰه إرسال المسلّمات ، ولم يجعل مجالا لاحتمال الغسل أبدا فيه ، لظهور المسح في قوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فأراد أن يوضح هذا الأمر الثابت بقوله : إنّ هذا المسح الظاهر من أمر اللّٰه في القرآن يختص بمسح ظاهر القدمين فقط ، لأنّه رأى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ظهورهما فقط دون بطونها ، أي أنّه احتج بالسنة النبوية المباركة مع القرآن ، ثمّ فنّد عليه‌السلام ثالثا الرأي ، فقال ما معناه : لو كان للرأي حجية في مقابل فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكان باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما لقربه من الخبث. وهو ما استدل به الحجّاج على الغسل لاحقا!! فيكون ملخّص كلام الإمام علي هو : أنّ الكتاب أمر بالمسح بالأرجل ، لا غير ، ومعناه لا فرق في المسح بباطن القدمين أو ظهورهما ، وإن كان مسح بطون القدمين أولى من ظهورهما حسب الرأي ، لكنه لمّا رأى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ظهورهما تعبد بذلك ولم يتجاوز إلى غيره.

ولا يخفى عليك أنّ هذا النص يدلّ على أنّ الباء في الآية القرآنية للتبعيض ـ لا كما يزعمه المالكية من أنّها للإلصاق ـ لأنّ الأمر بالمسح جاء من خلال نص الآية الشريفة ، وقد مسح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بظاهر قدميه لا باطنها ، إذ قال علي عليه‌السلام : أنّه لو لا فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكان باطنها أحق بالمسح ، لانه صلى‌الله‌عليه‌وآله المبين لأحكام اللّٰه تعالى.

وعلى كلا الوجهين يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام قد بينا البعضية من الباء ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح بظاهر قدميه ـ وهو بعض القدم ـ والإمام عليّ عليه‌السلام قرّر أولوية الباطن ـ لو لا مسح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر ـ بالمسح ، والباطن بعض القدم أيضا.

وعلى كل حال فإنّ النقولات المسحيّة عن عليّ وابن عباس وأنس بن مالك حملت معها أدلّتها القوية من القرآن والسنة وردّ الرأي ، بعكس الطرف المقابل ، أعني روايات الغسل ، فإنها لم تجرؤ أن تقدّم سوى ادّعاء لا يعلم مدى مصداقيته ووثاقته ، وانّ الأدلة التعضيديه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ويل للأعقاب من النار» و «أسبغوا الوضوء» هي أجنبيّة عما نحن فيه ، لعدم إمكان الاستفادة منها لمشروعية غسل الأرجل ، بل الأوّل منه ما هو إلّا حكم يتعلق بالعقب الذي هو معرض للنجاسة ، فلا يمكن الاستدلال به على أنّه فعل الرسول وحكم القرآن ، ومثله الحال بالنسبة إلى الإسباغ فهو حكم

٣٥٦

كمالي للوضوء ولا يدل على غسل الأرجل.

نعم ، إنّ الأعلام قد جدّوا لتعضيد الغسل بصرف الظهور القرآني. تارة بقراءة النصب واخرى بادعاء النسخ ، وثالثه بادعاء أنّ القرآن نزل بالمسح وجاءت السنّة بالغسل ، وما ضارعها من وجوه ، حتى قال ابن حزم في بعض مواطن ردّه على أبي حنيفة ومالك : وأبطلتم مسح الرجلين ـ وهو نص القرآن ـ بخبر يدّعي مخالفنا ومخالفكم أننا سامحنا أنفسنا وسامحتم أنفسكم فيه ، وأنّه لا يدلّ على المنع من مسحها ، وقد قال بمسحها طائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم (١).

واخرى بروايتهم عن رسول اللّٰه : أنّه غسل رجليه!!

الوضوء والتعليم غير المعقول :

ومن طرائف ما وقع في روايات الغسل أنّها تدعي في بعضها أن عليّا دخل على حبر الأمّة ابن عبّاس ، وفاجأه مبتدئا بقوله : «إلا أريك كيف كان يتوضّأ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ ..» ثمّ سرد له الوضوء الغسلي ، مشعرة بأنّه ارتضى ذلك الوضوء وتلقاه تلقيا عاديّا!! وهذا من غرائب الطرائف ، لأنّ ابن عباس كان يجاهر بالمسح حتّى بعد استشهاد الإمام علي كما في خبر الربيع ، فالخبر مصرّح بأنّ ابن عباس بقي على موقفه المسحي إلى آخر حياته ، مع أنّك قد عرفت أنّ أحدا لم يدّع الإخبار عن حسّ في رجوع ابن عباس ، بل الثابت عنه البقاء على المسح حتى النهاية ، فكيف سكت عن الوضوء الغسلي المدّعى.

وإذا صرفنا النظر عن ذلك ، فإنّنا لا نستطيع التصديق بأنّ حبر الأمة الذي كان يبيت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في غرفة واحدة ، يبقى ردحا من الزمن منتظرا أن يجيئه الإمام علي عليه‌السلام فيعلمه الوضوء تبرّعا وبدون سابق سؤال من ابن عباس؟! وهل يخفى على الإمام علي أنّ ابن عباس كان يعلم وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أم أنّ ابن عباس كان مخطئا طيلة عمره في وضوئه حتّى علّمه الإمام علي.

إنّنا لا نفهم من هذا النص إلّا تحشيد النهج الحاكم أكبر عدد من الصحابة

__________________

(١) المحلى ٢ : ٦١.

٣٥٧

استنصارا للوضوء الغسلي ، وأن يلقي تبعة ما استحدثه عثمان على عاتق علي وابن عباس وغيرهما من أعيان الصحابة ، وإلّا فإنّ ما ينقله هذا النص غير معقول لا من جهة جهل ابن عباس ولا من جهة تعليم علي إيّاه ، لكون الوضوء أوّل أوليات العبادات.

ومثله النصّ الآخر الذي ادّعي فيه أن عليا علّم الحسين الوضوء في وقت متأخّر.

فهل كان الحسين جاهلا بوضوء جدّه وهو ريحانته وسبطه؟! أمّ أنّه لم ير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قطّ يشرب فضل وضوئه قائما مع أنّه من ألصق الناس به وأقربهم منه منزلة مادية ومعنوية؟

وكيف يتلائم هذا النص مع النصّ الآخر الذي فيه أنّ الحسين هو وأخوه الحسن علّما الشيخ الذي لا يحسن الوضوء ، وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فعن الروياني : أنّ الحسن والحسين مرّا على شيخ يتوضّأ ولا يحسن ، فأخذا في التنازع ، يقول كلّ واحد منهما : أنت لا تحسن الوضوء ، فقالا : أيّها الشيخ كن حكما بيننا ، يتوضّأ كلّ واحد منّا ، فتوضّئا ، ثمّ قالا : أيّنا يحسن؟ قال : كلاكما تحسنان الوضوء ، ولكنّ هذا الشيخ الجاهل [يعني نفسه] هو الذي لم يكن يحسن ، وقد تعلّم الآن منكما ، وتاب على يديكما ، ببركتكما وشفقتكما على أمّة جدّكما (١).

وقد أغرقت الرواية الغسليّة في النزع بادّعائها أنّ السجّاد ، والباقر رويا الوضوء الغسلي عن الحسين ، وأنّ أباه عليّا علّمه إيّاه ، مع أننا علمنا أنّ السجاد أرسل عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل إلى الربيع منكرا عليها وضوءها ، وأنّ المحفوظ عنه وعن ابنه الباقر هو المسح ، وقد مرّ عليك تصريح الفخر الرازي بأنّ مذهب الباقر محمد ابن علي هو وجوب المسح في الرجلين (٢).

وهذه اللفتة أيضا تجدها في مرويات عثمان الوضوئية ، فإنّها تحاول تسطير أكبر عدد من أسماء الصحابة لمساندة الوضوء الغسلي ، فتدّعي أن عثمان استشهد على

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٠٠.

(٢) التفسير الكبير ١٢ : ١٦١.

٣٥٨

وضوئه الغسلي جماعة من الصحابة ، فدعاهم ليريهم وضوءه ، وحمد اللّٰه على موافقتهم له (١) وتسكت الرواية عن ذكر أسمائهم ، وتجي‌ء رواية أخرى فتذكر أسماء صحابة مخالفين لعثمان فقها وفكرا وسياسة لتحشرهم معه في الوضوء فتدعي وجود طلحة والزبير وعلي وسعد (٢) هما ممن أيداه ، مع أننا نعلم أنّ طلحة والزبير من أشدّ المخالفين لعثمان ولم يثبت عنهم وضوء غسلي عند العامة ، وكذلك سعد ، وأمّا علي فهو علم في الوضوء المسحي ، ومن أوّل المعارضين للوضوء الغسلي ، وقد مرّ عليك في المدخل مواقف الصحابة الفقهية المخالفة لعثمان.

فلما ذا تفترض هذه الرواية استشهاد عثمان لهؤلاء لا غيرهم ، مع أنّ الثابت عنهم خلاف عثمان أو عدم موافقته على أقل تقدير؟! إنّ هذه النكتة تدلّنا على وجود أصابع تريد التلاعب بالوضوء ، لتنتصر لرأي الخليفة والسائرين على نهجه.

وهذه اللفتة إذا بحثناها في الوضوء المسحي وجدناها تنسجم تماما مع منطق الأحداث والحالة الطبيعية التي تنبثق عنها نصوص الأحكام والتعاليم الدينية ، لأنّ الروايات المسحيّة الصادرة عن عليّ تكاد تتّفق على صدور الوضوء عنه في الرحبة وفي أيّام خلافته ، وأنّه علّم أبناء الكوفة لسؤال منهم ، وأن الذي طلب توضيح الوضوء كان من التابعين ، فلم نجد في تلك الروايات عليّا علّم صحابيا جليلا كابن عباس ، أو سبطا من الأسباط كالحسين ، حكما من الأحكام الأوّلية التي يعرفها أبسط المسلمين!! فتكون خلاصة هذه الفقرة أنّنا وجدنا في الروايات المدّعية لغسل لعلي ، أنّ صحابيا يعلّم صحابيّا أوضح الواضحات ، ولم نجد مثل هذه الزلة في روايات المسح ، بل كلّها تتماشى مع حالة التعليم والتعلّم الطبيعية.

وبنظرة عجلي في أبواب الفقه يستطيع القارئ أن يدرك أنّ الحالة الطبيعية في كتب الفقه هي أن يسأل التابعيّ الصحابيّ عمّا خفي عليه من أحكام ، باعتباره

__________________

(١) انظر كنز العمال ٩ : ٤٤١ / ٢٦٨٨٣ ، عن الدار قطني ١ : ٨٥ / ٩.

(٢) كنز العمال ٩ : ٤٤٧ / ٢٦٩٠٧.

٣٥٩

لم يتشرف بلقيا رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أن يسأل الصحابيّ صحابيّا آخر عن واقعة شهدها المسئول ولم يشهدها السائل ، أو أن يختلف صحابيّان أو أكثر في فرع من الفروع التي يمكن خفاء أحكامها عليهم.

وأما أن يسأل صحابي جليل قوي الصحبة ، قريب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صحابيّا آخر عن أمر مثل الوضوء فهو من غير المعقول ومن البعيد عن سير الفقه ، وهل بإمكاننا مثلا أن نصدّق أنّ عمار بن ياسر سأل عليّا أو غيره عن عدد ركعات الصلاة اليومية ، أو أنّ عليا ابتدأه بتعليمه ذلك؟! إنّ هذا ما يأباه العقل والمنطق والوجدان.

روايات الوضوء وأطراف النزاع :

ثمّ إنّنا لو دققنا في روايات الماسحين وجدناها تحدّد أطراف النزاع بجلاء ووضوح ، بعكس روايات الغاسلين فإنّها تبهم التيّار المعارض ولا تصرّح بأسمائهم ، فها هي رواية عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، تحدد أطراف النزاع ، فتذكر إرسال السجّاد عبد اللّٰه إلى الربيع لينكر عليها وضوءها الغسلي ، فالخبر ينقل لنا أنّ عبد اللّٰه أيضا من أطراف النزاع ، فهؤلاء في كفّة والربيع في كفّة ، والرواية تنقل أيضا بأمانة تكذيب ابن عباس للربيع عبر قوله : «ما أجد في كتاب اللّٰه إلّا مسحتين وغسلتين» فإن معناها رفض ما ترويه الربيع أو ترتئيه من الوضوء الغسلي.

ومثل ذلك ما جاء في رواية أنس بن مالك ، فإنّها حدّدت أنّ الحجّاج بن يوسف كان داعية الغسل بحجّة أقربية الرجل للخبث ، وصرّحت بأنّ أنسا كذّب الحجّاج جهرة في دعواه تلك مع جبروت الحجّاج وطغيانه ، ولا يفوتك أنّ الحجّاج حين أمر الناس بغسل القدمين لم يجسر على ادعاء أنّه نص القرآن أو سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو سيرة الصحابة ، ذلك ، لأنّ القرآن ظاهر في المسح ، وأمّا سنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الصحابة فكانا غير مدوّنين على عهد الحجّاج ، بل الحكومة كانت آن ذاك ما زالت جاهدة في اكتساب التابعين وتابعي التابعين والفقهاء ليقولوا بما تريده ، فمن رافض لذلك ومن منخرط معها ، والتدوين لم تفتح أبوابه عند الحكام بعد ، فلذلك لم يدّع الحجّاج أنّ الغسل سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا سيرة الصحابة بل ادّعى فيها الرأي ، وإنّ الرجل أقرب

٣٦٠