بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

سبحانه : ( واذْ تَأَذَّنَ رَبُّكمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (١).

على أنّه يحتمل أن يكون المراد من توصيف تارك الحج بالكفر ، هو كونه كافراً لجحد وجوبه ، فيرجع الأمر إلى جحد الرسالة ويؤيّده صدر الآية ( وللّهِ عَلّى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ ) فأنبأ عن اللزوم ثمّ قال : ( ومنْ كَفَرَ ) بلزوم ذلك ومن المعلوم أنّ من أنكر لزومه فهو كافر.

٢ ـ ( فَلا وربِّكَ لايُؤْمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويسّلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٢) قيل : إنّه سبحانه أقسم بنفسه انّهم لايؤمنون إلاّ بتحكيم النبي والتسليم بحكمه ، وعدم وجدان الحرج في قضائه ، والتحكيم غير التصديق بل هو عمل خارجي (٣).

يلاحظ عليه : أنّ الآية وردت في شأن المنافقين ، فإنّهم كانوا يتركون النبي ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار ، وهم مع ذلك يدّعون الإيمان بالنبي والإذعان والتسليم له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتى يُرى أثر الإيمان في حياتهم ، وهو تحكيم النبي ، في المرافعات والمنازعات والتسليم المحض أمام قضائه ، وعدم احساسهم بالحرج ، وهذا هو الظاهر من الآية ، لا أن التحكيم بما أنّه عمل ، جزء من الإيمان وهذا نظير ما إذا ادّعى إنسان حبّاً لرجل فيقال له : إن كنت صادقاً فيجب أن يرى أثر الحبُ في حياتك ، فاعمل له كذا وكذا.

٣ ـ ( إنَّهُ لاييْأسُ مِن رَوْحِ اللهِ إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ ) (٤) بادّعاء أن الفاسق بفسقه

____________

١ ـ إبراهيم : ٧.

٢ ـ النساء : ٦٥.

٣ ـ ابن حزم الظاهري : الفصل ٣ / ١٩٥.

٤ ـ يوسف : ٨٧.

٤٠١

واصراره عليه ، آيس من روح الله فكان كافراً.

والجواب : انّ المدعى ممنوع : فإنّ فسّاق المؤمنين ليسوا بآيسين بل يرجون رحمة ربّهم بالتوبة أو الشفاعة ، أضف إليه : المراد من « الروح » هذا ، الفرج بعد الشدّة ، ومثل هذا اليأس من الكبائر الموبقة ، ولكنّه لا يوجب كفراً ، وذلك لأنّ النهي في الآية نهي تشريعي ومعناه أنّ اليأس من روح الله شأن الكافر دون المؤمن ، نظير قوله سبحانه : ( وما كَانَ لِمُؤْمِن أن يَقْتُلَ مَؤْمِناً إلاّ خَطَأً ) (١) أي ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ عن خطأ خارجاً عن اختياره لا أنّ المؤمن لايقتل المؤمن عمداً أبداً ، وعلى ضوء ذلك فلو حصل اليأس من مؤمن فهو ركب الكبيرة الموبقة ، ومع ذلك فليس بكافر.

٤ ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون ) (٢).

يلاحظ عليه : أنّه سبحانه وصف من لم يحكم بما أنزل الله بأوصاف ثلاثة :

أ ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون ) (٣).

ب ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ ) (٤).

ج ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (٥).

والآيتان الأوّليتان نزلتا في حق اليهود ، كما هو لائح من صدريهما.

والآية الثالثة في مورد النصارى ومع ذلك لايكون المورد مخصّصاً للآيات بهما والمقصود هو أنّ من لم يحكم بما أنزل الله سواء أكان من أهل الكتاب أو غيرهم ، فهو ظالم وفاسق وكافر ، أمّا كونه ظالماً ، فلأنّه تعدّى عن

__________________

١ ـ النساء : ٩٢.

٢ ـ المائدة : ٤٤.

٣ ـ المائدة : ٤٤.

٤ ـ المائدة : ٤٥.

٥ ـ المائدة : ٤٧.

٤٠٢

الحقّ ، فترك حكم الله ، وحكم بحكم الجاهلية ، فإنّ الحكم حكمان امّا إلهّي وامّا جاهلي ، فإذا ترك الأوّل يكون من قبيل الثاني ، قال سبحانه : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْم يُوقِنُونَ ) (١).

وأما كونه فاسقاً ، فإنّ الفسق هو الخروج عن طاعة الله ، يقال : فسقت التمرة : إذا خرجت قشرتها ، فالحاكم بغير ما أنزل الله خرج عن طاعة الله.

وأمّا كونه كافراً ، فلأنّ الآية حسب شأن نزولها وردت في قوم ينكرون الرجم في توراتهم ، ولأجله يحكمون بغير ما أنزل الله ، فيكون هذا قرينة على أنّ الكفر لأجل انكار ما أنزل الله في الكتب السماوية ، وإلى ذلك ينظر ما نقله الرازي عن بعضهم : انّ قوله ( ومنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله ) إنّما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أمّا مَن عرف بقلبه كونه حكم الله ، وأقرّ به بلسانه ، إلاّ أنّه أتى بما يضاده ، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنّه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية (٢).

وعلى ضوء ذلك فالآية تختصّ بالجاحد لحكم الله الوارد في كتابه ، المستلزم لانكار رسوله الّذي أتى به في الكتاب.

٥ ـ ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَـهَا إِلاَّ الاَْشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) (٣).

وجه الاستدلال ، انّ الآية تحصر الداخل في النار في الكافر ، حيث يقول : ( إلاّ الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ تَوَلَّى ) فبما أنّ المسلمين اتّفقوا على دخول الفاسق في النار ، يلزم أن يكون الفاسق كافراً.

يلاحظ عليه : أنّ الآية تحصر الخلود في النار والمقيم فيها في المكذّب

__________________

١ ـ المائدة : ٥٠.

٢ ـ الرازي : مفاتيح الغيب ٣ / ٤٢١.

٣ ـ اللّيل : ١٤ ـ ١٦.

٤٠٣

المتولّي لامجرّد الداخل فيها وتقول : ( لا يصلاها إلاّ الأشقى * الَذِي كذّب وتولّى ) وذلك لأن قوله ( لاَيَصْلاها ) ، من قوله صلى الرجل النار ، يصلاها أي لزمها (١) وهي عبارة اُخرى عن الخلود في النار فالآية لاتدل إلاّ على أنّ الخلود في النار من خصائص الكافر المكذّب المتولّي وأمّا المؤمن الفاسق فخارج عن حدود ودلالة الآية.

هذا وربّما يستدلّ بالآية على قول المرجئة القائلة بالنار للكافرين دون المؤمنين ، وذلك لأنّه سبحانه يقول : لا يدخل النار إلاّ الكافر ، والمؤمن الفاسق ليس كافراً ، وأجاب عنه القاضي المعتزلي على ما نقل عنه : بأنّ (ناراً) نكرة في سياق الاثبات ، وانّما تعمّ النكرة في سياق النفي نحو قولك : ما في الدار رجل ، وغير ممتنع أن تكون في الآخرة نار مخصوصة لايصلاها إلاّ الذين كذبوا وتولّوا ويكون للفسّاق نار اُخرى غيرها (٢).

وأوضحه الطبرسي في مجمعه وقال : إنّه سبحانه نكّر النار المذكورة ولم يُعرّفْها ، فالمراد بذلك انّ ناراً من جملة النيران لايصلاها إلاّ من هذه حاله ، والنيران درجات على ما بينّه سبحانه في سورة النساء (٣) ، فمن أين عرف أنّ غير هذه النار لايصلاها قوم آخرون(٤).

ولكن الاستدلال والجواب مبنيان على أنّ « الصلي » بمعنى الدخول ولكنه غير صحيح لما عرفت من أنّه الدخول الملازم للبقاء.

أضف إلى ذلك : انّه لودلّ على أنّ النار مختصّة بالكافرين يلزم منه الاغراء بالمعاصي لأنّه بمنزلة أن يقول الله تعالى لمن صدّق بالله ورسوله ولم يكذّب

__________________

١ ـ يقال صلى فلاناً النار : أدخله إيّاها واثواه فيها.

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٨ / ١١٥.

٣ ـ النساء : ١٤٥ : ( إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ فِي الدَّرَكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ).

٤ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٥ / ٥٠٢.

٤٠٤

ولم يتولّ : أي معصية اقدمتَ عليها فلن يضرّك. وهذا هو الاغراء الّذي لايصدر من الحكيم.

على أنّه سبحانه يقول بعدها ( وسيُجَنَّبُها الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) (١) ويحصر المجنّب عن النار في الأتقى ، ومعلوم أنّ الفاسق ليس بأتقى لأنّ « أتقى » مبالغة في التقوى ومن يرتكب عظائم الكبائر لايوصف بأنّه أتقى.

٦ ـ ( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمـُحيطَةٌ بِالْكَـفِرِينَ ) (٢).

قالوا : والفاسق تحيط به جهنّم فوجب أن يكون كافراً.

يلاحظ عليه : أنّه من غرائب الاستدلالات ، فإنّه لم يقل سبحانه : وانّ جهنّم لاتحيط إلاّ بالكافرين ، حتّى يلزم أن يكون الفاسق من أقسام الكافر ، باعتبار كونها محيطة به أيضاً ولا يلزم من كونها محيطة بقوم ، ألاّ تحيط بقوم سواهم.

٧ ـ ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـنِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) (٣).

وجه الاستدلال : انّ الفاسق لايجوز أن يكون ممّن ابيضّت وجوههم ، فوجب أن يكون ممّن اسودّت واذا دخل فيه يكون كافراً لقوله : ( بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ).

يلاحظ عليه : أنّ الآية تخبر عن وجود صنفين : صنف تبيضّ وجوههم ، وصنف تسودّ وجوههم ، فالاوّل من سمات المؤمن الّذي لم يخالط إيمانه بإثم ، والثاني من سمات الكافر الّذي لم يؤمن بالله أو صفاته أو أفعاله ، في النبوّة

__________________

١ ـ الليل : ١٧ ـ ١٨.

٢ ـ التوبة : ٤٩.

٣ ـ آل عمران : ١٠٦.

٤٠٥

والخاتميّة. وامّا انّه ليس هنا صنف ثالث ويحشرون بغير هاتين السمتين ، فلا تدلّ الآية عليه ، والمؤمن الّذي ركب الكبيرة هو من هذا القسم الثالث الّذي لم تتكفّل الآية ببيان حكمه.

والحاصل انّ الآية تبحث عن المؤمن الخاص ، والكافر المطلق ، وتذكر سماتهما وحالاتهما ، وامّا القسم الثالث فهو خارج عن تقسيم الآية ولعلّ له سمة وعلامة اُخرى غير بياض الوجه وسواده لم تذكرها الآية.

قال الطبرسي : استدلّت الخوارج بذلك على أنّ من ليس بمؤمن فلابد أن يكون كافراً فإنّ الله سبحانه قسّم الوجوه إلى هذين القسمين.

ولا تعلّق لهم به ، لأنّه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين ، وجوه المؤمنين (غير العاصين) ووجوه الكفّار ، ولم يذكر وجوه الفسّاق من أهل الصلاة ، فيجوز أن يكون لها صفة اُخرى بأن يكون عليها غبرة لاتغشاها قترة أو يكون عليها صفرة أو لون آخر (١).

٨ ـ ( فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَيْء مِّن سِدْر قَلِيل * ذَلِـكَ جَزَيْنَـهُم بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَـزِي إِلاَّ الْكَفُورَ ) (٢).

والفاسق لابد أن يجازى ، فوجب أن يكون كفوراً.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من قوله ( وهلْ نُجزِي ) ليس مطلق المجازاة ، بل مجازاة الاستئصال ، والآية وردت في قصة أهل سبأ وهم استؤصلوا بالعقوبة ، فالمجازاة المقترنة بالاستئصال من خصائص الكفّار ، لاكل مجازاة.

__________________

١ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٥ / ٤٤١.

٢ ـ سبأ : ١٦ ـ ١٧.

٤٠٦

٩ ـ ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (١).

وفسّر الغاوون في آية اُخرى بالمشركين قال سبحانه ( إِنَّمَا سُلْطَـنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) (٢).

وعلى ضوء هذا فمرتكب الكبائر من الغاوين لأجل سلطة الشيطان عليه وهو حسب تعبير الآية الثانية من المشركين فينتج أنّ مرتكب الكبيرة مشرك

يلاحظ عليه : أنّ الآية فسّرت الغاوين بصنفين : صنف يتولّونه ، وصنف به مشركون ، ومرتكب الكبيرة داخل في الصنف الأوّل لافي الصنف الثاني.

١٠ ـ ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَيـهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (٣).

وجه الدّلالة انّه سبحانه جعل الفاسق مكذّباً.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على تفسير الفاسق بالمعنى الرائج في أعصارنا أي المؤمن بالله وصفاته ورسالاته المرتكب لكبيرة ، وهو غير صحيح إذ ليس كل فاسق بهذا المعنى مكذّباً ، فتعيّن أن يكون المراد من الفاسق في الآية من خرج عن الطاعة بتكذيبه ، ومن المعلوم أنّ مثله كافر ، قال سبحانه ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) (٤) وبالجملة : المقصود من الفاسق في الآية من عصى عن طريق التكذيب الّذي يساوق الكفر ، لا من فسق ـ وهو مؤمن بقلبه ولسانه ـ بالخروج عن الطاعة لارتكابه المعاصي.

__________________

١ ـ الحجر : ٤٢.

٢ ـ النحل : ١٠٠.

٣ ـ السجدة : ٢٠.

٤ ـ السجدة : ١٨.

٤٠٧

١١ ـ ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ) (١).

وجه الدلالة انّ من لم يكن مؤمنا فهو كافر ، والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافراً.

يلاحظ عليه : أنّ الفاسق ، أي المسلم المعتقد بالله سبحانه ورسله وكتبه ، المرتكب لبعض المحّرمات ، مؤمن ليس بكافر ، فقوله : الفاسق ليس بمؤمن ، ممنوع ، فإنّ الفاسق على قسمين ، قسم يخرج عن طاعة الله سبحانه بالتكذيب والانكار ، وقسم يؤمن به ، ولكن لا يقوم في مقام العمل ببعض الوظائف ، فالأوّل كافر دون الثاني.

وأمّا الشارح ابن أبي الحديد فبما أنّه من المعتزلة ، ومرتكب الكبيرة عندهم لامؤمن ولا كافر بل في منزلة بين المنزلتين ، أجاب بأنّ (من) هاهنا للتبعيض وليس في ذكر التبعيض نفي الثالث (ولعلّ هنا من ليس بمؤمن ولاكافر) (٢) وهو كماترى ، لأنّ الآية في مقام الحصر.

١٢ ـ ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُون فَإِنَّهُمْ لاَيُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّـلِمِينَ بَـاَيَـتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) (٣).

وجه الدلالة انّ مرتكب الكبائر ظالم ، والظالم بحكم الآية جاحد والجاحد كافر ، وإلى ذلك يرجع استدلالهم حيث يقولون :

__________________

١ ـ التغابن : ٢.

٢ ـ التغابن : ٢.

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح النهج ٨ / ١١٨.

٣ ـ الأنعام : ٣٣.

٤٠٨

١٣ ـ الفاسق ظالم لغيره ، أو لنفسه ، وكلّ ظالم كافر ، قال تعالى :

( أَن لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّـلِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُوَنَها عِوَجاً وَهُم بِالاَْخِرَةِ كَـفِرُونَ ) (الأعراف / ٤٤ ـ ٤٥) (١).

يلاحظ عليه : أنّ الكبرى ممنوعة وهي انّ كل ظالم جاحد بآيات الله كما استظهره المستدل من الآية الاُولى أو أن كلّ ظالم كافر كما استظهره من الآية الثانية ، وذلك لأنّ المراد من الظالمين في كلتا الآيتين ليس هو مطلق الظالم ولو بمجرّد ارتكاب الكبيرة فقط ، بل المراد هو المكذّب بلقاء الآخرة.

أمّا الآية الاُولى : فيشهد على ذلك سياق الآية : قبلها وبعدها حيث جاء في الآية المتقدّمة قوله ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللهِ ... ) وجاء في الآية المتأخّرة عنها : ( ولقَدْ كُذِّبت رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ ).

وأمّا الآية الثانية : فذيلها شاهد على أنّ المراد هو الجاحد بالآخرة.

أضف إلى ذلك : انّه كيف يمكن أن يعدّ كل ظالم ولو ظلم نفسه كافراً؟

هذا هو نبيّنا آدم يقول : ( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَأ أنفُسَنَا ) (٢) وقال تعالى حكاية عن موسى : ( إنّى ظَلَمْتُ نَفْسِي ) (٣) وقال حكاية عن يونس : ( إنِّي كُنتُ مِنَ الظَالِمِينَ ) (٤).

١٤ ـ ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـبِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ) (٥) ... إلى قوله ( إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) (٦) والفاسق لايؤتى كتابه بيمينه بل يؤتى بشماله ، إذ لا ثالث فيدخل تحت قوله ( إِنَّهُ كَانَ

__________________

١ ـ صالح أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : ٢٥٣.

٢ ـ الأعراف : ٢٣.

٣ ـ القصص : ١٦.

٤ ـ الأنبياء : ٨٧.

٥ ـ الحاقة : ٢٥ ـ ٢٦.

٦ ـ الحاقّة : ٣٣.

٤٠٩

لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) الّذي هو وصف عامّ لكل من اُوتي كتابه بشماله ، ولو أردنا صوغ الاستدلال في قالب علمي نقول : مرتكب الكبيرة يؤتى كتابه بشماله ، وكلّ من كان كذلك فهو ممّن لا يؤمن بالله العظيم ، فينتج : انّ مرتكب الكبيرة ممّن لا يؤمن بالله العظيم.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من الموصول في قوله : ( وامّا من ... ) كل من يؤتى كتابه بشماله سواء كان جاحداً أو غير جاحد ليشمل المسلم المؤمن المرتكب للكبيرة ، ولكن المراد منه القسم الخاص من هذه الطائفة أعني الجاحد بالله العظيم ، أي من لم يوحّد الله سبحانه في دار التكليف ، والدليل على ذلك هو التعليل الوارد في الآية الاُخرى أعني قوله : ( إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) فذيل الآية قرينة على اختصاص الموصول مع صلته ، بالجاحد ، لا المؤمن المذعن بكل الشرائع ، لوضوح انّه ليس كل مرتكب الكبيرة غير مؤمن بالله العظيم وليس ارتكاب الكبيرة دليلاً على عدم الإيمان به لقضاء الضرورة على بطلانه.

ويؤيّد ذلك انّه علّل دفع الكتاب إلى الظهر في بعض الآيات الّذي هو بمنزلة دفعه إلى شماله بأنّه كان غير مؤمن بالآخرة قال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً ... إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ) (١) ومعنى قوله « لن يحور » إنّه لا يرجع إلى الحياة في الآخرة.

١٥ ـ ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـلِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (٢).

__________________

١ ـ الانشقاق : ١٠ ـ ١١ و ١٤.

٢ ـ المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٥.

٤١٠

وجه الاستدلال انّ الفاسق ممّن خفّت موازينه ، ومن خفّت موازينه فهو مكذّب حسب ظاهر الآية ، والمكذّب كافر بالاتّفاق.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الموصول في قوله « ومن خفَّت موازينه » ليس كل من خفّت موازينه سواء كان مكذّباً بآيات الله أم مصدّقاً بها حتى يعمّ المؤمن الفاسق ، بل المراد هو القسم الخاص أعني الذين خفّت موازينهم لأجل التكذيب ، لالأجل أمر آخر ، أعني ارتكاب الكبيرة مع التصديق ، ويوضّح هذا الجواب ، ما ذكرناه في الآية المتقدّمة ، فلاحظ (١).

١٦ ـ ( وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ ) (٢).

يلاحظ عليه : أنّ الآية ، دليل على أنّ كل كافر فاسق ، ولا تدلّ على العكس كما هو واضح.

ثم إنّ الإمام علي عليه‌السلام ردّ على قول الخوارج بأنّ المسلم بارتكاب المعصية يصير كافراً بكلام منه موضع الحاجة :

قال مخاطباً الخوارج : « فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأتُ وضللتُ ، فلم تُضَلِّون عامّة امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بِضَلالي ، وتأخذونهم بخطئي ، وتكفّرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب ، وقد علمتم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجم الزاني المحصن ، ثمّ صلّى عليه ، ثم ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع السارق ، وجلد الزاني غير المحصن ، ثم قسم عليهما من الفيء ، ونكحا المسلمات ، فأخذهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذنوبهم ، وأقام حقّ الله فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من

____________

١ ـ راجع الآية ٩ ـ ١١ من سورة القارعة.

٢ ـ النور : ٥٥.

٤١١

بين أهله » (١).

وحاصل كلام الإمام : انّه لو كان صاحب الكبيرة كافراً لما صلّى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ورّثه من المسلم ، ولا مكّنه من نكاح المسلمات ، ولا قسَّم عليه من الفيء ولأ خرجه عن لفظ الإسلام (٢).

إلى هنا تمّ البحث عن كون مرتكب الكبيرة مؤمناً أو كافراً ، فحان الآن البحث عن الجهة الثالثة وهي : انّ مرتكب الكبيرة هل هو مخلّد في النار ـ إن لم يتب ـ أو أنّه يخرج منها بعد دخوله فيها وإنّما التأبيد للكافرين؟

الجهة الثالثة ـ صاحب الكبيرة وخلوده في النار :

ذهب جمهور المسلمين إلى أن الخلود يختصّ بالكافر دون المسلم وإن أثم وركب الكبيرة ، وذهبت الخوارج والمعتزلة د إلى خلوده في النار إذامات بلا توبة. وبما أنّ المقام مختصّ بدراسة أدلّة الخوارج في ا لمسألة ، نكتفي ببيان أدلّتهم وأمّا ما استدلّ به جمهور المسلمين على عدم الخلود فيطلب من محلّه. فنقول : استدلّوا بآيات :

١ ـ قوله سبحانه : ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (٣) ولا شكّ انّ الفاسق ممّن عصى الله ورسوله بترك الفرائض وإرتكاب المعاصي.

يلاحظ عليه : أنّ الموضوع ليس مطلق العصيان ، بل العصيان المنضم إليه

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٨ / ١١٣ ـ ١١٤.

٣ ـ النساء : ١٤.

٤١٢

التعدّي عن حدود الله ، ومن المحتمل جدّاً أن يكون المراد من التعدّي ، رفض أحكامه سبحانه وعدم قبولها.

بل يمكن أن يقال : إنّ قوله ( وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله وهذه صفة الكفّار ، فالآية خاصّة بهم لا بمرتكب الكبيرة. وأمّا المؤمن الفاسق فإنّما يتعدّى بعض الحدود.

٢ ـ ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَـلِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (١) فعدّ قاتل المؤمن من المخلّدين في النار من غير فرق بين أن يكون القاتل مسلماً أو كافراً.

يلاحظ عليه : أنّ الآية ناظرة إلى القاتل المستحل قتل المؤمن أو قتله لأجل ايمانه ومثله كافر ويدلّ عليه ما قبلها ، قال سبحانه : ( سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيْهَا فَإِنْ لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـناً مُّبِيناً ) (٢).

ثمّ يقول : ( وما كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً إلاّ خَطَأً ومنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة ... ) (٣).

ثمّ يقول : ( ومن يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤهُ جَهَنَّمُ ... ) فالآية حسب السياق تختصّ بالمستحلّ الكافر ، خصوصاً بالنظر إلى قوله ( وما كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً ) والنفي وإن كان نفياً تشريعياً (ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ) لاتكوينّياً(لايصدر من المؤمن قتل المؤمن) ولكّنه يصحّ أن يقع قرينة

__________________

١ ـ النساء : ٩٣.

٢ ـ النساء : ٩١.

٣ ـ السناء : ٩٢.

٤١٣

على اختصاص الآية الثالثة بالكافر.

٣ ـ ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فأُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ ) (١).

يلاحظ عليه : أنّ الموضوع للحكم بالخلود ليس مطلق من كسب السيّئة ، بل من اكتسب السيّئة واحاطت به خطيئته ، والمسلم المؤمن مهما كان عاصياً لاتحيط به خطيئته ، فإنّ في قلبه نقاطاً بيضاء يشع منها إيمانه واعتقاده بالله سبحانه وانبيائه وكتبه.

٤ ـ ( إِنَّ الْمـُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ هُمُ الظَّـلِمِينَ ) (٢). بحجّة أنّ المجرم أعم من الكافر والمؤمن الفاسق ، وقد حكم عليه على وجه الاطلاق ، بالخلود في النار.

يلاحظ عليه : أنّ الآية واردة في حقّ الكفّار بشهادة سياقها ، قال سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِـَايَـتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) ثم يقول ( إِنَّ الْمـُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُون ) فبحكم المقابلة مع قوله ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) فالمقصود من المجرمين هو الكفّار.

هذه هي الآيات استدلّت بها الخوارج ثمّ المعتزلة على تأبيد صاحب الكبيرة في النار.

فلنكتف بهذا المقدار ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا الكلاميّة (٣).

__________________

١ ـ البقرة : ٨١.

٢ ـ الزخرف : ٧٤ ـ ٧٦.

٣ ـ محاضرات الاستاذ العلاّمة جعفر السبحاني بقلم الشيخ حسن محمد مكي : الالهيات ٢ / ٩١٠ ـ ٩١٢.

٤١٤

المخالفون عند الخوارج :

إنّ الخوارج يعدّون جميع المسلمين كفاراً ، لارتكابهم الكبائر ولا أقل لتصويبهم مبداً التحكيم ، واكثرهم على أنّ الكفر كفر الملّة ، أي الخروج عن الدين إلاّ القليل منهم ، كالاباضية فإنّهم يعدّونه كفراً لنعمه مثلما مرّ في قوله سبحانه في مورد الحجّ : ( ومنْ كَفَرَ فَإنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالمِين ) (١).

فإذا كانت سائر الفرق محكومة بالكفر ، فتكون دارهم دار الكفر ، لا دار الإسلام وقد أوجبت بعض الفرق منهم (كالأزارقة) لزوم الهجرة عنها ، للمعتنقين لمبادئ الخوارج. وعلى كلّ تقديره فهذه المسألة من شعب المسألة الثانية وهي أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق ، أو كافر ، ولمّا ذهبت الخوارج إلى كونه كافراً فيكون جميع المسلمين المخالفين لهم في المبادئ ، كفّاراً.

وبما أنّك عرفت أنّ مقوّم الإيمان عنصر قلبي ، فلا يضرّ ارتكاب الكبيرة بالايمان ، لا بمعنى أنّ الإيمان القلبي وان لم يقترن بالعمل موجب للنجاة في الآخرة ، بل بمعنى أنّه يكفي في خروج الانسان من عداد الكافرين والدخول في عداد المسلمين : الإيمان القلبي بوحدانية الله سبحانه ، وكتبه ، ورسله ، ولهذا الإيمان آثار في الدنيا والآخرة ، وكان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتفي بالحكم في ايمان الرجل باظهار الشهادتين وهناك روايات متواترة بل متضافرة تدل على ذلك.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « قاتل أهل خيبر حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك ، فقد منعوا منك دماءهم واموالهم ، إلاّ بحقّها وحسابهم على الله » (٢).

__________________

١ ـ آل عمران : ٩٧.

٢ ـ مسلم : الصحيح ٧ / ١٢١ ، ابن عساكر : ترجمة الإمام علي ١ / ١٥٩ ح ٢٢٢ ، النسائي : خصائص أمير المؤمنين : ٥٧.

٤١٥

روى الشافعي في كتاب الأم عن ابي هريرة : أن رسول الله قال : « لا أزال اُقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوا : لا إله إلاّ الله فقد عصموا منّي دماءهم واموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله ».

ثم قال : فأعلم رسول الله انّ فرض الله أن يقاتلهم حتى يظهروا أن لا إله إلاّ الله ، فاذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها يعني بما يحكم الله عليهم فيها ، وحسابهم على الله بصدقهم وكذبهم وسرائرهم ، الله العالم بسرائرهم ، المتولّي الحكم عليهم ، دون أنبيائه وحكّام خلقه ، وبذلك مضت أحكام رسول الله فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق ، واعلمهم أنّ جميع أحكامه على ما يظهرون ، وأنّ الله يدين بالسرائر (١).

نعم ورد في بعض الروايات ، اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحجّ وصوم رمضان : روى البخاري عن عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وانّ محمّداً رسول الله واقام الصلاة ، وايتاء الزكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » (٢) ولكنّها من مظاهر العلم بالإيمان لامن مقوّماته لأنّ إيمان الانسان يتوقّف على مظهر له في حياته ، والواجبات الواردة فيها مظاهر لهذا الإيمان.

الإيمان يزيد وينقص :

ثم إنّه مع القول بأنّ العنصر المقوّم للايمان هو الاعتقاد القلبي ـ نقول : الإيمان يزيد وينقص في كلا الجانبين : العقيدة ، والعمل ، أمّا من جانب العقيدة : فأين إيمان الأولياء والأنبياء بالله ورسله من إيمان سائر الناس ، وأمّا

__________________

١ ـ الشافعي : الأم : ٦ / ٤ انظر موسوعة الإمام الشافعي : ٧ / ٢٤١.

٢ ـ البخاري : الصحيح ١ ، كتاب الإيمان : ٩.

٤١٦

من جانب العمل ، فأين إيمان من لايعصي الله سبحانه طرفة عين بل لايخطر بباله العصيان ، من المؤمن التارك للفرائض والمرتكب للكبائر.

نعم لاننكر انّه ربّما يؤدّي ترك الفرائض ، وركوب المعاصي ، مدّة طويلة إلى الالحاد والانكار والتكذيب والجحد قال سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَـقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـئُواْ السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِئَايَـتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ ) (١).

إنّ وزان « العقيدة والعمل الصالح » وزان الجذور والسيقان في الشجرة فكما أنّ تقوية الجذور مؤثّرة في قوّة السيقان ، وكمال الشجرة وجود ثمرتها ، فكذلك تهذيب السيقان ورعايتها بقطع الزوائد عنها وتشذيبها ، وتعرّضها لنور الشمس ، مؤثّرة في قوّة الجذور ، إنّها علاقة تبادليّة بين العمل والعقيدة كالعلاقة التبادليّة بين الجذور والسيقان.

أجل ذلك هو الحال بالنسبة إلى تأثير الإيمان في العمل ، وهكذا الحال بالنسبة إلى تأثير العمل في الاعتقاد ، فإنّ الّذي ينطلق في ميدان الشهوة بلاقيد ، ويمضي في اشباع غرائزه إلى أبعد الحدود ، يستحيل عليه أن يبقى محافظاً على أفكاره واعتقاداته الدينية وقيمه الروحية.

إنّه كلّما ازداد توغّلاً في المفاسد ازداد بعداً عن قيم الدين لأنّها تمنعه عن المضي في سبيله والتمادي في عصيانه ، وهكذا يتحرّر عن تلك المعتقدات شيئاً فشيئاً وينسلخ منها وينبذها وراءه ظهرياً.

وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة أيضاً.

وبهذا يعتبر الفصل بين العمل ، والكفر ، بين العقيدة والسلوك ، نظرية خاطئة ناشئة من الغفلة عن التأثير المتقابل بين هذين البعدين.

__________________

١ ـ الروم : ١٠.

٤١٧

ولهذا يسعى المستعمرون دائماً إلى افساد الأجواء الاجتماعية بهدف افساد الأخلاق والسلوك تمهيداً لتغيير الأفكار والقضاء على المعتقدات (١).

__________________

١ ـ محاضرات الاستاذ جعفر السبحاني بقلم جعفر الهادي : الله خالق الكون ٦٣٦ ـ ٦٣٧.

٤١٨

٣ ـ في الخروج على الحاكم الجائر

اتّفقت الخروج على لزوم الخوارج على الحاكم الجائر ، وجعلوه فرعاً من الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر ، بشرط القدرة والمنعة عليه ، ويظهر ذلك من خطبهم ورسائلهم أوان قيامهم ، وهذا عبد الله بن وهب الراسبي عندما غارد مع جماعته الحروريّة ، متواجّهاً إلى النهروان ، خطب قومه وقال « أمّا بعد فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن ، وينيبون إلى حكم القرآن ، أن تكون هذه الدنيا ـ الّتي الرضا بها والركون إليها والإيثار إيّاها عناء وتبارـ آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقول بالحقّ ، إلى أن قال : فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكِرين لهذه البدع ».

وقال حرقوص بن زهير : « إنّ المتاع بهذه الدنيا قليل ، وانّ الفراق لها وشيك ، فلا تدعونّكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ، ولا تُلفتنكم عن طلب

٤١٩

الحق وإنكار الظلم ، فإنّ الله مع الَّذين اتّقَوْا والّذين هم محسنون » (١).

وهذا نافع بن الأزرق يقول لأصحابه عند خروجه : « إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم ، بصّركم عمّا عمي عنه غيركم ، ألستم تعلمون أنّما خرجتم تطلبون شريعته وامره ، فأمره لكم قائد ، والكتاب لكم إمام ، وانّما تتبعون سننه واثره ... » (٢). إلى غير ذلك من كتب القوم ورسائلهم وخطبهم الّتي يرون فيها الخروج على الإمام غير العادل واجباً.

أقول : الكلام في الإمام الجائر يقع في مقامين :

الأوّل : في لزوم إطاعته وعدمه.

الثاني : في وجوب الخروج عليه وعدمه.

أمّا الأول : لاشكّ أنّ إطاعة الإمام العادل من صميم الدين فلا يشكّ في وجوب إطاعته اثنان ، إنّما الكلام في إطاعة الحاكم الجائر ، فقد ذهب أهل السنّة إلى وجوب طاعته مطلقاً سواء أمر بالمعروف أو أمر بالمنكر ، أو في خصوص ما لم يأمر بالمعصية ، ولكلٍّ من القولين قائل ونذكر بعض كلماتهم في المقام :

١ ـ قال أحمد بن حنبل في رسالة ألّفها لبيان عقائد أهل السنة : « السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر ، ومَنْ ولي الخلافة ، فأجمع الناس ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف ، ويُسمّى أمير المؤمنين » (٣).

٢ ـ وقال الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي (م ـ ٣٢١) في رسالته المسمّاة بيان السنّة والجماعة ، المشهورة بالعقيدة الطحاوية : « ونرى الصلاة

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٤ ـ ٥٥.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٤٣٩.

٣ ـ أبو زهرة : تاريخ المذاهب الإسلامية ٢ / ٣٢٢ نقلاً عن إحدى رسائل إمام الحنابلة ، وكلامه مطلق يعم ما إذا أمر بالطاعة أو بالمعصية.

٤٢٠