بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

غالب على أمره (١).

إنّ الإمام خاطب أبا موسى ـ عندما بعثه إلى دُومَةِ الجندل حكماً ـ بقوله : احكم بكتاب الله ولا تجاوزه ، ولمّا ودّع أبا موسى وغادر المجلس ، قال الإمام : كأنّي به وقد خدع ، فقال عبيدالله بن أبي رافع : لماذا تبعثه وهو على هذه الفكرة؟ فقال الإمام عليه‌السلام لو عمل الله في خلقه بعلمه ، ما احتجّ عليهم بالرسل (٢).

صياغة اتفاقية الصلح :

إنّ القوم فرضوا على الإمام التحكيم والمحكّم ، ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا عليه ما كان الخصم يطلبه في تحرير وصياغة اتفاقية الصلح ، ولمّا اتفق الطرفان على كتابة الصلح وايقاف الحرب إلى أن يحكم الحكمان دعا علي عليه‌السلام كاتبه ليكتب صحيفة الصلح على النحو الذي يمليه الإمام ، فقال الإمام : اكتب : « هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين » فقال معاوية : بئس الرجل أنا إن أقررت أنّه أمير المؤمنين ثمّ قاتلته ، وقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنّما هو أميركم ، وأمّا أميرنا فلا. فلمّا اُعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الأحنف : لا تمح اسم امرة المؤمنين عنك ، فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لا تمحها ، وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها ، ثمّ إنّ الأشعث بن قيس جاء ، فقال : امح هذا الاسم. فقال علي : لا إله إلاّ الله والله أكبر ، سنّة بسنّة ، أما والله لعلى يدي ، دار هذه الأمر يوم الحديبية حين كتبت الكتاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هذا ما تصالح عليه

____________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٦١٧. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٤٩.

٢ ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب ٢ / ٢٦١.

٦١

محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهيل بن عمرو » فقال سهيل : لا أجيبك إلى كتاب تسمّي (فيه) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو أعلم أنّك رسول الله لم اُقاتلك إنّي إذاً ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله ولكن اكتب « محمّد بن عبدالله » أجبك ، فقال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي إنّي لرسول الله ، إنّي لمحمّد بن عبدالله ، ولن يمحو عنّي الرسالة كتابي إليهم« محمّد بن عبدالله » ، فاكتب : محمّد بن عبدالله ، فراجعني المشركون في هذا إلى مدّة ، فاليوم اكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آبائهم سنّة ومثلا. فقال عمروبن العاص : « سبحان الله ، ومثل هذا شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟ » فقال له علي عليه‌السلام : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً وهل تشبه إلاّ اُمّك التي وضعت بك. فقام عمرو فقال : والله لايجمع بيني وبينِك مجلس أبداً بعد هذا اليوم ، فقال علي : والله إنّي لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك (١).

اتفاقية الصلح أو وثيقة التحكيم :

تنازل عليّ عليه‌السلام عن حقّه المشروع ورضى ، كما رضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب اسمه مجرّداً عن توصيفه بامرة المؤمنين فأملى عليّ صحيفة الصلح بالنحو التالي وفيها عبر ونكات وتشتمل على بنود ربّما نرجع إليها في المستقبل :

١ ـ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٢ ـ ٥٨٣.

٦٢

معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب. إنّا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، وانّه لا يجمع بيننا إلاّ ذلك ، وانّا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكماً فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات ، على ذلك تقاظيا ، وبه تراضيا.

٢ ـ إنّ علياً وشيعته رضوا أن يبعثوا عبدالله بن قيس (١) ناضراً ومحاكماً ، ورضى معاوية وشيعته أن يبعثوا عمروبن العاص ناضراً ومحاكماً.

٣ ـ على أنّهما أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد في خلقه ، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثا له ، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً. ومالم يجداه مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجامعة ، لايتعمّدان لهما خلافاً ، ولا يتّبعان في ذلك لهما هوى ، ولا يدخلان في شبهة.

٤ ـ وأخذ عبدالله بن قيس وعمروبن العاص على عليّ ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره ، وانّهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق ، رضى بذلك راض أو أنكره منكر وانّ الاُمّة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل.

٥ ـ فإن توفّى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا ، لايألون عن أهل المعدلة والاقساط ، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق ، والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وله مثل شرط صاحبه ، وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه يرضون عدله. وقد وقعت القضية

__________________

١ ـ هو أبو موسى الأشعري.

٦٣

ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة.

٦ ـ وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألاّ يألوا اجتهاداً ، ولا يتعمّدا جوراً ، ولا يدخلا في شبهة ، ولا يعدوا حكم الكتاب وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فإن لم يفعلا برئت الاُمّة من حكمهما ، ولا عهد لهما ولاذمّة. وقد وجبت القضية على ما قد سُمِّي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين ، والله أقرب شهيداً ، وأدنى حفيظاً ، والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل والسلاح موضوع والسبل مخلاة والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن.

٧ ـ وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل الطرق وأهل الشام ولا يحضر هما فيه إلاّ من أحبّا ، عن ملأ منهما وتراض. وانّ المسلمين قد اَجّلوا القاضيّين إلى انسلاخ رمضان (١) ، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجّلاها ، وإن أراداتا خيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإنّ ذلك إليهما.

٨ ـ فإن هما لم يحكمابكتاب الله وسنّة نبّيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب. ولا شرط بين واحد من الفريقين. وعلى الاُمّة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب. وهم يد على من أراد فيه إلحاداً وظلماً أوحاول له نقضاً. ثمّ إنّه شهد بما في الكتاب من أصحاب الطرفين أكابرهما فمن أصحاب علي ، عبدالله بن عباس ، والأشعث بن قيس ، والأشتر مالك بن الحارث ، والحسن والحسين ابنا عليّ وطائفة اُخرى يبلغ عدد الشهود سبعاً وعشرين شخصاً وفيهم من الصحابة الكبار ، نظير خبّاب بن الارث وسهل بن حنيف وعمروبن الحمق الخزاعي ، وحجر بن عدي ، كما شهد من أصحاب معاويه أبو الأعور

__________________

١ ـ أي رمضان سنة تحرير الاتفاقية وهي سنة ٣٧ ، وقد كتب الكتاب في صفر هذه السنة كما سيوافيك.

٦٤

وبسر بن أرطاة وعبدالله بن عمروبن العاص ، وكتبت لثلاث عشر ليلة بقيت من صفر سنة ٣٧ (١).

ونلاحظ أنّ في الميثاق تصريحاً بأنّه من اللازم على الحكمين الإدلأ برأيهما إلى انقضاء موسم الحج من عام ٣٧ وهما أدليا برأيهما في شعبان تلك السنة كما سيوافيك.

وما نقله الطبري عن الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة ٣٨ من الهجرة غير صحيح (٢).

صورة اُخرى لوثيقة التحكيم :

ثمّ إنّ ابن مزاحم نقل صورة اُخرى لوثيقة التحكيم يتّحد مع ماسبق لبّاً ويختلف في بعض الموارد عبارة فمن أراد فليرجع إلى مصدره وفي ذيلها : « وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين واتَّعد الحكمان (اذرح) » (٣) وأن يجيء علي بأربعمائة من أصحابه ، ويجيء معاوية بأربعمائة من أصحابه فيشهدون الحكومة.

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٢.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٢.

٣ ـ اذرح ـ بضم الراء ـ بلد في أطراف الشام مجاور لأرض الروم.

٦٥

٦٦

الفصل الثالث

نشوء الخوارج عند مخالفتهم لمبدأ التحكيم

٦٧
٦٨

إنّ الذين حملوا عليّاً عليه‌السلام على الموادعة والرضوخ للتحكيم ، رجعوا عن فكرتهم وزعموا أنّ أمر التحكيم على خلاف الذكر الحكيم حيث يقول ( ان الحُكْم إلاّ لِلِّه ) (١) فحاولوا أن يفرضوا على علىّ عليه‌السلام أمراً رابعاً وهو القيام بنقض الميثاق ورفض كتاب الصلح بينه وبين معاوية ، فجاء هؤلاء قائلين : « لا حكم إلاّلله ، الحكملله يا علي لالك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله. إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا وأن يدخلوا في حكمنا عليهم وقد كانت منّا زلّة حين رضينا بالحكمين ، فرجعنا وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا ، وإلاّ برئنا منك. فقال علي : وَيْحكم ، أبعد الرضا(والميثاق) والعهد نرجع؟ أو ليس الله تعالى قال : ( اُوفوا بالعقود ) وقال : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ) : فأبى علي أن يرجع ، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه ، وبرئت من علي عليه‌السلام ، وبري

__________________

١ ـ الأنعام : ٥٧. وقد ورد في سورة يوسف أيضاً مرّتين ، لا حظ الآية ٤٠ و ٦٧ من هذه السورة.

٦٩

منهم (١).

وقال الطبري : لمّا أراد عليّ أن يبعث أبا موسى إلى الحكومة أتاه رجلان من الخوارج : زرعة بن برج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي (٢) ، فدخلا عليه فقالا له : لا حكم إلاّ لله ، فقال علي عليه‌السلام : لا حكم إلاّ لله ، فقال له حرقوص : تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا ، فقال لهم علي : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا ، وقد قال الله عزّوجل : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ). فقال له حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه ، فقال علي : ما هو ذنب ولكنّه عجز من الرأي وضعف من الفعل وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه ، فقال له زرعة بن البرج : أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عزوجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه ، فقال له علي : بؤسا لك ما أشقاك كأنّي بك قتيلا تسفى عليك الريح. قال : وددت أن قد كان ذلك ، فقال له علي : لو كنت محقَاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا. إنّ الشيطان قد استهواكم فاتّقوا الله عزّوجلّ إنّه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها فخرجا من عنده يُحكِّمان (٣).

روى ابن مزاحم عن شقيق بن سلمة قال : جاءت عصابة من القرّاء قد

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٩ ـ ٥٩٠.

٢ ـ إنّ الاباضية ـ الفرقة الباقية من الخوارج ـ يقولون المحكمة الاُولى نظراء : زرعة ، وحرقوص ، والراسبي مُحِقوُن بحجة أنّهم أرادوا أن لا يحكم الرجال فيما حكم فيه سبحانه وهو قتال أهل البغي حتى يفيئوا ، ولكنّهم لا يذكرون شيئاً من أنّهم كانوا هم الأساس لمسألة التحكيم ، وهم الذين فرضوا على الإمام ، هذا الأمر. فلتكن على ذكر من هذا النقل حتى يحين وقت دراسة الموضوع.

٣ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٢ ـ ٥٣.

٧٠

سلّوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ما تنظر بهؤلاء القوم إن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق؟ فقال لهم عليّ : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ولا يحلّ قتالهم حتى ننظر بِمَ يحكم القرآن(١).

وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت مصّرة على التصالح وانّ عصابة منهم ، كانوا متوقّفين في بدء الأمر ، ثمّ بدا لهم أن ينصروا الإمام في وقت ، تمّت الإتفاقية بين الطرفين وأعطى الإمام العهد بالعمل بها.

هذه الكلمة الجارحة التي صدرت من زرعة الطائي وحرقوص بن زهير السعدي ونظائرها كانت تصدر من الخوارج آونة بعد اُخرى ، وذلك لأنّهم يتّهمون عليّاً بارتكاب الإثم ولزوم التوبة بنقض الصحيفة ، وفي مقابل ذلك سطّر التاريخ مواقفاً جريئة وحرّةً صدرت عن ثلّة من أصحاب علي عليه‌السلام.

هذا هو سليمان بن صرد من أصحاب علي أتاه بعد كتابة الصحيفة ووجهه مضروب بالسيف فلمّا نظر إليه علي عليه‌السلام قال : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وما بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) فأنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدل ، فقال يا أمير المؤمنين : أما لو وجدتُ أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً. أما والله لقد مشيتُ في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأوّل فما وجدت أحداً عنده خير إلاّ قليلا. وقام إلى علي عليه‌السلام محرز بن جريش بن ضليع ، فقال : يا أمير المؤمنين : ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل؟ فإنّي لأخاف أن يُورث ذلاّ ، فقال علي عليه‌السلام أبعد أن كتبناه ننقضه؟ إنّ هذا لا يحلّ.

وقام فضيل بن خديج مخاطباً عليّاً لمّا كتبت الصحيفة : إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم ، فقال علي عليه‌السلام :

____________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٦٩.

٧١

بلى إنّ الأشتر ليرضى إذا رضيت ، وقد رضيت ورضيتم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلاّ أن يعصى الله ويتعدّى ما فيه كتابه.

فلمّا رآى علي عليه‌السلام تكرّر تلك المواقف قام خطيباً ليزيل الشكوك والأوهام عن قلوب شيعته فخطب وقال : « إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ، ولاليجيبوا إلى كلمة السواء ، حتى يُرْمَوا بالمناسر ، تتبعها العساكر ، وحتى يُرجَموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس ، يتلوه الخميس ، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم ، وبأحناء مساربهم ومسارحهم وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صُدُق صُبُر ، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلاّ جداً في طاعة الله ، وحرصاً على لقاء الله ، ولقد كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومُضيّاً على اللقم وصبراً على مضَضَ الألم ، وجداً في جهاد العدو ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان متصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيَّهما يسقي صاحبه كأس المنون مرّة لنا من عدوّنا ومرة لعدّونا منّا ، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتى استقّر الإسلام ملقياً جِرَآنه ، ومتبوَّئاً أو طانه ، ولعمري لوكنّا نأتي ما أتيتم ، ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ، وايم الله لتحتلبنّها دماً ولتُتَبِعنَّها ندماً (١).

وقد أعرب الإمام في خطبته هذه عن السبب الحقيقي للفصل والوهن الذي واجه جيشه مع كثرة عددهم وعدّتهم ، وما هذا إلاّ لأنّهم عصوا إمامهم ، واغترّوا بظواهر الاُمور ، وحسبوا أنّ اللجوء إلى كتاب الله شيء يدين به الخصم ،

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٥٦. نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٩٧ ـ ٥٩٨ وبين المنقول في المصدرين اختلاف في اللفظ ، ورجحّنا نقل الرضي.

٧٢

ففرضوا على علي عليه‌السلام التحكيم والحّكم ، إلى غير ذلك من الاُمور التي ذكرناها آنفاً ، فصار القائد مقوداً والإمام مأموماً والمطاع مطيعاً.

تنبّؤ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتنة الخوارج :

روى ابن هشام عن عبدالله بن عمروبن العاص أنّه قال : جاء رجل من بني تميم ـ في غزوة هوازن ـ يقال له ذوالخويصرة فوقف عليه وهو يعطي النّاس فقال : يا محمّد ، قد رأيتُ ما صنعت في هذا اليوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجل ، فكيف رأيت؟ فقال : لم أرك عدلت ، قال : فغضب النبي ، ثم قال : ويحك ، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمربن الخطاب : يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال : لا دعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون (١) في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (٢)

__________________

١ ـ المراد من التعمق كثرة السؤال والاعتراض على الأوامر الصادرة من القيادة ويؤيّد ذلك الحديث المشهور : سأل رجل الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام وقال : رجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء ، ولا يدري أذكية هي أم غير ذكية؟ أيصلّي فيها؟ فقال : نعم ليس عليكم المسألة. انّ أباجعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، انّ الدين أوسع من ذلك. (الصدوق : من لا يحضر الفقيه ١ / ١٦٧ ، الباب ٣٩ ، الحديث ٣٨). ويظهر ذلك ممّا روي عن علي من قصار الكلمات قال : الكفر على أربع دعائم : على التعمّق ، والتنازع ، والزيغ ، والشقاق ، فمن تعمّق لم ينب إلى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق ، نهج البلاغة قسم الحكم ٣١ ـ فمعنى التعمّق هنا لا يتنافى مع ما سنذكره من أنّ البساطة والسذاجة والظاهرية كانت سمة من سماتهم.

٢ ـ ابن هشام : السيرة النبوية ٤ / ٤٩٦. ابن الاثير : الكامل ٢ / ١٨٤. ورواه البخاري في باب « المؤلفة قلوبهم على وجه التفصيل ، فمن أراد فليرجع إلى صحيحه ».

٧٣

تحليل لكارثة التحكيم :

إنّ هناك أسئلة تطرح نفسها ونحن نجيب عنها مستندين إلى متون الروايات الواردة حولها :

الأوّل : لماذا اغتر المحكّمة بظواهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على رؤوس الأسنّة لأجل اللجوء إلى القرآن ، واجراء حكمه بين الطرفين ، مع أنّ عليّاً وكثيراً من أصحابه نبّههم على أنّ ذلك خدعة ومكيدة. والجواب : انّ الذي حملهم على قبول التحكيم في بادىء ذي بدء أمران :

١ ـ إنّ الخسارة البشرية الفادحة التي ألحقتها الحرب بالعراقيين (مع أنّ خسائر الشاميين كانت أكثر) كانت عاملا نفسيّاً مهمّاً لقبول التحكيم ودافعاً لهم إليه وفي كلام الإمام علي عليه‌السلام اشارة إلى ذلك :

قال ابن مزاحم : ذكروا أنّ الناس ماجوا وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال ، وقال قوم : نقاتل القوم على ما قاتلنا هم عليه أمس ، ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس ، ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة وثارت الجماعة بالموادعة فقام علي أميرالمؤمنين فقال : « إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، لقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوّكم فلم تترك ، وانّها فيكم أنكى وأنهك .... وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » (١).

ولعل النجاشي يشير إلى ذلك العامل في قصيدته إذ يقول :

غشيناهم يومَ الهرير بِعُصبة

يمانيّة كالسيل سيل عِرانِ

فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا

عليها كتاب الله خير قرآن

____________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

٧٤

ونادوا (١) : عليّاً ، يا ابن عمّ محمّد

أما تتقي أن يهلك الثقلان

فمن للذراري بعدها ونسائنا

ومن للحريم أيّها الفَتَيانِ (٢)

٢ ـ إنّ البساطة والسذاجة من الاُمور التي تسود أهل البادية حيث لا يملكون الوعي الفكري والتجربة الإجتماعية ، وجلّ القبائل التي كانت تحارب تحت لواء عليّ من القاطنين في البادية غير متمدّنين ، فطبيعة عيشهم هو الصدق والصفاء والإيمان بظواهر الاُمور دون أن يتعمّقوا فيها لمعرفة ما يدور خلف الستار من خفايا ، ولأجل ذلك اغتّروا بظاهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على الأسنّة لأجل الاستظلال في ظلّه والعيش تحت رايته.

غير أنّ الإمام والواعين من قادة جيشه علموا أنّ خلف هذا العمل مؤامرات وتفرّسوا بأنّ وارء هذا ليس إلاّ الفتنة ، ولأجل ذلك لمّا بعث علي عليه‌السلام أحد النخعيين إلى الأشتر لإيقاف الحرب ورجوعه إلى معسكر الإمام ، فسأله الأشتر عن سبب الفتنة ، وقال : « ألِرَفع هذه المصاحف؟ » قال نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقد اختلافاً وفرقة (٣).

٣ ـ إنّ عيشة القوم كانت عيشة قبيلة والنظام القبلي يفرض على كافة أفراد القبيلة ، الطاعة العمياء لرئيسها فإذا أصحر الرئيس بالرأي ، فالباقون بحكم الأغنام يتبعونه من دون تفكّر ووعي ، ولمّا كان في جيش علي عليه‌السلام رؤوس البطون ، وخضعوا للتحكيم ، لم يبق مجال لغيرهم في القبول والرفض ، ولأجل ذلك صار التحكيم فرضاً من جانب عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد ، ومن البعيد جداً أن يكون حكم كلّ واحد من هؤلاء صادراً عن وعي وامعان.

__________________

١ ـ يعني أهل العراق.

٢ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٦٠٢.

٣ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٦٢.

٧٥

الثاني : لماذا رجعوا عن التحكيم بعد فرضه على علي عليه‌السلام؟ :

إنّ القوم لم يكونوا أهل فكر واجتهاد ، وماكانوا يصدرون عن مبدأ عقلي في المواقف الصعبة والحَرِجةِ ، فكما أنّهم اغتّروا برفع المصاحف على الأسنّة ، اغترّ الكثير برأي بعض القرّاء حيث ردّ التحكيم بقوله سبحانه : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلّه ).

قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ويمرّ به على صفوف أهل الشام ، وراياتهم ، حتى مرّ برايات عنزة فقرأه عليهم. قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله ، ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية ، وهما أوّل من حكم (أي أنكر مبدأ التحكيم) ثم مرّ بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :

ما لعلي في الدماء قد حكم

لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

لا حكم إلاّ لله ولو كره المشركون.

ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم ، فقالوا : لا حكم إلاّ لله ولا نرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم ، فقال رجل منهم : « لا حكم إلاّ لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » وخرج عروة بن اُديَّة فقال : أتحكّمون الرجال في أمر الله؟ لا حكم إلاّ لله : فأين قتلانا يا أشعث؟ (١).

فزعموا أوّلا : أنّ حكم الله مضى في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أويدخلوا في حكمهم وانّ إيقاف الحرب والتنازل إلى الموادعة خلاف حكم الله

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٥٨. وجاء في ذيل كلامه انّ هؤلاء المخالفين أوبعضهم كانوا من المصرّين على التحكيم في بدء الأمر وانّما رجعوا عن فكرتهم عند عرض الكتاب.

٧٦

سبحانه.

ثانياً : انّ هذا تحكيم للرجال في دين الله ، وهو يضادّ النصّ الصريح في الذكر الحكيم أعني قوله تعالى : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلِّه ) وكلا الوجهين موجود ان في كلامهم يوم حاولوا فرض نقض الميثاق وطلبوه من علي عليه‌السلام يقول ابن مزاحم : فنادت الخوارج في كلّ ناحية :

لا حكم إلاّ لله ، لا نرضى بأن يحكّم الرجال في دين الله.

قد أمضى الله حكمه في معاوية واصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم(١).

ثالثاً : زعموا أنّ قبول التحكيم يستلزم أنّهم كانوا ضالّين في نضالهم وجهادهم ضد معاوية طيلة شهور ، ونتيجة ذلك أنّ ما ارُيقت منهم من الدماء ، وما قدموا في ذلك الطريق من الشهداء كانت على غير وجه الحق ولأجل ذلك لمّا قرأ الأشعث صحيفة الصلح على تميم ، قالوا : أتحكّمون الرجال في أمر الله لا حكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث (٢).

رابعاً : قالوا : إنّك نهيت عن الحكومة أوّلا ثم أمرت بها ثانياً ، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيباً ، وبأمرك مخطئاً ، وإن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئاً وبأمرك بها مصيباً ، فلابد من خطئك على كلّ حال.

هذه الوجوه الأربعة ممّا اغترّ به القوم ، وأرادوا فرض نقض التحكيم والميثاق على علي عليه‌السلام وهي تكشف عن بساطة القوم في المقام ، وإليك تحليل كل واحد من هذه الوجوه :

أمّا الوجه الأوّل :فإنّه وإن كان قد مضى حكم الله في معاوية وأصحابه أن

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٩٤.

٢ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٨.

٧٧

يقتلوا أو يدخلوا في حكم الإمام المفترض طاعته ، وكان الواجب على الإمام محاربتهم حتى تتحقّق احدى الغايتين ولكن التكليف بالمحاربة ، مرهون بالقدرة وعدم المانع من تحقيق التكليف ، والقوم سلبوا القدرة عن الإمام القائد ، حيث جاءوا إليه في عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد ، شاكي سيوفهم على عواتقهم يدعونه باسمه ويقولون : أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

أفي هذا الموقف الحرج يتصوّر أن تكون المحاربة تكليفاً شرعيّاً على الإمام أو يكون الحكم مرفوعاً بارتفاع قدرته على مواصلة الحرب ، إذ كانت نتيجة مواصلة الحرب هو قتل الإمام أوتسليمه إلى العدّو مكفوف اليدين ، ولكان الذل والوهن عندئذ أكبر وأفدح.

نعم ، رجعت القدرة إلى الإمام بعد ندامتهم على التحكيم واستعدادهم لمواصلة الحرب بعد الصلح وأخذ المواثيق ، ولكن كانت الندامة في غير محلّها وندموا ولم ينفعهم الندم حيث ضاعت الفرصة الذهبية ، إذ كما أنّ من حكمه سبحانه مواصلة حرب الطغاة وقد نطق بها الذكر الحكيم ، كذلك الايفاء بالمواثيق ، واحترام العقود والعهود من أحكام القرآن والسنّة المطهرّة. ولأجل ذلك أجاب علي عن اصرارهم على مواصلة الحرب بقوله : « ويحكم ، أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أوليس الله تعالى قال : ( اُوفُوا بالعقودِ ) وقال : ( واوفُوا بِعَهْدِ اللهِ اِذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيمانَ بَعْدَ تَوْكيدَها وقدْجَعَلْتُمْ الله عَلَيْكُمْ كفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونْ ) (١).

ولكن القوم كانوا بعيدين عن المنطق ، قريبي القعر ، سمعوا أدلّة الإمام ولم يجيبوا عنها بشيء إلاّ بتضليله والبراءة منه.وسوف نرجع إلى تحليل هذا

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٩.

٧٨

الوجه عند البحث عن الاباضيّة.

وأمَا الوجه الثاني : أعني كون هذا تحكيماً للرجال في دين الله : وهو خطأ. إنّ الإمام وأصحابه لم يحكّموا الرجال في دين الله بل حكّموا القرآن والذكر الحكيم فيما اختلفوا فيه ولكن القرآن شجرة يانعة وحجة صامتة لا تجتني ثمرته ولا يعلم مقاصده إلاّ بمن ينطقه وإلى ذلك يشير الإمام في بعض خطبه :

« إنّا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن ، هذا القرآن انّما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان ، وانّما ينطق عنه الرجال ، ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله سبحانه : ( فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شيء فَرِدُّهُ إلى اللهِ والرسول ) فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق النّاس وأولاهم بها » (١).

وفي كلام آخر له :

« فانّه حكم الحكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه ، فإن جرّنا القرآن إليهم ، اتبعناهم ، وإن جرّهم إلينا اتبعونا ، فلم آت ـ لا أباً لكم ـ بُجراً ولا خَتلْتكم عن أمركم ، ولا لبّستُه عليكم ، انّما اجتمع رأي مَلَئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألاّ يتعدَّيا القرآن (٢).

وقد جاء في نفس الميثاق الذي أملاه على التصريح بأنّ الحكم هوالقرآن ، وانّ دور الحكمين هو انطاق القرآن في محلّ النزاع وقد جاء في

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٥.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

٧٩

الميثاق قوله :

« وان كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن فان وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتّبعناه ، وإن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرقة » (١).

وبعد هذه الكلم الواضحة ، المعربة عن حقيقة الحال ، كان اصرارهم على نقض الميثاق صادراً عن جهل وعجز في الرأي.

وأمَا الوجه الثالث : أي أنّه يستلزم من قبول التحكيم كونهم ضالّين في نضالهم وجهادهم طيلة شهور ، وانّ الدماء التي اُريقت ، انّما اُريقت في غير وجه الحق ، فهو أوهن من الوجهين السابقين ، وذلك لأنّه سبحانه كما أمر بالقتال والنضال في كتابه وقال : ( قاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُوْمِنُونَ بِالله ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ .... ) (٢).

وقال سبحانه : ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةُّ وَيَكُونَ الدِينُ كَلُّهُ للهِ ... ) (٣)

كذلك أمر بالصلح والسلم في غير واحد من آياته ، وقال : ( وَاِن جَنَحُوْا لِلسَّلْمِ فَاْجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ .... ) (٤)

وقال سبحانه :

( وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوْا فَاَصْلِحُوْا بَيْنَهُما فَاِنْ بَغَتْ إحْديهُما عَلى الاُخْرى فَقاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتّى تَفِىء إلَى أمْرِ الله فَإنْ فَآتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالْعَدْلِ

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٣٨.

٢ ـ التوبة : ٢٩.

٣ ـ الأنفال : ٣٩.

٤ ـ الأنفال : ٦١.

٨٠