وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

فخ] وهو محرم ، ومع الحسين عليه‌السلام عبد اللّٰه بن عبّاس وعبد اللّٰه بن جعفر ، فصنع به كما صنع بالميت وغطّى وجهه ولم يمسّه طيبا ، قال : وذلك في كتاب علي (١).

٧ ـ مسائل في الإرث

قال عمر : واللّٰه ما أدري أيّكم قدم اللّٰه وأيّكم أخّر ، وما أجد شيئا هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص.

فقال ابن عباس : وايم اللّٰه لو قدّمتم من قدّم اللّٰه وأخرتم من أخّر اللّٰه ما عالت الفريضة (٢).

وأخرج الطحاوي ، عن طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : حدثت أنّ عليّ بن أبي طالب كان ينزل بني الأخوة مع الجدّ منزلة آبائهم ، ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره (٣).

وعن ابن عباس : إنّ عليّا كتب إليه أن اجعله كأحدهم وامح كتابي (٤).

فالنهج الحاكم (الخلفاء) لم يقض بما قضى به علي ، لقول الراوي للباقر ـ وفي آخر للصادق ـ إنّ من عندنا لا يقضون بهذا القضاء ، ولا يجعلون لابن الأخ مع الجدّ شيئا ، فقال أبو جعفر : أما إنّه إملاء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ علي من فيه ليده (٥).

وإن عليا كان قد أمر ابن عبّاس أن يتقي من شيوع حكمه في الجد وقوله له (وامح كتابي ولا تخلّده)!! كانت هذه مفردات عابرة عن فقه علي وابن عبّاس نقلناها كشاهد على وحدة الفقه عند الطالبيين ، ولو شئنا لأفردنا مجلدا في ذلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٥ : ٣٨٣ كتاب الحج.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ٦ : ٢٥٣.

(٣) فتح الباري ١٢ : ١٧ ، مصنف عبد الرزاق ١٠ : ٢٦٩ ح ١٩٠٦٦.

(٤) المصدر السابق.

(٥) الكافي ٧ : ١١٢ ح ١ و ١١٣ ح ٥ ، التهذيب : ٣٠٨ ح ١١٠٤ / ٢٥.

٢٠١

مخالفة النهج الحاكم مع علي وابن عباس

نقلنا سابقا موقف ابن عبّاس من الخلافة ومخالفته مع بعض رموزها ، وهذا هو الذي دعا الخلفاء لاحقا لتشديدهم على الناس بمخالفة فقه ابن عبّاس وعلي ابن أبي طالب ، لأنّ المعروف عند المحققين أن النزاع بين بني هاشم وبني أميّة لم يكن وليد يومه ، إذ كان قبل الإسلام ، ثمّ انتقل بعد الإسلام ، وإنّ معاوية وأضرابه لم يسلموا إلّا تحت ضلال السيوف وأسنة الرماح ، وإنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فتح مكة أطلق سراحهم وعفا عنهم بقوله : أنتم الطلقاء.

وأن اللّٰه ورسوله كانا قد خصا بني هاشم بخصائص ، وذلك لصمودهم ودفاعهم عن الدعوة الإسلامية أبّان ظهورها ، فجاء في صحيح البخاري : أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع سهم ذي القربي في بني هاشم وعبد المطلب ـ أيام غزوة خيبر ـ فاعترض عثمان وجبير بن مطعم على حكم رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهما صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا بنو هاشم وبنو عبد المطلب شي‌ء واحد (١).

وفي رواية النسائي : إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنّما نحن وهم شي‌ء واحد ، وشبّك بين أصابعه (٢).

فالأمويون لم يذعنوا لقرار اللّٰه ورسوله في ذي القربى ، واعترضوا على هذا الحكم الإلهي ، وهم يضمرون العداء لبني هاشم وخصوصا لعلي ، لأنّه الرجل الأوّل المنصوب للخلافة ، وهو الذي قتل صناديد قريش! وهذا النمط منهم هو الذي رفض خلافة علي بن أبي طالب بعد عثمان ، ثمّ حاربه بدعوى المطالبة بدم عثمان ، ولما استقرّ الأمر لمعاوية سنّ لعن علي على المنابر ودبر كل صلاة (٣) ، حتى قيل بأنّ مجالس الوعّاظ بالشام كانت تختم بشتم علي (٤) وان معاوية

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٧٤ ، هذا الخبر وما يليه في الأموال لأبي عبيد : ٣٤١ كذلك.

(٢) سنن النسائي (المجتبى) ٧ : ١٣١ ، سنن أبي داود ٣ : ١٤٦ / ٢٩٨٠.

(٣) النصائح الكافية : ٨٦ ـ ٨٨.

(٤) النصائح الكافية : ٨٧ وابن عساكر في تاريخه.

٢٠٢

كان قد أمر أعوانه بمحو أسماء شيعة علي من الديوان (١) ، وأصدر مراسيم حكومية بأن لا تقبل شهادة لأحد من شيعة علي وأهل بيته.

وكان ابن عبّاس غير مستثنى من هذه القاعدة ، حيث أسقط معاوية عطاءه ، وكان يلعنه في القنوت بعد علي بن أبي طالب.

وقد بسطنا القول عن اتجاهي الرأي والتعبد على عهد رسول اللّٰه سابقا ، وأن القرشيين كانوا من أهل الرأي وأن ابن عبّاس وعلي وغيرهم من التعبد ، فجاء عن أبي عبّاس قوله : ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (٢) وقوله : ألم يقل اللّٰه عزوجل (مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، قلت : بلى ، قال : ألم يقل اللّٰه (وَمٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَلٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ، قلت : بلى. قال : أشهد ان نبي اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن النقير والمزفّت والدباء والحنتم (٣) وقوله في آخر : الا تنتهوا عما نهاكم عنه رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ (٤) وقد ثبت عنه رحمه اللّٰه أنه كان يصحح المفاهيم الخاطئة التي وقع فيها الناس ، فعن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : يزعم قومك أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله رمّل بالبيت ، وأن ذلك سنة؟

فقال : صدقوا وكذبوا! قلت : وما صدقوا وكذبوا؟! قال : صدقوا ، رمّل رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبيت ، وكذبوا ، ليس بسنة ، إن قريشا قالت زمن الحديبية : دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف ، فلما صالحوه على أن يقدموا من العام المقبل ويقيموا بمكة ثلاثة أيام ، فقدم رسول اللّٰه ، والمشركون من قبل قعيقعان ، فقال رسول اللّٰه لأصحابه : ارملوا بالبيت ثلاثا ، وليس بسنة.

__________________

(١) النصائح الكافية : ٨٨.

(٢) رواه الطبراني (١١٩٤١) وقال الهيثمي ١ : ١٧٩ ، رجاله موثقون ، انظر جامع المسانيد والسنن ٣٢ : ٢٦.

(٣) رواه النسائي في الأشربة (باب ذكر الدلالة على النهي للموصوف من الأوعية).

(٤) أخرجه الامام أحمد في مسنده (٢٧٧٢) وإسناده صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد ٣٠ : ٢٢٣.

٢٠٣

قلت : ويزعم قومك أنّه طاف بين الصفا والمروة على بعير ، وأنّ ذلك سنة؟

فقال : صدقوا وكذبوا! فقلت : وما صدقوا وكذبوا؟! فقال : صدقوا ، قد طاف بين الصفا والمروة على بعير ، وكذبوا ليست بسنّة ، كان الناس لا يدفعون عن رسول اللّٰه ولا يصدفون عنه ، فطاف على بعير ، ليسمعوا كلامه ولا تناله أيديهم .. (١)

وجاء رجل إلى ابن عبّاس فقال : إنّ مولاك إذا سجد وضع جبهته وذراعيه وصدره بالأرض ، فقال له ابن عباس : ما حملك على ما تصنع؟

قال : التواضع.

قال : هكذا ربضة الكلب ، رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سجد رئي بياض إبطيه. (٢)

فنهج الخلفاء كان يخالف ابن عباس ، لتعبده ولمواقفه السياسية.

نعم ، إنّ الأمويين أرادوا إبعاد الإمام علي عن الخلافة ، ثمّ تحكيم خلافتهم وإعطاءها الشرعية وعبر مراحل ذكرناها في المدخل (٣).

وإن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أخبر عليا بما تصنع الأمّة معه وبالأحكام الشرعية من بعده (٤) ، وجاء عن أبي عثمان النهدي قوله : أخذ علي يحدّثنا ، إلى أن قال : جذبني رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكى فقلت : يا رسول اللّٰه ما يبكيك؟ قال : ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلّا بعدي ، فقلت : بسلامة من ديني؟ قال : نعم بسلامة من دينك (٥).

ومن هذا المنطلق أخذ أجلّة الصحابة يعترضون على معاوية والخلفاء من بعده لتلاعبهم بالدين واتّخاذهم الشريعة سلما لأهدافهم ، باكين على الإسلام وأمور

__________________

(١) مسند أحمد (٢٧٠٧ ، ٢٧٠٨ ، ٣٥٣٤ ، ٣٥٣٥ ، ٢٠٢٩ ، ٢٨٤٣ ، ٢٢٢٠ ، ٢٠٧٧ ، ٣٤٩٢) كما في جامع المسانيد والسنن ٣١ : ٢٨.

(٢) مسند الامام أحمد (٢٩٣٥) كما في جامع المسانيد والسنن ٣٠ : ٤٧٤.

(٣) وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله / المدخل : الباب الثاني الوضوء في العهدين الأموي والعباسي.

(٤) انظر شرح نهج البلاغة ، للتستري ٤ : ٥١٩.

(٥) تاريخ بغداد للخطيب ١٣ : ٣٩٨.

٢٠٤

المسلمين.

فقد صح عن أبي سعيد الخدري قوله : خرجت مع مروان وهو أمير مدينة في أضحى أو فطر ، فلما أتينا المصلّي إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي فجذبت ثوب مروان فجذبني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتم واللّٰه. فقلت : ما أعلم واللّٰه خير مما لا أعلم.

فقال مروان : إنّ النّاس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصّلاة فجعلتها قبل الصّلاة (١).

وروى الزهري أنّه قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك؟

قال : لا أعرف شيئا مما أدركت إلّا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيّعت (٢).

وأخرج البخاري عن غيلان أنّه قال : قال أنس : ما أعرف شيئا مما كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! قيل : الصلاة! قال : أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها (٣).

وأخرج البخاري ، عن الأعمش ، قال : سمعت سالما ، قال : سمعت أمّ الدرداء تقول : دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب ، قلت : ما أغضبك؟

فقال : واللّٰه ما أعرف من أمّة محمّد إلّا أنّهم يصلّون جميعا (٤).

وعن ابن مسعود قوله : صلّ مع القوم واجعلها سبحة (٥) ، إلى غير ذلك من أقوال الصحابة.

نعم ، إنّ البعض من الصحابة قد أيّد موقف الأمويين تصريحا أو تلويحا وأكّد على لزوم متابعة أمرائهم قولا وفعلا حتى لو خالف القرآن والسّنّة ، لأنّ ذلك بزعمهم هو الدين.

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٢٢ باب الخروج إلى المصلى بغير منبر.

(٢) البداية والنهاية ٩ : ٩٤.

(٣) صحيح البخاري ١ : ١٤٠.

(٤) صحيح البخاري ١ : ١٦٦ باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، فتح الباري ٢ : ١٠٩.

(٥) مسند أحمد.

٢٠٥

ففي طبقات الفقهاء : عن سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد اللّٰه بن عمر عن الإيلاء؟

قال : أتريد أن تقول : قال ابن عمر ، قال ابن عمر؟

قال : نعم ، ونرضى بقولك.

فقال ابن عمر : يقول في ذلك أولوا الأمر ، بل يقول في ذلك اللّٰه ورسوله (١).

وعن ابن المسيب ، قال : كان إذا جاء الشي‌ء في القضاء وليس في الكتاب ولا في السّنّة فيدفع إلى الأمراء فيجمع أهل العلم ، فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحق (٢).

وعن ابن عمر قوله لما سئل : من نسأل بعدكم؟

قال : إنّ لمروان ابنا فقيها فسلوه (٣).

وعن جرير بن حازم قال : سمعت نافعا يقول : لقد رأيت المدينة وما بها أشد تشميرا ولا أفقه ولا أقرا لكتاب اللّٰه من عبد الملك (٤).

فترى ابن عمر يرشد النّاس إلى الأخذ بقول عبد الملك بن مروان ، الذي بني القبّة فوق الصخرة والجامع الأقصى وجعلها بمثابة الكعبة يطوفون حولها وينحرون يوم العيد ويحلّقون رءوسهم ، ـ وذلك بعد أن صاح الناس به ، حينما منع من حجّ بيت اللّٰه الحرام ، لأنّ ابن الزبير كان يأخذ البيعة لنفسه منهم ـ (٥).

وهو القائل : من قال برأسه هكذا قلنا بسيفنا هكذا (٦).

والداعي إلى الأخذ بفقه عثمان بن عفّان بقوله :

(.. فألزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الإمام المظلوم ، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه اللّٰه فإنّه قد استشار في ذلك

__________________

(١) طبقات الفقهاء.

(٢) اعلام الموقعين ١ : ٨٤.

(٣) تهذيب التهذيب ٦ : ٤٢٢ ، تهذيب الكمال ١٨ : ٤١٠ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٣٨٩ ، المنتظم ٦ : ٣٩.

(٤) المصدر السابق.

(٥) البداية والنهاية ٨ : ٢٨٣.

(٦) البداية والنهاية ٩ : ٦٨.

٢٠٦

زيد بن ثابت ، ونعم المشير كان للإسلام رحمه اللّٰه فأحكما ما أحكما واستقضيا ما شذّ عنهما (١)).

ومن هذا المنطلق كان عمر بن عبد العزيز يركّز على الأخذ بأقوال الشيخين وترك أقوال علي وابن عبّاس وغيرهما ممن ينتهج نهج التّعبد ، حيث خطب فقال : ألا وإنّ ما سنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه (٢).

هذا ، وإنّ العباسيين لم يكونوا بأقلّ وطأة على فقه علي وابن عبّاس من الأمويين ، فعن المنصور العباسي أنّه طلب من الإمام مالك أن يكتب له الموطأ بقوله : يا أبا عبد اللّٰه ضع هذا العلم ودوّنه وتجنّب فيه شواذّ عبد اللّٰه بن مسعود ، ورخص ابن عباس ، وشدائد ابن عمر ، واقصد إلى أوسط الأمور ، وما اجتمع عليه الأئمة والأصحاب ، لنحمل الناس إن شاء اللّٰه على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار ، ونعهد إليهم إلّا يخالفوها ولا يقضوا بسواها (٣).

وفي آخر قول مالك للمنصور : إن أصحاب رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله تفرقوا في البلاد ، فأفتى كلّ في مصره بما رأى ، وإن لأهل البلد ـ يعني مكة ـ قولا ، ولأهل المدينة قولا ، ولأهل العراق قولا تعدّوا فيه طورهم.

فقال المنصور : أمّا أهل العراق فلا أقبل منهم صرفا ولا عدلا ، وأما العلم عند أهل المدينة فضع للناس العلم (٤).

وفي نص آخر قال المنصور لمالك : يا مالك ، أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فقال : يا أمير المؤمنين إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاحتاج الناس إليه ، فسألوه وتمسّكوا بقوله.

فقال : يا مالك ، عليك بما تعرف إنّه الحق عندك ، ولا تقلّدن عليّا

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تاريخ الخلفاء : ٢٤١ ، كنز العمال ١ : ٣٣٢.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ١٥٠.

(٤) انظر الإمام مالك للدكتور مصطفى الشكعة : ١٣٣ عن ترتيب المدارك : ٣٠ ـ ٣٣.

٢٠٧

وابن عبّاس (١).

وفي آخر قال له المنصور : هل أخذت بأحاديث ابن عمر؟

قال : نعم ،

قال المنصور : خذ بقوله وإن خالف عليا وابن عباس (٢).

فترجيح رأي ابن عمر مع وجود كثير من الصحابة كان من سياسة الدولة العبّاسيّة ، ومثله الحال بالنسبة إلى الأخذ بموطإ مالك.

نعم ، إن السياسة هي الّتي سمحت للنّاس في الاعتراض على ابن عبّاس وعدم الأخذ بقوله ، فجاء في جامع المسانيد والسنن : أنّ أهل المدينة سألوا ابن عبّاس عن امرأة طافت ثمّ حاضت؟ فقال لهم : تنفر ، قالوا : لا نأخذ بقولك وندع قول زيد ، قال : إذا قدمتم المدينة فاسألوا ، فقدموا المدينة فسألوا ، فكان فيمن سألوا أم سليم ، فذكرت حديث صفية. (٣)

وقد كان زيد قد سال ابن عبّاس عن ذلك ، إذ أخرج أحمد في مسنده عن طاوس قوله : كنت مع ابن عبّاس إذ قال له زيد بن ثابت : أنت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها البيت؟

قال : نعم.

قال : فلا تفت بذلك! فقال له ابن عباس : إما لا ، فسل فلانه الانصارية : هل أمرها بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فرجع اليه زيد بن ثابت يضحك ويقول : ما أراك إلّا قد صدقت (٤). وليت من خالف ابن عبّاس من الصّحابة لا يدّعي أنّ ما عنده من قول أو فعل هو الصواب ، مشعرا بذلك أنّه عن اللّٰه ورسوله وملوحا أنّ ما عند ابن عبّاس وأمثاله ـ ممن لا يحكي إلّا عن اللّٰه والرّسول والقرآن ـ خطأ ، فمن هاهنا ضاع ما ضاع من السّنّة.

__________________

(١) راجع الإمام الصادق عليه‌السلام والمذاهب الأربعة ١ : ٥٠٤.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٤ : ١٤٧.

(٣) رواه البخاري في الحج ٢ : ٢٢٠ باب (إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت) والطبراني (١١٨٦٧) ، انظر جامع المسانيد ٣١ : ٣٢١.

(٤) مسند الامام أحمد (٣٢٥٦) ، (١٩٩٠) جامع المسانيد والسنن ٣٠ : ٥٢١.

٢٠٨

فقد صح عن طاوس ـ تلميذ ابن عبّاس ـ عن ابن عبّاس ، قال : رخّص للحائض أنّ تنفر إذا أفاضت ، قال : وسمعت ابن عمر يقول أنّها لا تنفر.

ثمّ سمعته يقول بعد : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص لهنّ (١).

فلما ذا وصل الأمر بالناس إلى هذا ، وإنّي اترك القاري ليحكم فيما ادعيناه!! وعن ابن عبّاس قال : جاء رجل من الاسبذيين من أهل البحرين ، ـ وهم مجوس أهل هجر ـ ، إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمكث عنده ثمّ خرج فسألته : ما قضى اللّٰه ورسوله فيكم؟ قال : شر ، قلت : مه؟ قال : الإسلام أو القتل ، قال : وقال عبد الرحمن : قبل منهم الجزية ، قال ابن عباس : فأخذ النّاس بقول عبد الرحمن بن عوف وتركوا ما سمعت أنا من الاسبذي (٢) هذا وقد يمكننا عزو سبب إرجاع العباسيين النّاس إلى الأخذ بقول مالك ، هو مالكا بكون الشيخين ـ ومن بعدهما عثمان ـ أفضل الخلفاء الرّاشدين ، وأنّ عليا ليس رابعا لهم ، إذ جاء في البداية والنهاية لابن كثير انّ مالك بن انس دخل على المنصور العبّاسي ، فسأله المنصور : من أفضل الناس بعد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فقال مالك : أبو بكر.

قال : ثمّ من قال : عمر قال : ثمّ من قال : عثمان وقال صاحب كتاب (موقف الخلفاء العباسيين من أئمّة المذاهب الأربعة) :

(.. فإذا تأمّلنا آراء مالك فيما يتعلّق بقضية التفضيل بين الخلفاء الرّاشدين ، نجد الإمام ينفرد عن غيره ، فهو يرى أنّهم ثلاثة لا أربعة ، وهو يجعل خلافة الراشدين في أبي بكر وعمر وعثمان ، ويجعلهم في مرتبة دونها سائر الناس ، وأمّا علي فإنه في نظره

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٢٢٠ باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت.

(٢) رواه أبو داود في الخراج ، ح (٣٠٤٤) في باب (أخذ الجزية من المجوس)

٢٠٩

واحد من جملة الصحابة ، لا يزيد عنهم بشي‌ء) (١).

وهذا يعرفنا أن الخلفاء ـ أمويّين كانوا أم عباسيين ـ يشتركون في نقطة واحدة وهي حمايتهم لفقه الشيخين ، وترك فقه عليّ بن أبي طالب وابن عباس ، أي أخذهم بسيرة الشيخين وإن خالفت السنة النبوية ، وبمعنى آخر أخذهم باجتهاداتهم المقابلة للنص بجنب مرويّاتهم عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا اتضحت لك آفاق السياسة الحاكمة في لزوم الأخذ بفقه ابن عمر وإن خالف عليا وابن عبّاس نقول :

إن ابن عمر وإن خالف أباه في مفردات فقهية كثيرة ، ودعا إلى سنّة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وترك كلام أبيه المخالف لسنة رسول اللّٰه ، لكنّه في الوقت نفسه كان قد دافع عن خلافة معاوية ويزيد وبقية الخلفاء الأمويّين ، وسنّ أصولا كان لهم الاستفادة منها كقاعدة (من غلب) ولزوم اتباع الحاكم وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك و ..

فالنهج الحاكم وإن كان يريد تشريع ما سنّه الشيخان وإبعاد من عارضهم في اجتهاداتهم ، لكنه كان يتخوف ممن لا يتّفق معهم في أصول الخلافة والإمامة أيضا ، وأما الذين يذهبون إلى ما يذهب إليه الخلفاء فلا مانع من نقل كلامه ـ الذي يخدمهم في الغالب ـ وخصوصا لما رأوا في ابن عمر من مؤهلات يمكن الاستفادة منها.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الخلافة العباسية ، فقد دعت إلى الأخذ بفقه ابن عمر مع أنّه كان مدافعا عن الأمويّين في السابق ، وذلك لوحدة النهج والفكر بينهم ، وإن كان إثبات هذا المدعى يحتاج إلى مزيد بيان ليس هنا محل بحثه.

كانت هذه مؤشّرات صريحة وضّحت لنا بأنّ التشريع قد امتزج بالسياسة بعد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ طابعا خاصا ، وأنّ الملك والسلطان كان له أعظم التأثير في ترسيخ بعض المفاهيم والأفكار الشائعة اليوم ، ثمّ اشتداد هذا الأمر في العصور اللاحقة.

ولو طالع الباحث في سيرة الحجّاج بن يوسف الثقفي مثلا لعرف اتجاه الحجّاج

__________________

(١) موقف الخلفاء العباسيين : ١٧٠.

٢١٠

في ترسيخ فقه الأمويين ومذهب الخليفة وهو يؤكد دور السياسة في الفقه ، إذ جاء عنه أنه أرسل إلى الشعبي ليسأله عن الفريضة في الأخت وأمّ الجد؟

فأجابه الشعبي باختلاف خمسة من أصحاب الرسول فيها : عثمان ، زيد ، ابن مسعود ، علي ، ابن عباس ، ثمّ بدأ يشرح كلام ابن عباس ، فقال له الحجّاج : فما قال فيها أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ؟ فذكرها له.

فقال الحجّاج : مر القاضي فليمضها على ما أمضاها عليه أمير المؤمنين عثمان (١).

ومثل هذا الموقف جاء عن الحجّاج في الوضوء ، فقد خطب في الأهواز وأمر الناس بغسل الرجلين (٢) ، ولمّا سمع بذلك أنس بن مالك اعترض عليه قائلا : صدق اللّٰه وكذب الحجّاج قال اللّٰه تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) (٣).

وبعد هذا يحق لنا أن نقول أنّ بكاء أنس بن مالك جاء لتلاعب أمثال الحجّاج بالصلاة والوضوء و ..

هذا ، ويمكننا الإشارة إلى حقيقة أخرى قد تكون خافية على البعض ، وهي : أنّ نهج الخلفاء ـ وكما عرفت ـ كان لا يرتضي الأخذ بفقه علي وابن عباس ، فنتساءل : لو صح هذا وكان فقه علي بن أبي طالب وابن عبّاس منهيّا عنه ، فكيف نقل عنهما مالك في موطّئه؟

إنّ اللّب السليم يحكم بأنّ ما نقله مالك صيغ ليكون موافقا لفقه الخلفاء ، إذ لم ينقل مالك الوجه الحقيقي لما يلتزمه على وابن عبّاس من الشرع ، وذلك يعني أنّ غالب ما نهت عنه الحكومة هو الفقه المستقل ، (أعني فقه التعبد المحض) ، لا ما أريد له أن يكون موافقا للفقه الاجتهادي السلطوي!! ، وإلّا فإنّ مالكا لم يكن ليجسر على تخطي أمر المنصور بعدم الأخذ عن علي وابن عباس.

وهكذا الحال بالنسبة إلى أمّهات المسانيد والصحاح الّتي أريد لها أن تكون كما هي عليه اليوم.

إذ لم يهتمّ ويعتنى بما يروى عن ابن عبّاس وأمثاله ممّا يؤيد مدرسة الاجتهاد

__________________

(١) حلية الأولياء ٤ : ٣٢٥.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢.

(٣) المصدر السابق.

٢١١

والرأي ، ولا يلتفت ويتأمّل في المنقول الثابت عن علي وابن عبّاس في هذه الأمّهات من المسانيد والصحاح.

ولما ذا لا يذكر مالك القول الآخر عن علي وابن عبّاس والموافق لمدرسة أهل البيت؟! إلا يعني هذا أنّ الخلافة تريد نقل فقه علي وابن عبّاس الموافق لفقه الشيخين وما يؤيد مذهب الخلفاء ، وترك المخالف لهم؟

وكيف يمكنك ترجيح احدى النسبتين إلى علي وابن عباس ، مع كل هذه الملابسات!.

وهل حقّا أنّهما نهيا عن المتعة أم سمحا بها؟

وما الّذي يصحّ عنهم في المسح على الخفين؟ هل أنّهما قالا : للمقيم يوم وللمسافر ثلاثا ، أم أنّهم نهوا عن المسح على الخفين عموما؟

وما هو المحفوظ عن علي وابن عبّاس في كتب الصحاح والسنن والفقه والتفسير؟ ـ هل هو المسح أم الغسل؟! بل بم يمكننا ترجيح أحد النسبتين إلى أمثال هؤلاء الصحابة ـ على فرض التكافؤ الإسنادي ـ بعد أن عرفنا ملابسات الأحكام؟

ولما ذا نرى وجود ما يوافق الخلفاء فقط ، في الموطأ وغيره وعدم وجود النقل الآخر فيه ـ أو وجوده وطرحه بشتى التقوّلات ـ؟ وما يعني هذا؟

كل هذه تشككنا في صحة نسبة النقل الحكومي عن علي وابن عبّاس ومن شابههما ، وخصوصا حينما عرفنا أن أئمّة نهج الاجتهاد والرأي لا يستسيغون المروي بواسطة أصحاب التّعبد ـ وعلى رأسهما علي وابن عبّاس ـ إلّا ما يوافق رغباتهم.

فعلى هذا لا يمكن الركون إلى ما يروى عن علي وابن عبّاس في الغسل ، لأنّه قد ثبت لدينا من جهة أخرى بأسانيد أصح أن مذهب أهل التعبد ـ هو روايتهم عن النبي في الوضوء ـ المسح لا الغسل.

فالعقل طبقا لما تقدّم لا يقبل أي نسبة أو أي رواية مروية إلى علي وابن عبّاس توافق نهج الخلفاء وخصوصا إذا عارضها منقول آخر عنهما في الصحاح والمسانيد ، لأن الأرجح في النقلين هو ما يخالف نظرة الخليفة دائما ، بل وحتى لو كان مرجوحا

٢١٢

سندا فإنه يبقى هو الأولى في مقام الأخذ ، وللأمور التالية (التي هي خلاصة لما تقدم) :

١ ـ استفادة النهج الحاكم من نقل ما يفيدهم.

٢ ـ تخالف المنقول في الموطأ وغيره مع روايات مدرسة أهل البيت أو التي توارثوها كابرا عن كابر.

٣ ـ إصرار نهج الاجتهاد والرأي على عدم الأخذ بفقه علي وابن عبّاس وفرض الحصار عليهم فقهيا وسياسيا ، وكلّ هذا يدعونا للقول بعدم صحة المنسوب في الصحاح والمسانيد إلى هؤلاء ، لتخالفه مع الفقه الثابت عنهم ، لما يؤيد ذلك من نقاط :

الأول : مخالفة الموجود مع الثابت عن أهل البيت عليهم‌السلام في مروياتهم.

الثاني : اتحاد أحد النقلين عن علي بن أبي طالب وابن عبّاس مع مرويات مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

الثالث : المحفوظ ـ فيما نحن فيه ـ عن علي بن أبي طالب وابن عبّاس في كتب الفقه والتفسير والحديث هو المسح على الأقدام وهو يوافق الثابت عنهم في مرويات أهل البيت عليهم‌السلام.

وبذلك يتأكد بأنّ مرويات الغسل منسوبة إليهما بخلاف المسح والذي رواه الفريقان عنه.

وتلخص مما مر أنّ نهج الاجتهاد والرأي كان يؤكّد على لزوم الأخذ بفقه أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وبقية «أولي الأمر»!! ، والمخالفة مع فقه على وابن عبّاس ومن نهج نهجهما وأن وجود مفردات تؤيد ما يذهب إليه هؤلاء المجتهدين عن أعيان الصحابة المتعبدين يدعونا للقول بأنّ الحكومتين الأموية والعباسية ومن قبلهما الصحابة الحاكمون من نهج الاجتهاد كان لهم أكبر الأثر في ترسيخ ما ذهب إليه هؤلاء ، وخصوصا حينما لم نر ما يوضح الوجه الآخر لفقه عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس في أصول القوم.

وعليه فنحن نرجّح أن تكون النسبة التي لا توافق الخلفاء في صحاح القوم هي الأقرب إلى فقه علي بن أبي طالب وابن عباس ، للعوامل التي قلناها ، ولوجودها في مدونات أهل البيت والتي توارثوها كابرا عن كابر ، وهذا الفهم والتحليل يوضح لنا

٢١٣

مقصود الإمام في قوله (خذوا بما خالف العامّة فإن الرشد في خلافهم).

ابن عبّاس والمرويات الوضوئية

اختلف النقل عن ابن عبّاس في الوضوء غسلا ومسحا أما الطرق الغسليّة إليه فتنتهي إلى تابعيين.

الأول : عطاء بن يسار الثاني : سعيد بن جبير ونحن قد أعللنا الطريق الأول منه بالانقطاع ، لكون زيد قد عنعن عن عطاء وهو ممن يدلّس ، والثاني بعدم ثبوت الطريق إلى سعيد بن جبير وعدم اعتماد الأعلام على هذا الطريق.

وأما الطرق المسحيّة فهي الأكثر عنه.

١ ـ إذ جاء عن الربيع بنت المعوذ ان ابن عبّاس اعترض عليها لروايتها الغسل في الرجلين ، وتأكيده. أنّه لا يجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح ، وإنّ حكاية الربيع اعتراض ابن عبّاس عليها ، لمحمد بن عبد اللّٰه بن عقيل هو اعتراف منها بعدم قبول الطالبيين نقلها للغسل عن رسول اللّٰه.

٢ ـ ما رواه جابر بن زيد عنه.

٣ ـ ما رواه عكرمة عنه ٤ ـ ما رواه يوسف بن مهران عنه وبما أنا قد فرغنا في الصفحات السابقة من بيان النكات السندية والدلالية فلا بد إذن من إيضاح المزيد مما يرجّح أحد النسبتين إليه ، فنقول :

ان الأخبار الغسليّة عن ابن عبّاس ـ حسب ما وضحناه سابقا ـ لا يمكنها أن تعارض الأخبار المسحيّة ـ بل هي مرجوحة بالنسبة إليها ـ لعدة جهات :

الأولى : كثرة الرواة عن ابن عبّاس في المسح وكون أغلب هؤلاء من تلاميذ ابن عبّاس والمدونين لحديثه بخلاف رواة الغسل ، الذين هم الأقل عددا وممن لم يختصوا به كرواة المسح عنه وهذا ما سنوضحه بعد قليل إن شاء اللّٰه تعالى

٢١٤

الثانية : وحدة النص المسحي عن ابن عبّاس وهو (الوضوء غسلتان ومسحتان) وبخلاف النصوص الغسليّة فهي مختلفة النص والمعنى ، فإن اتحاد النص المنقول بطرق متعددة كالمشاهد في الإسناد الأول المسحي عن ابن عباس ، ورواة ثلاثة من اعلام التابعين عنه ، كمعمر بن راشد ـ كما في اسناد مصنف عبد الرزاق ، ـ وروح بن القاسم ـ كما في إسناد ابن ماجة وابن أبي شيبة ، ـ وسفيان بن عيينة ـ كما في إسناد الحميدي والبيهقي ، لقرينة على صدور المسح عن ابن عبّاس لا محالة.

الثالثة : وجود قرائن كثيرة دالة على كون الغسل قد شرّع لاحقا لقول ابن عبّاس (أبي الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح) واعتراضه على الربيع بنت المعوذ ..

الرابعة : إن في كلام ابن عبّاس إشارة إلى حقائق كثيرة ، منها دلالة القرآن على المسح لقوله : (لا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح) ، وثانيا دلالة السنة عليه كذلك لاعتراضه على الربيع بنت المعوذ لما سمع حكايتها عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغسل ، وثالثا : استفادة ابن عبّاس من قاعدة الإلزام لإقناع من يعتقد بصحة استدلال هكذا أمور في التشريع ، لقوله لهم في خبر آخر (ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين).

ومجي‌ء هذه النصوص عنه تشير إلى أنّ ابن عبّاس كان يرى الغسل ظاهرة حكومية عمل بها الناس لاحقا وليس في القرآن والسنة النبوية ما يدل عليه.

الخامسة : إنّ المحفوظ عن ابن عبّاس في كتب الحديث والتفسير والفقه هو المسح ، وأما حكاية الغسل عنه فمختلف فيه ، وإن اعتبرنا صحّتها ـ تنزلا ـ فستكون شاذة بالنسبة إلى المحفوظ عنه من ذهابه إلى المسح.

السادسة : إنّ النصوص التي جاءت عن ابن عبّاس وابن عقيل وعليّ ابن أبي طالب وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي الباقر وجعفر بن محمّد الصادق لتؤكّد على أن مذهب الطالبيين كان المسح ، وقد أكدنا على أنّ علي بن الحسين لما أرسل عبد اللّٰه بن محمّد بن عقيل إلى الربيع كي يسألها عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعني بفعله الاستنكار لا الاستفهام.

فظاهرة الاستنكار على الوضوء الغسلي كانت ظاهرة في العصر الأوّل

٢١٥

الإسلامي ، ويرشدنا إلى ذلك ما فعله ابن عبّاس وابن عقيل مع الربيع ، وقد فهمت الربيع من ابن عقيل أنّه جاءها مستنكرا لا مستفهما إذ قالت له (وقد جاءني ابن عم لك) تريد بذلك ابن عبّاس.

وإنّ ابن عقيل بسؤاله إياها : (فبأي شي‌ء كان الإناء)؟ أراد إرشادها إلى سقم حكايتها إذ أنّ ما تنقله لا يتفق مع الثابت عن رسول ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ، وهو الآخر لا يتّفق مع غسل الأعضاء ثلاثا ، لأنّ تثليث الأعضاء يحتاج إلى أضعاف ما في المد من ماء ، وأنّ المدّ هو الذي يتفق مع غسل الأعضاء مرة أو مرتين وبعد ذلك فلا يبقى ماء كي تغسل به الرجلان ، ويتعين بذلك المسح فيه.

وبعبارة أخرى : إنّ ابن عقيل أراد أن ينقد كلامها عملا ويوضّح لها عدم تطابق ما تحكيه مع ما تفرضه في عدد الغسلات ، وغسل الممسوحات.

ويؤيد هذا ما حكاه ابن جريح عن عبد اللّٰه بن أبي يزيد عن ابن عبّاس قال : قال رجل : كم يكفيني من الوضوء؟

قال [ابن عباس] : مد قال : كم يكفيني للغسل؟

قال [ابن عباس] : صاع.

قال : فقال الرجل : لا يكفيني! قال : [ابن عباس] لا أم لك! قد كفى من هو خير منك رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وفي آخر عن ابن جريح عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : سأل رجل ابن عبّاس ما يكفى من الغسل؟ قال : صاع ، ومد للوضوء ، فقال رجل : ما يكفيني! قال : لا أم لك فيكفي من هو خير منك رسول اللّٰه. (٢)

ونحن لو أردنا التأكد من صحة ما توصلنا إليه فلا بد من الوقوف كذلك على مرويات ابن عبّاس الوضوئية الأخرى ومدى تطابق مروياته مع مرويات أهل بيت النبوة على نحو العموم وفقه علي بن أبي طالب على وجه الخصوص. فمثلا نرى عليا

__________________

(١) تفرد به الإمام أحمد في مسنده (٢٦٢٨) ورواه الطبراني (١١٢٥٨) وإسناده صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد والسنن ٣١ : ١٤١.

(٢) رواه الطبراني (١١٦٤٦) وإسناده صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد والسنن ٣١ : ٥٤٥.

٢١٦

وابن عبّاس وغيرهم من شخصيات أهل البيت يتّح‌دون في النقل عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه توضأ المرة والمرتين (١) ، وأما الثلاث فلا يرتضيانها وما جاء عنهما فهو المنسوب إليهما.

وكذا يتّح‌دون في نقل المضمضة والاستنشاق عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وقد صرح ابن عبّاس بأن القبلة غير ناقضة للوضوء (٣) مثل ما يذهب إليه أهل بيت النبوة (٤) خلافا لعمر بن الخطاب الذي كان يرى الوضوء فيها (٥).

وقوله بجواز الوضوء بما البحر (٦) ، وهو الموافق لما جاء عن أهل البيت عليهم‌السلام.

وروايته جواز المسح بالمنديل بعد الوضوء عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧) ، وهو الآخر الموافق لما جاء عن أهل بيت النبوة (٨) وفي المقابل لم نره يقول بما قاله البعض من أنّ مسّ الذكر ينقض الوضوء (٩) ، كما ذهب إلى ذلك مروان بن الحكم (١٠).

ولم ير ابن عبّاس نتف الإبط ناقضا للوضوء كما روي عن عمر بن الخطّاب وعبد اللّٰه بن عمرو بن العاص (١١).

__________________

(١) سنن النسائي ١ : ٦٢ ، سنن الترمذي ١ : ٣٠ ، ٣١ ، سنن الدارمي ١ : ١٧٧ ، سنن الدارقطني ١ : ٩٢ ، سنن أبي داود ١ : ٣٤ ، وفي وسائل الشيعة ١ : ٤٣٨ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٠ ، ١١ ، ٦ ، ٧ ، ٢١ ، ٢٦ ، و ١ : ٤٣٩ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٥ ، ١٦ ، ١٩ ، ٢٣ ، ٢٨.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٤٣٠ أبواب الوضوء ب ٢٩ ح ١ ، ٢ ، ٤ ، سنن الدار قطني ١ : ٨٥ ، ١٠١ ، سنن الترمذي ١ : ٢٢.

(٣) سنن الدار قطني ١ : ١٤٣ ، سنن أبي داود ١ : ٤٥.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٢٧٠ أبواب نواقض الوضوء ب ٩ ح ٢ ، ٣ ، ٦٢٥.

(٥) سنن الدار قطني ١ : ١٤٤.

(٦) سنن الدار قطني ١ : ١٤٤.

(٧) سنن الدارمي ١ : ١٨٠.

(٨) وسائل الشيعة ١ : ٤٧٣ أبواب الوضوء ب ٤٥ ح ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩.

(٩) انظر سنن النسائي ١ : ١٠٠ سنن الدارمي ١ : ١٨٤ ، سنن أبي داود ١ : ٤٦ وانظر وسائل الشيعة ١ : ٢٧١ أبواب نواقض الوضوء ب ٩ ح ٧ ـ ٨.

(١٠) سنن النسائي ١ : ١٠٠ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٤ ، سنن أبي داود ١ : ٤٦.

(١١) سنن النسائي ١ : ١٠٥ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٥ ، سنن الترمذي ١ : ٥٢.

٢١٧

كما أنّه لم يذهب إلى الوضوء مما مسته النار (١) ومن أكل لحوم الإبل (٢) ، بل كان يرى الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل (٣) حيث روى عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه أكل كتف شاة ثمّ صلى ولم يتوضأ (٤) ، وفي آخر : انتهش من كتف ثمّ صلّى ولم يتوضأ (٥).

وكان ابن عبّاس يرى جواز استعمال الرجل فضل وضوء المرأة (٦) وهو الموافق لمذهب أهل بيت الرسالة.

وكان لا يقول بأنّ النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء (٧).

ولم يرد عنه كراهة ردّ السلام لغير المتوضّي (٨) ، وو كان لا يرى مسح الرأس مقبلا ومدبرا (٩) ، ولا الوضوء بالثلج (١٠) ولا رواية «إنّك لا تدري أين باتت يدك» ولا الوضوء من الدم (١١) إلى غير ذلك.

نعم جاءت عنه روايات في المسح على الخفين والتوقيت فيه وغسل الأرجل ، ومسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما وقد وضحنا حال الأولين منها ، وأما حديث مسح الأذنين (١٢) فهو الآخر باطل بالنسبة إليه لوجوه.

أولها : انها تماثل وضوء الربيع بنت المعوذ ، الذي لم يفعله ابن عبّاس نفسه بل اعترض عليه.

__________________

(١) المصادر السابقة ، وانظر جامع المسانيد والسنن لابن كثير ٣١ : ٤٥١ ، ٤٩١ و ٣٢ : ١٢٨ ، ٤٣٧ ، ٣٤١ ، ٥٢٦.

(٢) انظر سنن أبي داود ١ : ٤٧.

(٣) سنن الدار قطني ١ : ١٥١.

(٤) سنن أبي داود ١ : ٤٨ ح ١٨٧.

(٥) سنن أبي داود ١ : ٤٩ ح ١٩٠.

(٦) سنن الدار قطني ١ : ٥٢ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٧ ، سنن الترمذي ١ : ٤٣.

(٧) انظر سنن الدار قطني ١ : ٧٠ ـ ٧٦ وفيه ان هذا القول هو من قول عكرمة ، سنن أبي داود ١ : ٢١.

(٨) انظر سنن الترمذي ١ : ٦١.

(٩) انظر سنن الترمذي ١ : ٢٥.

(١٠) انظر سنن النسائي ١ : ٥٠.

(١١) انظر سنن أبي داود ١ : ٥٠.

(١٢) سنن الترمذي ١ : ٢٧.

٢١٨

ثانيها : عدم اشتهار هذا الأمر عنه.

ثالثها : الإسناد هو عبد اللّٰه بن إدريس عن محمّد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء عن ابن عباس ، وقد تقدم كلامنا عنه سابقا.

وبهذا فقد اتضح لنا ان عبد اللّٰه بن عبّاس يتحد مع علي وأهل بيته في التكثير من المسائل ويخالف النهج الفقهي الحاكم في مسائل كثيرة أخرى.

المدونون وأخبار الوضوء عن ابن عبّاس

سبق منا القول في انقسام المسلمين بعد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى نهجين أحدهما : يدعو إلى تدوين الحديث ، والآخر لا يرتضي ذلك.

وقد أثبتنا أنّ المعترضين على الخليفة عمر بن الخطّاب كانوا من أهل التدوين والتحديث عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم اعترضوا عليه لمخالفة أقواله مع ما ثبت عندهم في المدونات عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن أجل هذه الأمور قال الخليفة لهم (ائتوني بكتبكم) فلما أتوه بها أمر بحرقها ، وأمر بحبس الصحابة لإشاعتهم الحديث ، لقوله (انكم أكثرتم الحديث عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفي آخر (أفشيتم الحديث عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهذه المضادة من قبل النهجين هي التي جعلت لكلّ منهما أنصارا ، فالبعض ينتصر للخليفة. والآخر لسنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغالب أصحاب التدوين كانوا من الشق الثاني.

وقد مرّ عليك عن ابن عبّاس أنه من نهج التحديث والتدوين ومن المعارضين لاجتهادات الشيخين المعارضة للكتاب والسنة النبوية ، فثبت عنه قوله (أراهم سيهلكون ، أقول قال رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون قال : أبو بكر وعمر).

وأنت لو تدبرت في كلام عثمان بن عفّان لعرفت بأن جلّ المعارضين له في الوضوء كانوا من أصحاب التدوين والتحديث لقوله (إنّ ناسا يتحدثون عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث لا أدري ما هي ..) فالخليفة عبّر عن معارضيه بـ (ناسا) ممّا يرشدنا إلى أن الامتداد المعارض له كبير وأنه يمثل شريحة اجتماعية مهمة ،

٢١٩

هذا ، ونحن لو أردنا تطبيق ما قلناه عن النهجين سابقا على ما نحن فيه لأمكننا القول بأنّ أغلب رجال الأسانيد المسحيّ عن ابن عبّاس هم من أصحاب المدونات ، بعكس رجال الأسانيد الغسليّة فلم يكونوا كذلك ، وهذه الحقيقة ترشدنا إلى أن المدونين رغم كل الضغوط المفروضة وعوامل التحريف قد حافظوا على مدوناتهم ، وهذا القول منا لا يعني بأنا نعتقد بوجود جميع ما قاله الرسول في الصحاح والسنن ، بل في اعتقادنا أنّ ظاهرة منع تدوين الحديث قد ضيع الكثير من حديث رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصحاح والسنن ، وروّج الوضع والتحريف فيه الحديث ، وهذا مما يجب علينا توضيحه وبيانه.

فنحن لو طالعنا أسماء رواة الغسل والمسح لعرفنا أنّ غالب رواه المسح ـ وفي كل الطبقات ـ هم من أصحاب المدونات ، بخلاف رواة الغسل ، فالمدونون منهم قلة قليلة وقد دونوا بعد فتحه من قبل عمر بن عبد العزيز ، فإليك رواة الوضوء عن ابن عبّاس غسلا ومسحا.

رواة الغسل عن ابن عبّاس

الإسناد الأول

البخاري : حدثنا محمّد بن عبد الرحيم ، قال : أخبرنا أبو سلمة الخزاعي (منصور بن سلمة) ، قال ابن بلال ـ يعني سليمان ـ عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس.

الإسناد الثاني

أبو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا محمّد بن بشر ، حدثنا هشام بن سعد ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ..

الإسناد الثالث

النسائي : أخبرنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا عبد اللّٰه بن إدريس ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ..

٢٢٠