بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

٢ ـ قال تعالى : ( وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ الُْمحْصَنَـتِ الْمُؤْمِنَـتِ فَمِن مَّا مَـلَكَتْ أَيمَـنُكُمِ مِّنْ فَتَيَـتِـكُمُ الْـمُؤْمِنَـتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّنْ بَعْض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (١).

استدّل بالآية على المنع بوجهين :

أ ـ إنّ الآية تأمر من لم يجد ما يتزوّج به الحرائر المؤمنات من المهر والنفقة ، أن ينكح الإماء المؤمنات فإنّ مهور الإماء أقلّ ومعونتهنّ أخف عادة ، فلو جاز نكاح الكافرة في هذه الحالة لزم جواز نكاح الأمة المؤمنة مع الحرّة الكافرة ، ولم يقل به أحد ، لأنّه من قبيل الجمع بين الحرّة والأمة.

ب ـ إنّ التوصيف بالمؤمنات في قوله : ( مِّنْ فَتَيَـتِـكُمُ الْـمُؤْمِنَـتِ ) يقتضي أن لا يجوز نكاح الفتيات الكافرات مع انتفاء الطول ، وليس إلاّ لامتناع نكاحهنّ مطلقاً ، للاجماع على انتفاء الخصوصية بهذا الوجه (٢).

يلاحظ على الوجه الأوّل : أنّ أقصى ما يستفاد من الآية على القول بمفهوم الوصف أنّه لا يجوز عند عدم الطول ، نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة ، وامّا عدم جواز تزويج الحرّة الكافرة مع الطول أو عدمه ، فلا تدلّ عليه الآية ، لأنّ المفهوم ينفي الحكم عن الموضوع الفاقد للوصف لا عن موضوع آخر ، والموضوع للجواز هو ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، فمقتضى المفهوم عدم جواز نكاح الأمة الكافرة في هذه الحال ، وامّا الحرّة الكافرة ، فهو خارج عن موضوع البحث نفياً واثباتاً.

ويلاحظ على الوجه الثاني : أنّ التوصيف بالمؤمنات يقتضي أن لايجوز نكاح الكافرة من الاماء مع انتفاء الطول ولكن لم يعلم انّ وجه حرمتها هو امتناع

____________

١ ـ النساء : ٢٥.

٢ ـ الشيخ محمّد حسن النجفي : جواهر الكلام ٣ / ٢٨.

٤٦١

نكاحها مطلقاً ، سواء كانت أمة أم حرّة ، ومن أين يدعى الاجماع على انتفاء خصوصية في الأمة؟ إذ من الممكن أن لا يجوز نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة دون الكافرة الحرّة فيجوز نكاحها حتى مع التمكّن من الأمة المسلمة.

٣ ـ قال تعالى : ( لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَ نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الاِْيمَـنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ ) (١).

يلاحظ عليه : أنّ الآية واردة في حقّ الضعفاء من المسلمين ، ولا صلة لها بالكفرة ، فهؤلاء كانوا يوالون اليهود ويفشون إليهم أسرار المؤمنين ، ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي وأصحابه ، ففي هذه الظروف نزل قوله سبحانه : ( لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) أي لا تجتمع موالاة الكفّار مع الإيمان ، اي موالاتهم بما هم كفّار ، وأمّا حبّهم لأجل اُمور اُخرى فلاصلة له بالآية ، ولا يتزوّج المسلم من الكافرة لأجل موالاة الكافرة ، بل لأجل دفع الشهوة أو تعبئة وسائل الحياة.

وأضعف منه الا ستدلال بقوله سبحانه :

٤ ـ قال تعالى : ( لاَ يَسْتَوِي أَصْحَـبُ النَّارِ وَأَصْحَـبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ) (٢) إذ لاصلة بين الآية وموضوع البحث فإنّها تنفي كون المؤمن والكافر عند الله سيّان ، وأمّا عدم جواز المعاملة والمناكحة فلا تدلّ عليه.

٥ ـ استدلَّ أيضاً : انّ أهل الكتاب مشركون لقوله سبحانه : ( وَقَالَتِ

__________________

١ ـ المجادلة : ٢٢.

٢ ـ الحشر : ٢٠.

٤٦٢

الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَـرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) (١) حيث جعلوا الإبن المزعوم شريكاً للأب في الالوهية ، وقال سبحانه : ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَـثَة ) (٢).

وقال : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وحداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٣) فهذه الآيات تثبت الصغرى ، أي كونهم مشركين ، وأمّا ما يدلّ على الكبرى أي عدم جواز نكاح المشركات ، فقد مرّ في كلام المانع.

يلاحظ عليه أنّ هنا أمرين :

أ ـ كون النصارى واليهود مشركين في عقيدتهم ، وهذا لاكلام فيه.

ب ـ كون المشرك الوارد في قوله ( وَلا تَنْكحُوا المُشْرِكات ) عامّاً يعمّ الوثنّيين وغيرهم ، ولكنّ هذا غير ثابت فإنّ عنوان المشرك في القرآن يختصّ بغير أهل الكتاب بشهادة المقابلة في كثير من الآيات بينهم وبين أهل الكتاب ، وإليك بعضها : ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِّنْ رَبِّكُمْ ) (٤) ، وقد عرفت تحقيق ذلك عند البحث عن حدّ الشرك والإيمان ، فلانعيد (٥).

فهذه الآية وغيرها تثبت أنّ الشرك المتّخذ موضوعاً لكثير من الأحكام

__________________

١ ـ التوبة : ٣٠.

٢ ـ المائدة : ٧٣.

٣ ـ التوبة : ٣١.

٤ ـ البقرة : ١٠٥.

٥ ـ لاحظ الآيات : آل عمران ١٨٦. المائدة ٨٢ وغيرهما أيضاً.

٤٦٣

لايشمل أهل الكتاب في مصطلح القرآن وان كانوا مشركين حسب الواقع ، فالكلام في سعة موضوع الحكم (تحريم نكاح المشركات) وضيقه حسب اصطلاح القرآن.

٦ ـ قال تعالى : ( يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمـُؤْمِنَـتُ مُهَـجِرَت فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـت فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَ لِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١).

وجه الاستدلال انّ الكوافر جمع كافرة ، والعصمة المنع ، وسمّي النكاح عصمة لأنّ المنكوحة تكون في حبال الزوج وعصمته ، ويكون اطلاقها دليلاً على حرمة عقد الكافرة مشركة أو ذمية.

يلاحظ عليه : أنّ الآية ظاهرة في الوثنية بشهادة سياق الآيات ، وسبب نزولها فإنّها نزلت بعد التصالح في الحديبية حيث تصالح رسول الله أن يردّ كل من أتى من قريش إلى جانب المسلمين من دون عكس ، وبعد ما ختم الكتاب جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية وقد أسلمت ، فأقبل زوجها في طلبها وكان كافراً ، فنزلت الآية ، فكان رسول الله يردّ من جاءه من قريش من الرجال ، ولا يردّ من جاءته من النساء قائلاً بأنّ التصالح لايشمل إلاّ الرجال.

على أنّ ظاهر الآية هو المنع من الاقامة مع الزوجة الكافرة وهذا لايتمّ في الذمّية لصحّة نكاحهنّ استدامة إذا أسلم أحد الزوجين ، اجماعاً وان لم نقل بالصحّة ابتداء ، وهذا قرينة على انصراف الآية عن الذمّية إلى الوثنية ، وبذلك يظهر ضعف ما أفاده الطبرسي حيث ادّعى دلالة الآية على عدم جواز العقد

__________________

١ ـ الممتحنة : ١٠.

٤٦٤

على الكافرة مطلقاً ، بحجّة أنّ الآية عامّ وليس لأحد أن يخصّ الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهن ، لأنّ المعتبر عموم اللفظ ، لاالسبب (١).

إلى هنا تمّ ما يمكن الاستدلال به من الآيات على تحريم نكاح الكافرات ، وإليك ما استدلّ به القائل بالجواز من الذكر الحكيم أعني قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـتِ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكَتِـبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَان ) (٢).

الآية صريحة في جواز نكاح المحصنات من أهل الكتاب ، والمتيقّن منها هو الذمّية أو من هو في حكمها كالمهادنة ، لا الحربية.

وحمل الآية على النكاح الموقّت بقرينة ورود لفظ « الاُجور » في الآية مكان « المهور » ليس بتام لأنّها وردت في غير موضع من القرآن ، واريد منه المهر في النكاح الدائم. قال سبحانه في تزويج الاماء عند عدم الطول : ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٣) وقال تعالى وهو يخاطب النبي : ( إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَ جَكَ الَّـتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) (٤) ومن المعلوم أنّ المراد هو التزويج الدائم إذ لم يكن بين أزواج النبي من تزوّج بها متعة. نعم المراد من قوله سبحانه : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـاَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (٥) هو النكاح الموقّت ، بقرينة قوله : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) مضافاً إلى الروايات المتضافرة في المقام.

وربّما يحتمل كون الآية منسوخة لما ورد من النهي في آيتي البقرة

__________________

١ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٥ / ٢٧٤.

٢ ـ المائدة : ٥.

٣ ـ النساء : ٢٥.

٤ ـ الأحزاب : ٥٠.

٥ ـ النساء : ٢٤.

٤٦٥

و الممتحنة ، ولكن قد عرفت عدم دلالة الآيتين على مورد البحث فضلاً عن كونهما ناسختين.

على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول الله ، فهي تنسخ ما قبلها ، ولا تُنسخ ، روى العياشي عن علي قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً وانّما يؤخذ من أمر رسول الله بآخره ، وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء (١).

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى المسألة من القرآن الكريم ، وامّا البحث عنها من جانب السنّة فهو موكول إلى محلّه ، وقد أوضحنا الكلام فيها في مسفوراتنا الفقهية.

هذا آخر الكلام في عقائد الخوارج واصولهم. بقى الكلام في التعرّف على شخصيّاتهم في العصور الأولى وهذا ما يوافيك في البحث الآتي الّذي عقدناه بعنوان « خاتمة المطاف ».

__________________

١ ـ الحويزي : نور الثقلين ١ / ٤٨٣.

٤٦٦

خاتمة المطاف :

رجال الخوارج في العصور الاُولى

قد تعرّفت فيما سبق على الشخصيات البارزة للاباضيّة ، ولا بد من التطرّق إلى رجال الخوارج من غيرهم ، ونذكر في المقام المعروفين منهم ، وان كان الحكم بكونهم من الخوارج يحتاج الى تتبّع وافر ، فإنّ الشهرة في المقام لاتفيد إلاّ الظن. وربّما يكون رميهم بأنّهم منهم صدر من غير أهله تعنّتاً وحقداً ، وعلى كل تقدير فقد ذكر ابن ابي الحديد لفيفاً ممّن كان يرى رأي الخوارج ، ونذكر بعض ما ذكر (١) :

١ ـ عكرمة البربري (ت / ١٠٥) :

وصفه الذهبي بقوله « أحد أوعية العلم ، تُكلّم فيه لرأيه لالحفظه ، فاتّهم

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٥ / ٧٦.

٤٦٧

برأي الخوارج ، وقد وثّقه جماعة واعتمده البخاري ، وامّا مسلم فتجنّبه وروى له قليلاً مقروناً بغيره ، واعرض عنه مالك ، وتحايده إلاّ في حديث أو حديثين. وعن عمرو بن دينار ، قال : رُفع إلى جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة ، فجعل جابر بن زيد يقول : هذا مولى ابن عباس ، هذا البحر فَسَلوه. وقد وصفه شهر بن حوشب وجابر بن زيد بأنّه حبر هذه الاُمة واعلم الناس ، ومع ذلك فقد ضعّفه يحيى بن سعيد الأنصاري وايّوب وذكرا عكرمة ، فقال يحيى : كذّاب ، وقال أيّوب ، لم يكن بكذّاب. وعن زيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث قال : دخلت على علي بن عبد الله فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش ، فقلت له : ألا تتّق الله ، فقال : إنّ هذا الخبيث يَكذِب على أبي. وقال محمّد بن سيرين عن عكرمة ، فقال : ما يسوءني أن يكون من أهل الجنّة ولكنّه كذّاب. وقال ابن أبي ذئب : رأيت عكرمة ، وكان غير ثقة. وقال محمّد بن سعد : كان عكرمة كثير العلم والحديث ، بحراً من البحور ، وليس يُحتَجّ بحديثه ، ويتكلّم الناس فيه.

هذه أقوال الناس في حقّه ، وإليك قول نفسه في حقّه :

قال : كان ابن عباس يضع في رجلي الكَبْلَ على تعليم القرآن والفقه ، وقال : طلبت العلم أربعين سنة ، وكنت اُفتي بالباب وابن عباس في الدار.

وهذا قوله في حقّ نفسه ، ولا يحتجّ بقول الإنسان في حقّه إذا كان مدحاً ، ويؤيّد كون الرجل خارجيّاً ما رواه خالد ابن أبي عمران قال : كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال : وددت أنّ بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً ، وعن يقعوب الحضرمي عن جدّه قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر ، قال : وكان يرى رأي الاباضيّة. وعن يحيى بن بكير قال : قدم عكرمة مصر وهو يريد المغرب ، قال : فالخوارج

٤٦٨

الذين هم بالمغرب عنه أخذوا.

قال ابن المديني : كان يرى رأي نجدة الحروري. وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج. قال : وادّعى على بن عباس أنّه كان يرى رأي الخوارج.

وعن خالد بن نزار : حدثنا عمر بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح : انّ عكرمة كان اباضياً ، وعن أبي طالب : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان عكرمة من أعلم الناس ، ولكنّه كان يرى رأي الصفريّة ، ولم يدع موضعاً إلا خرج إليه : خراسان والشام واليمن ومصر وافريقيا ، كان يأتي الاُمراء فيطلب جوائزهم ، وأتى الجَنَدَ إلى طاوس ، فأعطاه ناقةً.

وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج فطلبه متولّي المدينة فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده. وروى سليمان بن معبد السّنجي قال : مات عكرمة وكُثير عَزَّة في يوم ، فشهد الناس جنازة كُثير ، وتركوا جنازة عكرمة. وقال عبد العزيز الدراوردي : مات عكرمة وكثير عَزَّة في يوم ، فما شهدهما إلاّ سُودان المدينة. وعن إسماعيل بن أبي اُويس ، عن مالك ، عن أبيه ، قال : اُتي بجنازة عكرمة مولى ابن عباس وكثير عزّة بعد العصر ، فما علمت أنّ أحداً من أهل المسجد حلّ حبوته إليهما. وقال جماعة : مات سنة خمس ومائة ، وقال الهيثم وغيره : سنة ست ، وقال جماعة : سنة سبع ومائة. وعن ابن المسيب أنّه قال لمولاه بُرْد : لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. ويروى ذلك عن ابن عمر قاله لنافع (١).

وقد روي شيء كثير منه في التفاسير وهي مليئة بأقواله ، ويظهر ممّا نقل عنه أنّه يرى الحلف بالطلاق باطلاً ، روى الذهبي عن عاصم الأحول ، عن عكرمة

__________________

١ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال ٣ / ٩٣ ـ ٩٧ برقم ٥٧١٤.

٤٦٩

في رجل قال لغلامه : إن لم اجلدك مائة سوط فامرأتي طالق. قال : لايجلد غلامه ولاتطّلق امرأته ، هذه من خطوات الشيطان (١).

وترجمه أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل بذكر نقول مختلفة عنه (٢).

وقد ترجمه ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب مفصّلاً ، وذكر أيضاً الأقوال المتضاربة في حقّه (٣). وممّا قال فيه ، قال علي بن المديني : كان عكرمة يرى رأي نجدة ، وقال يحيى بن معين : إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفريّة ، وقال عطاء : كان اباضياً ، وقال الجوزجاني : قلت لأحمد : عكرمة كان اباضياً؟ فقال : يقال إنّه كان صفريّاً. وقال خلاد بن سليمان ، عن خالد بن أبي عمران : دخل علينا عكرمة أفريقيا وقت الموسم فقال : وددت أنّي اليوم بالموسم بيدي حربة أضرب بها يميناً وشمالاً. قال : فمن يومئذ رفضه أهل أفريقيا ، وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج وزعم أنّ مولاه كان كذلك ، وقال أبو خلف الخزاز عن يحيى البكّاء : سمعت ابن عمر يقول لنافع : اتّق الله ويحك يا نافع ، ولا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس (٤).

٢ ـ قطري بن الفجاءة ( ت / ٧٨ ) :

أبو نعامة : قطري بن الفجاءة ، واسمه جعونة ، المازني الخارجي ، خرج

__________________

١ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال ٣ / ٩٧ برقم ٥٧١٤ ، اشارة إلى قوله تعالى ( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الْشَّيْطَانِ ) ـ البقرة : ٢٠٨ ـ.

٢ ـ أبو حاتم الرازي : الجرح والتعديل ٧ / ٦ ـ ١١.

٣ ـ ابن حجر العسقلاني : تهذيب التهذيب ٧ / ٢٣٤ ـ ٢٤٢ برقم ٤٧٦ ، ولكنّه لم يترجمه في لسان الميزان مع وروده في الميزان للذهبي كما عرفت.

٤ ـ المصدر نفسه : ٧ / ٢٣٧.

٤٧٠

في زمن مصعب بن الزبير لمّا ولي العراق نيابة عن أخيه : عبد الله بن الزبير ، وكانت ولاية مصعب في سنة ست وستين للهجرة ، قيل : بقى قطري عشرين سنة يقاتِل ويسلم عليه بالخلافة وهو يستظهر عليهم. ولم يزل إلى أن توجّه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي فظهر عليه وقتله في سنة ثمان وسبعين للهجرة.

وهو معدود في جملة الخطباء العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة (١).

نقل الجاحظ خطبة واحدة منه ، والتأمّل فيها يعرب أنّه كان منطيقاً ذلق اللسان ، قال فيها : أمّا بعد فإنّي اُحذّركم الدنيا ، فإنّها حلوة خضرة ، حُفَّت بالشهوات ، وراقت بالقليل ، وتحبّبت بالعاجلة ، وحلِيتْ بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لاتدوم حبرتها ، ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، خوَّانة غدّارة (٢).

روي أنّ الحجاج قال لأخيه : لأقتلنّك ، فقال : لم ذلك؟ قال : لخروج أخيك ، قال فإنّ معي كتاب أمير المؤمنين (يريد عبد الملك) أن لا تأخذني بذنب أخي ، قال : هاته ، قال : فمعي ما هو أوكد منه ، قال : ما هو؟ قال : كتاب الله عزّوجل يقول : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (٣) فعجب منه وخلّى سبيله (٤).

وترجمه خير الدين الزركلي في الأعلام (٥) ويظهر فيما نقله من تاريخ الطبري أنّه توفّي سنة ٧٧ هـ. والله العالم.

٣ ـ عمران بن حطّان السدوسي البصري (ت / ٨٤) :

عمران بن حطّان السدوسي البصري الخارجي ، روى عن عائشة ، وعنه

____________

١ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٤ / ٩٤ ـ ٩٥.

٢ ـ الجاحظ : البيان والتبيين ٢ / ١١٢.

٣ ـ الأنعام : ١٦٤.

٤ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٤ / ٩٤ ـ ٩٥.

٥ ـ الاعلام : ٥ / ٢٠٠.

٤٧١

صالح بن سَرج ، لايتابع على حديثه ، قاله العقيلي ، قال : وكان خارجياً. روى موسى بن إسماعيل عن عمرو بن العلاء ولقيه جرز ، حدثنا صالح بن سرج ، عن عمران بن حطّان ، عن عائشة في حساب القاضي العادل. قلت كان الأولى أن يلحق الضعف في هذا الحديث بصالح أو بمن بعده ، فإنّ عمران صدوق في نفسه ، قد روى عنه يحيى بن ابي كثير ، وقتادة ، ومحارب بن دثار. وقال العجلي : تابعي ثقة. وقال أبو داود : ليس في أهل الأهواء ، أصحّ حديثاً من الخوارج ، فذكر عمران بن حطان وابا حسان الأعرج. وقال قتادة كان لاّيتهم في الحديث. وروى يعقوب بن شيبة أنّه بلغه أنّ عمران بن حطّان كانت له بنت عم كانت ترى رأي الخوارج فتزوّجها ليردّها عن ذلك فصرفته الى مذهبها. وكان عمران من نظراء جرير والفرزدق في الشعر ، وهو القائل :

حتى متى تُسقى النفوس بكأسها

ريب المنون وأنت لاه ترتع

الأبيات.

مات سنة أربع وثمانين (١).

وترجمه ابن حجر في تهذيب التهذيب وقال : ذكر أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل عن محمّد بن بشر العبدي الموصلي قال : لم يمت عمران بن حطّان حتى رجع عن رأي الخوارج انتهى ، هذا أحسن ما يعتذر به عن تخريج البخاري له ، وامّا قول من قال : إنّه خرج ما حمل عنه قبل أن يرى ما رأى ففيه نظر ، لأنّه اخرج له من رواية يحيى بن أبي كثير عنه ، ويحيى إنّما سمع منه في حال هربه من الحجاج وكان الحجاج يطلبه ليقتله من أجل المذهب ، وقصته في هربه مشهورة. وقال العقيلي : عمران بن حطّان لايتابع وكان يرى رأي الخوارج يحدّث عن عائشة ولم يتبّين سماعه منها.

__________________

١ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال ٣ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦ برقم ٦٢٧٧.

٤٧٢

وقال ابن حبّان في الثقات : كان يميل إلى مذهب الشراة. وقال ابن البرقي : كان حرورياً. وقال الدارقطني : متروك لسوء اعتقاده وخبث مذهبه. وقال المبرد في الكامل : كان رأس القعد من الصفرية وفقيههم وخطيبهم وشاعرهم ، والقعدة : الخوارج ، كانوا لايرون بالحرب بل ينكرون امراء الجور حسب الطاقة ويدعون إلى رأيهم ويزيّنون مع ذلك الخروج ويحسّنونه. لكن ذكر أبو الفرج الاصبهاني انّه إنّما صار قعدياً لما عجز عن الحرب والله أعلم ، قلت : وكان من المعروفين في مذهب الخوارج ، وكان قبل ذلك مشهوراً بطلب العلم والحديث ثم ابتلي ، وانشد له من شعره :

لا يعجز الموت شيء دون خالقه

و الموت يفني إذا ما ناله الأجل

و كل كرب أمام الموت منقشع

و الكرب والموت ممّا بعده جلل (١)

و في الأغاني إنّما صار ابن حطّان من القعدية لأنّ عمره طال وكبر وعجز عن الحرب وحضورها ، فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه ، وكان أوّلاً مشمّراً بطلب العلم والحديث ثمّ بلي بذلك المذهب ، وقد أدرك صدراً من الصحابة وروى عنهم وروى عنه أصحاب الحديث. وله شعر في مدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ قاتل أمير المؤمنين وقائد الغر المحجّلين زوج البتول وصهر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لله در المرادي الّذي سفكت

كفّاه مهجة شر الخلق إنسانا

أمسى عشية غشاه بضربته

معطى مناه من الآثام عريانا

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره حيناً فأحسبه

أوفى البريّة عند الله ميزانا

__________________

١ ـ ابن حجر العسقلاني : تهذيب التهذيب ٨ / ١١٣ ـ ١١٤ برقم ٢٢٣. راجع الاصابة ٣ / ١٧٨.

٤٧٣

وقد أجابه عنها السيد الحميري الشيعي وهي :

قل لابن ملجم والأقدار غالبة

هدّمت ويلك للإسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم

و أوّل الناس إسلاماً وإيمانا

و أعلم الناس بالإيمان ثمّ بما

سنّ الرسول لنا شرعاً وتبيانا

صهر الرسول ومولاه وناصره

أضحت مناقبه نوراً وبرهانا

الابيات (١).

وقد ناضله أصحاب الولاء لآل الرسول باشعار كثيرة مضت بعضها فلا حظ.

وفي الختام : من أراد التبسّط في ترجمة الرجال فليرجع إلى « الخوارج في العصر الأموي » للدكتور نايف معروف فقد ذكر قسماً كثيراً من أشعاره وحياته قبل أن يلحق بالخوارج فلاحظ.

٤ ـ الطرماح بن حكيم (ت ١٢٥) :

الطرماح بن حكيم الطائيّ الخارجي. وصفه الجاحظ في البيان والتبيين أنّه كان خارجيّاً من الصفرية ، ولد ونشأ في الشام ، وانتقل إلى الكوفة ، فكان معلّماً فيها. واتصل بخالد بن عبد الله القصري فكان يكرمه ويستجيد شعره ، وكان هجّاءً ، معاصراً للكميت صديقاً له لايكادان يفترقان ، وذكر شيخنا في الذريعة أنّ المرزباني عمل كتاباً باسم « أخبار الطرمّاح » كما عمل كتاباً آخر باسم « أخبار ابي تمام » (٢).

__________________

١ ـ البغدادي : خزانة الأدب ٢ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧.

٢ ـ الزركلي : الأعلام ٣ / ٢٢٥ ، واغا بزرك الطهراني : الذريعة ١ / ٢٣٨ برقم ١٧٦٤.

٤٧٤

٥ ـ الضحّاك بن قيس :

الضحاك بن قيس مذكور في التاريخ بما أنّه قائد عسكري قد دوّخ الدولة الأموية في عصره ، ولم يوصف بشيء من العلم والشعر والأدب سوى القيادة ، وقد نقل ابن الأثير حروبه مع الأمويين واليك خلاصة ما ذكره في تاريخه على نحو يوقفه على ترجمة الرجل على نحو الاجمال :

أرسل مروان بن محمد ـ آخر الخلفاء الأمويين ـ جيشاً لحرب الضحاك سنة سبع وعشرين ومائة ، فالتقوا بالنخيلة فاقتتلوا قتالاً شديداً وانتصر الضحاك عليهم ، ودخل ضحاك الكوفة مستولياً عليها (١).

ثم سار الضحاك من الكوفة إلى واسط يريد حرب فلول المنهزمين ، وكانوا قد استعدّوا لحربه ، فتحاربوا شعبان وشهر رمضان وشوال والقتال بينهم متواصل.

ثمّ اصطلحوا وذهب الضحاك إلى الكوفة (٢) ، وكاتب أهل الموصل ليقدم عليهم ليمكّنوه منها فسار بجماعة من جنوده بعد عشرين شهراً حتى انتهى إليها ففتح أهل البلد ، فدخلها الضحاك وقتل الوالي عليها من قبل مروان وعدّة يسيرة كانوا معه وذلك بعد أن حاربوه.

وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص ، مشتغل بقتال أهلها ، فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته في الجزيرة ، يأمره أن يسير إلى نصيبين في من معه يمنع الضحاك من توسّط الجزيرة ، فسار إليها في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف ، وسار الضحّاك ومعه ما يزيد على مائة ألف. ووجّه قائدين من قواده إلى السرقة في أربعة آلاف أو خمسة آلاف ، فقاتله بها ، فوجّه إليهم مروان من أبعدهم عن

__________________

١ ـ ابن الاثير : الكامل ٥ / ٣٣٢ ـ ٣٣٦.

٢ ـ ابن الاثير : الكامل ٥ / ٣٤٩.

٤٧٥

السرقة.

وسار مروان إلى الضحاك فالتقوا بنواحي كفر قوتا من اعمال ماردين فقاتله يومه أجمع ، فلمّا كان عند المساء ترجّل الضحاك ومعه من ذوي الثبات والبصائر نحو من ستّة آلاف ، ولم يعلم أكثر أهل عسكره بما كان ، فأحدقت بهم خيول مروان والحوا عليهم في القتال حتى قتلوهم عند العتمة.

وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك عند العتمة إلى معسكرهم ولم يعلموا بقتل الضحاك ولم يعلم به مروان يضاً ، وجاء بعض من عاينه من أصحابه فبكوا وناحوا عليه ، وجاء قائد من قواده إلى مروان فأخبره بقتله فأرسل معه النيران والشمع ، فطافوا عليه فوجدوه قتيلاً وفي وجهه ورأسه أكثر من عشرين ضربة فكّبروا فعرف عسكر الضحاك انّهم قد علموا بقتله.

وبعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها (١).

٦ ـ معمر بن المثنى (١١٠ ـ ٢١٣) :

أبو عبيدة ، التيمي (٢) البصري ، يصفه الخطيب في تاريخه بالنحويّ العلاّمة ، يقال : إنّه ولد سنة ١١٠ في الليلة الّتي ولد فيها الحسن البصري ، ونقل عن الجاحظ أنّه قال : لم يكن في الأرض خارجي ولاجماعيّ أعلم بجميع العلوم منه (٣).

قال ابن قتيية : كان الغريب (٤) أغلب عليه واخبار العرب وايّامها ، وكان

__________________

١ ـ ابن الاثير : الكامل ٥ / ٣٤٩.

٢ ـ كان تيميّاً بالولاء.

٣ ـ الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ١٣ / ٢٥٢ برقم ٧٢١٠.

٤ ـ المراد غريب اللغة أو غريب القرآن والحديث.

٤٧٦

مع معرفته ربّما لايقم البيت إذا أنشده ، حتى يكسره ، وكان يخطأ إذا قرأ القرآن الكريم نظراً ، وكان يبغض العرب ، والّف في مثالبها كتباً ، وكان يرى رأي الخوارج (١).

ونقل ابن خلكان عن بعضهم : أنّ هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة ١٨٨ ، وقرأ عليه بها أشياءً من كتبه ، واسند الحديث إلى هشام بن عروة وغيره وروى عنه علي بن المغيرة الأثرم ، وابو عبيد القاسم بن سلام ، وابو عثمان المازني ، وابو حاتم السجستاني وعمر بن شبة وغيرهم.

ولأجل إلمام القارئ على نموذج من تفسيره نأتي بما يلي :

سأله رجل عن قوله سبحانه : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَـهَا فِتْنَةً لِّلظَّـلِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـطِينِ * فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) (٢).

سأله عن قوله : ( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـطِينِ ) وقال : إنّما يقع الوعد والايعاد بما عرف مثله ، وهذا لم يعرف فأجاب : إنّما كلّم الله العرب على قدر كلامهم. أما سمعت قول أمرئ القيس :

أيقتلني والمشرفّي مُضاجعي

و مسنونة زرقٌ كأنياب أغوال

و هم لم يروا الغول قطّ ، ولكنّه لمّا كان أمر الغول يهولهم ، أو عدوا به.

ثم يقول : وازمعت منذ ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا واشباهه ولما يحتاج إليه من علمه ، ولمّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الّذي سمّيته المجاز (٣).

__________________

١ ـ ابن قتيية : المعارف ٢٤٣.

٢ ـ الصافات : ٦٢ ـ ٦٦.

٣ ـ ابن خلكان : وفيات الاعيان ٥ / ٢٣٦ تحقيق الدكتور احسان عباس. ولا حظ : مجاز القرآن لأبي عبيدة ج٢.

٤٧٧

وقد ذكر ابن خلّكان أنّه لم يزل يصنّف حتّى مات ، وتصانيفه تقارب مائتي تصنيف ، ، فمنها كتاب « مجاز القرآن الكريم » وكتاب « غريب القرآن » وكتاب « معاني القرآن » وكتاب « غريب الحديث » ... (١) ويبدو من فهرس تصانيفه أن أكثرها يدور بين اللغة والشعر والتاريخ وما يشابهها ، والّذي أثار عواطف الاُمّة العربية ضدّه أنّه ألّف كتاب « لصوص العرب » وكتاب « فضائل الفرس » ، ومن المعلوم أنّ العصبية العمياء لاتحبّ كلا التأليفين.

يقول ابن خلكان : لمّا جمع كتاب المثالب ، ولعلّ مراده هو « لصوص العرب » ، قال له رجلٌ مطعون النسب : بلغني أنّك عبت العرب جميعها ، فقال : « وما يضّرك ، أنت من ذلك بريء »! يعني أنّه ليس منهم ، ويذكر ابن خلكان أيضاً : أنّه لايقبل أحد من الحكّام شهادته لأنه كان يتّهم بالميل إلى الغلمان. قال الأصمعي : دخلت أنا وابو عبيدة يوماً المسجد فإذا على الاسطوانة الّتي يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب على نحو من سبعة أذرع.

صلّى الإله على لوط وشيعته

أبا عبيدة قل بالله آمينا

فقال لي : يا أصمعي! امحُ هذا ، فركبت على ظهره ومحوته بعد أن أثقلته إلى أن قال : أثقلتني وقطعت ظهري ، فقلت له : قد بقي الطاء. فقال : هي شرّ حروف هذا البيت!(٢).

أقول : إنّ الأصمعي كان ممّن ينصب العداء على عليّ ، وابا عبيدة كان من الخوارج ، والجنس إلى الجنس يميل « والمرء على دين خليله وقرينه » وقال سبحانه حاكياً عن المجرمين ( يَـوَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ) (٣) وقال

__________________

١ ـ ابن خلكان : وفيات الاعيان ٥ / ٢٣٨ تحقيق الدكتور احسان عباس.

٢ ـ المصدر نفسه : ٢٤٢.

٣ ـ الفرقان : ٢٨.

٤٧٨

سبحانه : ( الاَْخِلاَّ ءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمـُتَّقِينَ ) (١) ، ومع ذلك كلّه فيحتمل أن تكون القصّة مختلقة من جانب الأعداء لأنّهم كانوا يرون أمثال أبي عبيدة من المبتدعة الذين تجوز مباهتتهم إبعاداً للناس عن ضلالهم.

مجاز القرآن لأبي عبيدة :

لم يصل إلينا من كتب أبي عبيدة مع كثرتها غير كتاب مجاز القرآن ، وقد عرفت أنّ ابن خلّكان ذكر له أسماء كتب ثلاثة حول القرآن وزاد ابن النديم كتاب « اعراب القرآن » وهل ألّف أبو عبيدة كتباً بهذه الأسماء أو هي أسماء متعدّدة والمسمّى واحدٌ؟ فقد رجّح محقّق كتاب مجاز القرآن الثاني وقال : « والّذي نظنّه أن ليس هناك لأبي عبيدة غير كتاب المجاز » ، وانّ هذه الأسماء اُخذت من الموضوعات الّتي تناولها « المجاز » فهو يتكلّم في معاني القرآن ، ويفسّر غريبه ، وفي أثناء هذا يعرض لاعرابه ، ويشرح أوجه تعبيره ، وذلك ما عبّر عنه أبو عبيدة بمجاز القرآن ، فكلّ سمّى الكتاب بحسب أوضح الجوانب الّتي تولّى الكتاب تناولها ، ولفتت نظره أكثر من غيرها ، ولعلّ ابن النديم لم ير الكتاب ، وسمع هذه الأسماء من أشخاص متعدّدين فذكر لأبي عبيدة في موضوع القرآن هذه الكتب المختلفة الأسماء.

ثمّ إنّ التأليف في غريب القرآن كثير ، وربّما يعبّر عن بعضه بمعاني القرآن ، كما هو الحال في كتاب الفرّاء ، وربما يعبّر عنه بمجازات القرآن كما هو الحال في تأليف الشريف الرضي ، وامّا الفرق بين كتاب أبي عبيدة وكتاب الرضيّ وقد اشتهر الأوّل بمجاز القرآن ، والثاني بمجازات القرآن ، هو أنّ الأوّل يستعمل لفظ المجاز بمعنى مفهوم الكلمة والآية ، بخلاف الثاني فإنّه يستعمله في الجامع بين

__________________

١ ـ الزخرف : ٦٧.

٤٧٩

المجاز اللغويّ والكناية والاستعارة ، ولكل مزية ، وعلى كلّ تقدير فأثر أبي عبيدة أثر متقن مفيد جدّاً ، وقد قام بتحقيقه الدكتور محمّد فؤاد سزگين في جزئين ، وقد طبع للمرّة الثانية في سنة ١٤٠١ هـ.

وقد اختلفت الأقوال في تاريخ وفاته ، فنقل الخطيب عن بعضهم أنّه مات سنة ٢٠٩ هـ ، وعن آخر سنة ٢١١ هـ ، وعن ثالث ٢١٠ هـ وقيل سنة ٢١٣ ، والله العالم.

ولنكتف بما ذكر من رجال الخوارج في العصور الأولى وقد تعرّفت على عدّة من رجالهم في ثنايا الكتاب لاسيّما القادة العسكريين.

بقيت هنا كلمة وهي أن نعطف نظر القارئ إلى ما روي عن النبي الأكرم في حقّ المحكّمة الاُولى واثر في حقّهم عن الصحابة والتابعين لهم باحسان ، وقد جميعها إمام الحنابلة أحمد بن حنبل ورواه عنه ابنه عبد الله في كتاب « السنّة » (١) واليك متونها مع أسانيدها :

بما أنّ الاباضية لايرون أنفسهم خوارج ونحن أيضاً نربئ بهم عن كونهم منهم على الشروط الّتي قدّمناها في الكتاب ، فلا أراهم متضايقين من هذه الآثار الّتي لو تدّبر فيها القارئ يراها من قسم المتواتر المعنوي ولا يحقّ لأحد أن يشكّ في ما يهدف إليه جمعها :

المأثورات حول الخوارج :

١ ـ حدثني أبي ، حدثنا وكيع جرير بن حازم وابو عمرو بن العلاء ، عن ابن سيرين سمعاه عن عبيدة ، عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد ، ولولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان نبيّه » قال عبيدة : قلت لعلي :

__________________

١ ـ عبد الله بن أحمد بن حنبل : السنّة ٢٦٧ ـ ٢٨٦.

٤٨٠