بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

وَأَقْسِطُواْ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (١)

الصلح والايقاف ليسا دليلا على أنّ الدماء الّتي اُرقيت إنّما اُرقيت في غير وجه الحقِ ، وعلى ذلك فكل من الحرب والصلح ، والنضال والموادعة حكم من أحكام القرآن ، يطبّق كل في مورده وذلك حسب مايراه الحاكم الإسلامي وعلى ذلك جرت سيرة الرسول الأكرم ، فقد ناضل قريشاً في بدر واُحد وقاتلهم في الأحزاب ، وقد اُريقت من دماء المسلمين مالايستهان بها ، ومع ذلك فقد صالح قريشاً في الحديبية ، وكتب بينه وبينهم ميثاق الصلح على ما مرّ الإيعاز إليه في كلام علي عليه‌السلام حتّى انّ قريشاً أبوا أن يكتب « رسول الله » إلى جانب اسمه ، وألزموه بتجريد اسمه عن الرسالة كما أبى معاوية وعمروبن العاص إلاّ أن يكتب اسم عليّ مجرّداً عن الإمارة ، فكان في ذلك اقتداء بالنبي ، فالدماء التي اُرقيت في ساحات القتال إذا كانت لوجه الله فلا تنقلب عمّا عليه ، وأصحابها شهداء ، أحياء عند ربهم يُرزقون ، ولا يأبى ذلك أن يصالح القائد الإسلامي إذا اقتضت المصلحة لظروف مختلفة ، مع العدو وكلا الحكمين حكم الله.

وأمّا الوجه الرابع : فقد أجاب عنه الإمام بعد ما قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فلم ندر أىّ الأمرين أرشد؟ فصفق عليه‌السلام إحدى يديه على الاُخرى ثم قال :

« هذا جزاء من ترك العُقْدة (٢) أما والله لو انّي حين أمرتكم به ، حملْتُكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً ، فان استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وإن ابيتم تداركتم ، لكانت الوثقى ، ولكن بِمَنْ وإلى مَنْ؟ اُريد أن

____________

١ ـ الحجرات : ٩.

٢ ـ العقدة : الرأي الوثيق.

٨١

اُدواي بكم وأنتم دائي » (١).

أقول : إنّ القوم كانوا بُعَداء عن التفكير الصحيح فزعموا أنّ هنا تناقضاً في الرأي ، مع أنّه لا منافاة بينهما بعد فرض اختلاف ظرف الحكمين ، ففيما كان الإمام قائداً مُطاعاً ، كان الحق هو مواصلة الحرب ، ولذاك كان يصرّ على المواصلة ، وعند ما عُصِيَ ، وخُولِفَ ، لم يكن بدّ من التنازل إلى الحكم ألآخر ، فلا الإيقاف يبطل حكم القتال وأجر الشهداء ولا الحكم بالقتال يلازم بطلان الهدنة وعدم صحّته إذا اقتضت المصلحة ذلك وفقاً لا ختلاف الظروف.

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢١.

٨٢

الفصل الرابع

تحرّكاتهم السياسيّة بعد مبدأ التحكيم

٨٣
٨٤

لمّا تمّت الإتفاقية ، وشهد عليها شهود ، وقُرِأت على الناس ، انسحب معاوية إلى جانب الشام ، وتوجّه الإمام نحو الكوفة مع جيشه وأصحابه ورافقه المعترضون على التحكيم الذين عرفوا بالمحكِّمة ، فدخل الإمام الكوفة دار هجرته وامتنعت المحكِّمة عن الدخول ، وذهبوا إلى قرية « حروراء » كما ذهب قسم منهم إلى معسكر نخيلة اعتراضاً على عليّ وحكْمهِ. وقد أعربوا بعملهم هذا أنّهم متخلِّفون عنه ، وعن أوامره ، وخارجون عن طاعته ، ولقد كان لهم ألوان متفاوتة في مخالفتهم ولكن الجميع يشتركون في كونها ردود فعل لما آل له التحكيم ونذكر أبرزها :

١ ـ التظاهر ضد علي عليه‌السلام بقولهم « لا حكم إلاّ لله » في المسجد وخارجه خصوصاً عند قيام الإمام بالقاء الخطب.

٢ ـ تكفير عليّ عليه‌السلام وأصحابه الذين وفوا بالميثاق.

٣ ـ تأمين أهل الكتاب وارهاب المسلمين وقتل الأبرياء.

وأمّا ما قام به الإمام في مقابل هذه المواقف فكلّها ينبع عن عطفه وحنانِه على الأعداء وصبره الجميل تجاه المآسي ، وإليك بيانه :

٨٥

١ ـ قام عليّ عليه‌السلام بتبيين موقفه من كتاب الصلح وانّه ما أمضاه إلاّ باصرار منهم وإرهاب ضدّه.

٢ ـ التعامل معهم كسائر المسلمين في الجوائز والعطايا.

٣ ـ بعث شخصيات كبيرة لهدايتم ، وارجاعهم عن غيّهم.

٤ ـ محاولة أخذ الثأر من قتلة عبدالله بن خباب بن الارت وزوجته عندما قتلا بايدي سفلة الخوارج وإليك بيان الجميع :

الف ـ التظاهر ضدّ عليّ عليه‌السلام :

روى الطبري : « لمّا وقع التحكيم ورجع عليّ من صفيّن ، رجعوا متباينين له ، فلمّا انتهوا إلى النهر أقاموا به ، فدخل عليّ في الناس الكوفة ونزلوا بحروراء وبعث إليهم عبدالله بن عباس فرجع ولم يصنع شيئاً ، فخرج إليهم عليّ فكلّمهم (١) حتى وقع الرضى بينه وبينهم ، فدخلوا الكوفة ، فأتاه رجل فقال ، إنّ النّاس قد تحدّثوا أنّك رجعت لهم عن كفرك ، فخطب الناس في صلاة الظهر فذكر أمرهم فعابه ، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون : لا حكم إلاّ لله ، واستقبله رجل منهم واضعاً إصبعه في اذنيه ، فقال : « وَلَقَدْ أوحى إلَيْكَ وإلى الَذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيُحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ الخاسِرين ». فقال عليّ : « فاصْبِر إنَّ وَعَدالله حقُّ ولا يَستَخفنّك الذين لا يوُقِنون » (٢).

وببالي ورد في بعض المصادر : انّ الرجل صاح بالآية والإمام في اثناء الصلاة ، فأجابه الإمام بتلاوة الآية التي عرفتها.

__________________

١ ـ سيوافيك ما تكلم به معهم في خاتمة المطاف.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٤.

٨٦

ب ـ تكفير عليّ واصحابه :

أكبر كلمة كانت تصدر من أفواه الخوارج هو تكفير عليّ لأجل قبول التحكيم وكأنّه خطيئة وارتكاب الخطيئة عندهم كفر ، كما هو أحد اُصولهم التي نبحث عنها عند عرض عقائدهم ، ويكفي في ذلك ما نقله الطبري في مذاكرة علي مع حرقوص بن زهير السعدي ، وزرعة بن برج الطائي ومرّ النصّ في أوّل الفصل السابق.

وإلى هذا يشير الإمام في بعض كلامه حيث قال لهم :

« أصابكم حاصِب (١) ولابقى منكم آبِر (٢) ، أبعد إيماني بالله ، وجهادي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشْهَدُ على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت اِذاً وما أنا من المهتدين ، فاوبوا شرّمآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب ، أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا وسيفاً قاطعاً وإثرة (٣) يتخذها الظالمون فيكم سنّة » (٤).

ج ـ قتل الأبرياء :

والمدهش من أخبارهم انّهم كانوا يقتلون المسلمين ويجيرون المشركين واهل الكتاب.

روى المبّرد في كامله : إنّ القوم مضوا إلى النهروان ، وقد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فأصابوا في طريقهم مسلماً ونصرانياً ، فقتلوا المسلم ، لأنّه عندهم كافر ، إذكان على خلاف معتقدهم ، واستوصوا بالنصراني وقالوا :

__________________

١ ـ الحاصب : الريح الشديدة التي تثير الحصباء.

٢ ـ الآبر : الذي يأبّر النخل أي يصلحه.

٣ ـ الاثرة : الاستبداد عليهم بالفئ والغنائم ، قال : النبي للأنصار : « ستلقون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني ».

٤ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٥٨.

٨٧

احفظوا ذمّة نبيّكم.

قال المبّرد : وحدثت أنّ واصلَ بن عطاء أقبل في رفقة فاحسُّوا بالخوارج ، فقال واصل لأهل الرفقة : إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإيّاهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا : شأنّك ، فخرج إليهم ، فقالوا : ما أنت واصحابك فقال : قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله ، ويفهموا حدوده. قالوا : قد أجرناكم ، قال : فعلِّمُونا ، فجعلوا يعلِّمُونَهم أحكامَهم ، ويقول واصل : قد قبلت أنا ومن معي. قالوا : فامضوا مصاحبين فقد صرتم اخواننا. فقال : بل تبلغوننا مأمننا. لأنّ الله تعالى يقول : « وانْ إحدٌ مِنَ المُشْرِكُينَ استَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتى يَسمَعَ كلامَ الله ثُمَّ اَبْلِغْه مأْمَنَهُ » (١) فنظر بعضم إلى بعض ، ثم قالوا : ذاك لكم ، فصاروا معهم بجمعهم حتّى ابلغوهم المأمن (٢).

ومع ذلك قتلوا عبدالله بن خباب بن الارت ـ كما سوافيك بيانه في الفصل القادم ـ وبقروا بطن زوجته المتم.

وأمّا السياسة الحكيمة التي مارسها الإمام ازاء أعمالهم قبل تحركاتهم العسكرية فقد وقفت على رؤوسها ، وإليك الإيعاز إليها ثانياً ليقع مقدمة للشرح والتبيين.

١ ـ تبيين موقفه في مسألة التحكيم ، وانّه لم يكن راضياً به وفرض عليه بارهاب.

٢ ـ التعامل معهم كسائر المسلمين.

__________________

١ ـ التوبة : ٦.

٢ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٢٢ مكتبة المعارف بيروت ، وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٨١ ، والمبرد متهم ـ عند ابن أبي الحديد ـ بالميل إليهم ، ولكنا سبرناكامله ، فلم نر شيئاً يدلّ عليه ، غير انّه سرد تاريخهم وفي بعض الموارد طعن بهم.

٨٨

٣ ـ بعث الشخصيات لارجاعهم عن غيّهم.

وإليك بيان كل ذلك.

١ ـ الإمام يبيّن موفقه من التحكيم :

قام الإمام بتبيين موقفه في مسألة التحكيم وانّه لم يكن ضلالا في نفسه ولا كان الإمام مخادعاً ، فقال في بعض كلماته :

« فلم آت لا أباً لكم بُجْراً ، ولا خَتَلْتُكم عن أمركم ، ولا لبَّستُه عليكم ، وانّما اجتمع رأي مَلَئِكُم على اختيار رجلين ... » (١).

هذا نموذج من كلماته حول التحكيم حيث بيّن فيها موقفه في هذه المسألة وانّه كان طبق الكتاب والسنّة فلنكتف بذلك ولنرجع الى ما بقى من السياسة الحكيمة التي مارسها معهم.

٢ ـ التعامل معهم كسائر المسلمين :

تعامل الإمام مع الخوارج كسائر المسلمين ولم ينقص من حقوقهم شيئاً مادام لم يشنّوا الحرب عليه ، روى الطبري عن كثير الحضرمي قال : قام عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم ، فقال رجل من جانب المسجد : لا حكم إلاّ لله ، وقام آخر فقال مثل ذلك ، ثم توالى عدّة رجال يحكمون ، فقال عليّ : الله أكبر كلمة حقّ يراد بها باطل أما انّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولانمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا ، ولانقاتلكم حتّى تبدؤنا ، ثمّ رجع إلى مكانه الذي كان من خطبته (٢).

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٣.

٨٩

٣ ـ بعث الشخصيات لإرجاعهم عن غيّهم :

قام الإمام بإرسال أكابر أصحابه رجاء هداية بعضهم ، فبعث عبدالله بن عبّاس الى معسكرهم فجرى بينه وبينهم مفاوضات ذكرها المؤرّخون ، قال المبرّد : إنّ أميرالمؤمنين لمّا وجّه إليهم عبدالله بن عبّاس ليناظرهم قال لهم : ما الذي نقمتم على أميرالمؤمنين ، قالوا له : قد كان للمؤمنين أمير ، فلمّا حكم في دين الله خرج من الإيمان ، فليتب بعد اقراره بالكفر نَعُدْ إليه ، قال ابن عباس : ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك ان يقر على نفسه بالكفر ، قالوا : إنّه حكّم ، قال : إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدَل مِنْكُمْ ) (١) فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا إنّه حكم عليه فلم يرض ، فقال : إنّ الحكومة كالإمامة ، متى فسق الإمام وجبت معصيته ، وكذلك الحكمان لمّا خالفا نبذت أقاويلهما ، فقال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم ( بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمُونَ ) (٢) وقال جلّ ثناءه : ( وَلتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ) (٣).

إنّ حوار ابن عباس معهم كان حجّة دامغة فقد احتجّ عليهم بالقرآن فما أجابوه بشيء.

والعجب انّهم كانوا يرون التحكيم على خلاف الكتاب والسنّة وانّ الرضا به بمنزلة الكفر ، ومع ذلك كانوا يصرّون على انّه يجب على الإمام أن يخضع لنتيجة التحكيم ، فإنّ الحكمين لمّا عزلاه عن مقام الحكومة يجب عليه التنازل. فما هذا التناقض بين المبدأ والنتيجة ، والتحكيم عندهم كفر وزندقة ولكن

__________________

١ ـ المائدة : ٩٥.

٢ ـ الزخرف : ٥٨.

٣ ـ مريم : ٩٧.

٩٠

الأخذ بنتيجته عين التوحيد والتديّن ، كل ذلك يعرب عن وجود العمى في القلوب والصمم في الأسماع.

ثمّ انّ الإمام لم يكتف ببعث ابن عمه بل قام بنفسه بهذا الأمر الخطير ، فركب علي عليه‌السلام إلى حروراء ، فخاطبهم بقوله : ألا تعلمون أنّ هؤلاء القوم لمّا رفعوا المصاحف ، قلت لكم إنّ هذه مكيدة ووهن ، وانّهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لآتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أنّ أحداً كان أكره للتحكيم منّي؟ قالوا : صدقت ، قال : فهل تعلمون أنّكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه ، فاشترطت أنّ حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله ، فمتى خالفاه ، فأنا وانتم من ذلك براء ، وانتم تعلمون أنّ حكم الله لايعدوني ، قالوا : الّلهم نعم ، قال : وكان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء (قال : وهذا من قبل أن يذبحوا عبدالله بن خباب ، وانّما ذبحوه في الفرقة الثانية بـ « كسكره ») فقالوا له : حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرّون بأنّا كنّا كفرنا ، ولكنّا الآن تائبون فَأَقِرّ بمثل ما أقررنا به ، وتب ننهض معك إلى الشام ، فقال : « أما تعلمون أنّ الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته » ، فقال سبحانه : ( فَابْعَثُوا حَكَمَاً مِنْ أهْلِهِ وحَكَمَاً مِنْ أهلِهآ ) وفي صيد اصيب كأرنب يساوي نصف درهم فقال ( يَحْكُمْ بِهِ ذَوا عَدْل مِنْكُمْ ).

فقالوا له : فإنّ عمراً لمّا أبى عليك أن تقول في كتابك : « هذا ما كتبه عبدالله علي أميرالمؤمنين » محوت اسمك من الخلافة وكتبت « علي بن أبي طالب » فقد خلعت نفسك ، فقال : لي في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب : « هذا كتاب كتبه محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهيل بن عمرو » وقال له : لو أقررت بأنّك رسول الله ما خالفتك ، ولكنّي اُقدمّك لفضلك ، فاكتب « محمّد بن عبدالله »

٩١

فقال لي : يا علي ، امح « رسول الله » فقلت : يا رسول الله لا تسخو نفسي على محو اسمك في النبوّة فقال : قفني عليه ، فمحاه بيده ، ثم قال : « اكتب محمّد بن عبدالله » ثم تبسّم إليّ وقال : يا عليّ ، أما أنّك ستسامُ مثلها فتعطي ، فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمّعوا بها فقال لهم علي عليه‌السلام مانسميّكم؟ ثم قال : أنتم الحرورية ، لاجتماعكم بحروراء (١).

وللامام خطبة اُخرى بيّن فيها شبهة الخوارج واجاب عنها بشكل واضح ، فمن أراد فليرجع إلى « نهج البلاغة » (٢)

هذا بعض ما مارَسَه الإمام تجاه غيّهم وكلّها تكشف عن سعة صدره ، وقوّة صبره ، واخلاصه في الدين ، ولكّن القوم تمادوا في طغيانهم واعادوا في خواتيم أمرهم ، ما تظاهروا به في بدء غوايتهم ، غير انّهم لم يكتفوا به فأراقوا دماء طاهرة ، فلم يكن بدّ للامام من قطع مادة الفساد ، فما قام بالمواجهة المسلَّحة إلاّ بعدما بذل كل ما في وسعه من النصح والإرشاد ، وبعد أن بلغ السيل الزبى ، فردّ الحجر من حيث جاء.

__________________

١ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ط مكتبة المعارف وله كلام معهم ذكره المبرّد أيضاً في ٢ / ١٥٦. نأتي به عند محاكمة الأشعث فانتظر ، ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

٩٢

الفصل الخامس

موقف الإمام من رأي الحكمين

٩٣
٩٤

لقد صالح الامام معاوية واوكل الأمر الى الحكمين في ثلاثة عشر خلت من شهر صفر عام ٣٧ من الهجرة ، واتّفقا على أنّ الحكمين يجتمعان بدومة الجندل ليرفعا ما رفع القرآن ، ويخَفِضّا ما خفّض القرآن ، وقد اجتمعا هناك في شعبان ذلك العام ، وكانت النتيجة أن خلع أبو موسى الإمام عن الخلافة ، ونصب عمروبن العاص معاوية بن أبي سفيان إماماً للمسلمين ، كل ذلك بخداع معروف في التاريخ ، حيث اتّفقا سرّاً على أن يخلعا علياً ومعاوية عن الحكم حتى يوليّ المسلمون لأنفسهم والياً ، ولمّا أرادا الإدلاء برأيهما خدع عمروبن العاص أباموسى الأشعري فقال له : تقدَّم وأدل برأيك ، فقال : يا أيّها الناس إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة فلم نرأصلح لأمرها ، ولا ألمّ لشعثها من أمر قد جمع رأيي ورأي عمروعليه ، وهو أن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الاُمة الأمر فيولّوا منهم من أحبّوا عليهم ، وانّي قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ، ثم تنحّى واقبل عمروبن العاص فقام مقامه فحمدالله واثنى عليه وقال : إنّ هذا قد قال ما سمتعم وخلع صاحبه وانا أخلع صاحبه كما خلعه واثبِتُ صاحبي معاوية فإنّه ولي عثمان بن عفان (رضي الله عنه)

٩٥

والطالب بدمه واحقّ الناس بمقامه ، فقال أبو موسى : مالك لا وفّقك الله غدرتَ وفجرت (١) إنّما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، قال عمرو : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، وحمل شريح بن هاني على عمرو فقنعه بالسوط وحمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط ، وقام الناس فحجزوا بينهم ، وكان شريح بعد ذلك يقول : ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ماأتى ، والتمس أهل الشام أباموسى فركب راحلته ولحق بمكّة ، قال ابن عباس : قبّح الله رأي أبي موسى حذّرته وامرته بالرأي فما عقل ، فكان أبوموسى يقول : حذِّرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكنّي إطمأننت اليه وظننت أنّه لن يؤثِرَ شيئاً على نصيحة الاُمّة ، ثم انصرف عمرو وأهل الشام الى معاوية وسلّموا عليه بالخلافة ، ورجع ابن عباس وشريح بن هاني الى علي عليه‌السلام وكان إذا صلّى الغداة يَقْنُتُ فيقول : الّلهمّ إلعن معاوية وعمراً واباالأعور السلمي وحبيباً وعبدالرحمن بن خالد والضحاكَ بن قيس والوليد ، فبلغ ذلك معاوية فكان اذا قنتَ لعن علياً وابن عباس والأشتر وحسناً وحسيناً.

وزعم الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة ٣٨ من الهجرة (٢). لمّا بلغ علياً ماجرى بين الحكمين من الحكم على خلاف كتاب الله وسنّة رسوله وغدر عمروبن العاص وانخداع أبي موسى قام خطيباً ، رافضاً ما حكم به الحكمان الجائران ، وقال :

__________________

١ ـ هذا من الصحابة العدول عند القوم ، فاقض ما أنت قاض فهذا الصحابي يصف زميله بالفجور والغدر ، والجمهور يصفون الجميع بالتقى والعدل.

٢ ـ الطبري : ٤ / ٥١ ـ ٥٢ ـ وما نقله عن الواقدي غير صحيح لما عرفت سابقاً : انّه كان اللازم على الحكمين الإدلاء برأيهما قبل انقضاء موسم الحج وقد اتفق الطرفان في صفر عام ٣٧. فكيف يكون الاجتماع عام ٣٨؟.

٩٦

« الحمدلله وان أتى الدهر بالخطب الفادح ، والحدث الجليل ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له ، ليس معه إله غيره ، وانّ محمّداً عبده ورسوله ، صلّى الله عليه ».

أمّا بعد : فإنّ معصية الناصح ، الشفيق العالم ، المجرَّب ، تورث الحسرةَ ، وتَعْقِبْ الندامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ، ونخلت لكم مخزون رأيي ، لوكان يطاعُ لقصير أمر ، فأبيتم عليّ اباء المخالفين الجفاة ، والمنابذين العصاة ، حتّى ارتاب الناصُح بِنُصحه ، وضنَّ الزنْدُ بقَدْحِه ، فكنت أنا واياكم كما قال أخو هوازن :

أمرتكم أمري بمنعَرَج اللّوى

فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد (١)

صدق الإمام ، انّ من الخطب الفادح ، والحدث الجليل ، خلع صدّيق الاُمّة واوّل من آمن برسالة النبي الأكرم وصدّق به وبات في فراشه ، دفعاً لريب المنون ، وجاهد في سبيل الله بنفسه ونفيسه وشهد المعارك كلها إلاّ تبوك ، (و كان ذلك بأمر النبي) ، الى غير ذلك من فضائل ومناقب ومآثر جمّة اعترف بها الصديق والعدّو والقريب والنائي.

إنّه من المصائب العظام نصب معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق ، ابن آكلة الأكباد ، للخلافة والزعامة الإسلامية ، وانّى هو من الإسلام ، وهو ثمرة الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن ، أو ليس هذا من أدهى الدواهي؟ ولإجل ذلك نرى انّ الإمام يصف تلك الحادثة المريرة ، بالخطب الفادح والحديث الجليل.

هذا ما يرجع الى نفس الخلع والنصب وأمّا ما كان يرجع الى الحكمين فكان عليهما قبل ادلاء الرأي في حقّ عليّ ومعاوية ، دراسة الأسباب التي أدّت

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٣٥.

٩٧

الى إشعال نار الفتنة واراقة الدماء الطاهرة حيث أسفرت حرب صفين عن مقتل خمسة وأربعين ألف نفر من جيش معاوية ، وشهادة خمسة وعشرين ألف نفر من جيش الإمام علي بن أبي طالب (١) كلّ ذلك لأجل الأخذ بثأر شخص واحد ، أفيصح في ميزان العدل والنصفة أن تزهق هذه النفوس كلّها مقابل ذلك؟ فهل كان الأساس لشنّ الحروب على عليّ عليه‌السلام هو حكم القرآن الكريم والسنّة النبويّة؟ وهل هما يسوّغان لأخذ ثأر انسان واحد ، ارتكاب تلك الجنايات الهائلة؟ أو أنه كان أخذ الثأر واجهة لما يطمح إليه معاوية من دفع الإمام عن مقامه وركوبه منصّة الخلافة ، أو إلجاء عليّ إلى ابقاء ابن الطلقاء في المقام الذي كان يُشْغِلُه طيلة خلافة الخليفتين كما طلبه من الإمام قبل الحرب وخلالها؟

كان على الحكمين دراسة المواضيع التالية حتى يتبين من له الحق عمّن عليه وهي :

١ ـ دراسة الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة عثمان ، وهل كان هناك مبّرر لقتله أو لا؟

٢ ـ إنّ قيادة الإمام بعد قتل عثمان هل كانت قيادة قانونية وشرعية ، حيث بايعه المهاجرون والأنصار وتمت البيعة له في مسجد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمرأى ومسمع من الناس من دون أيّ جبر واكراه؟! ولم تكن هناك بيعة أصلا ، أو كانت البيعة عن إكراه لاعن اختيار؟

٣ ـ اذا خرج الباحث من دراسة الأمر الثاني بأنّ قيادة الإمام كانت قيادة شرعية هل كان هناك مبّرر لمعاوية لرفض بيعة المهاجرين والأنصار ، وتأخير بيعته الى أن يقوم بأخذ الثأر ، ويدفع الإمام إليه قتلة الخليفة وكأنّه هو الخليفة

____________

١ ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين ٦٤٣.

٩٨

ـ معاوية ـ؟ وهل يكون معاوية بعمله ورفضه وخروجه باغياً على الإمام المفترض طاعته وقد جاء حكم الباغي في الذكر الحكيم (١).

أو كان على معاوية أن يدخل في جماعة المسلمين ولايشُق عصاهم بالتقاعس عنه ، ثم يرفع الخصومة الى صاحب البيعة فيرى رأيه.

٤ ـ اذا ثبت أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره وانّه يجب أخذ ثاره من قتلته ، فعندئذ يقع الكلام في أنّ أخذ الثار هل هو وظيفة الخليفة أو وظيفة معاوية أو لا هذا ولا ذاك ، وانّما هو راجع الى ولد عثمان؟

٥ ـ نفترض أنّ أخذ الثار وظيفة الإمام ، فهل كان ـ صلوات الله عليه ـ قادراً على تنفيذ حكم القصاص أو كانت الظروف السائدة لا تسمح بذلك؟

٦ ـ اذا كان طلحة والزبير في نكث البيعة ، وفي اخراج زوجة الرسول من بيتها ـ وقد امرت بالمكث فيه ـ وفي اخراج عامل الإمام من البصرة وقتل حرسه الى غير ذلك من الاُمور التي أدّت الى حرب الجمل ، اذا كانا في هذه الاُمور معذورين ، مجتهدين ، وان كانا مخطئين ، فهل يصحّ تبرير عمل قتلة عثمان بالخطأ في الاجتهاد أولا؟

٧ ـ وعلى فرض لزوم الاقتصاص ورفض اجتهادهم فهل لخليفة العصر ، العفو عن القصاص وابداله بالديّة كما فعله عثمان في حقّ عبيدالله بن عمر حين قتل هرمزان ، وجفينة بنت أبي لؤلؤ بلا ذنب؟ (٢).

هذه هي المواضع الهامّة التي كانت دراستها أمراً مفروضاً على الحكمين حتّى يخرجا مرفوعي الرأس محيين ما أحياه القرآن ومميتين ما أمات ، غير أنّ الحكمين ـ ياللأسف ـ لم يَنْبَسا فيها ببنت شفة ومرّا عليها مرور اللئام ولكن

__________________

١ ـ الحجرات : ٩.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٣٠٥.

٩٩

لا محيص للباحث المحقق عن قيمة رأي الحكمين من دراستها ، ولأجل ذلك نبحث عنها بإيجاز ، حتّى يقف القارىء على أنّ رأي الحكمين كما وصف أمير المؤمنين كان خطباً فادحاً واليك دراستها :

إنّ دراستها على وجه التحقيق تحوجنا الى تأليف مفرد لايناسب وضع الكتاب ، غير انّا نشير إليها إشارة عابرة ، ونلمع إليها إلماعاً بسيطاً.

أوّلا : قد تعرّفت على بعض الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة والفتك به ، وانّ الاستبداد بالرأي ، وتسليط بني أميّة على رقاب الناس ، وتخصيص كميّة هائلة من بيت المال لأصحاب الترف والبذخ من أبناء بيته ، وتسيير صلحاء الاُمّة من الصحابة والتابعين عن المدينة المنوّرة إلى منافيهم ، واخيراً تعدّي عمّاله وولاته في العراق ومصر على الطبقات الوسطى ، والفقيرة من المجتمع و .... كل هذه أدّت إلى انتشار السخط والغضب على الخليفة وعمّاله إلى أن جنى ثمرة عمله فقتل في عقر داره وبين أبنائه ونسائه بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار ، وهم بين مجهز عليه ، ومؤلّب وراض ومحايد. والقضاء في مثل هذه المسألة من صلاحية لجنة عارفة بالكتاب والسنّة ، واقفة على حياة الخليفة وما قام به من الأعمال ، وما نقم عليه من الأفعال حتى تصدر ـ بعد سماع حجج الثائرين ـ عن مصدر قويم ومثل هذه المشكلة لا تحل عقدتها في ساحة الحرب ، بل في جوّ هادئ ، يكون القاضي فيه مستقّلا في الرأي ، وحرّاً في التفكير والتعبير ، ونحن لاندخل في هذه المعركة الخطيرة ، نترك القضاء فيها إلى تلك اللجنة الخبيرة ونعطف عنان البحث إلى الموضوع الثاني.

ثانياً : إنّ من سبر التاريخ يقف على أنّ بيعة الإمام كانت بيعة شعبية جماهيرية ، ولم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة الإسلامية ، فاذا قلت :

لم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة فإنّما اقولها عن بيّنة ودليل فإنّ الخليفة

١٠٠