بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ظبّة ، منهم : كعب بن سور القاضي ، كلّما قطعت يد واحد منهم فصرع ، قام آخر فأخذ الخطام ، ورمي الهودج بالنبل ، حتى صار كأنّه قنفذ ، وعُرْقبَ الجمل ولمّا سقط ووقع الهودج ، جاء محمّد بن أبي بكر فأدخل يده ، فقالت : « من أنت؟ » فقال : أخوك ، يقول أمير المؤمنين هل أصابك شيء ، قالت : « ما أصابني إلاّ سهم لم يضرَّني » فجاء علي حتى وقف عليها وضرب الهودج بقضيب وقال : « يا حميراءُ أرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمركِ بهذا ، ألم يأمركِ أن تقرّي في بيتكِ ، والله ما أنصفكِ الذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم ، وأبرزوك » وأمر أخاها محمداً ، فأنزلها دار صفيّة بنت الحارث بن طلحة.

ولمّا وضعت الحرب أوزارها جهّز علي عليه‌السلام عائشة للخروج إلى المدينة فقالت له : « إنّي اُحبّ أن اُقيم معك فأسير إلى قتال عدوّك عند مسيرك » فقال : « ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله » فسألته أن يؤمّن ابن اختها عبدالله بن الزبير ، فأمَّنه ، وتكلّم الحسن والحسين في مروان ، فأمَّنه ، وأمّن الوليد بن عقبة ، وولد عثمان وغيرهم من بني اُميّة وامّن الناس جميعاً ، وقد كان نادى يوم الوقعة « مَنْ ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ».

وكانت الوقعة في الموضع المعروف بالخريبة وذلك يوم الخميس لعشر خلون من جُمادى الآخرة سنة ٣٦ وخطب على الناس بالبصرة بخطبة ، وقد قتل فيها ، من أصحاب علي عليه‌السلام خمسة آلاف ومن أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألف رجل ، وكان بين خلافة علي ووقعة الجمل خمسة أشهر وواحد وعشرون يوماً.

وولّى على البصرة ، عبدالله بن عباس ، وسار إلى الكوفة فدخل إليها في

٤١

الثاني عشر من رجب شهور سنه ٣٦ (١).

ولكن الإمام عبده ، نقل انّه قتل سبعة عشر ألفاً من أصحاب الجمل وقتل من أصحاب علي ألف وسبعون (٢).

وعلى كل تقدير فهذه الضحايا كانت خسارة عظيمة في الإسلام ، وقد عرقلت خطاه ، وشلّت الزحوف الإسلامية في أوّل عهدها في الفتوح ، ولولا هذه الحروب الداخلية ، لكان للعالم حديث غير هذا ، ولو كان الإمام هو القابض لزمام القيادة في جو هادىء ، لكان الوضع السائد على الإسلام ، غيرما هو المشاهد ـ وياللأسف ـ.

« ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ».

وقد حفظ التاريخ من الامام يوم ذاك عواطف سامية وسماحة ورحب صدر على حدّ لم يسبق إليه أحد ، غير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما فتح مكّة ، فلم يأخذ من أهل البصرة شيئاً سوى ما حواه العسكر. وكان هناك جماعة يصرّون على أن يأخذ الامام منهم ، عبيداً وإماءً فاسكتهم الإمام بقول : أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنّين في سهمه (٣). وقد علّم الامام بسيرته كيفيّة القتال مع البغاة من أهل القبلة.

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب ٣ / ١٠٧ ـ ١١٧. بتلخيص : لاحظ الطبري : التاريخ ٣ / ٥٤٣.

٢ ـ الإمام عبده : شرح نهج البلاغة ٤٠.

٣ ـ وسائل الشيعة ١١ / ٥٩ ـ ٦٠.

٤٢

قتال القاسطين

(٢)

حرب صفّين

قد تعرفت على أنّ النبي الأكرم أخبر عليّاً بأنّه سيقاتل القاسطين بعد الناكثين ، وقد وقفت على مأساة حرب الناكثين وعرفت نواياهم وجناياتهم عن كثب ، التي ارتكبوها في طريق ألتسنُّم على عرش القيادة ، وأراقوا دماء بريئة حتى يُسمُّوا أمير المؤمنين وما أجرأهم على حرمات الله وماأشقاهم.

هلم معي نقرأ مأساة قتال القاسطين الذين حادوا عن الحق ، والطريق المهيع ، وحاربوا الإمام المفترض طاعته ، يقودهم معاوية بن أبي سفيان ابن آكلة الأكباد ، ولاغرو فإنّ أباه هو العدوّ الأوّل للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حزّب الأحزاب على الإسلام والمسلمين.

٤٣

الخلافة كانت الامنية القصوى لمعاوية :

إنّ الخلافة كانت اُمنية في نفس معاوية ، ولكن تقلُّدَ الإمام للخلافة ، أفسد عليه الأمر ، ولم يكن باستطاعته منافسة الإمام علي عليه‌السلام ولأجل ذلك حاول إحداث الصدع في صفِّ الاُمّة ، فأطمع الشيخين في طلب الخلافة ، وقد قُتِلا خائبين فلم يَجد مناصاً إلاّ أن يقوم في وجه الامام تحت ستار أخذ ثأر الخليفة المظلوم.

كان معاوية ـ يطلب من الإمام ـ طول محاربته ـ اقراره على ولاية الشام كاقرار الخليفتين له حتى يُسلِّم له الأمر ويعترف بخلافته ، ولكن الإمام عليّاً لم يرض ببقائه في الحكم لعلمه بسوء عمله خلال ولايته.

وقد أشار إلى ابقائه المغيرة بن شعبة ، وقال : واترك معاوية ، فإنّ لمعاوية جرأة فهو في أهل الشام يُسمع منه ولك حجة في اثباته لأنّ عمر بن الخطاب ولاّه الشام كلّها ، ولكن الإمام لم يقبل اقتراحه ، وقال : « لا والله لا استعمل معاوية يومين أبداً » (١).

بعث الإمام جريراً إلى ولاية الشام ليأخذ منه البيعة ، فأتى معاويةُ جريراً في بيته فقال : يا جرير إنّي قد رأيت رُؤياً ، فقال : هات ، قال : اكْتُب إلى صاحبك ليجعل لي الشام ومصر ، جباية ، فإذا أحضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي ، واُسلِّم له هذا الأمر واكْتُبُ إليه بالخلافة ، فقال جرير : اكتب بما أردت ، فكتب معاوية بذلك إلى علي ، فلمّا وصل كتاب جرير مع كتاب معاوية ، فكتب علي إلى جرير : أمّا بعد فإنّما أراد معاوية أن لا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحبَّ (٢) ، وأراد أنْ يريّثك حتى يذوق أهل الشام ،

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٦١.

٢ ـ سيأتي التصريح بذلك في كتاب معاوية إلى الإمام قرب ليلة الهرير ، والامام تفطّن بذلك بنور الله الذي ينظر به المؤمن.

٤٤

وأنّ المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله يراني أتّخذ المضلّين عضداً ، فإن بايعك الرجل ، وإلاّ فاقبل (١).

كتب معاوية إلى علي مرة اُخرى قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة يسأله اقراره على الشام ، وذلك انّ عليّاً قال : لاُناجزنَّهم مصبحاً ، وتناقل الناس كلمته ، ففزع أهلُ الشام لذلك ، فقال معاوية : قد رأيت أن اعاوِدَ عليّاً وأسأله اقراري على الشام ، فقد كنت كتبت إليه ذلك ، فلم يجب إليه ولاُكْتُبنّ ثانية ، فألقي في نفسه الشك والرقّة ، فكتب إليه :

« أمّا بعد ... وقد كنت سألتك الشام على الاّ تلزمني لك بيعة وطاعة ، فأبيت ذلك عليّ فأعطاني الله مامنعت وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ... ».

فكتب في جوابه : « ... وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك اليوم مامنعتك أمس » (٢).

هذه الكتب وغيرهما من القرائن والشواهد ، تعرب عن أنّ الغاية الوحيدة لابن أبي سفيان ، هو الولاية على الشام وبقاؤه في الحكم ، مادام عليّ على قيد الحياة ، ثم السيطرة على جميع البلاد الاسلامية ، وأمّا طلب ثأر عثمان ، والقصاص من قتلته ، فكلّها كانت واجهة لما كان يضمره ويخفيه ، ولأجل ذلك نرى أنّه لمّا تمّ الأمر لصالحه ، تناسى قتلة عثمان وتناسى الأخذ بثأره ، وليس هذا ببعيد من الساسة الذين لا يتحلون بالمبدئية في سلوكهم ، ويرفعون عقيرتهم بشعارات خادعة من أجل تحقيق أطماعهم الشخصية.

__________________

١ ـ نصربن مزاحم : وقعة صفين ٥٢.

٢ ـ ابن قتيبة : الإمامة والسياسة ١ / ١٠٩. ابن مزاحم : وقعة صفين ٤٧٠.

٤٥

وبذلك تقف على مؤامراته وخططه الشيطانية ، حيث كان شعاره منذ أن خالف : يالثارت عثمان.

وقد ردّ الإمام عليه في بعض كتبه إليه وفي بعضها مانصّه :

« قد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل الناس ، ثم حاكم القوم إليّ ، أحْمِلُك وإيّاهم على كتاب الله » (١).

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة أنّ الاُمنية الكبرى لمعاوية من تسعير نار الحرب ، هو البقاء على السلطة ، وتقلّد الخلافة العامة بعد علي ، ولم يكن له أيّ إربة في مايدعيه ، وينشره من أخذ الثأر وغيره ، فلزم عندئذ أن نتعرّف على خططه في تلك الحرب الطاحنة التي سعّرها بأنانّية.

مخططات معاوية :

كانت صحابة النبي الأكرم من أوّل يوم تُقلِّد الإمام علي الخلافة ، وراءه يؤّيدونه بألسنتهم وأيديهم ، إلانفر قليل لم يبايعوه وهم لايتجاوزن عدد الأصابع (٢) ولم يكن لمعاوية ما كان لعلي من السبق في الإسلام ، والجهاد في سبيل الله ، والقرابة الوثيقة من النبي الأكرم ، فلم يكن له بدّ من التخطيطات الشيطانية حتى يقف سدّاً في وجه علي ، وإليك تخطيطاته :

١ـ الاتصال بعمرو بن العاص :

أنّ عمروبن العاص ، كان داهية العرب ، وقد اتّصل به معاوية وكان منحرفاً عن عثمان لأنّه عزله عن ولاية مصر ، وولاّها غيره ، فلمّا بلغ إليه خبر

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، قسم الكتب برقم ٦٤. المبرّد : الكامل ١ / ١٩٤.

٢ ـ ابن الأثير : الكامل ٣ / ٩٨ وقد ذكر أسماءهم.

٤٦

بيعة الناس لعلي ، كتب إلى معاوية يهزِّه ويشير إليه بالمطالبة بدم عثمان ، وكان فيما يكتب به إليه : « ما كت صانعاً إذا قُشِرْتَ من كل شيء تملكه؟ فاصنَع ما أنت صانع » فبعث إليه معاوية فسار إليه ، فقال له معاوية : بايعني ، قال : « لا والله لا اُعطيك من ديني (١) حتى أنال من دنياك ». فقال : « سل » ، قال : « مصر طعمة » ، فأجابه إلى ذلك وكتب له به كتاباً ، فقال عمروبن العاص في ذلك :

معاوي لا اُعطيك ديني ولم أنل

به منك دنياً فانظرن كيف تصنع

فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة

أخذت بها شيخاً يضرّ وينفع (٢)

٢ ـ قميص عثمان المخضَّب بالدم :

قدم النعمان بن بشير بكتاب زوجة عثمان وقميصه المخضَّب بالدم ، إلى معاوية فلمّا قرأ معاوية الكتاب صعد المنبر وجمع الناس ، ونشر عليهم القميص ، وذكر ماصنعوا بعثمان ، فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق ، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه ، فقام إليه أهل الشام ، فقالوا : هو ابنُ عمِّك وأنت وليّه ، ونحن الطالبون معك بدمه ... فبايعوه أميراً وبعث الرسل إلى كور الشام ، حتى بايعه الشاميون قاطبةً إلاّ من عصمه الله (٣).

٣ ـ الاستنصار بالشخصيات المرموقة :

وجّه عليّ عند مغادرته البصرة إلى الكوفة كتاباً إلى معاوية يدعوه إلى

__________________

١ ـ اظن انّ الرجل باع مالا يملك ولم يكن له أيّ دين في ذاك اليوم ، وقد نهى رسول الله عن بيع مالا يملكه الرجل. وقال : لاتبع ماليس عندك.

٢ ـ المسعودي : مروج الذهب ٣ / ٩٨. الطبري : التاريخ ٣ / ٥٦٠.

٣ ـ ابن الاثير : الكامل ٣ / ١٤١ ـ ذكر ابتداء وقعة صفّين.

٤٧

بيعته ويذكر فيه اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ، ونكث طلحة والزبير ، وماكان من حربه إيّاهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته (١).

ولمّا قرأ معاوية كتاب علي استشار عمروبن العاص ، فأشار إليه بقوله : « إنّ رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكنديّ ، وهو عدو لجرير المرسَل إليك ، فارسل إليه ووطّن له ثقاتك فليفشوا في الناس أنّ علياً قتل عثمان وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل فإنّها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب ، وإن تعلّقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبداً ».

فكتب معاوية إلى شرحبيل انّ جرير بن عبدالله قدِم علينا من عند عليّ بن أبي طالب بأمر فظيع ، فاقبل.

فلمّا قدم كتابُ معاوية على شرحبيل وهو بحمص ، استشار أهلَ اليمن (المتواجدين في حمص) فاختلفوا فيه ولكن عبدالرحمن بن غنم الأزدي أشار إليه بقوله : « إنّ الله لم يزل يزيدك خيراً مذ هاجرت إلى اليوم ، وانّه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من النّاس ، ( ولايُغيِّر الله ما بِقَوْم حتّى يُغَيّروا ما بِاَنْفُسِهِم ) ، إنّه قد اُلقِىَ إلينا قتل عثمان وانّ عليّاً قتل عثمان ، فإن يك قَتَله فقد بايعه المهاجرون والأنصار وهم الحُكّام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصُدِّق معاوية عليه ، لا تُهْلِك نفسك وقومك ، فان كرهت أن يذهب بحظِّها جرير ، فسر إلى عليّ ، فبايعه على شامك وقومك ، فأبى شرحبيل إلاّ أن يسير إلى معاوية.

لم يكن عبدالرّحمن بن غنم الأزدي الرجل الوحيد الذي نصحه بل اجتمع هو مع جرير ، فقال له جرير أمّا قولك إنّ عليّاً قتل عثمان ، فوالله ما في

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٥٦٠ ـ ٥٦١.

٤٨

يديك من ذلك إلاّ القذف بالغيب من مكان بعيد ولكنّك مِلْتَ إلى الدنيا (١).

كان مبعوث الإمام يحاول أن يرد شرحبيل عن دَعْم فكرة معاوية ، فكتب إليه أيضاً كتاباً ضمَّنه قصيدة ، فلمّا قرأه شرحبيل ذعر وفكَّر وقال : هذه نصيحة لي في ديني ودنياي ، والله لاأعجل في هذا الأمر بشيء.

فلمّا بلغ معاوية تردّد زاهد الشام وناسكه لفَّف له الرجال ، يدخلون إليه ويخرجون ويُعظِّمون عنده قتل عثمان ، ويرمون به عليّاً ويقيمون الشهادة الباطلة ، والكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه وشحَّذُوا عزمه ، وصار معاوية يملك قلوب الشاميين بواسطة هذا الرجل المتخّبط ، ولمّا استنهضهم للقتال قاموا جملة واحدة.

٤ ـ رسائل معاوية إلى الشخصيات :

قام معاوية بإرسال رسائل إلى شخصيات إسلامية كانوا محايدين ، فكتب إلى عبدالله بن عمر ، وسعد بن أبي وقّاص ، ومحمّد بن مسْلمة ، يدعوهم إلى الثورة على علي ، فكتب إلى ابن عمر بقوله : « لم يكن أحد من قريش أحبَّ إليّ أن يجتمع عليه الأُمّة بعد قتل عثمان منك ، ثم ذكرتُ خَذْلك إياه ، وطعنَك على أنصاره ، فتغيّرتُ لك ، وقد هوَّن ذلك عليَّ خلافُك على عليّ ، ومَحا عنك بعض ما كان مَنك ، فأعِنَّا يرحمك الله ـ على حق هذا الخليفة المظلوم ، فإنّي لست اُريد الإمارة عليك ، ولكنّي اُريدها لك ، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين.

وكتب إلى سعد بن أبي وقّاص : أمّا بعد فإنّ أحق الناس بنصرة عثمان ، أهل الشام والذين أثبتوا حقَّه واختاروه على غيره (٢) وقد نصره طلحة والزبير ،

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٤٥ ـ ٤٨.

٢ ـ يريد بذلك سعد بن أبي وقاص حيث نصر عثمان في الشورى المعقوده لتعيين الخليفة بعد قتل عمر ، بأمره.

٤٩

وهما شريكاك في الأمر والشورى ، وناظراك في الاسلام ...

وكتب إلى محمّد بن مسلمة يتّهمه بخذلان عثمان ويقول « .... فهّلا نهيتَ أهلَ الصلاة عن قتل بعضهم بعضاً أوترى أنّ عثمان وأهل الدار ليسوا بمسلمين .... » (١).

فهذه الاُمور تعرب عن تخطيطاته الخادعة التي حفظ التاريخ بعضها فكان يُعْمِي الأبصار والقلوب بأكاذيبه ورسائله ، فتارة يبايع الزبير وطلحة ، ولمّا فشل أمرهما ، صار يُقدِّم عبدالله بن عمر في أمر الخلافة لولا أنّه خذل عثمان ولم ينصره ، كل ذلك لعكر الصفو وإحداث الصدع.

إنّ ابن عمر ـ مع سذاجته ـ وقف على نوايا معاوية ، فكتب إليه بكلمة صادقة ، وقال : ما أنا كعلي في الإسلام ، والهجرة ، ومكانه من رسول الله.

ويجيب سعد بن أبي وقّاص رسالة معاوية بقوله : إن أهل الشورى ليس منهم أحقُّ بها من صاحبه غير أنّ عليّاً كان من السابقة ، ولم يكن فينا مافيه ، فشاركنا في محاسننا ، ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقَّنا كلّنا بالخلافة.

ويجيب محمّد بن مسلمة ، كتاب معاوية ويفشي سرّه ويقول بعد كلام : « ولئن نصرتَ (يا معاوية) عثمان ميّتاً ، لقد خذَلْته حيّاً » (٢).

جهود علي ومساعيه لإخماد الفتنة :

بلغ عليّاً سعي معاوية لإثارة الفتنة بنشر الأكاذيب بين الشاميين وتعمية القلوب ، فعمد إلى إخمادها قبل اشتعالها وكان الإمام على بيّنة من ربّه ، وكيف لا وهو الإمام المنتخب ببيعة الأنصار والمهاجرين ، والخارج عليه ، خارج على

__________________

١ ـ ابن قتيبة الدينوري : الإمامة والسياسة ١ / ٩٢ ـ ٩٣.

٢ ـ ابن قتيبة الدينوري : الإمامة والسياسة ١ / ٩٣ ـ ٩٤.

٥٠

الإمام المفترض الطاعة (١) فلمّا أراد المسير إلى الشام جمع من كان حوله من المهاجرين والأنصار فحمدالله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعدُ : فإنّكم ميامين الرأي ، ومراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوّكم فأشيروا علينا برأيكم ، فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص ، وعمّار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري يحثّون عليّاً عليه‌السلام على قطع جذور الفتنة.

فقال عمّار : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت أن لا تُقيم يوماً واحداً فافعل. اشخص قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادْعهم إلى رشدهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلاّ ضربَنا ، فوالله إنّ سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وهو كرامة فيه.

وقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمتَ وحرب لمن حاربتَ ورأينا رأيك ونحن كف يمينك.

إلى كلمات محرّضة وجمل حاثّة إلى الكفاح واخماد النار قبل اشتعالها. فلمّا سمع الإمام هذه الكلم النابعة من صميم الإيمان والنصح للإسلام ، قام خطيباً على منبره فحمدالله وأثنى عليه ثم قال : سيروا الى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار (٢).

يقول المسعودي : كان مسير علي عليه‌السلام من الكوفة إلى صفّين

____________

١ ـ أين الذين يقولون « ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ، وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لايقاتلوا في الفتن » لا حظ مقالات الاسلاميين ٣٢٣ ، للامام الأشعريّ.

٢ ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين ٩٢ ـ ٩٣.

٥١

لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين ، واستخلف على الكوفة أبا مسعود ، عُقْبة بن عمرو الأنصاري ، فاجتاز في مسيره بالمدائن ، ثمّ أتى الأنبار حتى نزل الرقة فعقدله هنالك جسر فعبر إلى جانب الشام ، وقد اختلف في مقدار من كان معه من الجيش ، والمتّفق عليه من قول الجميع تسعون ألفاً.

وسار معاوية من الشام إلى جانب صفّين ، وقد اختلف من كان معه ، والمتّفق عليه من قول الجميع خمسة وثمانون ألفاً (١).

خروج معاوية إلى صفّين :

خرج معاوية من الشام وقدم صفّين وغلب على الماء ، ووكّل أبا الأعور السلمي بالشريعة في أربعين ألفاً ، وبات علي وجيشه في البرّ عطاشى ، قد حيل بينهم وبين الورود ، فقال عمروبن العاص لمعاوية : إنّ عليّاً لا يموت عطشاً ومعه تسعون ألفاً من أهل العراق دعهم يشربون ونشرب ، فقال معاوية : لا والله أويموت عطشاً كما مات عثمان.

استعادة الشريعة من جيش معاوية :

دعا علي بالأشتر فبعثه في أربعة آلاف من الخيل والرجالة ، ثمّ سار عليّ وراء الأشتر بباقي الجيش ، فما ردّ وجهه أحد حتى هجم على عسكر معاوية ، فأزال أبا الأعور عن الشريعة ، وغرق منهم بشراً وخيلا. وتراجع جيش معاوية عن الموضع الذي كان فيه ، فقال معاوية لعمروبن العاص : أترانا ليمنعنا الماء كمنعنا إيّاه ، فقال له عمرو : لا ، لأنّ الرجل جاء لغير هذا ، فأرسل إليه معاوية يستأذنه في ورود مشرعته واستقائه الماء في طريقه ، ودخول رُسُله في عسكره ،

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب ٣ / ١٢١.

٥٢

فأجاب علي إلى كل ما سأل وطلب منه (١).

نزل الإمام علي منطقة صفّين في أوّليات ذي الحجة عام ٣٦ ، والشهر من الأشهر الحرم ، وبعث إلى معاوية يدعوه إلى إجتماع الكلمة والدخول في جماعة المسلمين ، فطالت المراسلة بينهما فاتّفقوا على الموادعة إلى آخر محرّم سنة سبع وثلاثين.

ولمّا انقضى شهر محرّم ، بعث علي إلى أهل الشام إنّي قد احتججت عليكم بكتاب الله تعالى ، ودعوتكم إليه ، وإنّي قد نبذت إليكم على سواء ، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين. فما كان جوابهم إلاّ قولهم : السيف بيننا وبينك حتى يهلك الأعْجزُ منّا.

أصبح عليّ يوم الأربعاء وكان أوّلَ يوم من شهر صفر ، فعبّأ الجيش وأخرج الأشتر أمام الجيش ، فأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهري ، وكان بينهم قتال شديد وأسفر عن قتلى بين الفريقين جمعياً.

امتدت الحرب كل يوم إلى عاشر ربيع الأوّل عام سبع وثلاثين وكان النصر حليفه في كل يوم إلى أن لم يبق للعدو إلاّ النفس الأخير ، فعنذاك قام علي ينادي :

ياالله ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا واحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا الله ، يا الله ، اللّهُمّ إليك نقلتِ الأقدام ، وأفضتِ القلوب ، ورفعت الأيدي ، وامتدّت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وطلبت الحوائج ، اللّهُمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا ، وكثرة عدوّنا وتشّتت أهوائنا ، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ، ثم قال :

سيروا على بركة الله ، ثم لا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، كلمة التقوى.

__________________

١ ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين ١٥٧ ـ ١٦٢.

٥٣

قال الراوي : لا والله الذي بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق ماسمعنا برئيس قدم منذ خلق الله السموات والأرض ، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب. إنّه قتل فيما ذكره العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب (١).

ثمّ قام علي خطيباً وقال : أيّها النّاس قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ولم يبق منهم إلا آخر نفس ، وإنّ الاُمور إذا اقْبلت اعتُبر آخرُها بأوّلها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين ، حتّى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا عاد عليهم بالغداة ، أحاكمهم الى الله عزّوجل.

فبلغ ذلك معاوية فدعا عمروبن العاص فقال : يا عمرو انّما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل ، فمّا ترى؟ قال : إنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على غيره. أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم ، ولكن ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردّوه اختلفوا ، ادْعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم ، فإنّك بالغ به حاجتك في القوم فإنّي لم أزل اُأخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه ، فعرف ذلك معاوية ، فقال صدقت (٢).

يقول تميم بن حذيم : لمّا أصبحنا من ليلة الهرير ، نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام فلمّا أسفرنا فإذا هي مصاحف قد ربطت أطراف الرماح ، وهي عِظامُ مصاحِف العسكر ، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعاً ، وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم ، يُمسكه عشرة رهط ، وقال أبوجعفر وأبوالطفيل : استقبلوا عليّاً بمائة مصحف ، ووضعوا في كل مُجَنَّبة مائتي مصحف ، وكان

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٤٧٧.

٢ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٤٤ ـ ٥٤٨.

٥٤

جميعها خمسمائة مصحف. قال أبوجعفر : ثمّ قام الطفيل بن أدهم حِيالَ علي وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ، ثمّ نادوا : .... يا معشر العرب ، الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم؟ الله الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال علي : اللّهُمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنّك أنت الحكيم الحق المبين. فاختلف أصحاب عليّ في الرأي. فطائفة قالت : القتال ، وطائفة قالت : المحاكمة إلى الكتاب ، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دُعِينا إلى حكم الكتاب. فعند ذلك بطلت الحروب ووضعت أوزارها ، فقال محمّد بن علي : فعند ذلك حكم الحكمان.

وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش علي عليه‌السلام حيث زعموا أنّ اللجوء إلى القرآن لأجل طلب الحق ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان ، وأنّها كلمة حق يراد بها باطل وانّ الغاية القصوى منها ، هو إيجاد الشقاق والنفاق في جيش علي وتثبيط هممهم حتى تخمد نار الحرب التي كادت أن تنتهي لصالح علي وجيشه ، وهزيمة معاوية وناصريه.

ولكن الخديعة كانت قد وجدت لها طريقاً في جيش العراق حتى سمع من كل جانب : الموادعة إلى الصلح والنازل لحكم القرآن ، فلمّا رأى علي عليه‌السلام تلك المكيدة وتأثيرها في السذّج من جيشه قام خطيباً وقال : « أيّها الناس إنّي أحقُّ مَنْ اجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية وعمروبن العاص ، وابن أبي معيط وحبيب ابن مسْلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، إنّها كلمة حق يراد بها باطل : إنّهم والله ما رفعوها لأنّهم

٥٥

يعرفونها ويعلمون بها ، ولكنّها الخديعة والمكيدة. أعيروني سواعِدَكم وجَماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا » (١).

وقد كان لخطاب علي أثر إيجابي في قلوب المؤمنين الواعين حيث أدركوا ماذا خلف الكواليس من مؤامرات وفتن ، وحجبت البساطة فهم ذلك على قلوب القشريين من أهل البادية ، الذين ينخدعون بظواهر الاُمور ، ولا يتعمّقون ببواطنها ، ففوجىء علي عليه‌السلام بمجييء زهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد شاكي سيوفهم وقد اسودَّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه بإسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا : يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيتَ وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم.

فقال الإمام لهم : « ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فانّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون » قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتينّك ، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله.

فلم يجد علي عليه‌السلام بداً من بعث رسول إلى الأشتر ليأتيه ، فأرسل إليه علي ، يزيد بن هاني أن ائتني ، فأتاه ، فأبلغه ، فقال الأشتر : ائته فقل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي ، أنّي قد رجوت الفتح فلا تعجلني ، فرجع يزيد بن هاني إلى علي عليه‌السلام فاخبره ، فما هو إلاّ أن

__________________

١ ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين ٥٦٠.الطبري : التاريخ ٤ / ٣٤ ـ ٣٥.

٥٦

علت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والادبار لأهل الشام فقال القوم لعلي عليه‌السلام : والله ما نراك أمرته إلاّ بالقتال ، قال علي عليه‌السلام : أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلاّ فوالله اعتزلناك ، فقال الإمام : ويحك يا يزيد قل له اقبل فإنّ الفتنة قد وقعت ، فأتاه فأخبره.

فقال الأشتر : أبرفع هذه المصاحف؟ قال : نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة أنّها من مشورة ابن النابغة ، ثم قال ليزيد بن هاني : ويحك ألاترى إلى الفتح؟ ألاترى إلى مايلقون؟ ألاترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف له؟.

فقال له يزيد أتحبّ أنّك ظفرت ها هنا وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ، ويسلّم إلى عدوّه؟ قال : سبحان الله ، لاوالله الا أحبّ ذلك ، قال : فانّهم قد قالوا له وحلفوا عليه لتُرسِلن إلى الاشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان ، أو لنسلّمنّك إلى عدوّك.

فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم ، فصاح : يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم وظنّوا أنّكم قاهرون ، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها ، وتركوا سنّة من أنزلت عليه ، امهلوني فواقاً ، فإنّي قد أحسست بالفتح؟ قالوا : لا نُمْهلك ، فقال : أمهلوني عدوة الفرس ، فإنّي قد طمعت في النصر؟ قالوا : إذاً ندخل معك في خطيئتك.

فسّبوه وسبّهم ، وضربوا بسياطهم وجه دابّته ، وضرب بسوطه وجوه دوابهم وصاح عليّ عليه‌السلام بهم فكفّوا ، وقال الأشتر يا أميرالمؤمنين احمل الصف على الصف ، يصرَع القوم ، فتصايحوا : إنّ أمير المؤمنين قد قبل الحكومة

٥٧

ورضي بحكم القرآن ، فقال الأشتر : إن كان أميرالمؤمنين قد قبل ورضى ، فقد رضيت بما رضي به أميرالمؤمنين.

فأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أميرالمؤمنين ، وهو ساكت لا يبضُّ بكلمة ، مطرق إلى الأرض (١).

ثم قام فسكت الناس كلّهم فقال : « أيّها الناس إنّ أمري لم يزل معكم على ما أحبُّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوّكم فلم تترك ، إلاّ انّي قد كنت أمس أمير المؤمنين فصرت مأموراً ، وكنت ناهياً فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » (٢).

قال نصر بن مزاحم : ثمّ تكلّم رؤساء القبائل فكل قال مايراه ويهواه ، فقام كردوس بن هاني البكري يدعوا الناس إلى تسليم الأمر إلى عليّ ، كما قام شقيق بن ثور البكري يدعوا الناس إلى الصلح والموادعة ويقول : وقد أكلتنا هذه الحرب ولا نرى البقاء إلاّ في الموادعة (٣).

هذه الحوادث المؤلمة التي أسفرت عن مؤامرة خبيثة يراد منها ايقاع الفتنة والخلاف في جيش علي عليه‌السلام إلى النزول إلى حكم القوم كرهاً بلا اختيار ، واضطراراً لا عن طيب نفس.

فبعث علي قرّاء أهل العراق ، وبعث معاوية قرّاء أهل الشام ، فاجتمعوا بين الصفّين فنظروا فيه وتدراسوه واجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ، وأن يميتوا ما أمات القرآن ، ثم رجع كل فريق إلى أصحابه ، وقال الناس : « قد رضينا

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٦٠ ـ ٥٦٤.

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٠. نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٥٣.

٣ ـ نصربن مزاحم : وقعة صفيّن ٥٥٤.

٥٨

بحكم القرآن ».

فرض التحكيم أوّلا ، وفرض المحكّم ثانياً :

ولقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ أنّهم فرضوا نفس التحكيم على الإمام المفترض طاعته ببيعة المهاجرين والأنصار ، ولم يبق بينه وبين الفتح والظفر على العدو إلاٌّ قاب قوسين أوأدنى أوبمقدار عدوة الفرس كمّا قاله الأشتر.

إنّهم ـ قبّح الله وجوههم ـ لم يكتفوا بهذا الحد في قلّة الأدب ، بل فرضوا عليه المحكّم ، فإن الإمام لمّا لَم يَر بدّاً من قبول التحكيم فاقترح عليهم أن يكون المحكّم من جانبه أحد الرجلين : ابن عمّه ـ عبدالله بن عباس ـ أو الأشتر.

ولكنّهم رفضوا كل ذلك وأبوا إلاّ نيابة أبي موسى الأشعري الذي خذل عليّاً عليه‌السلام في بداية خلافته ، ولم يبايعه إلاّ باكثار الناس ولم يشجّع أهل الكوفة على نصره بل سكت.

يقول ابن مزاحم : قال اهل الشام : فإنّا قد رضينا واخترنا عمروبن العاص ، فقال الأشعث والقرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد : فانّا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري ، فقال لهم علي عليه‌السلام : « إنّي لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أولِّيه » فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القرّاء : انّا لا نرضى إلاّ به ، فإنّه قد حذّرنا ما وقعنا فيه ، قال علي عليه‌السلام : « فإنّه ليس لي برضى ولكن هذا ابن عباس اُوّليه ذلك ، قالوا : والله ما نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ولا نريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، قال علي : فإنّي أجعل الأشتر ، فقال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر.

٥٩

حتى انّ عليّاً اقترح عليهم الأحنف بن قيس فأبوا أن يقبلوه ، وقالوا : لايكون ألاّ أبا موسى ، وقد كان معروفاً بأنّه قريب القعر ، كليل الشفرة ، فلم ير علي عليه‌السلام بداً من قبول أبي موسى ، وقد كان الإمام عارفاً ببساطته وسذاجته ، وكانت في ذلك خسارة عظمى لحزب علي عليه‌السلام وأشياعه إلى حدّ وصفها الشاعر بقوله :

لو كان للقوم رأي يُعْصمونَ به

من الظلال رَمَوكم بابن عباس

لله درُّ أبيه أيُّما رجل

ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس

أن يخلُ عمروبه ، يقذفه في لجج

يَهوي به النجمُ تَيْساً بين أتياس

ابلغ لديك عليّاً غير عاتِبِه

قول امرىء لا يرى بالحقِّ من بأس (١)

لقد كان عليّ عليه‌السلام واقفاً على انحراف أبي موسى عنه ، وانّ هواه مع غيره ، ومع ذلك لم يجد بدّاً عن الرضا بما فرض عليه البسطاء من جيشه ، وهذا هو الأحنف بن قيس من أصدقاء علي عليه‌السلام وخُلّصِ شيعته ، فقد امتحن أبا موسى بعد ما نُصِبَ حكماً من قبل علي عليه‌السلام فقال له ممتحناً : « فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي ، فخّيره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا فإنّهم يولّونا الخيار فنختار من نريد ، وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا ، فإن فعلوا كان الأمر فينا ، فقال أبو موسى : قد سمعت ما قلت ، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي عليه‌السلام فرجع الأحنف إلى علي عليه‌السلام فقال له : أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل مخضة. لا أرانا إلاّ بعثنا رجلا لا ينكر خلعك ، فقال علي عليه‌السلام : الله

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٧٥ ـ ٥٧٦.

٦٠