شرح ابن عقيل - ج ٢

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

وأشار بقوله : «وما لمعرفة أضيف ـ إلخ» إلى أن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة ، وقصد به التفضيل ، جاز فيه وجهان ؛ أحدهما : استعماله كالمجرد فلا يطابق ما قبله ؛ فتقول : «الزيدان أفضل القوم ، والزيدون أفضل القوم ، وهند أفضل النساء ، والهندان أفضل النساء ، والهندات أفضل النساء» والثانى : استعماله كالمقرون بالألف واللام ؛ فتجب مطابقته لما قبله ؛ فتقول : «الزيدان أفضلا القوم ، والزيدون أفضلو القوم ، وأفاضل القوم ، وهند فضلى النساء ، والهندان فضليا النساء ، والهندات فضّل النساء ، أو فضليات النساء» ، ولا يتعين الاستعمال الأول ، خلافا لابن السراج ، وقد ورد الاستعمالان فى القرآن ؛ فمن استعماله غير مطابق قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) ومن استعماله مطابقا قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) وقد اجتمع الاستعمالان فى قوله صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بأحبّكم إلىّ ، وأقربكم منّى منازل يوم القيامة : أحاسنكم أخلاقا ، الموطّئون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلفون».

والذين أجازوا الوجهين قالوا : الأفصح المطابقة ، ولهذا عيب على صاحب الفصيح (١) فى قوله «فاخترنا أفصحهنّ» قالوا : فكان ينبغى أن يأتى بالفصحى فيقول : «فصحاهنّ».

فإن لم يقصد التفضيل تعيّنت المطابقة ، كقولهم : «النّاقص والأشجّ أعدلا بنى مروان» أى : عادلا بنى مروان.

وإلى ما ذكرناه من قصد التفضيل وعدم قصده أشار المصنف بقوله : «هذا إذا نويت معنى من ـ البيت» أى : جواز الوجهين ـ أعنى المطابقة وعدمها ـ

__________________

(١) هو أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، النحوى الكوفى ، وله رسالة صغيرة اشتهرت باسم «فصيح ثعلب».

١٨١

مشروط بما إذا نوى بالإضافة معنى «من» أى : إذا نوى التفضيل ، وأما إذا لم ينو ذلك فيلزم أن يكون طبق ما اقترن به.

قيل : ومن استعمال صيغة أفعل لغير التفضيل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وقوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) أى : وهو هيّن عليه ، وربكم عالم بكم ، وقول الشاعر :

وإن مدّت الأيدى إلى الزّاد لم أكن

بأعجلهم ؛ إذ أجشع القوم أعجل [٧٧](١)

أى : لم أكن بعجلهم ، وقوله :

(٢٨١) ـ

إنّ الّذى سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

__________________

(١) تقدم شرح هذا البيت فى باب النواسخ ، وهو الشاهد رقم ٧٧ ، فانظره هناك فى مباحث زيادة الباء فى خبر الناسخ النافى ، والشاهد فيه هنا قوله «بأعجلهم» فإنه فى الظاهر أفعل تفضيل ، ولكن معناه معنى الوصف الخالى من التفضيل ؛ لأن ذلك ، هو الذى يقتضيه مدح الشاعر نفسه ؛ إذ لو بقى على ظاهره لكان المعنى أنه ينفى عن نفسه أن يكون أسرع الناس إلى الطعام ، وذلك لا ينافى أن يكون سريعا إليه ، وهذا ذم لا مدح.

٢٨١ ـ هذا البيت مطلع قصيدة للفرزدق ، بفتخر فيها على جرير بن عطية بن الخطفى ويهجوه.

اللغة : «سمك» يستعمل فعلا متعديا بمعنى رفع ، ومصدره السمك ، ويستعمل لازما بمعنى ارتفع ، ومصدره السموك «البيت» أراد به بيت المجد والشرف «دعائمه» الدعائم : جمع دعامة ـ بكسر الدال المهملة ـ وهى فى الأصل ما يسد به الحائط إذا مال ليمنعه السقوط.

الإعراب : «إن» حرف توكيد ونصب «الذى» اسم إن ، وجملة «سمك السماء» من الفعل وفاعله المستتر فيه العائد على الاسم الموصول ومفعوله لا محل لها صلة الموصول الواقع اسما لإن ، وجملة «بنى لنا» من الفعل وفاعله المستتر فيه العائد على اسم إن فى

١٨٢

أى : [دعائمه] عزيزة طويلة ، وهل ينقاس ذلك أم لا؟ قال المبرد : ينقاس ، وقال غيره : لا ينقاس ، وهو الصحيح ، وذكر صاحب الواضح أن النحويين لا يرون ذلك ، وأن أبا عبيدة قال فى قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) إنه بمعنى هيّن ، وفى بيت الفرزدق ـ وهو الثانى ـ إن المعنى عزيزة طويلة ، وإن النحويين ردّوا على أبى عبيدة ذلك ، وقالوا : لا حجة فى ذلك [له].

* * *

وإن تكن بتلو «من» مستفهما

فلهما كن أبدا مقدّما (١)

كمثل «ممّن أنت خير»؟ ولدى

إخبار التّقديم نزرا وردا (٢)

__________________

محل رفع خبر إن «بيتا» مفعول به لبنى ، وجملة «دعائمه أعز» من المبتدأ والخبر فى محل نصب صفة لقوله «بيتا» وقوله «وأطول» معطوف على قوله «أعز».

الشاهد فيه : قوله «أعز وأطول» حيث استعمل صيغتى التفضيل فى غير التفضيل ؛ لأنه لا يعترف بأن لجرير بيتا دعائمه عزيزة طويلة حتى تكون دعائم بيته أكثر عزة وأشد طولا ، ولو بقى «أعز وأطول» على معنى التفضيل لتضمن اعترافه بذلك.

(١) «وإن» شرطية «تكن» فعل مضارع ناقص ، فعل الشرط ، واسمه ضمير المخاطب المستتر فيه وجوبا «بتلو» جار ومجرور متعلق بقوله «مستفهما» الآتى ، وتلو مضاف و «من» قصد لفظه : مضاف إليه «مستفهما» خبر «تكن» «فلهما» الفاء لربط الشرط بالجواب ، والجار والمجرور متعلق بقوله «مقدما» الآتى «كن» فعل أمر ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «أبدا» منصوب على الظرفية متعلق بقوله «مقدما» الآتى «مقدما» خبر كن ، والجملة من كن واسمه وخبره فى محل جزم جواب الشرط.

(٢) «كمثل» الكاف زائدة ، مثل : خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وذلك مثل «ممن» جار ومجرور متعلق بقوله «خير» الآتى «أنت» مبتدأ «خير» خبر المبتدأ ، والجملة فى محل جر بإضافة مثل إليها «ولدى» ظرف متعلق بقوله «ورد»

١٨٣

تقدّم أن أفعل التفضيل إذا كان مجردا جىء بعده «بمن» جارة للمفضّل عليه ، نحو «زيد أفضل من عمرو» ، و «من» ومجرورها معه بمنزلة المضاف إليه من المضاف ؛ فلا يجوز تقديمهما عليه ، كما لا يجوز تقديم المضاف إليه على المضاف ، إلا إذا كان المجرور بها اسم استفهام ، أو مضافا إلى اسم استفهام ؛ فإنه يجب ـ حينئذ ـ تقديم «من» ومجرورها نحو «ممّن أنت خير؟ ومن أيّهم أنت أفضل؟ ومن غلام أيّهم أنت أفضل؟» وقد ورد التقديم شذوذا فى غير الاستفهام ، وإليه أشار بقوله «ولدى إخبار التقديم نزرا وردا» ومن ذلك قوله :

(٢٨٢) ـ

فقالت لنا : أهلا وسهلا ، وزوّدت

جنى النّحل ، بل ما زوّدت منه أطيب

__________________

الآتى ، ولدى مضاف و «إخبار» مضاف إليه «التقديم» مبتدأ «نزرا» حال من الضمير المستتر فى قوله «ورد» الآتى «ورد» ورد : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى التقديم ، والألف للاطلاق ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ الذى هو قوله التقديم.

٢٨٢ ـ البيت للفرزدق ، من أبيات يقولها فى امرأة من بنى ذهل بن ثعلبة قرته وحملته وزودته ، وكان قد نزل من قبل بامرأة ضبية فلم تقره ولم تحمله ولم تزوده.

اللغة : «أهلا ، وسهلا» كلمتان تقولهما العرب فى تحية الأضياف والحفاوة بهم «جنى النحل» ما يجنى منه وهو العسل ، وكنى بذلك عن حسن لقائها وطيب استقبالها وحلاوة حديثها.

الإعراب : «فقالت» قال : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى «لنا» جار ومجرور متعلق بقال «أهلا وسهلا» منصوبان بفعل محذوف ، والأصل الأصيل فيهما أنهما وصفان لموصوفين محذوفين : أى أتيتم فوما أهلا ونزلتم موضعا سهلا «وزودت» الواو عاطفة ، زود : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه ، والتاء للتأنيث «جنى» مفعول به لزود ، وجنى مضاف و «النحل» مضاف إليه «بل»

١٨٤

والتقدير : بل ما زوّدت أطيب منه ؛ وقول ذى الرّمّة يصف نسوة بالسمن والكسل :

(٢٨٣) ـ

ولا عيب فيها غير أنّ سريعها

قطوف ؛ وأن لا شىء منهنّ أكسل

__________________

حرف للاضراب الإبطالى «ما» اسم موصول : مبتدأ ، وجملة «زودت» وفاعله المستتر فيه لا محل لها صلة ، والعائد محذوف ، أى زودته «منه» جار ومجرور متعلق بقوله «أطيب» الآتى «أطيب» خبر المبتدأ.

الشاهد فيه : قوله «منه أطيب» حيث قدم الجار والمجرور المتعلقين بأفعل التفضيل عليه ، وليس المجرور اسم استفهام ولا مضافا إلى اسم استفهام ، وذلك التقديم شاذ فى غير الاستفهام ، وقد جعل جماعة من النحاة قوله «منه» متعلقا بقوله «زودت» أى : بل الذى زودت منه ، أى : من شبيه جنى النحل ، وعلى ذلك لا شاهد فى البيت ، ويكون قد جاء على المشهور الفصيح.

ومثل بيت الشاهد قول ابن دربد فى مقصورنه :

واستنزل الزّبّاء قسرا وهى من

عقاب لوح الجوّ أعلى منتمى

فقوله : «من عقاب» متعلق بأعلى ، وقد تقدم عليه ، وليس الكلام استفهاما ، بل هو خبر كما يظهر بأدنى تأمل.

٢٨٣ ـ هذا البيت لذى الرمة ؛ من كلمة له مطلعها :

أللرّبع ظلّت عينك الماء تهمل

رشاشا كما استنّ الجمان المفصّل؟

اللغة : «تهمل» تسكب «استن» تبدد ، وتفرق «الجمان» جمع جمانة ـ بضم الجيم ـ وهى حبة من الفضة كالدرة «قطوف» بفتح القاف ـ بطىء ، متقارب الخطو.

المعنى : يصف نساء بالسمن والعبالة ، وكنى عن ذلك بأنهن بطيئات السير كسالى ، فهو يقول : إنه لا عيب فى هؤلاء النساء إلا أن أسرعهن شديدة البطء متكاسلة ، وهذا مما يسميه البلغاء تأكيد المدح بما يشبه الذم ، والعرب تمدح النساء بذلك ؛ لأن هذا عندهم يدل على اليسار والنعمة وعدم الامتهان فى العمل.

الإعراب : «ولا» نافية للجنس «عيب» اسم لا «فيهن» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا ، أو متعلق بمحذوف صفة لعيب ، أو متعلق بعيب ، وعلى هذين

١٨٥

[التقدير : وأن لا شىء أكسل منهن] ، وقوله :

(٢٨٤) ـ

إذا سايرت أسماء يوما ظعينة

فأسماء من تلك الظّعينة أملح

التقدير : فأسماء أملح من تلك الظعينة.

* * *

__________________

الوجهين يكون خبر لا محذوفا ، وهذا متعين على لغة طيىء «غير» أداة استثناء «أن» حرف توكيد ونصب «سريعها» سريع : اسم أن ، وسريع مضاف وها مضاف إليه «قطوف» خبر أن «وأن» الواو عاطفة ، أن : مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف «لا شىء» لا : نافية للجنس ، وشىء : اسم لا «منهن» جار ومجرور متعلق بقوله أكسل الآتى «أكسل» خبر لا ، والجملة من «لا» واسمها وخبرها فى محل رفع خبر «أن» المخففة من الثقيلة.

الشاهد فيه : قوله «منهن أكسل» حيث قدم الجار والمجرور المتعلق بأفعل التفضيل عليه ، مع كون المحرور ليس استفهاما ولا مضافا إلى الاستفهام ، وذلك شاذ ، وتقدم مثله.

٢٨٤ ـ هذا البيت لجرير بن عطية ، من كلمة له مطلعها :

أجدّ رواح البين أم لا تروّح؟

نعم كلّ من يعنى بجمل مبرّح

اللغة : «سايرت» جارت ، وباهت «يوما» المراد به مجرد الوقت ، نهارا كان ذلك أم ليلا «ظعينة» أصله الهودج تكون فيه المرأة ، ثم نقل إلى المرأة فى الهودج بعلاقة الحالية والمحلية ، ثم توسعوا فيه فأطلقوه على المرأة مطلقا : راكبة ، أو غير راكبة ، ويروى بيت الشاهد هكذا :

إذا سايرت أسماء يوما ظعائنا

فأسماء من تلك الظّعائن أملح

المعنى : يقول : إن أسماء فى غاية الملاحة وتمام الحسن ، ولو أنها باهت بجمالها امرأة أخرى فى وقت أى وقت لبدا تفوقها عليها ، وظهر أنها خير منها ملاحة وأعظم جمالا.

١٨٦

ورفعه الظّاهر نزر ، ومتى

عاقب فعلا فكثيرا ثبتا (١)

كلن ترى فى النّاس من رفيق

أولى به الفضل من الصّدّيق (٢)

لا يخلو أفعل التفضيل من أن يصلح لوقوع فعل بمعناه موقعه ، أولا.

فإن لم يصلح لوقوع فعل بمعناه موقعه لم يرفع ظاهرا ، وإنما يرفع ضميرا مستترا ، نحو : «زيد أفضل من عمرو» ففى «أفضل» ضمير مستتر عائد على

__________________

الإعراب : «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «سايرت» ساير : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «أسماء» فاعل سايرت ، والجملة فى محل جر بإضافة «إذا» إليها «يوما» ظرف متعلق بسايرت «ظعينة» مفعول به لسايرت «فأسماء» الفاء واقعة فى جواب إذا ، أسماء : مبتدأ «من تلك» جار ومجرور متعلق بقوله «أملح» الآتى «الظعينة» بدل من اسم الإشارة ، أو عطف بيان عليه ، أو نعت له «أملح» خبر المبتدأ.

الشاهد فيه : قوله «من تلك ... املح» حيث قدم الجار والمجرور ـ وهو قوله «من تلك» ـ على أفعل التفضيل ـ وهو قوله «أملح» ـ فى غير الاستفهام ، وذلك شاذ ، وقد مضى مثله.

(١) «ورفعه» رفع : مبتدأ ، ورفع مضاف والضمير مضاف إليه من إضافة المصدر إلى فاعله «الظاهر» مفعول المصدر «نزر» خبر المبتدأ «ومتى» اسم شرط ، وهو ظرف متعلق بقوله عاقب الآتى «عاقب» فعل ماض فعل الشرط ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى أفعل التفضيل «فعلا» مفعول به لعاقب «فكثيرا» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، كثيرا : حال من الضمير المستتر فى قوله «ثبت» الآتى «ثبتا» فعل ماض ، والألف للاطلاق ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى رفعه الظاهر ، والجملة فى محل جزم جواب الشرط.

(٢) «كلن» الكاف جارة لقول محذوف ، كما سبق مرارا ، لن : حرف نفى ونصب «ترى» فعل مضارع منصوب تقديرا بلن ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «فى الناس» جار ومجرور متعلق بترى «من» زائدة «رفيق» مفعول به لترى «أولى» اسم تفضيل ، نعت لرفيق «به» جار ومجرور متعلق بأولى «الفضل» فاعل أولى «من الصديق» جار ومجرور متعلق بأولى.

١٨٧

«زيد» ؛ فلا تقول : «مررت برجل أفضل منه أبوه» فترفع «أبوه» بـ «أفضل» إلا فى لغة ضعيفة حكاها سيبويه.

فإن صلح لوقوع فعل بمعناه موقعه صحّ أن يرفع ظاهرا قياسا مطردا ، وذلك فى كل موضع وقع فيه أفعل بعد نفى أو شبهه ، وكان مرفوعه أجنبيّا ، مفضّلا على نفسه باعتبارين ، نحو : «ما رأيت رجلا أحسن فى عينه الكحل منه فى عين زيد» فـ «الكحل» : مرفوع بـ «أحسن» لصحة وقوع فعل بمعناه موقعه ، نحو : «ما رأيت رجلا يحسن فى عينه الكحل كزيد» ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : «ما من أيّام أحبّ إلى الله فيها الصّوم منه فى عشر ذى الحجة» وقول الشاعر ، أنشده سيبويه :

(٢٨٥) ـ

مررت على وادى السّباع ، ولا أرى

كوادى السّباع ـ حين يظلم ـ واديا

__________________

٢٨٥ ـ البيتان لسحيم بن وثيل الرياحى.

اللغة : «وادى السباع» اسم موضع بطريق البصرة ، وهو الذى قتل فيه الزبير ابن العوام رضى الله عنه «تئية» ـ بفتح التاء المثناة ، وكسر الهمزة بعدها ، وتشديد الياء ـ مصدر تأيا بالمكان ، أى : توقف وتمكث وتأنى وتمهل «ساريا» اسم فاعل من سرى : أى سار فى الليل.

المعنى : يقول : مررت على وادى السباع ؛ فإذا هو واد قد أقبل ظلامه ، واشتد حندسه ، فلا تضاهيه أودية ، ولا تماثله فى تمهل من يرده من الركبان ، ولا فى ذعر المسافرين أو خوف القادمين عليه ، فى أى وقت ، إلا فى الوقت الذى يقى الله فيه السارين ويؤمن فزعهم ، ويهدىء روعهم.

الإعراب : «مررت» فعل وفاعل «على وادى» جار ومجرور متعلق بمررت ، ووادى مضاف و «السباع» مضاف إليه «ولا» الواو واو الحال ، لا : نافية «أرى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «كوادى» جار ومجرور متعلق

١٨٨

أقلّ به ركب أتوه تثيّة

وأخوف ـ إلّا ما وقى الله ـ ساريا

فـ «ركب» مرفوع بـ «أقلّ» ؛ فقول المصنف «ورفعه الظاهر نزر» إشارة إلى الحالة الأولى ، وقوله «ومتى عاقب فعلا» إشارة إلى الحالة الثانية.

* * *

__________________

بمحذوف يقع مفعولا ثانيا لأرى إذا قدرتها علمية ، ويقع حالا من قوله : «واديا» الآتى إذا قدرت رأى بصرية ، ووادى مضاف و «السباع» مضاف إليه «حين» ظرف متعلق بمحذوف حال أخرى من «واديا» الآتى ، وجملة «يظلم» مع فاعله المستتر فيه فى محل جر بإضافة «حين» إليها «واديا» مفعول أول مؤخر عن المفعول الثانى «أقل» نعت لقوله واديا ، وهو أفعل تفضيل «به» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من «ركب» الآتى «ركب» فاعل لأقل ، وجملة «أتوه» من الفعل والفاعل والمفعول فى محل رفع صفة لركب «تئية» تمييز لأفعل التفضيل «وأخوف» معطوف على «أقل» وقوله «إلا» أداة استثناء ملغاة «ما» مصدرية ظرفية «وقى» فعل ماض «الله» فاعل وقى «ساريا» قيل : هو مفعول به لوقى ، وأحسن من هذا أن يكون تمييزا لأفعل التفضيل الذى هو أخوف.

الشاهد فيه : قوله «أقل به ركب» حيث رفع أفعل التفضيل اسما ظاهرا.

١٨٩

(التوابع)

النعت

يتبع فى الإعراب الأسماء الأول

نعت ، وتوكيد ، وعطف ، وبدل (١)

التابع هو : الاسم المشارك لما قبله فى إعرابه مطلقا ؛ فيدخل فى قولك : «الاسم المشارك لما قبله فى إعرابه» سائر التوابع ، وخبر المبتدأ ، نحو : «زيد قائم» ؛ وحال المنصوب ، نحو : «ضربت زيدا مجرّدا» ويخرج بقولك «مطلقا» الخبر وحال المنصوب ؛ فإنهما لا يشاركان ما قبلهما فى إعرابه مطلقا ، بل فى بعض أحواله ، بحلاف التابع ؛ فإنه يشارك ما قبله فى سائر أحواله من الإعراب ، نحو : «مررت بزيد الكريم ، ورأيت زيدا الكريم ، وجاء زيد الكريم».

__________________

(١) «يتبع» فعل مضارع «فى الإعراب» جار ومجرور متعلق بيتبع «الأسماء» مفعول به ليتبع «الأول» نعت للأسماء «نعت» فاعل يتبع «وعطف ، وتوكيد ، وبدل» معطوفات على نعت.

واعلم أن الأسماء وحدها تجرى فيها جميع التوابع ، فلذلك خصها بالذكر ، فلا يقدح فى كلامه أن التوكيد اللفظى والبدل وعطف النسق تجرى فى غير الأسماء ، إذ المراد أن هذه الأنواع كلها لا تجرى فى غير الأسماء ، وذلك لا ينافى أن بعضها يجرى فى غير الأسماء.

ثم اعلم أن قوله «الأول» إشارة إلى أن المتبوع من حيث هو متبوع لا يجوز أن يتأخر عن تابعه ، ومن أجل هذا امتنع فى الفصيح تقديم المعطوف على المعطوف عليه ، خلافا للكوفيين ، كما امتنع تقديم بعض النعت على المنعوت إذا كان النعت متعددا ، خلافا لصاحب البديع.

١٩٠

والتابع على خمسة أنواع : النعت ، والتوكيد ، وعطف البيان ، وعطف النسق ، والبدل.

* * *

فالنّعت تابع متمّ ما سبق

بوسمه أو وسم ما به اعتلق (١)

عرّف النعت بأنه «التابع ، المكمّل متبوعه : ببيان صفة من صفاته» نحو «مررت برجل كريم» ، أو من صفات ما تعلق به ـ وهو سببيّه ـ نحو «مررت برجل كريم أبوه» فقوله «التابع» يشمل التوابع كلّها ، وقوله : «المكمل ـ إلى آخره» مخرج لما عدا النعت من التوابع (٢).

والنعت يكون للتخصيص ، نحو «مررت بزيد الخياط» وللمدح ، نحو : «مررت بزيد الكريم» ومنه قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وللذمّ ، نحو «مررت بزيد الفاسق» ومنه قوله [تعالى] : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ

__________________

(١) «فالنعت» مبتدأ «تابع» خبر المبتدأ «متم» نعت لتابع ، وفيه ضمير مستتر فاعل «ما» اسم موصول : مفعول به لمتم ، وجملة «سبق» وفاعله المستتر فيه لا محل لها صلة الموصول «بوسمه» بوسم : جار ومجرور متعلق بمتم ؛ ووسم مضاف وضمير الغائب مضاف إليه ، «أو وسم» معطوف على وسمه ، ووسم مضاف و «ما» اسم موصول : مضاف إليه «به» جار ومجرور متعلق باعتلق «اعتلق» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه ، والجملة لا محل لها صلة الموصول.

(٢) إنما خرج بقية التوابع بهذه العبارة لأنه ليس شىء منها يدل على صفة المتبوع أو صفة ما تعلق بالمتبوع ، ولهذا وجب فى النعت أن يكون مشتقا ليدل على الذات وعلى المعنى القائم بها.

فإن قلت : فقد يكون عطف البيان والبدل مشتقين ، فالجواب أنهما ـ وإن جاز ذلك فيهما ـ لا يقصد بهما التكميل بإيضاح المتبوع أو تخصيصه وضعا.

١٩١

مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) وللترحّم نحو : «مررت بزيد المسكين» وللتأكيد ، نحو : «أمس الدابر لا يعود» وقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)(١).

* * *

وليعط فى التّعريف والتّنكير ما

لما تلا ، كـ «امرر بقوم كرما» (٢)

النعت يجب فيه أن يتبع ما قبله فى إعرابه ، وتعريفه أو تنكيره ، نحو : «مررت بقوم كرماء ، ومررت بزيد الكريم» فلا تنعت المعرفة بالنكرة ؛ فلا تقول : «مررت بزيد كريم» ، ولا تنعت النكرة بالمعرفة ؛ فلا تقول : «مررت برجل الكريم».

* * *

__________________

(١) إنما كان قوله : (واحدة) تأكيدا لأن الواحدة مفهومة من (نفخة) بسبب تحويل المصدر الذى هو النفخ إلى زنة المرة ؛ لأن (نفخة) ليس من المصادر التى وضعت مقترنة بالتاء كرحمة.

(٢) «وليعط» الواو عاطفة أو للاستئناف ، واللام لام الأمر ، يعط : فعل مضارع مبنى للمجهول مجزوم بحذف الألف ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه ، وهو المفعول الأول «فى التعريف» جار ومجرور متعلق بيعط «والتنكير» معطوف على التعريف «ما» اسم موصول : مفعول ثان ليعط «لما» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة ما الواقع مفعولا ، وجملة «تلا» وفاعله المستتر فيه لا محل لها صلة ما المجرورة محلا باللام «كامرر» الكاف جارة لقول محذوف ، امرر : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بقوم» جار ومجرور متعلق بامرر «كرما» صفة لقوم ، وقد قصره للضرورة.

١٩٢

وهو لدى التّوحيد ، والتّذكير ، أو

سواهما ـ كالفعل ، فاقف ماقفوا (١)

تقدّم أن النعت لا بد من مطابقته للمنعوت فى الإعراب ، والتعريف أو التنكير ، وأما مطابقته للمنعوت فى التوحيد وغيره ـ وهى : التثنية ، والجمع ـ والتذكير وغيره ـ وهو التأنيث ـ فحكمه فيها حكم الفعل.

فإن رفع ضميرا مستترا طابق المنعوت مطلقا ، نحو : «زيد رجل حسن ، والزيدان رجلان حسنان ، والزيدون رجال حسنون ، وهند امرأة حسنة ، والهندان امرأتان حسنتان ، والهندات نساء حسنات» ؛ فيطابق فى : التذكير ، والتأنيث ، والإفراد ، والتثنية ، والجمع ، كما يطابق الفعل لو [جئت مكان النعت بفعل ف] قلت : «رجل حسن ، ورجلان حسنا ، ورجال حسنوا ، وامرأة حسنت ، وامرأتان حسنتا ، ونساء حسنّ».

وإن رفع [أى النعت اسما] ظاهرا كان بالنسبة إلى التذكير والتأنيث على حسب ذلك الظاهر ، وأما فى التثنية والجمع فيكون مفردا ؛ فيجرى مجرى الفعل إذا رفع ظاهرا ؛ فتقول : «مررت برجل حسنة أمّه» ، كما تقول : «حسنت أمّه» ، و «بامرأتين حسن أبواهما ، وبرجال حسن آباؤهم» ، كما تقول : «حسن أبواهما ، وحسن آباؤهم».

__________________

(١) «وهو» ضمير منفصل مبتدأ «لدى» ظرف متعلق بما يتعلق به الخبر الآتى ويجوز أن يتعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن فى الخبر ، ولدى مضاف و «التوحيد» مضاف إليه «والتذكير» معطوف على التوحيد «أو» عاطفة «سواهما» سوى : معطوف على التذكير ، وسوى مضاف والضمير مضاف إليه «كالفعل» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ «فاقف» فعل أمر مبنى على حذف حرف العلة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ما» اسم موصول : مفعول به لاقف ، وجملة «قفوا» من الفعل والفاعل لا محل لها صلة ما الموصولة الواقعة مفعولا ، والعائد ضمير منصوب المحل محذوف ، والتقدير : فاقف ماقفوه.

١٩٣

فالحاصل أن النعت إذا رفع ضميره طابق المنعوت فى أربعة من عشرة (١) : واحد من ألقاب الإعراب ـ وهى : الرفع ، والنصب ، والجر ـ وواحد من التعريف والتنكير ، وواحد من التذكير والتأنيث ، وواحد من الإفراد والتثنية والجمع.

وإذا رفع ظاهرا طابقه فى اثنين من خمسة : واحد من ألقاب الإعراب ، وواحد من التعريف والتنكير ، وأما الخمسة الباقية ـ وهى : التذكير ، والتأنيث ، والإفراد ، والتثنية ، والجمع ـ فحكمه فيها حكم الفعل إذا رفع ظاهرا : فإن أسند إلى مؤنث أنث ، وإن كان المنعوت مذكرا ، وإن أسند إلى مذكر ذكّر ، وإن كان المنعوت مؤنثا ، وإن أسند إلى مفرد ، أو مثنى ، أو مجموع ـ أفرد ، وإن كان المنعوت بخلاف ذلك.

* * *

وانعت بمشتقّ كصعب وذرب

وشبهه ، كذا ، وذى ، والمنتسب (٢)

__________________

(١) إذا لم يمنع من الموافقة فى بعضها مانع ، فالوصف الذى يستوى فيه المذكر والمؤنث كصبور وجريح ومكسال ، لا يؤنث ولو كان موصوفه مؤنثا ، وأفعل التفضيل المضاف إلى نكرة كأفضل رجل أو رجلين أو رجال ، أو المجرد من أل والإضافة ، لا يثنى ولا يجمع ولو كان المنعوت مثنى أو مجموعا.

(٢) «وانعت» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «بمشتق» جار ومجرور متعلق بانعت «كصعب» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : وذلك كائن كصعب «وذرب» معطوف على صعب «وشبهه» الواو عاطفة ، شبه : معطوف على مشتق ، وشبه مضاف والضمير مضاف إليه «كذا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف «وذى ، والمنتسب» معطوفان على «ذا».

١٩٤

لا ينعت إلا بمشتق لفظا ، أو تأويلا.

والمراد بالمشتق هنا : ما أخذ من المصدر للدلالة على معنى وصاحبه : كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبهة باسم الفاعل ، وأفعل التفضيل.

والمؤوّل بالمشتق : كاسم الإشارة ، نحو : «مررت بزيد هذا» أى المشار إليه ، وكذا «ذو» بمعنى صاحب ، والموصولة (١) ، نحو : «مررت برجل ذى مال» أى : صاحب مال ، و «بزيد ذو قام» أى : القائم ، والمنتسب ، نحو «مررت برجل قرشىّ» أى : منتسب إلى قريش.

* * *

ونعتوا بجملة منكّرا

فأعطيت ما أعطيته خبرا (٢)

تقع الجملة نعتا كما تقع خبرا وحالا ، وهى مؤوّلة بالنكرة ، ولذلك لا ينعت بها إلا النكرة ، نحو : «مررت برجل قام أبوه» أو «أبوه قائم» ولا تنعت بها المعرفة ؛ فلا تقول : «مررت بزيد قام أبوه ، أو أبوه قائم» وزعم بعضهم

__________________

(١) قول الناظم «وذى» لا يشمل ذو الموصولة إلا على القول بأنها معربة ، أما على القول ببنائها فكان يجب أن يقول «كذا ، وذو» ومثل ذو الموصولة فى جواز النعت بها كل الموصولات المقترنة بأل كالذى والتى وفروعها ، وكذا أل الموصولة ، بخلاف من وما وأى.

(٢) «ونعتوا» فعل وفاعل «بجملة» جار ومجرور متعلق بنعتوا «منكرا» مفعول به لنعتوا «فأعطيت» أعطى : فعل ماض مبنى للمجهول ، والتاء تاء التأنيث ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه ، وهو المفعول الأول «ما» اسم موصول : مفعول ثان لأعطيت «أعطيته» فعل ماض مبنى للمجهول ، وفيه ضمير مستتر يعود إلى جملة ، وهو نائب فاعل ، والهاء مفعول ثان ، والجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول «خبرا» حال من نائب الفاعل.

١٩٥

أنه يجوز نعت المعرّف بالألف واللام الجنسية بالجملة ، وجعل منه قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) وقول الشاعر :

(٢٨٦) ـ

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّنى

فمضيت ئمّت قلت لا يعنينى

__________________

٢٨٦ ـ يروى هذا البيت أول بيتين وينسبان لرجل سلولى من غير أن يعين أحد اسمه ، والثانى :

غضبان ممتلئا علىّ إهابه

إنى ـ وحقّك ـ سخطه يرضينى

وقد رواه الأصمعى فى الأصمعيات ثالث خمسة أبيات ، ونسبها لشمر بن عمرو الحنفى ، وانظر الأصمعيات (ص ٦٤ ليبسك عام ١٩٠٢ ، وانظر الأصمعية رقم ٣٨ طبع مصر)

اللغة : «اللئيم» الشحيح ، الدنىء النفس ، الخبيث الطباع «إهابه» الإهاب ـ بزنة كتاب ـ الجلد ، وامتلاؤه عليه كناية عن شدة غضبه ، وكثير موجدته وحنقه.

المعنى : يقول : والله إنى لأمر على الرجل الدنىء النفس الذى من عادته أن يسبنى فأتركه وأذهب عنه وأرضى بقولى لنفسى : إنه لا يقصدنى بهذا السباب.

الإعراب : «ولقد» الواو واو القسم ، والمقسم به محذوف ، واللام واقعة فى جواب القسم ، وقد : حرف تحقيق «أمر» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «على اللئيم» جار ومجرور متعلق بأمر «يسبنى» جملة من فعل مضارع وفاعله ومفعوله فى محل جر صفة للئيم ، وستعرف ما فيه «فمضيت» فعل وفاعل «ثمت» حرف عطف ، والتاء لتأنيث اللفظ «قلت» فعل ماض ، وفاعله «لا» نافية «يعنينى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، والجملة فى محل نصب مقول القول.

الشاهد فيه : قوله «اللئيم يسبنى» حيث وقعت الجملة نعتا للمعرفة ، وهو المقرون بأل ، وإنما ساغ ذلك لأن أل فيه جنسية ؛ فهو قريب من النكرة. كذا قال جماعة : منهم ابن هشام الأنصارى ، وقال الشارح العلامة : إنه يجوز أن تكون الجملة حالية. والذى ترجحه هو ما ذهب إليه غير الشارح من تعين كون الجملة نعتا فى هذا البيت ؛ لأنه

١٩٦

فـ «نسلخ» صفة «لليل» ، و «يسبنى» : صفة «للئيم» ، ولا يتعين ذلك ؛ لجواز كون «نسلخ» ، و «يسبنى» حالين.

وأشار بقوله : «فأعطيت ما أعطيته خبرا» إلى أنه لا بد للجملة الواقعة صفة من ضمير يربطها بالموصوف ، وقد يحذف للدّلالة عليه ، كقوله :

(٢٨٧) ـ

وما أدرى أغيّرهم تناء

وطول الدّهر أم مال أصابوا؟؟

__________________

الذى يلتئم معه المعنى المقصود ، ألا ترى أن الشاعر يريد أن يتمدح بالوقار وأنه شديد الاحتمال للأذى ، وهذا إنما يتم له إذا جعلنا اللئيم منعوتا بجملة «يسبنى» إذ يصير المعنى أنه يمر على اللئيم الذى شأنه سبه وديدنه النيل منه ، ولا يتأتى هذا إذا جعلت الجملة حالا ؛ إذ يكون المعنى حينئذ أنه يمر على اللئيم فى حال سبه إياه ، نعم يمكن أن يقال : إنه لو تحمل ومضى فى هذه الحال فهو فى غيرها أشد تحملا ، ولكن هذه دلالة التزامية ، والدلالة الأولى وضعية.

٢٨٧ ـ البيت لجرير بن عطية ، من كلمة له مطلعها :

ألا أبلغ معاتبتى وقولى

بنى عمّى فقد حسن العتاب

اللغة : «تناء» بعد «طول الدهر» يروى فى مكانه «وطول العهد ...».

المعنى : يقول : أنا لا أعلم ما الذى غير هؤلاء الأحبة ، أهو التباعد وطول الزمن؟ أم الذى غيرهم مال أصابوه وحصلوا عليه ، فأبطرهم الغنى ، وأنساهم حقوق الألفة وواجب المودة.

الإعراب : «وما» نافية «أدرى» فعل مضارع ـ بمعنى أعلم ـ وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «أغيرهم» الهمزة للاستفهام ، وقد علقت درى عن العمل فيما بعدها ، غير : فعل ماض ، هم : مفعول «تناء» فاعل غير ، والجملة سدت مسد مفعولى أدرى «وطول» الواو عاطفة ، طول : معطوف على تناء ، وطول مضاف ، و «العهد» مضاف إليه «أم» عاطفة ، وهى ـ هنا ـ متصلة «مال» معطوف على طول «أصابوا» فعل ماض وفاعله ، والجملة فى محل رفع صفة لمال ، وقد حذف المفعول ، والأصل : أم مال أصابوه.

١٩٧

التقدير : أم مال أصابوه ، فحذف الهاء ، وكقوله عز وجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أى : لا تجزى فيه ، فحذف «فيه» ، وفى كيفية حذفه قولان ؛ أحدهما : أنه حذف بجملته دفعة واحدة ، والثانى : أنه حذف على التدريج ؛ فحذف «فى» أولا ، فاتصل الضمير بالفعل ، فصار «تجزيه» ثم حذف هذا الضمير المتصل ، فصار تجزى.

* * *

وامنع هنا إيقاع ذات الطّلب

وإن أتت فالقول أضمر تصب (١)

لا تقع الجملة الطلبية صفة ؛ فلا تقول : «مررت برجل اضربه» ، وتقع

__________________

الشاهد فيه : قوله «مال أصابوا» حيث أوقع الجملة نعتا لما قبلها ، وحذف الرابط الذى يربط النعت بالمنعوت ، وأصل الكلام : مال أصابوه ، والذى سهل الحذف أنه مفهوم من الكلام ، وأن العامل فيه فعل.

ومثل هذا قول الشنفرى الأزدى :

كأنّ حفيف النّبل من فوق عجسها

عوازب نحل أخطأ الغار مطنف

تقدير هذا الكلام عندنا : أخطأ الغار مطنفها ، أى دليلها ، والنحاة يقولون : أل فى الغار عوض عن المضاف إليه ، وأصل الكلام : أخطأ غارها.

(١) «امنع» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «هنا» ظرف مكان متعلق بامنع «إيقاع» مفعول به لا منع ، وإيقاع مضاف و «ذات» مضاف إليه ، وذات مضاف و «الطلب» مضاف إليه «وإن» شرطية «أتت» أتى : فعل ماض فعل الشرط ، والتاء للتأنيث «فالقول» الفاء واقعة فى جواب الشرط ، القول : مفعول مقدم على عامله «أضمر» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والجملة فى محل جزم جواب الشرط «تصب» فعل مضارع مجزوم فى جواب الأمر ، وحرك بالكسر لأجل الروى ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت.

١٩٨

خبرا خلافا لابن الأنبارى ؛ فتقول : «زيد اضربه» ، ولما كان قوله : «فأعطيت ما أعطيته خبرا» يوهم أن كل جملة وقعت خبرا يجوز أن تقع صفة قال : «وامنع هنا إيقاع ذات الطلب» أى : امنع وقوع الجملة الطلبية فى باب النعت ، وإن كان لا يمتنع فى باب الخبر ، ثم قال : فإن جاء ما ظاهره أنه نعت فيه بالجملة الطلبية فيخرّج على إضمار القول ، ويكون المضمر صفة ، والجملة الطلبية معمول القول المضمر ، وذلك كقوله :

(٢٨٨) ـ

حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذّئب قط

__________________

٢٨٨ ـ البيت لراجز لم يعينه أحد من الرواة الذين وقفنا على كلامهم.

اللغة : «جن الظلام» ستر كل شىء ، والمراد أقبل «اختلط» كناية عن انتشاره واتساعه «مذق» هو اللبن الممزوج بالماء ، شبهه بالذئب لاتفاق لونهما ؛ لأن فيه غبرة وكدرة.

المعنى : يصف الراجز بالشح والبخل قوما نزل بهم ضيفا ، فانتظروا عليه طويلا حتى أقبل الليل بظلامه ، ثم جاؤه بلبن مخلوط بالماء يشبه الذئب فى لونه ؛ لكدرته وغبرته ، يريد أن الماء الذى خلطوه به كثير.

الإعراب : «حتى» ابتدائية «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «جن» فعل ماض «الظلام» فاعل جن ، والجملة فى محل جر بإضافة إذا إليها ، وجملة «اختلط» وفاعله المستتر فيه معطوفة على الجملة السابقة بالواو «جاءوا» فعل وفاعل «بمذق» جار ومجرور متعلق بجاء «هل» حرف استفهام «رأيت» فعل ماض وفاعله «الذئب» مفعول به لرأيت «قط» استعمله بعد الاستفهام مع أن موضع استعماله بعد النفى الداخل على الماضى ، والذى سهل هذا أن الاستفهام قرين النفى فى كثير من الأحكام ، وهو ظرف زمان مبنى على الضم فى محل نصب متعلق برأى ، وسكونه للوقف ، وجملة «هل رأيت الذئب قط» فى محل نصب مفعول به لقول محذوف يقع صفة لمذق ، والتقدير : بمذق مقول فيه هل رأيت الذئب قط.

الشاهد فيه : قوله «بمذق هل رأيت ... إلخ» فإن ظاهر الأمر أن الجملة المصدرة

١٩٩

فظاهر هذا أن قولة : «هل رأيت الذّئب قط» صفة لـ «مذق» ، وهى جملة طلبية ، ولكن ليس هو على ظاهره ، بل «هل رأيت الذّئب قط» معمول لقول مضمر هو صفة لـ «مذق» ، والتقدير : بمذق مقول فيه هل رأيت الذئب قط.

فإن قلت : هل يلزم هذا التقدير فى الجملة الطلبية إذا وقعت فى باب الخبر ؛ فيكون تقدير قولك «زيد اضربه» زيد مقول فيه اضربه؟

فالجواب أن فيه خلافا ؛ فمذهب ابن السراج والفارسى التزام ذلك ، ومذهب الأكثرين عدم التزامه.

* * *

ونعتوا بمصدر كثيرا

فالتزموا الإفراد والتّذكيرا (١)

يكثر استعمال المصدر نعتا ، نحو «مررت برجل عدل ، وبرجلين عدل ،

__________________

بحرف الاستفهام قد وقعت نعتا للنكرة ، وليس الأمر على ما هو الظاهر ، بل النعت قول محذوف ، وهذه الجملة معمولة له ، على ما بيناه فى الإعراب ، والقول يحذف كثيرا ويبقى معموله.

وهذا أحد الفروق بين النعت والخبر ؛ فإن الخبر يجىء جملة طلبية على الراجح من مذاهب النحاة ؛ إذ لم يخالف فى هذا إلا ابن الأنبارى ، والسر فى هذا أن الخبر حكم ، وأصله أن يكون مجهولا فيقصد المتكلم إلى إفادة السامع إياه بالكلام ، أما النعت فالغرض من الإتيان به إيضاح المنعوت وتعيينه أو تخصيصه ؛ فلا بد من أن يكون معلوما للسامع قبل الكلام ليحصل الغرض منه ، والإنشائية لا تعلم قبل التكلم بها.

(١) «ونعتوا» فعل وفاعل «بمصدر» جار ومجرور متعلق بنعتوا «كثيرا» نعت لمحذوف : أى نعتا كثيرا «فالتزموا» فعل وفاعل «الإفراد» مفعول به لالتزموا «والتذكيرا» معطوف عليه.

٢٠٠