بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

خلف كل برّ وفاجر من أهل القبلة .. إلى أن قال : ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعات الله عزّوجلّ فريضة علينا مالم يأمروا بمعصية » (١).

٣ ـ وقال أبو اليُسر محمّد بن عبد الكريم البزدوي : « الإمام إذا جار أو فسق لاينعزل عند أصحاب أبي حنيفة واجمعهم ، وهو المذهب المروي » (٢).

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي وقفت على بعضها في الجزء الأوّل ـ من هذه الموسوعة ـ عند البحث عن طاعة السلطان الجائر وهي بين مطلق ومقيّد فيما إذا لم يأمر بمعصية.

وهذه النظرية حيكت على طبق الروايات الواردة في الصحاح والمسانيد ، واليك بعضها :

أ ـ روى مسلم في صحيحه : بسنده عن حذيفة بن اليمان قال : قلت : « يا رسول الله ، إنّا كنّا بشرٍّ فجاء الله بخير فنحن فيه ، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال : نعم قلت : هل وارء ذلك الشرّ خير؟ قال : نعم قلت : فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال : نعم قلت : كيف؟ قال : يكون بعدي أئمّة لايهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك واخذ مالك فاسمع واطع » (٣).

ب ـ روى أيضاً عن سلمة بن يزيد الجعفي ، أنّه سأل رسول الله ، فقال : « يا نبيّ الله ، أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ، ثمّ سأله فأعرض عنه ، ثمّ سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه

____________

١ ـ أبو جعفر الطحاوي : شرح العقيدة الطحاوية ١١٠ طبع دمشق.

٢ ـ الإمام البزدوي (إمام الفرقة الماتريدية) : اُصول الدين ١٩٠ طبع القاهرة.

٣ ـ مسلم : الصحيح ٣ / ١٤٧٦ ، كتاب الإمارة ، الباب ١٣ ، الحديث ١٨٤٧.

٤٢١

الأشعث بن قيس وقال : « اسمعوا واطيعوا ، فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم »(١).

وفي رواية اُخرى فيه : « فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اسمعوا واطيعوا ، فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم » (٢).

ج ـ وروى عن عبادة بن الصامت « قال : دعانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبايعناه ، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا واثره علينا وان لاننازع الأمر أهله. قال : « إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان » (٣).

تحليل هذه النظرية :

إنّ هذه النظرية لايصدّقها الكتاب العزيز ولا السنّة النبويّة ولا سيرة أئمّة المسلمين ، كيف يجوز إطاعة أمر الجائر مطلقاً ، أو فيما إذا لم يأمر بمعصيته ، وقال سبحانه : ( وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمـُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ) (٤) وقد نقل سبحانه اعتذار بعض أهل النار بقوله : ( وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَْ ) (٥) وقد تضافر عن رسول الله أنّه قال : « لا طاعة

__________________

١ ـ مسلم الصحيح ٣ / ١٤٧٤ ، كتاب الامارة ، الباب ١٢ ، الحديث ١٨٤٦.

٢ ـ مسلم : الصحيح ٣ / ١٤٧٥ ، كتاب الامارة ، الباب ١٢ ، ذيل حديث ١٨٤٦.

٣ ـ مسلم الصحيح ٣ / ١٤٧٠ ، كتاب الامارة ، الباب ٨ ذيل حديث ١٨٤٠ (الرقم ٤٢). ولاحظ في الوقوف على سائر الروايات في هذا المجال كتاب دراسات في فقه الدورة الإسلامية ١ / ٥٨٠ ـ ٥٨٧ فإنّه بلغ النهاية في جمع الروايات والكلمات الصادرة عن الفقهاء في المقام.

٤ ـ الشعراء : ١٥١ ـ ١٥٢.

٥ ـ الأحزاب : ٦٧.

٤٢٢

لمخلوق في معصية الخالق » (١).

وروى الإمام الرضا عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أرضى سلطاناً بما أسخط الله خرج عن دين الله » (٢).

وروى مسلم في صحيحه عن ابن عمر أنّه قال : « على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره إلاّ أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » (٣).

إلى غير ذلك من الروايات الناهية عن إطاعة الإمام الجائر مطلقاً أو فيما يأمر بمعصية. والإمعان فيها وفي غيرها يعرب عن حرمة الاطاعة مطلقاً ، كيف وروى المتّقي الهندي في كنز العمّال عن أَنس قال : « لا طاعة لمن لم يطع الله » (٤) نعم كل ما ذكرنا من حرمة الطاعة ، مشروط بالقدرة والمنعة ، وإلاّ ففيه كلام آخر ليس المقام محل تفصيله.

وأمّا السيرة فتظهر حالها عند الكلام في المقام الثاني :

الثاني : في لزوم الخروج على الحاكم الجائر :

١ ـ ذهب أكثر أهل السنّة إلى حرمة الخروج ، وهذا هو إمام الحنابلة يقول في رسالته السابقة : « والغزو ماض مع الاُمراء إلى يوم القيامة ، البرّ والفاجر ، وإقامة الحدود إلى الأئمة ، وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم » (٥).

٢ ـ وقال الشيخ أبو جعفر الطحاوي : « ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولا

__________________

١ ـ الحر العاملي : الوسائل ١١ ، الباب الحادي عشر من أبواب الأمر بالمعروف ٧ ، ونقله الرضي في نهج البلاغة قسم الحكمة برقم ١٦٥.

٢ ـ المصدر نفسه برقم ٩.

٣ ـ مسلم : الصحيح ٣ ، كتاب الامارة ، الباب الثامن ، الحديث ١٨٣٩.

٤ ـ المتقي الهندي : كنز العمال ٦ / ٦٧ ، الباب ١ من كتاب الامارة ، الحديث ١٤٨٧٢.

٥ ـ تقدم مصدره.

٤٢٣

ولاة أمرنا وان جاروا » (١).

٣ ـ وقال الإمام الأشعري عند بيان عقيدة أهل السنّة : « ويرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح وان لايخرجوا عليهم بالسيف » (٢).

٤ ـ وقال الإمام البزدوي : « إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة ، ولا يجوز الخروج عليه لأنّ في الخروج إثارة الفتن والفساد في العالم » (٣).

٥ ـ وقال الباقلاني بعدما ذكر فسق الإمام وظلمه بغصب الأموال ، وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرّمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود : « لاينخلع بهذه الامور ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه ، وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله » (٤).

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي فيما ذكرنا غنىً عنها.

نعم هناك شخصيات لامعة أصحروا بالحقيقة وجاءوا بكلام حاسم ، وإليك بعض من ذهب إلى وجوب الخروج على الحاكم الجائر :

١ ـ قال أبو بكر الجصّاص في أحكام القرآن : « كان مذهب أبي حنيفة مشهوراً في قتال الظلمة وأئمّة الجور ، ولذلك قال الأوزاعي : احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف ـ يعني قتال الظلمة ـ فلم نحتمله ، وكان من قوله : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول ، فإن لم يؤتمرله فبالسيف على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وسأله إبراهيم الصائغ وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار

__________________

١ ـ أشرنا إلى مصدره.

٢ ـ أبو الحسن الأشعري : مقالات الإسلاميين ٣٢٣.

٣ ـ الامام البزدوي : اُصول الدين ١٩٠.

٤ ـ الباقلاني : التمهيد ١٨٦ طبع القاهرة.

٤٢٤

ونسّاكهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : هو فرض ، وحدّثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتل » (١).

٢ ـ وقال ابن حزم : « والواجب إن وقع شيء من الجور وان قلّ ، أن يكلّم الإمام في ذلك ويمنع منه ، فإن امتنع وراجع الحقّ وأذعن للقود من البشرة أو من الاعضاء ، ولإقامة حدّ الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه ، وهو إمام كما كان ، لا يحلّ خلعه. فإن امتنع من انفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع ، وجب خلعه واقامة غيره ممّن يقوم بالحقّ ، لقوله تعالى : ( تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوُاْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدوَنِ ) ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع » (٢).

٣ ـ وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تقاتلوا الخوارج بعدي » قال :

« وعند أصحابنا انّ الخروج على أئمّة الجور واجب ، وعند أصحابنا أيضاً انّ الفاسق المتغلّب بغير شبهة يعتمد عليها ، لايجوز أن يُنْصَر على من يخرح عليه ممّن ينتمي إلى الدين ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، بل يجب أن ينصر الخارجون عليه ، وإن كانوا ضالّين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم ، لأنّهم أعدل منه واقرب إلى الحقّ ، ولاريب في تلّزم الخوارج بالدين ، كما لاريب في أنّ معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك » (٣).

__________________

١ ـ الجصّاص : أحكام القرآن ١ / ٨١.

٢ ـ ابن حزم الأندلسي : الفصل في الملل والاهواء والنحل ٤ / ١٧٥.

٣ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٥ / ٧٨.

٤٢٥

٤ ـ وقال إمام الحرمين : « إنّ الامام إذا جار ، وظهر ظلمه وغيّه ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعة فلأهل الحل والعقد ، التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب » (١).

إذا وقفت على هذه النقول ، فالحقّ هو وجوب الخروج على الحاكم الجائر إذا كان في ركوبه منصّةَ الحكم خطراً على الإسلام والمسلمين.

ويكفي في ذلك ما ورد حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ الخروج على السلطان الجائر من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يقوم به إلاّ أصحاب القدرة والمنعة ، الذين لديهم امكانية الكفاح المسلّح.

وأمّا الروايات فيكفي في ذلك ما نذكر :

١ ـ روى الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال ، إنّي سمعت علياً عليه‌السلام يقول ـ يوم لقينا أهل الشام ـ : « أيّها المؤمنون ، إنّه من رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يُدعى إليه ، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومن أنكره بلسانه فقد اُجر ، وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونوّر في قلبه اليقين » (٢).

٢ ـ وفي مسند أحمد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إنّ الله عزّوجلّ لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصّة والعامّة » (٣).

__________________

١ ـ التفتازاني : شرح المقاصد ٢ / ٢٧٢ نقلاً عن امام الحرمين.

٢ ـ الحر العاملي : الوسائل ١١ / ٤٠٥ ، الباب ٣ من أبواب الأمر والنهي و ... ، الحديث ٨ ، ورواه أيضاً في نهج البلاغة : فيض ١٢٦٢ ، عبدة ٣ / ٢٤٣ ، صالح ٥٤١ ، الحكمة ٣٧٣.

٣ ـ أحمد المسند ٤ / ١٩٢.

٤٢٦

والقدرة ، فمنطق القوة يستعان به إذا لم تثمر المراتب السابقة ، وفي بعض الروايات إلماعات إليه ، وهي بين كونها نقيّة السند وضعيفته ، ولكن المجموع يفيد اليقين بالمقصود.

٣ ـ قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : « فانكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم » (١).

٤ ـ إنّ الحسين خطب أصحابه واصحاب الحرّ ، فحمد الله واثنى عليه ثم قال :

« أيّها الناس إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحّلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان ، فلم يُغَيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، واظهرو الفساد وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيّر » (٢).

٥ ـ روى الصدوق باسناده عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ الله لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّاً من غير أن تعلم العامّة ، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامة ، استوجب الفريقان العقوبة من الله ـ عزّ وجلّ ـ » قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم يُضّرَّ إلاّ عاملها ، فإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامة ». وقال جعفر بن محمّد عليه‌السلام : « وذلك انّه يذلّ

__________________

١ ـ الحرّ العاملي : الوسائل ١١ / ٤٠٣ ، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف ١.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٣٠٤.

٤٢٧

بعمله دين الله ويقتدي به اهل عداوة الله » (١).

وفيما ذكرنا من الروايات كفاية.

أمّا السيرة فحدّث عنها ولا حرج ، ففي ثورة الإمام الطاهر الحسين سيّد الشهداء ، وثورة أهل المدينة على زيد الطاغية ، وثورة أهل البيت في فترات خاصة ، كفاية لطالب الحق وكلّها تؤيّد نظرية لزوم الخروج على الحاكم الجائر بشروط خاصة مبيّنة في الفقه.

ونكتفي في المقام بما ذكره صاحب المنار قال :

« ومن المسائل المجمع عليها قولاً واعتقاداً : « إنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وإنّما الطاعة في المعروف » ، وانّ الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتدّ عن الإسلام واجب ، وإنّ اباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر واستباحة ابطال الحدود وشرع مالم يأذن به الله ، كفر وردّة ، وانّه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع ، وحكومة جائرة تعطله ، وجب على كلّ مسلم نصر الاُولى ما استطاع ، وانّه إذا بغت طائفة من المسلمين على اُخرى ، وجرّدت عليها السيف ، وتعذّر الصلح بينهما ، فالواجب على المسلمين قتال الباغية المعتدية حتى تفيء إلى أمر الله.

وما ورد في الصبر على أئمّة الجور إلاّ إذا كفروا ، معارض بنصوص اُخرى ، والمراد به اتّقاء الفتنة وتفريق الكلمة المجتمعة ، وأقواها حديث : « وان لاتنازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفراً بواحا ». قال النووي : المراد بالكفر هنا المعصية. ومثله كثير. وظاهر الحديث انّ منازعة الامام الحق في إمامته ننزعها منه لا يجب إلاّ إذا كفر كفراً ظاهرا وكذا عمّاله وولاته.

وأمّا الظلم والمعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء امامته وطاعته في

__________________

١ ـ الحرّ العاملي : الوسائل ١١ / ٤٠٧ ، الباب ٤ من أبواب الأمر والنهي و ... ، الحديث ١.

٤٢٨

المعروف دون المنكر ، وإلاّ خلع ونصب غيره.

ومن هذا الباب خروج الحسين سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على امام الجور والبغي ، الّذي وليَّ أمر المسلمين بالقوّة والمكر : يزيد بن معاوية خذله الله ، وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب الذين لايزالون يستحبون عبادة الملوك والظالمين ، على مجاهدتهم لإقامة العدل والدين. وقد صار رأي الاُمم الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدّين المفسدين. وقد خرجت الاُمة العثمانية على سلطانها عبد الحميد خان فسلبت السلطة منه وخلعته بفتوى من شيخ الإسلام » (١).

__________________

١ ـ السيد محمّد رشيد رضا : تفسير المنار ٦ / ٣٦٧ ، وياليت صاحب المنار (ت ١٣٥٤) يمشي على هذا الخطّ إلى آخر عمره والقصة ذو شجون ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المناظرات الّتي دارت بينه وبين السيد محسن الأمين (ت ١٣٧١) فقد أماط الستر عن حياته وتلوّنه فيها ، ولاحظ أيضاً كشف الارتياب ٦٤ ـ ٧٧.

٤٢٩
٤٣٠

٤ ـ التقية قولاً وعملاً

ذهبت الأزارقة إلى حرمة التقيّة في القول والعمل ، بينما ذهبت النجدية إلى جوازها (١) وربّما تنسب حرمة التقيّة إلى جميع الخوارج وإن اُكره المؤمن وخاف القتل (٢).

يلاحظ عليه : أنّ التقيّة تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى خمسة ، فمنها واجب ، ومنها حرام ، فإنّها تجب لحفظ النفوس ، والأعراض ، والأموال الطائلة ، كما إنّها تحرم إذا ترتّبت عليها مفسدة أعظم كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية.

قال الشيخ المفيد : التقيّة جائزة في الدين عند الخوف على النفس ، وقد يجوز في حال دون حال للخوف على المال ، ولضروب من الاستصلاح.

____________

١ ـ لاحظ فصل عقائد الخوارج وارائهم.

٢ ـ الامام عبده : المنار ٣ / ٢٨٠ ، بقلم تلميذه السيد محمّد رشيد رضا ، وما ذكره إنّما هو مذهب الأزارقة لا النجدية وستعرف أنّ التقيّة من تعاليم الاباضية وكانت هي السبب في بقائهم.

٤٣١

و أقول : إنّها قد تجب أحياناً ويكون فرضاً ، وتجوز أحياناً من غير وجوب ، وتكون في وقت أفضل من تركها ، ويكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذوراً ومعفوّاً عنه ، متفضّلاً عليه بترك اللوم عليها.

وأقول : إنّها جائزة في الأقوال كلّها عند الضرورة ، وربّما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يُعْلَم أو يُغْلَب انّه استفساد في الدين ، وهذا مذهب يخرج عن اُصول أهل العدل واهل الامامة خاصّة دون المعتزلة والزيدية والخوارج والعامة المتسمّية بأصحاب الحديث (١).

ويكفي في جواز ذلك :

١ ـ قوله سبحانه : ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَ لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءْ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (٢).

فقوله : ( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ ) استثناء من أهم الأحوال ، أي أنّ ترك موالاة الكافرين حتم على المؤمنين في كلّ حال ، إلاّ في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم ، فللمؤمنين حينئذ أن يوالوهم بقدر ما يتّقى به ذلك الشيء لأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

والاستثناء منقطع ، فإنّ التقرّب من الغير خوفاً ، بإظهار آثار التولّي ، ظاهراً من غير عقد القلب على الحبّ والولاية ، ليس من التولّي في شيء ، لأنّ الخوف

__________________

١ ـ الشيخ المفيد : أوئل المقالات ٩٦ ـ ٩٧. قوله « والعامة المتسمّية بأصحاب الحديث » يعرب عن أنّ غير المعتزلة من أهل السنّة كانوا معروفين في عصر الشيخ (٣٢٦ ـ ٤١٣) بأصحاب الحديث ، وأمّا تسمية طائفة منهم بالأشاعرة فإنّما حدث بعد ذلك العصر.

٢ ـ آل عمران : ٢٨.

٤٣٢

والحب أمران قلبيّان ومتنافيان أثراً في القلب ، فكيف يمكن اجتماعهما ، فاستثناء الاّتقاء استثناء منقطع.

٢ ـ قوله سبحانه : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَـنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالاِْيمَـنِ * وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١) فترى انّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراة الكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئنّاً بالايمان. فلو كانت مداراة الكافرين في بعض الظروف حراماً ، فلماذا رخّصه الإسلام واباحه ، وقد اتّفق المفسّرون على أنّ الآية نزلت في جماعة اُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار وابوه « ياسر » واُمّه « سميّة » ، وقتل أبو عمّار وامّه ، واعطاهم عمّار بلسانه ، ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كّلا ، إنّ عمّاراً مُلِئ ايماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ». وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي ، فقال : « ماوراءك »؟ فقال : « شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك ، وذكرت آلهتم بخير ». فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : « إن عادوا فعدلهم بما قلت » فنزلت الآية (٢).

وبذلك يظهر ، أنّ تحريم التقيّة على وجه الاطلاق اجتهاد في مقابل النصّ ، فإنّ الآية تصرّح بأنّ من نطق بكلمة الكفر مُكْرَهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، لاشارحاً بالكفر صدراً ، ولا مستحسناً للحياة الدنيا على الآخرة ، لا يكون كافراً ، بل يعذر.

٣ ـ ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَـتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَـذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً

__________________

١ ـ النحل : ١٠٦.

٢ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٣ / ٣٨٨ ونقله غير واحد من المفسرين.

٤٣٣

يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (١) ويقول أيضاً : ( وَجَآءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَـمُوسَى إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّـصِحِينَ ) (٢).

نعم لوجوب التقيّة أو جوازها شروط واحكام ذكرها العلماء في كتبهم الفقهية ولأجل ذلك حرّموا التقيّة في موارد ، كقتل المؤمن تقيّة ، أو ارتكاب محرّم يوجب الفساد الكثير ، ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من عظماء الشيعة واكابرهم رفضوا التقيّة في بعض الأحايين وتهيّأ وللشنق على حبال الجور ، والصلب على أخشاب الظلم. وكلّ من استعمل التقيّة أو رفضها ، له الحسنى ، وكلّ عمل بوظيفته الّتي عيّنتها ظروفه.

إنّ التاريخ يحكي لنا عن الكثير من رجالات الشيعة الذين تركوا التقيّة وقدَّموا نفوسهم المقدَّسة قرابين للحقّ ، ومنهم شهداء « مرج العذراء » وقائدهم الصحابّي العظيم الّذي أنهكته العبادة والورع ، حجر بن عدي الكندي ، الّذي كان من قادة الجيوش الاسلامية الفاتحة للشام.

ومنهم ميثم التمّار ، ورشيد الهجري ، وعبد الله بن يقطر الذين شَنَقهم ابن زياد في كناسة الكوفة ، هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحقّ ، ونطحوا صخرة الباطل ، بل وجدوا العمل بالتقيّة حراماً ، ولو سكتوا وعملوا بها وأصبح دين الإسلام دينَ معاوية ويزيد وزياد وابن زياد ، دينَ المكر ، ودينَ الغدر ، ودينَ النفاق ، ودينَ الخداع ، دين كل رذيلة ، واين هو من دين الإسلام الحقّ ، الّذي هو دين كل فضيلة ، اُولئك هم أضاحي الإسلام وقرابين الحق.

__________________

١ ـ غافر : ٢٨.

٢ ـ القصص : ٢٠.

٤٣٤

و فوق اُولئك ، امام الشيعة ، أبو الشهداء الحسين واصحابه الذين هم سادة الشهداء وقادة أهل الإباء.

وبذلك ظهر أنّ ايجاب التقيّة على الاطلاق وتحريمها كذلك ، بين الافراط والتفريط. والقول الفصل هو تقسيم التقيّة إلى الواجب والحرام ، أو إلى الجائز ـ بالمعنى الأعم ـ والحرام.

وبما أنّ الشيعة اشتهرت بالتقيّة بين سائر الفرق ، وربّما تُزرى بها وتتَّهم بالنفاق فقد أشبعنا الكلام فيها ، وبيّنا ، الفرق بين التقيّة والنفاق في أبحاثنا الكلامية (١).

وهناك كلمة للعلاّمة المحقّق السيد الشهرستاني نأتي بها هنا :

قال : المراد من التقيّة إخفاء امر ديني لخوف الضرر من إظهاره ، والتقيّة بهذا المعنى ، شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية ، إلاّ أنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقيّة أكثر من غيرها ، لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أيّ اُمّة اُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأمويّة كلِّه ، وفي عهد العباسيين على طوله وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ولأجله استشعروا شعار التقيّة أكثر من أيّ قوم ، ولمّا كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في اُصول الدين ، وفي كثير من المسائل الفقهية ، وتستجلب المخالفة (بالطبع) رقابة وحزازة في النفوس ، وقد يجرّ إلى اضطهاد أقوى الحزبين لأضعفه ، أو اخراج الأعزّ منهما الأذلّ كما يتلوه علينا التاريخ وتصدّقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت تضطرّ في أكثر الأحيان إلى الكتمان لصيانة النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاُخوّة مع سائر اخوانهم المسلمين ،

__________________

١ ـ لاحظ الإلهيّات ٢ / ٩٢٥ ـ ٩٣٣ بقلم حسن محمد مكي العاملي.

٤٣٥

لئلاّ تنشق عصا الطاعة ، ولكيلا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في الجامعة الاسلامية فيوسّعوا الخلاف بين الاُمّة المحمّدية (١).

__________________

١ ـ محمّد علي الشهرستاني (ت ١٣٨٦) : تعاليق أوائل المقالات ٩٦ نقلاً عن مجلّة المرشد ٢٥٢ ـ ٢٥٦.

٤٣٦

٥ ـ ما تجب معرفته بالتفصيل

إنّ هذه المسألة تفترق عن المسألة الثانية أعني تحديد حقيقة الإيمان وانّ العمل هل هو مقوّم لأقلّ مراتب الإيمان أو لا (وجه الفرق)؟ انّ روح البحث في المقام عن تحديد ما تجب معرفته في مجالي العقيدة والشريعة ، بخلاف المسألة السابقة فإنّ موضوعه تحديد مفهوم الإيمان وانّه هل هو متقوّم بالعقيدة فقط ، أو مركّب منها ومن العمل؟ فالمسألتان مختلفتان جوهراً فنقول :

الإسلام عقيدة وشريعة ، والمطلوب من الاُولى ، المعرفة ثم الالتزام القلبي ، كما انّ المطلوب من الثانية المعرفة ثم الالتزام العملي ، وهذا ممّا لم يختلف فيه اثنان ، إلاّ أنّه وقع الاختلاف في تحديد المقدار الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام القلبي ، كما وقع الخلاف في المقدار الأدنى الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام العملي ، ونحن نبحث عن كلا الأمرين.

٤٣٧

الأمر الأول : ما تجب معرفته في مجال العقيدة :

الّذي يظهر من الطائفة البيهسيّة من الخوارج ، لزوم معرفة جميع العقائد الاسلامية تفصيلاً وانّه لولا هذه المعرفة لما دخل الانسان في عداد المسلمين ، قالوا : لاُيسلِم أحد حتى يُقر بمعرفة الله ، وبمعرفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبمعرفة ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة ، والولاية لأولياء الله سبحانه ، والبراءة من أعداء الله ـ جلّ وعلا ـ وما حرّم الله سبحانه ممّا جاء فيه الوعيد فلا يسع الانسان إلاّ علمه ومعرفته بعينه وتفصيله (١).

ويظهر هذا القول من بعض علمائنا الامامية. قال العلاّمة الحلّي : أجمع العلماء على وجوب معرفة الله وصفاته الثبوتية وما يصحّ عليه وما يمتنع عنه والنبوّة والامامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد (٢).

وفي الوقت نفسه هناك من قال منهم بكفاية الاقرار (الا المعرفة) بما جاء من عند الله جملة (٣).

ويظهر هذا القول من الاباضية ، قال محمّد بن سعد الكدمي ـ وهو من علماء الاباضية في القرن الرابع ـ : « اعلموا أنّ الجملة الّتي دعا إليها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك من دعا إلى دين الله بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا لايسع الناس جهله ، وهو الاقرار بالله ، انّه واحد ، وانّه ليس كمثله شيء ، وانّ محمّداً عبده ورسوله ، وانّ جميع ماجاء

__________________

١ ـ يراجع الفصل التاسع : الفرقة الثالثة : البيهسية.

٢ ـ العلاّمة الحلي : الباب الحادي عشر ٢.

٣ ـ لاحظ عقائد الفرقة البيهسية المنسوبة لأبي بيهس في هذا الفصل ويحتمل أن يكون المراد من « جملة » هو الاعتقاد الاجمالي بما جاء به الرسول فلا يدل على لزوم المعرفة التفصيلية ولكن يخالفه ذيله الصريح في لزومها.

٤٣٨

به محمّد عن الله فهو الحق ، فهذا الّذي لايسع جهله في حال من الاحوال (١).

وأضاف البعض الآخر من الاباضية تبعاً لأهل الحديث ثم الأشاعرة ، الإيمان بالقدر خيره وشرّه (فيجب معرفتهما) قال ابن سلام : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث واليوم الآخر والموت والقدر خيره وشرّه من الله عزّوجلّ (٢).

ولأجل وجود التطرّف في القول الأوّل قال شيخنا المرتضى الأنصاري عند البحث عن حجّية الظن في اُصول الدين :

« لقد ذكر العلامة قدس‌سره في الباب الحادي عشر في ما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد والنبوّة والامامة والمعاد اُموراً لا دليل على وجوبها مطلقاً ، مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحقّ للعقاب الدائم وهو في غاية الاشكال » (٣).

ولأجل تحقيق الحال نبحث عن الموضوع على وجه الايجاز فنقول : إنّ المسائل الاُصولية الّتي لا يطلب فيها أوّلاً وبالذات إلاّ الاعتقاد ، على قسمين :

الأوّل : ما وجب على المكلّف الاعتقاد والتدّين به غير مشروط بحصول العلم ، فيكون تحصيل العلم من مقدّمات ذلك الواجب المطلق فيجب تحصيل مقدّمته (المعرفة).

الثاني : ما يجب الاعتقاد والالتزام إذا اتّفق حصول العلم به ، وهذا كبعض تفاصيل المعارف الاسلامية الراجعة إلى المبدأ والمعاد.

أمّا القسم الأوّل : أعني ما يجب الاعتقاد به مطلقاً ولأجل كون وجوبه غير

__________________

١ ـ أبو سعيد الكدمي : المعتبر ١ / ١٤٥ من منشورات وزارة التراث القومي والثقافة لسلطنة عمان.

٢ ـ ابن سلام (ت ٢٧٣) : بدء الإسلام وشرائع الدين ٦٠.

٣ ـ مرتضى الأنصاري : الرسائل ١٧٠.

٤٣٩

مشروط بشيء يجب تحصيل مقدّمته. فهذا لا يتجاوز عن الاعتقاد بالشهادتين : بشهادة أن لا إله إلاّ الله وشهادة أنّ محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه الشهادة تتضمّن الاعتقاد الاجمالي بصحّة كلّ ما جاء به النبي في مجال العقيدة.

والدليل على كفاية ذلك مايلي :

إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل إسلام من أقرَّ بالشهادتين لفظاً حاكياً عن الاعتقاد به ، وهذا يدلّ على أنّه يكفي في دخول الانسان في عداد المسلمين ، الاقرار بهما ولا تجب معرفة تفاصيل المعارف والعقائد.

قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام :

إنّ الله عزّوجل بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشر سنين (١) ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا اله إلاّ الله وانّ محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أدخله الله الجنة باقراره وهو إيمان التصديق (٢).

فهذا الاستدلال يعطي أنّ حقيقة الإيمان الّتي يخرج الانسان بها عن حدّ الكفر ، الموجب للخلود في النار ، لم تتغّير بعد إنتشار الشريعة ، وبعد هجرة النبيّ إلى المدينة المنوّرة.

نعم ظهرت في الشريعة اُمور صارت ضرورية الثبوت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعتبر في تحقّق الإسلام عدم انكارها (لا لزوم التصديق بها تفصيلاً) ولكن هذا لا يوجب التغيّر في ما يقوم الإيمان به ، فإنّ المقصود انّه لا يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد والتصديق

__________________

١ ـ يريد الدعوة العلنية فإنّها كانت عشر سنين وكانت في السنين الثلاثة الاُولى سرّية.

٢ ـ الكليني : الكافي ٢ / ٢٩ برقم ١٥١٠.

٤٤٠