بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانّه كان رسولاً صادقاً فيها يبلّغ ، ولا تلزم معرفة تفاصيل ذلك والاّ لزم أحد الأمرين :

١ ـ أن لا يكون من آمن بمكة من أهل الجنّة لعدم إيمانهم.

٢ ـ أن تكون حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة تختلف عن صدر الإسلام وكلا الأمرين كما ترى.

نعم لمّا كان الاعتقاد بالمعاد والحياة الآخرة بمثل البُنْية التحتية للدعوة الاسلامية بل لجميع الشرائع السماوية على وجه لا تتّصف الدعوة بالالهية بدون الاعتقاد بها. لابدّ من الاعتقاد بها في إطار الشهادتين فإنّه ينطوي في طيّاتهما يوم بعث النبيّ الأكرم بالهداية.

ويؤيّد ما ذكرنا ما رواه البخاري في ذلك المجال وإليك نصّه :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر : لاُعطينّ غداً هذه الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الامارة إلاّ يومئذ ، قال : فتساورت لها رجاء أن اُدعى لها ، قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إيّاها وقال:

امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ : يا رسول الله على ماذا اُقاتل الناس؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وانّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم واموالهم إلاّ بحقّها ، وحسابهم على الله (١).

فإذا كان الاقرار بالشهادتين كافياً في توصيف المقر مسلماً ومؤمناً ، فيدل

____________

١ ـ مسلم : الصحيح ٧ / ١٢١ ، ابن عساكر : ترجمة الإمام علي ١ / ١٥٩ ح ٢٢٢ ، النسائي : خصائص أمير المؤمنين ٥٧.

٤٤١

بالملازمة على عدم لزوم معرفة ما سواهما.

ويوضّح ذلك أيضاً ما رواه الامام الرضا عليه‌السلام عن آبائه عن علي عليه‌السلام : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله ن فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماءهم واموالهم (١).

وروى أبو هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوا لا الاّ الله عصموامنّي دماءهم واموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله (٢). والاستدلال بالروايتين حسب مامرّ في غيرهما من الدلالة الالتزامية على عدم لزوم معرفة غيرهما.

وأمّا معرفة ما عدا ذلك من المعارف فلم يدلّ دليل على وجوب معرفتها بل الأصل المحكم عدم الوجوب إلاّ مادلّ الدليل الثانوي على وجوبه (٣).

هذا كلّه في المعارف الّتي تجب معرفتها بلا قيد ، ولأجل ذلك يجب تحصيل معرفتها.

أمّا القسم الثاني : أعني ما يجب الاعتقاد به لو وصل العلم به ، فهذا كمعرفة صفات الربّ واوصافه والمعرفة التفصيلية للمعاد والحياة الاُخروية ، كلّ ذلك يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم والمعرفة ولكن لا يكون ذلك دليلاً على اعتباره في الإسلام أو الإيمان بأدنى مراتبه.

__________________

١ ـ المجلسي : البحار ٦٨ / ٢٤٢.

٢ ـ المجلسي : البحار ٦٨ / ٢٤٢ نقله عن مشكاة المصابيح في التعليقة.

٣ ـ كمعرفة الامام الّتي دلّت الأدلّة على وجوب معرفته. نعم إنّ ما رواه البخاري : الصحيح : ١ / ١٤ كتاب الإيمان عن النبي الأكرم من بناء الإسلام على خمس واضاف بعد الشهادتين : اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحج ، وصوم شهر رمضان ، فهو خارج عن موضوع البحث وداخل في البحث الآتي : « ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة ».

٤٤٢

ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة :

هذا كلّه في مجال العقيدة وامّا مجال الشريعة فتجب معرفة ما يبتلى به المكلّف في حياته من الأحكام الفرعية.

فالحق ، التفصيل بين ما تعم البلوى بها وغيره ، أمّا الأوّل فتجب معرفة أحكامه فلا يجوز للمكلّف الدخول في العمل مع الظن بالابتلاء بما لايعلم حكمه كأحكام الخلل ، الشائع وقوعه في الصلاة. وامّا الثاني أعني ما لا يتّفق الابتلاء به إلاّ نادراً فلا يجب تعلّم حكمه قبل الابتلاء للوثوق بعدم الابتلاء به غالباً وعلى ذلك جرت السيرة بين المسلمين مضافاً إلى أنّ إيجاب معرفة جميع الأحكام تفصيلاً ممّا يوجب العسر والحرج ويوجد الفوضى في الحياة.

وهذا هو الظاهر أيضاً من بعض علماء الاباضية : قال : إذا لزمه شيء من ذلك ممّا يفوت مثل الصلاة ، والصوم ، أو ممّا يفوت وقته من جميع الفرائض اللازمة له ، ممّا يفوت وقته ويبطل وحضر وقته ووجب العمل به ، فمعنى انّه قيل إنّ عليه طلب العلم ، من جميع ما جهل من ذلك (١).

فما ورد في الشريعة الاسلامية من الحق الأكيد على تحصيل العلم كآية أهل الذكر (النحل : ٤٦). والأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم والتفقّه كلّها منصرفه إلى الموارد المبتلى بها ، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه (٢).

__________________

١ ـ أبو سعيد الكدمي : المعتبر١ / ٧٠.

٢ ـ لاحظ الرسائل للشيخ مرتضى الأنصاري ٤٠٠ آخر مبحث الاشتغال.

٤٤٣
٤٤٤

٦ ـ حكم الدار

وصف الدار بكونها دار اسلام أو إيمان ، أو داركفر ، هو من جهة لحوق بعض الأحكام الشرعية بالمقيمين فيها ، مثل جواز المناكحة والتوارث إذ لم يعرف حاله ، والصلاة خلفه أو عليه إذا مات ، والدفن في مقابر المسلمين ، وموالاته ومعاداته ، إلى غير ذلك من الأحكام ، وقد اختلفت الآراء في الأمر الّذي يصير سبباً لوصف الدار بكونها دار إسلام أو كفر.

منهم من اعتبر الكثرة ، فإذا كان الأكثر من أهل الدار على دين الإسلام فهي دار إسلام والاّ فدار كفر.

ومنهم من اعتبر مع الكثرة ، الغلبة أيضاً ، بأن يكون غالبين قاهرين على الاُمور.

ومنهم من اعتبر زوال التقية ، فمتى لم يكن أهل الدار في تقيّة من السلطان في اظهار شعائر الدين فهي دار إسلام.

ومنهم (كثير من الزيدية والمعتزلة) ذهب إلى أنّ المناط في ذلك ، بما

٤٤٥

يظهر في الدار ويوجد المقيم بها من الحال ، فإذا كانت الدار بحيث يظهر فيها الشهادتان ظهوراً ، لايمكن المقام فيها إلاّ بإظهارهما أو الكون في ذمّة وجوار من مظهرهما ، ولا يتمكّن المقيم من اظهار خصلة من خصال الكفر فهي دار إسلام ، وان لم تكن الدار بهذا الوصف الّذي ذكرناه فهي دار كفر. ولا اعتبار عندهم مع ذلك بما يكون عليه أهلها من المذاهب المختلفة بعد تحقّق ما ذكرناه (١).

وقال شيخنا المفيد : إنّ الحكم في الدار على الأغلب فيها ، وكلّ موضع غلب فيه الكفر فهو دار كفر ، وكلّ موضع غلب فيه الإيمان فهو دار إيمان ، وكلّ موضع غلب فيه الإسلام فهو دار إسلام ، قال الله تعالى في وصف الجنّة : ( ولنِعْمَ دَارُ المُتَّقِين ) (٢) وإن كان فيها أطفال ومجانين (٣).

وقال في وصف النار : ( سَاُريكُمْ دَارَ الفَاسِقِين ) (٤) وان كان فيها ملائكة الله مطيعون. فحكم على كلتا الدارين حكم الأغلب فيها (٥).

هذه هي الأقوال الدارجة في حكم الدار ، والمعروف عن الخوارج رأيان :

١ ـ كلّ بلد ظهر فيه الحكم بغير ما أنزل الله فهو دار كفر.

٢ ـ إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعيّة ، الغائب منهم والشاهد (٦).

وفي الرأي الثاني تطرّف واضح ، إذ كيف يكون كفر الإمام سبباً لكفر الرعيّة ، أما سمعوا قول الله سبحانه : ( ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى ) (٧). وكان يقول

__________________

١ ـ العلاّمة الزنجاني : التعليقة على أوائل المقالات ٧٠.

٢ ـ النحل : ٣٠.

٣ ـ فيه وما بعده تأمّل واضح.

٤ ـ الأعراف : ١٤٥.

٥ ـ المفيد : أوائل المقالات ٧٠ ـ ٧١.

٦ ـ لاحظ ماذكرناه في حقّ البيهسيّة.

٧ ـ النجم : ٣٨.

٤٤٦

علي عليه‌السلام في هذا الشأن مخاطباً الخوارج : فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأت ، وضللت ، فلم تُضلِّلون عامّة اُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضلالي وتأخذونهم بخطئي ، وتكفّرونهم بذنوبي (١).

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

٤٤٧
٤٤٨

٧ ـ في حكم الزاني المحصن

قد عرفت أنّ الأزارقة لاتقول برجم الزاني إذا كان محصناً بحجّة أنّه ليس في ظاهر القرآن ، ولا في السنّة المتواترة ، ولكن المسألة من المسائل الفقهية ، واتّفق الفقهاء ، على رجم الزاني المحصن بلا فرق بين الرجل والمرأة ، وانّما اختلفوا من جهة اُخرى.

١ ـ قال داود واهل الظاهر عليهما الجلد والرجم من غير فرق بين الشابِّ والشيخ ، والشابّة والشيخة ، وهو احدى الروايتين عن أحمد بن حنبل ، كما في « المغني » لابن قدامة.

٢ ـ قالت الإمامية ـ بالتفصيل وهو أنّه ـ : إذا كان المحصن شيخاً أو شيخة فعليهما الجلد والرجم ، وإن كانا شابّين فعليهما الرجم بلا جلد.

٣ ـ قال فقهاء أهل السنّة : ليس عليهما إلاّ الرجم دون الجلد ، وبه قال بعض الامامية (١).

__________________

١ ـ الشيخ الطوسي : الخلاف ج ٣ ، كتاب الحدود ، المسألة ١ و ٢ ، ابن قدامة : المغني ٩ / ٥ كتاب الحدود.

٤٤٩

ولسنا بصدد تحقيق المسألة من حيث السعة والضيق وانّما نبحث عن ثبوت الرجم في الإسلام على وجه الاجمال ، وذلك لثبوته بفعل النبي والخلفاء والصحابة ، أمّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد زنى ماعز فرجمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورجم العامرية ، كما رجم يهوديين زنيا (١) ، وروي عن عمر ، أنّه قال : « إنّ الله بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأتها وعقلتها ووعيتها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، فالرجم حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة ، أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأ بها « الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم » (٢).

نحن لا نوافق الخليفة على كون آية الرجم من كتاب الله العزيز ، فكيف يمكن لنا أن نعدّ كلاماً تعلو عليه الصناعة البشرية ـ وقد سرق جزءاً من الذكر الحكيم الوارد في حد السرقة وركّبه مع كلامه فعاد كلاماً مغسولاً عن الفصاحة ـ من كلام الله العزيز ، لكنّا نوافق الخليفة على ثبوت الرجم في الإسلام ، هذا هو الامام علي بن أبي طالب جلد سراجة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنّة رسول الله.

وأمّا قوله سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَة ) (٣).

__________________

١ ـ لاحظ تفسير قوله سبحانه : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَيـةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ) ـ المائدة : ٤٣ ـ.

٢ ـ ابن قدامة : المغني ٩ / ٤.

٣ ـ النور : ٢.

٤٥٠

فلا ينافي ثبوت الرجم مع الجلد في بعض الموارد ، فإنّه لاينفي غير الجلد من سائر العقوبات ، هذا إذا قلنا بثبوت الجلد والرجم مطلقاً على المحصن ، وامّا إذا خصصنا الجمع بالشيخ والشيخة ، واخرجنا الشاب والشابة ، فتكون السنّة مخصصّاً لاّية الجلد ، فإنّ عموم القرآن يخصّص بالدليل القطعي ، وليس هذا نسخاً بل تخصيصاً ، وكم من فرق بين التخصيص والنسخ يقف عليه المعنّيون بعلم الاُصول.

وأمّا الخوارج فقالوا بالجلد دون الرجم واحتجّوا بالوجهين التاليين :

١ ـ قوله سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَة ) قالوا : لايجوز ترك كتاب الله الثابت بطريق القطع واليقين لأخبار آحاد يجوز الكذب فيها.

٢ ـ إنّ هذا يفضي إلى نسخ الكتاب والسنّة وهو غير جائز (١).

يلاحظ على كلا الوجهين : أمّا الأوّل : فلأنّ القول بالرجم مضافاً إلى الجلد لايستلزم ترك كتاب الله ، لأنّ اثبات الشيء أي الجلد لايكون دليلاً على نفي غيره ، فأيّ مانع من أن تكون العقوبة في مطلق الزنا هي الجلد ، وفي خصوص المحصن ، الجلد مع الرجم؟

هذا إذا قلنا بجلد المحصن مطلقاً ، وامّا إذا خصصنا الجمع بالشيخ والشيخة ، وقلنا بكفاية الرجم في غير الشاب والشابّة ، فأقصى ما يلزم تخصيص الكتاب بالسنّة القطعية وهو ليس بأمر شاذ ، كيف لايكون كذلك وقد اشتهر « وما من عام إلاّ وقد خصّ ».

أمّا الثاني : فلأنّه خلط بين نسخ حكم الكتاب وتخصيصه ، والفرق بينهما واضح لايخفى.

____________

١ ـ ابن قدامة : المغني ٩ / ٤.

٤٥١

هذا وقد نقل ابن قدامة : انّ رسل الخوارج جاءوا عمر بن عبد العزيز فكان من جملة ما عابوا عليه الرجم وقالوا : ليس في كتاب الله إلاّ الجلد ، وقالوا : الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون الصلاة ، والصلاة أوكد. فقال لهم عمر : وأنتم لا تأخذون إلاّ بما في كتاب الله؟ قالوا : نعم ، قال : فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات وعدد أركانها ، وركعاتها ، ومواقيتها ، أين تجدونه في كتاب الله تعالى؟ واخبروني عمّا تجب الزكاة فيه ومقاديرها ونصُبها؟ فقالوا : انظرنا ، فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئاً ممّا سألهم عنه في القرآن ، فقالوا : لم نجده في القرآن. قال : فكيف ذهبتم إليه؟ قالوا : لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعله ، وفعله المسلمون بعده ، فقال لهم : فكذلك الرجم وقضاء الصوم فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجم ورجم خلفاؤه بعده والمسلمون ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقضاء الصوم دون الصلاة ، وفعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه (١).

__________________

١ ـ ابن قدامة : المغنى ٩ / ٥.

٤٥٢

خاتمة المطاف

إلى هنا قد تعرّفت على عقائد الخوارج معتدليهم ومتطرّفيهم ، غير أنّ هناك مسائل فقهيّة ثلاث نطرحها في المقام :

١ ـ حكم أولاد المشركين.

٢ ـ حكم تزويج المشركات.

٣ ـ حكم تزويج الكافرة غير المشركة.

ولعل القارئ الكريم يتعجّب من طرح هذه المسائل في الموسوعة التاريخية للعقائد قائلاً بأنّ البحث عن مثل هذه الموضوعات من واجبات الفقيه لا مؤرّخ العقائد ، ولكنّه يزول تعجبّه إذا وقف على أنّ الخوارج المتطرّفين ، يزعمون أنّ مخالفيهم من المسلمين مشركون أو كافرون ، لا رتكاب الكبيرة من المعاصي ، وبما أنّ للمشرك والكافر الواقعيين أحكاماً خاصّة في الفقه الإسلامي من حيث صيانة الدماء وإراقتها وجواز تزويجهم وحرمته ، فهؤلاء كانوا يرتّبون على المسلمين واولادهم ، أحكام المشركين والكافرين واولادهم ، فيبيحون

٤٥٣

قتل أولاد المخالفين ، ويحرّمون مناكحتهم بحجّة أنّهم مشركون ، فناسب البحث عن هذه الأحكام الكليّة مع غضّ النظر عن عدم الموضوع في المقام لأنّ أهل القبلة والقرآن كلّهم موحدون لامشركون ، مؤمنون لاكافرون ، إلاّ من قام الدليل على شركه وكفره كالغلاة والنواصب.

وبما أنّ الأزارقة وامثالهم أخطأوا في حكم المسألة حتى في مواردها الواقعيّة فجوزوا قتل أولاد المشركين وحرّموا انكاح الكافر غير المشرك ، فلأجل ايقاف القارئ على مظان خطأهم في هذه المسائل نوالي البحث فيها واحدة بعد اُخرى ونقول :

١ ـ أولاد المشركين :

إنّ الأصل الرصين في الدماء هو الحرمة ، ولزوم صيانتها من الاراقة ، فالانسان ـ على وجه الاطلاق ـ هو خليفة الله في أرضه يحرم دمه وعرضه وماله للغير ، فلا يجوز التعدّي على شيء منها إلاّ بدليل ، ولأجل ذلك يقول سبحانه حاكياً عن نبيّه موسى : ( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةَ بِغَيْرِ نَفْس لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ) (١) وقال سبحانه : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـسِرِينَ ) (٢) وقال تعالى : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم ) (٣) وقال سبحانه : ( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـدَكُم مِنْ إِمْلَـق نَحْنُ نَرْزُقُكُـمْ وَإِيَّاهُمْ ) (٤) وقال تعالى : ( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) (٥) و : ( مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ

__________________

١ ـ الكهف : ٧٤.

٢ ـ المائدة : ٣٠.

٣ ـ الأنعام : ١٤٠.

٤ ـ الأنعام ١٥١.

٥ ـ الأنعام : ١٥١.

٤٥٤

النَّاسَ جَمِيعاً ) (١) ، إلى غير ذلك من الاّيات الناصّة على أنّ الأصل القويم والمرجع ، في الدماء هو الحرمة ، فلا يجوز قتل الانسان على الاطلاق إلاّ بمسوّغ شرعي ورد النص بجواز قتله في الذكر الحكيم والسنّة النبوية.

وعلى ضوء ذلك فالاسلام حرّم دم المسلم ، ودم الذمّي ، والكافر المهادن ، ومن يمتُّ إليهم بصلة ، فإنّ أولادهم وان كانوا غير محكومين بشيء من التكاليف إلاّ أنّ الولد يتبع الوالدين في الأحكام ، وهذا ممّا لايختلف فيه اثنان من الفقهاء.

وأمّا الكافر الحربي فهو مهدور الدم لا دم أطفاله وذراريه ، إلاّ في مواضع خاصّة.

قال ابن قدامة : إنّ من اُسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب : النساء والصبيان ، فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقاً للمسلمين بنفس السبي ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن قتل النساء ، والولدان ، (متّفق عليه) وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسترقّهم إذا سباهم (٢).

هذا فقيه أهل السنّة ، وامّا الشيعة ، فقال الشيخ الطوسي : الآدميون على ثلاثة أضرب : نساء وذريّة ومشكل وبالغ غير مشكل ، فأمّا النساء والذرية فإنّهم يصيرون مماليك بنفس السبي (٣).

وقال المحقّق الحلي : الطرف الرابع في الاُسارى وهم ذكور واناث ، فالاناث يملكن بالسبي ولو كانت الحرب قائمة ، وكذا الذراري (٤).

__________________

١ ـ المائدة : ٣٢.

٢ ـ ابن قدامة الحنبلي : المغني ١٠ / ٤٠٠.

٣ ـ الطوسي : المبسوط ٢ / ١٩.

٤ ـ المحقق : شرائع الإسلام ١ / ٣١٧.

٤٥٥

إلى غير ذلك من الفتاوى المستفيضة من فقهاء الإسلام ، وهم يتبعون في ذلك ، النصوص الواردة عن النبي وخلفائه.

روى الكليني عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله قال : كان رسول الله إذا أراد أن يبعث سريّة ، دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، لاتغلوا ، ولا تُمثِّلوا ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبيّاً ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضظرّوا إليها (١).

وقد تضافرت الروايات عن أئمة الشيعة في ذلك.

روى البيهقي بسنده عن ابن عمر : أجلى رسول الله بني النضير ، وأقرّ قريظة ومنَّ عليهم حتّى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم ، وقسم نساءهم ، واولادهم ، واموالهم بين المسلمين ، إلاّ بعضهم لحقوا برسول الله فآمنهم وأسلموا (٢).

وروى أيضاً النافع أنّ عبد الله بن عمر أخبره أنّ أمرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله مقتولة ، فانكر رسول الله قتل النساء والصبيان (٣).

هذا هو حكم الإسلام في صبيان الكفّار والمشركين ونسائهم ، فهلم معي ندرس فتوى الأزارقة في نساء الكفّار واولادهم فقد استحلّ زعيمهم قتل الأطفال ... قائلاً : إنّ نوحاً نبيّ الله كان أعلم بأحكام الله قال : ( رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَـفِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ) (٤) فسمّاهم بالكفّار وهم أطفال ، وقبل أن يولدوا ، فكيف ذلك في قوم

__________________

١ ـ الحر العاملي : الوسائل ١١ ، الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو ، الحديث ٢.

٢ ـ البيهقي : السنن ٦ / ٣٢٣ ، كتاب قسم الفي والغنيمة.

٣ ـ المصدر نفسه : ٩ / ٧٧ كتاب السير.

٤ ـ نوح : ٢٦ ـ ٢٧.

٤٥٦

ولا في قومنا؟ والله تعالى يقول : ( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَـئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ ) (١) وهؤلاء كمشركي العرب ، لا يقبل منهم جزية وليس بيننا وبينهم إلاّ السيف أو الإسلام (٢).

عزب عن المسكين ، أوّلاً : إنّ تسميتهم بالكفّار ليس باعتبار أنّهم في حال كونهم معدومين كفّاراً فإنّ ذلك باطل بالاتّفاق ، إذ كيف يوصف الشيء المعدوم بوصف من الأوصاف الوجودية ، بل المراد انّ الأبناء بعد خروجهم إلى عالم الوجود سيصيرون كفّاراً لنشوئهم في أحضان آبائهم الكافرين وامّهاتهم الكافرات ، فللوراثة والبيئة تأثيرهما في الأولاد ، فلا يلدون في المستقبل إلاّ اُناساً يصيرون كفّاراً نظير توصيف الأشجار بالمثمرة في فصل الشتاء ، والمراد : المثمرة في فصل الثمر.

وثانياً : إنّ الذراري والنساء وان كانت محكومات بالكفر ولكن علمت أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم دماءهم وانّما سوّغ سبيهم واسترقاقهم ، فليس كلّ كافر يجوز قتله. فما ذكره من الاستدلال أوهن من بيت العنكبوت.

وثالثاً : إنّ كلّ ذلك في حق المشركين والكّفار الحقيقيين ، فما معنى تسرية هذه الأحكام إلى أهل القبلة والمسلمين الذين يشهدون بتوحيده ورسالة نبيّه ويقيمون الصّلاة ويعطون الزكاة ويصومون شهر رمضان ويحجّون البيت. أفيصحّ لنا تسمية هؤلاء كفّاراً ، بحجّة ارتكابهم معصية كبيرة؟!

__________________

١ ـ القمر : ٤٣.

٢ ـ لاحظ رسالة ابن الأزرق في جواب رسالة نجدة بن عامر ، وقد مرّت في الفصل التاسع.

٤٥٧

٢ ـ في نكاح المشركات :

قد تعرّفت على أنّ الخوارج يعدّون مخالفيهم مشركين وكافرين ، فعلى قول الأزارقة جماهير المسلمين رجالاً ونساءً مشركون ومشركات ، وعلى قول غيرهم فهم كافرون وكافرات ، فحكم تزويج حرائرهم حكم تزويج الوثنيات والكتابيات ، ولأجل ذلك نذكر بعض كلماتهم ثم نعرض المسألة على الكتاب والسنّة.

كتب ابن الأزرق إلى عبد الله بن صفار وعبد الله بن اباص كتاباً جاء فيه :

وقال تعالى ( لاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) فقد حرّم الله ولايتهم والمقام بين أظهرهم واجازة شهادتهم واكل ذبائحهم وقبول علم الدين عنهم ومناكحتهم ومواريثهم (١).

وقد تقدّم في بيان عقائد الصفريه أنّه نقل عن الضحاك الّذي هو منهم أنّه جوّز تزويج المسلمات من كفّار قومهم في دار التقيّة دون دار العلانية. ويريد من المسلمات : الحرائر من الخوارج. ومن « كفّار قومهم » : رجال سائر الفرق الاسلامية.

ويظهر من الخلاف الّذي حدث بين الابراهيمية والميمونية أنّه يجوز بيع الجارية المؤمنة (الخارجية) من الكفرة أي المسلمون من سائر الفرق.

هذا ما وقفنا عليه من كلماتهم ونبحث عن المسألة بكلتي صورتيها :

الاُولى ـ نكاح المشركة :

اتّفق علماء الإسلام على تحريم تزويج المشركات. قال ابن رشد : « واتّفقوا على أنّه لايجوز للمسلم أن ينكح الوثنية لقوله تعالى : ( وَلاَ تُمْسِكُواْ

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٤٣٨ ـ ٤٤٠.

٤٥٨

بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) (١) واختلفوا في نكاحها بالملك » (٢).

وقال الشيخ الطوسي في المبسوط : « الضرب الثاني ، الذين لاكتاب لهم ولا شبهة كتاب ، وهم عبدة أوثان فلا يحلّ نكاحهم ولا أكل ذبائحهم ولا يقرّون على أديانهم ببذل الجزية ولا يعاملون بغير السيف أو الإسلام بلا خلاف » (٣).

هذا كلّه حول المشركات ، فلو صحّ كون جماهير المسلمات من الفرق الاسلامية مشركات عند الأزارقة ، لصحّ ما قال ولكنّه لم يصح ـ وإن صحّت الأحلام ـ لما عرفت أنّ للشرك حدّاً منطقياً في القرآن الكريم ، وابن الأزرق واتباعه وان كانوا قرّاء ولكنّه لم يتجاوز القرآن ـ حسب تنصيص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تراقيهم ولم يصل إلى دماغهم ومراكز أفكارهم ، فكيف يصحّ تسمية من ارتكب الكبيرة مشركاً ولو صحّ لما وجد في أديم الأرض مسلماً إلاّ إذا كان معصوماً.

٣ ـ نكاح الكافرة غير المشركة :

اختلف كلمة فقهاء الإسلام في نكاح الكافرة غير المشركة ويراد منها الكتابية لأنّها كافرة غير مشركة ، قال ابن رشد : اتّفقوا على أنّه يجوز أن ينكح الكتابية الحرّة (٤).

هذا مالدى السنّة وامّا ما لدى الشيعة فالمشهور عدم الجواز دواماً. قال الشيخ الطوسي : عند المحصّلين من أصحابنا لايحلّ أكل ذبائح أهل الكتاب

__________________

١ ـ الممتحنة : ١٠ ، والأولى أن يستدل بآية صريحة أعني قوله سبحانه : ( وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ... ) ـ البقرة : ٢٢١ ـ.

٢ ـ ابن رشد : بداية المجتهد ٢ / ٤٣.

٣ ـ الطوسي : المبسوط ٤ / ٢١٠.

٤ ـ ابن رشد : بداية المجتهد ٢ / ٤٣.

٤٥٩

كاليهود والنصارى ، ولا تزوّج حرائرهم ، بل يقرّون على أديانهم إذا بذلوا الجزية ، وفيه خلاف بين أصحابنا ، وقال جميع الفقهاء (أهل السنّة) : يجوز أكل ذبائحهم ونكاح حرائرهم (١).

وقال في الخلاف : المحصّلون من أصحابنا يقولون لا يحلّ نكاح من خالف الإسلام ، لا اليهود ، ولا النصارى ، وقال قوم من أصحاب الحديث من أصحابنا : يجوز ذلك ، واجاز جميع الفقهاء التزويج بالكتابيات وهو المروي عن عمر وعثمان وطلحة وحذيفة ، وجابر ، وروي أنّ عمّاراً نكح نصرانية ، ونكح حذيفة يهودية ، وروي عن ابن عمر كراهة ذلك واليه ذهب الشافعي (٢).

قال ابن قدامة : ليس بين أهل العلم ـ بحمد الله ـ اختلاف في حلّ حرائر نساء أهل الكتاب ، وممّن روى عنه ذلك ، عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم (٣).

وعلى ضوء ذلك انّ فقهاء أهل السنّة ذهبوا إلى الجواز ، وأمّا الشيعة فهم بين مانع ومجوّز ، ونحن نعرض المسألة على الكتاب.

استدلّ المانع بآيات :

١ ـ قال تعالى : ( وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُّشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلى الْنَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ ءَايَـتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (٤).

__________________

١ ـ الطوسي : المبسوط ٤ / ٢١٠.

٢ ـ الطوسي : الخلاف ٢ / ٢٨٢ ، المسألة ٨٤ من كتاب النكاح ، وقد نسب إلى فقهاء الشيعة أقوال اُخرى ذكرناها في محاضراتنا الفقهية في النكاح ، لاحظ : الحلّي ، مختلف الشيعة : ٨٢.

٣ ـ ابن قدامة : المغني ٥ / ٥٢.

٤ ـ البقرة : ٢٢١.

٤٦٠