بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

١ ـ حكم التحكيم في حرب صفّين

إنّ تخطئة التحكيم هو الحجر الأساس لقاطبة الخوارج ، وقد اتّخذوه شعاراً أيّام حياة الامام علي عليه‌السلام وبعده ، والخوارج كلّهم ، المتطرّف منهم وغيره ، أصفقوا على أنّ قبول التحكيم في حرب صفّين كان أمراً مخالفاً للكتاب ، وما كان لعلي عليه‌السلام أن يُحكِّم الرجال في موضوع ورد فيه حكم إلهي في مصدرين رئيسيين ـ أعني الكتاب والسنّة ـ ، وبما أنّا ألمحنا إلى الموضوع وأوضحنا حاله في الفصل الثالث تحت عنوان « تحليل لكارثة التحكيم » فنحيل القارئ الكريم إلى ذاك الفصل وقد ذكرنا هناك وجوهاً مختلفة يحتملها ذلك الشعار ، إلاّ أنّ الإمعان في كتب القوم يعرب عن أنّهم لايهدفون منه إلاّ احد الوجهين :

٣٦١

الف ـ تحكيم الرجال فيما نزل فيه حكم الله ، كفر (١).

ب ـ لا إمرة إلاّ لله تبارك وتعالى.

أمّا الأوّل فيشترك فيه جميع فرقهم ، وأمّا الثاني فإنّما يعود إلى بعض فرقهم كما سنذكر ، وبما أنّه اعتمد على الوجه الأوّل جميع مفكّريهم ومشايخهم ، وبالغ القوم في توضيحه وتنقيحه وتثبيته ، فنأتي في المقام ببعض نصوصهم ثمّ نقوم بتحليله حتى يتبيّن الحق بأجلى مظاهره.

التحكيم والتدخّل في موضوع له حكم سماوي :

إنّ للكاتب المعاصر : علي يحيى معمّر ، مؤلف كتاب « الاباضية في موكب التاريخ » بياناً مفصّلا حول الموضوع وقد بذل جهده في اثبات أنّ التحكيم كان تدخّلا في موضوع فيه حكم الله ، وهو مواصلة الحرب والقتال ومكافحة أهل البغي ، وأنّ ايقاف القتال وإدلاء الأمر إلى الحكمين كان مخالفاً للتشريع السماوي ، يقول :

« بايع المسلمون علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين ، وكان أوّل من بايع طلحة بن عبيدالله ، والزبير بن العوام ، ولكن ماكادت تتّم البيعة ، حتى كان طلحة والزبير يحملان لواء الثورة مع جماعة من كبار الصحابة ، وقد استظهروا باُمّ المؤمنين عائشة ، ووقف الخليفة في وجه الثائرين موقفاً حازماً صلباً ، وقتل في هذه الثورة الطاحنة عدد غير قليل من المسلمين ذهب فيمن ذهب فيها

__________________

١ ـ هذا هو الوجه الأوّل من بين الوجوه المذكورة في الفصل الثالث وَوَعدنا هناك القارىء أن نرجع إلى تفصيله وتحليله وما نذكره هنا إنجاز له.

٣٦٢

طلحة والزبير ، ورجع بقيّة الثائرين إلى حظيرة الإمامة والاُمّة.

لم تكد تنتهي هذه الحرب الطاحنة ، ويعود إلى البلاد الهدوء والاستقرار ، ويَعْرفَ معاوية أنّ الثورة فشلت ، وأنّه معزول عن ولاية الشام لامحالة ، حتّى أعلن الثورة في الشام وهو حينئذ عامل من عمّال الخليفة ، وأظهر أنّه يطالب بدم عثمان وقد استعدّ أمير المؤمنين لإطفاء هذه الثورة كما أطفأ الثورة التي سبقتها وجهّز جيشه القوي وسار به نحو الشام حيث التقى بالجند الثائر في الموضع المعروف بـ « صفّين » ، وبدأت المعركة ثم استمرّ القتال حتى ظهرت طلائع النصر وأشرف جيش الخليفة على امتلاك زمام المعركة ، ولم يبق للقضاء على هذه الثورة الجامحة إلاّ لحظات عبّر عنها الأشتر « بفواق الناقة » ، إلتجأ الثائرون إلى الحيلة والخدعة ، ولجأوا إلى المكر والمكيدة ورفعوا المصاحف وهم يصيحون يا أهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله.

طلب الثائرون هدنة ، ودعوا الخليفة الشرعي وجيشه إلى تحكيم حكمين ، وقد فطن أمير المؤمنين وبعض من جيشه إلى هذه الخدعة ، وعرفوا القصد من هذه الهدنة ، ولكّنه بدلا من أن يقف موقفه الحازم ، ويوالي حربه ضد الثائرين ، حتّى يتحققّ النصر ، وقد تحقّقت بشائره ، ويُلقي البغاةُ أسلحتَهم ، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه ، وبغوا عليه ـ بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك ـ استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة وأكثرهم موعود من معاوية أو من عمروبن العاص ، ورضى بالتحكيم وقبِلَ الهدنة وأمر بايِقاف القتال في الحال.

وهكذا انتهت هذه الثورة إلى هذا الموقف المائع الذي جعل حقّ عليّ في الخلافة ، يتساوى مع حقّ معاوية ، وجعل نصيب البغاة الثائرين من الثواب ، يساوي نصيب جيش الاُمّة الذي يدافع عن خلافة شرعية تمّت بالشورى

٣٦٣

وانعقدت بالبيعة.

وتداعى الذين فطنوا إلى خدعة الهدنة من أصحاب عليّ وحذَّروه من قبولها ، وأخبروه أنّ قبولها يعني الشكّ في خلافته ، والتنازل عنها ، وكانوا مصرّين انّ الخلافة الشرعية حقّ لايتطرّق إليه الشكّ ، ولايجوز فيها الرجوع ولا تقبل فيها المساومة.

وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة من جيشه ، والماكرين من عدوّه ، وأن يشكّ في نفسه والحقّ الذي بيده ، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، ويساوي بينه وبين أحد عمّاله ، في قضية أخذ فيها عهداً من الاُمّة وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً ، ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله.

حين فعل عليّ ذلك ، تداعى اُولئك الذين لم يرتضوا التحكيم وحذّروا عليّاً من قبوله ، وهم يرون أنّ معاوية باغ لاحقّ له ، وأنّ بيعة علي قد انفسخت بموافقته على الهدنة ، ورضاؤه بالتحكيم جبراً ، فلم تبق لأحد في أعناقهم بيعة ، وليس لأحد عليهم ميثاق ، تداعوا إلى أن يعتزلوا جيش عليّ ، وركنوا إلى موقع يسمّى حروراء ، فانعزلوا فيه ينتظرون تجدّد الحوادث ، واتّجاه الاُمّة في قضية الخلافة ، وقد جرت الاُمور بأسرع ممّا يتوقّع لها ، فما بلغ الموعد الذي حدّده الطرفان لانتهاء الهدنة ، حتى اجتمع الناس وأعلن أبو موسى الأشعري مندوب علي ، عزلَ عليّ عن الخلافة وترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يشاؤون.

كان هؤلاء المحايدون ينظرون إلى معاوية نظرتهم إلى باغ ، يحاول أن يفرض نفسه بالمكر والحيلة ، ولذلك فهم لايقيمون أيّ وزن لدعوى عزله ، فهو لم يتولّ أمر الخلافة إلى ذلك الحين ، لابالإكراه ، ولابالشورى ، فلامعنى لعزله من منصب ليس هو فيه ، كما لايقيمون أيّ وزن لتولية عمروبن العاص له ، لأنّ

٣٦٤

عمراً لم يفوّضه المسلمون في تولية أميرالمؤمنين ، أمّا نظرتهم إلى علي فقد كانوا يتوقّعون أن يتّفق الحكمان على إقراره في الحكم ، وحينئذ ترجع إلى علي الصبغة الشرعية التي تنازل عنها لإثباتها ، ويجب على المسلمين حينئذ أن يوحّدوا صفوفهم ، تحت طاعته ، ما قام فيهم بكتاب الله ، ولكنّ المندوب الذي اختاره علي ليمثّله في هذه القضية الظالمة ، أعلن أنّه عزل عليّاً عن أمر المسلمين ، وأنّ الأمر أصبح للشورى والاختيار ، وتأيّد موقف هؤلاء المحايدين وانضمّ إليهم عدد آخر ممّن كانوا يقفون إلى جانب عليّ حتى ذلك الحين ، وبحثوا الأمر فيما بينهم على أساس أنّ المسلمين أصبحوا دون خليفة.

فهذا معاوية باغ ظالم لايمكن أن يتولّى أمر المسلمين ، وهذا عليّ عزله المندوب الذي اختاره للتحكيم ، واذن فليختاروا ، واختاروا عبدالله بن وهب الراسبي ، فبايعوه أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين بعد علي بن أبي طالب ، فهو الخليفة الشرعي الخامس في نظرهم » (١).

غيري جنى وأنا المعاقبُ فيكم! :

لم أجد عنواناً يعرب عن مظلوميّة الإمام أمير المؤمنين في مسألة التحكيم الذي فرضه عليه الخوارج ، ثم جاءوا يطالبونه بالجريمة ، أحسن من هذا المصراع ، وبما أنّا فرضنا على أنفسنا في بدء الكتاب ألاّ نقضي على قوم بماكتبه غيرهم في حقّهم ، فقد نقلنا هذا الكلام بتفصيله والإمعان في أوّله وثناياه وآخره يدل على أنّ الكاتب أخذ موقفاً مسبقاً في مسألة التحكيم ، فأخذ من التاريخ فقرات متناثرة تلائم موقفه ، وترك كل ما يخالفه.وإليك تحليل ماذكره.

١ ـ كان من واجبه ـ قبل كلّ شيء ـ التعريف بالذين فرضوا التحكيم على

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى ٢١ ـ ٣٤.

٣٦٥

عليّ عليه‌السلام وأجبروه على قبوله ، فمن هم الذين أجبروه على التحكيم وعلى التنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، وبالتالي ساووا بينه وبين أحد عمّاله؟ فإنّ التعرّف عليهم أساس القضاء الحق فيما رسمه الكاتب وحررّه. الذين فرضوا التحكيم على علي عليه‌السلام لم يكونوا إلاّ رؤوس المحكّمة الاُولى الذين اتّخذهم الكاتب أئمّة وأولياء ، فإنّ الإمام علي عليه‌السلام ، فوجىء بمجئ زهاء عشرين ألفاً ، مقنّعين في الحديد ، شاكين سيوفَهم ، وقد اسودّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعدُ ، فنادون باسمه ، لابإمرة المؤمنين ، وقالوا : يا عليّ أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيِتَ ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم ، فقال الإمام لهم : ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولايَسَعُني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، فإنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنّهم قد عصوا إليه فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكّني قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون (١).

إنّ حرقوص بن زهير السعدي الذي يُعدّ من الطبقة العليا للمحكّمة الاُولى وكان مرشَّحاً للبيعة في بيت عبدالله بن وهب الراسبي قبله ، كان من المصرّين على قبول التحكيم ، لكنّه رجع عن رأيه وتاب عن كفره بزعمه ، ولمّا دخل على عليّ عليه‌السلام ومعه زرعة بن برج الطائي ، فقال له : اُخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم ، فعاتبه الإمام وقال : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كُتِبَ بيننا وبينهم كتاب ... (٢).

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٦٠ ـ ٥٦٤ وغيرها.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٣.

٣٦٦

وقد وصل اصرار القوم إلى حدّ هدّدوا حياة الإمام بأنّهم يقضون عليها كما قضوا على حياة عثمان ، فلم يجد الإمام بُدّاً من قبول التحكيم ، وقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ فرضوا التحكيم على الإمام أوّلا ، ثمّ فرضوا عليه صيغة الحكم ، ولم يرضوا بمن كان هوى علي عليه‌السلام معه ، وقد كان الإمام يصرّ على بعث عبدالله بن عباس أو الأشتر ، ولكنّهم ما رضوا إلاّ بأبي موسى الأشعري الذي كان يَكنّ عداء عليّ في خُلْده لمّا عزله من ولايته.

أبعد هذا يصحّ للكاتب أن يقول« ولكنّه ـ الإمام ـ بدلَ أن يقف موقفه الحازم ويوالي حربه ضد الثائرين حتى يتحقّق النصر ، وقد تحقّقت بشائره ، ويُلْقي البغاةُ أسلحتهم ، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة ... بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك ، استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصحية طلاّب الخدعة ... ».

إنّ رؤوس الخوارج هم الذين كانوا يشكِّلون دعاة الهزيمة ، وطلاّب الخدعة ، فلوكان التحكيم جناية فهم أولى بأن يجتنوا ثماره ، ويحملوا أوزاره ، لا الإمام الذي أعطى لهم نصحة الخالص ، ونبّههم على أنّها خديعة ، ظاهره الصلاح وباطنه الفساد و ... أو ليس عاراً على جماعة ، فرضوا على إمامهم التحكيم ، وإدلاءالأمر إلى الحكمين وكتابة ميثاق بين الطرفين ، أن يجيئوا شاهرين سيوفهم ، يطلبون منه نقض الميثاق ورفض العهد الذي كان عنه مسؤولا ، وكأنَّ الخلافة آلة طّيعة بأيديهم يلعبون بها كيف شاءوا.

هؤلاء لم يقدّروا عليّاً ، ولاعرفوا مكانته وصموده في طريق العهد والميثاق ، فما دام الحكمان لم يخرجا عن الطريق المستقيم ، لاينقضُ قوله وعهده ، وإن بلغ ما بلغ ، وإن شهرت الخوارج سيوفهم عليه وعلى الخُلَّص من جيشه.

٢ ـ إنّ عليّاً لم يستجب لدعاة الهزيمة ولم يأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة ،

٣٦٧

إلا بعد ما تحقّق عجزه عن القيام بمواصلة الحرب ، وتطبيق حكم الله على البغاة ـ أعني معاوية وأتباعه ـ ... لاشكّ انّ حكم الله في حق البغاة هو قتالهم إلى أن يرجعوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه ، وبغوا عليه ، إلاّ أنّ التكليف فرع القدرة وهي فرع طاعة الجيش لرأي قائده الحازم الباسل ، الذي عرفه التاريخ بالبطولة والبسالة والصمود والوقوف في وجه الظالمين ، ولكن يا للأسف انّ أغلبية الجيش انخَدَعُوا بخدعة معاوية ، وأخذوا بمخالفته على حسب ما عرفت ، وعندئذ لاتثريب على الإمام أن يُسلِّم الأمر إلى الحكمين ويقف عن القتال قائلا : ( لاَيُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وسْعَهَا ) ، ( ولايُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ ما آتاها ) ويقول : « لقد كنت أمس أميراً ، فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت أمس ناهياً ، فأصبحت اليوم منهيّاً » (١).

إنّ بعض الكُتّاب الجدد من الاباضية يصرّح بأنّ عليّاً قَبِلَ التحكيم مضطرّاً ويقول : « إنّ هذه الخدعة لم تكن لتجوز على علي بن أبي طالب ، وقد أدركها وأدرك حقيقة ماوراءها من الوهلة الاُولى ، وأعلن على الفور رفضه لها وعدم قبوله للتحكيم. إنّ علي بن أبي طالب إنّما قبل التحكيم مضطرّاً ورضي به مكرهاً ازاء ضغط من ضعف أفراد جماعته ، ومن نهضوا بينهم يدعون إلى قبول التحكيم ، وانّ الدعوة التي دعا بها معاوية أحدثت أثرها في خداع الجند ، كما أنّها كانت نكأة لبعض من ضعفت أنفسهم للجهر بها والدعوة إلى الكفّ عن القتال ، وازاء ذلك كلّه لم يكن في وسع عليّ إلاّ أن يرضى بالتحكيم وإن لم يقتنع به ولم تخف نتائجه » (٢).

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الخطب ، الخطبة ٢٠٨.

٢ ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : ١٠٠.

٣٦٨

وقال علي يحيى معمّر :

« كان التحكيم خدعة سياسية يراد بها تفريغ جيش أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وانّه أولّ من أوائل من تفطّنوا للمكيدة ، ولم يقبل التحكيم إلاّ مكرهاً ، وأنّه أنكره بشدّة وأبان لجيشه ـ الذي عمل فيه الطابور الخامس عمله ـ عواقب تلك المكيدة وأنّه لم يقبل التحكيم إلاّ مضطرّاً عندما وجد جيشه معرّضاً للتفرّق والتمزّق وربّما للتناحر ، وكان على رأي الامام علي عليه‌السلام وعلى رأي أصحابه في اعتبار التحكيم مكيدة لاينبغي قبولها ، أكثر أئمة المسلمين منهم الإمامان العظيمان الحسن البصري ومالك بن أنس حسب ما أورده المبّرد في كامله وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بل أستطيع أن أزعم أنّنا اليوم وفي هذا العصرـ وقد مضى على تلك الأحداث ثلاثة عشر قرناً ونصف ـ عندما نقرأ أخبارها نشعر بالأسف والحسرة ، لأنّ تلك الخدعة الجريئة قد انطلت على أكثرّية جيش عليّ حتى اضطرّ للاستجابة لها ، رغم معرفته القصد منها وتقديره لنتائجها وعلمه علم اليقين أنّ القصد من تلك العملية لم يكن مراعاة للمصلحة العامّة ولانظراً لخير الاُمّة ، ولاتحكّماً للكتاب في شيء جهل فيه حكم الكتاب » (١).

وقال أيضاً : « واختلف أصحاب علي اختلافاً شديداً بين موافق على الطلب ، ومعارض له ، واضطرّ الإمام إلى الموافقة نزولا عند رأي الأغلبية وإن كان رأيه هو خلاف ذلك » (٢).

نحن نسأل الكاتبين عن مسألة التحكيم المفروض على عليّ من جانب جيشه ، فقد اعترفا بأنّ الإمام قبله بعدما عرفه ، دفعاً للتفرقة والتخرّق ، بل

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية ١ / ١٩٠ ـ ١٩١.

٢ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية ٢ / ١٦٦.

٣٦٩

للتناحر وانّه لولا قبوله لثاروا على الإمام وقضوا على حياته ، وعندئذ يصبح ابن أبي سفيان مالكاً لأزمّة الاُمور ومتسنّماً على عرش الخلافة من دون منازع ، ويصير الطريق لبسط سلطته وسيطرته مُعَبَّداً ومذلّلا بأيدي خصمائه وأعدائه ـ أعني الّذين قبلوا التحكيم وفرضوه على إمامه ـ.

وأين ذلك الفرض من فرض قبول التحكيم حتى يرجع الطرفان إلى كتاب الله فيما اختلفا فيه .... وإن كان حكم الكتاب في ذلك واضحاً ـ والخصم وأنصاره الأغبياء كانوا يتخيّلون أنّهم جاهلون بحكمه فيجب أن يرجع إليه بحكمين من الطرفين.

فإذا كان هذا موقف عليّ والمسلمين فلم يكن بُدّ من قبول التحكيم دفعاً للأفسد بالفاسد وهو ليس شيئاً خفيّاً على الكاتبين ، وعند ذلك فلماذا يؤاخذان عليّاً بقبول التحكيم وعدّه ذنباً يحتاج إلى التوبة والاستغفار.

إذا كان قبول التحكيم عن اكراه واضطرار ، وقد قال سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغ وَلا عاد فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيِمٌ ) (١) أفيصحّ للمغفّلين الّذين انتبهوا عن غفلتهم ، وضيّعوا الفرص الذهبيّة للقضاء على الطغمة الأموية ، أن يصرّوا على عليّ بالتوبة والاستغفار وإلاّ فبالانعزال والخروج عن تحت رايته بعد ما أخبر سبحانه أنّه غفور رحيم لكلّ مضطّر ارتكب عملا لاعادياً ولاباغياً؟

أفيصحّ لهؤلاء وفي رأسهم المحكِّمة الاُولى الذين كانوا أداة طيّعة ـ بلاوعي ـ بيد رأس الطابور الخامس الأشعث بن قيس ، أن يحتفلوا في الكوفة ويختاروا لأنفسهم أميراً وخليفة ، ويتّهموا عليّاً بأنّه عزل نفسه عن الخلافة ، ثمّ يخرجوا عن الكوفة وينزلوا ضفة النهر مُرْهبين ومرعبين ونار الفتنة بعد لم تطفأ والعدّو الغاشم ـ معاوية بن أبي سفيان ـ على اُهْبَة الهجوم وبسط السيطرة

__________________

١ ـ الأنعام : ١٤٥.

٣٧٠

والقضاء على الخلافة الشرعية.

إنّ النصوص التاريخية تضافرت على أنّ عليّاً أتمّ عليهم الحجّة قبل نشوب نار الحرب ، وقد كان رؤساء المحكّمة أعني عبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير السعدي ومن في رتبتهما من المحكّمة ، يسمعون كلام عليّ وهو يخاطبهم بأنّهم هم الذين فرضوا على عليّ التحكيم ، فلمّا ندموا طلبوا منه نقض العهد والميثاق المحرّم بنص الذكر الحكيم ، وقد ذكرنا نص علي عند عرض التاريخ.

يقول صالح بن أحمد الصوافي : إنّ علي بن أبي طالب قد مضى بنفسه إلى اُولئك الخارجين عنه وقال لهم : من زعيمكم؟! قالوا : ابن الكواء. قال علي : فما أخرجكم عنّا؟ قال : حكومتكم يوم صفّين. قال : أنشدكم بالله أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف ، فقلتم : نجيبهم إلى كتاب الله ، قلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إنّي صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال. اُمْضُوا على حقّكم وصدقكم ، فإنّما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهناً ومكيدة ، فرددّتم عَلَيّ ، وقلتم : لا ، بل نقبل منهم ، فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي ، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن ، فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم به بما في القرآن. وإن أبيا فنحن من حكمهما براء ، قالوا له : فخبرنا ، أتراه عدلا تحكيم الرجل في الدماء؟ .... فقال : إنّا لم نُحكِّم الرجال ، إنّما حكَّمنا القرآن ، وهذا القرآن هو خط مسطور بين دفّتين لاينطق ، إنّما يتكلّم به الرجل ... قالوا : فخبرنا عن الأجل لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال : ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعلّ الله ـ عزّوجلّ ـ يصلح في هذه الهدنة هذه الاُمّة ... ادخلوا مصركم ، رحمكم الله ...

٣٧١

قالوا : صدقت ، قد كنّا كما ذكرت ... وفعلنا ما وصفت ، ولكن ذلك كان منّا خلاف القرآن ، فقد تبنا إلى الله عزّوجلّ منه ، فتب كما تبنا ، نبايعك ، وإلاّ فنحن مخالفين. فقال علي : ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى يجيء المال ، ويسمن الكراع ، ثمّ نخرج إلى عدوّنا ولسنا نأخذ بقولهم وقد كذبوا ... (١).

فهذا الكلام سواء اُلقي في الحروراء أو في ضفة النهر يعرب عن أنّ الأكثرية السّاحقة من الخارجين عن طاعة علي ـ لولا كلّهم ـ كانوا هم الذين فرضوا التحكيم على عليّ عليه‌السلام وألجأوه إلى الرضوخ لمكيدتهم ، فماذا يطلبون من عليّ بعد ذلك؟

٣ ـ إنّ ابن أبي سفيان قام لأجل أخذ الثأر من قتلة عثمان ولم يبايع عليّاً بحجّة أنّه كان يحمي الخارجين على عثمان ، والثائرين عليه ، وكان الإمام يصّر عليه أن يدخل أوّلا فيما دخل فيه المسلمون ، ثم يعرض المسألة عليه (٢) وبما أنّ معاوية اتّخذ جانباً سلبيّاً في هذا الموضع ، قام الإمام بتأديب الباغي ، وارجاعه إلى صفوف المسلمين وانتهى الأمر إلى نشوب الحرب بين الطرفين ، ولجوء معاوية إلى الخدعة والمكر ، وتحكيم الرجلين في الموضوع الذي اختلف فيه الفريقان ، فلم تكن الغاية من اتفاقية الصلح إلاّ تحكيم الكتاب في الموضوع الذي تنازع فيه الطرفان ، وأمّا عزل الإمام عن الخلافة ونصب معاوية مكانه فلم يكن في صلاحية الحكمين وإنّما دخلا في موضوع لم يُفَوَّض إليهما أمره. فرأيهما فيها بالعزل والنصب رأي ساقط.

٤ ـ إنّ الإمام لمّا رأى لجاج العدو وعناده في صياغة اتفاقية الصلح حيث لم يرض به إلاّ بمحو لقب إمرة المؤمنين عن جنب اسمه ، رضى بذلك اقتداءً

__________________

١ ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : ١١٠ ـ ١١١.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم ٦٤.

٣٧٢

بالنبيّ الأكرم في صلح الحديبية حيث رضى أن يكتب اسمه ويمحى لفظ رسول الله ، ولم يسمع لقول الأحنف حيث قال : « لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لاتمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها » (١) ولكنّه عليه‌السلام لم يَرَ بدّاً من القبول ورضى بالمحو تحت ضعظ الأشعث والمنخدعين من جيشه ، والمقنّعين في الحديد.

وبذلك تقف على قيمة قوله : « وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة في جيشه ، والماكرين من عدوّه أن يشكّ في نفسه ، والحق الذي بيده ، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، ليساوى بينه وبين أحد عمّاله في قضيّة أخذ فيها عهداً من الاُمّة ، وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله ».

إن فرض التحكيم على علي وقبوله ومحو لقبه ، تحت ضغط قسم كبير من جيشه ، لايعني شكّه في نفسه والحق الذي بيده ، والتنازل الاختياري عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، بل يعني فسح المجال للتفكّر والتدبر فيما كان يدّعيه معاوية على الإمام من تقدّم أخذ الثأر على البيعة ، حتى يقضيا الحكمان فيه برأي بات ، ولو دلّ محو اللقب على الشك في الإمرة ، فهل يظنّ الكاتب أنّ رسول الله شكّ في رسالته عندما رضى بمحو لقبه عن جنب اسمه؟ نعم توّهم ذلك بعض أصحابه وتصوّر أنّ ذلك يساوي اعطاء الدنية في أمر الدين (٢) ولكن رسول الله استقبل الحادث بصدر رحب ، وقبل الصلح على النحو الذي كان المشركون يطلوبونه ، وقد أثبت مرور الزمان صواب رأيه في الصلح ، وأنّه كان

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين : ٥٨٢.

٢ ـ لاحظ السيرة النبوية لابن هشام ٣ / ٣٣١.

٣٧٣

لصالح المسلمين كما هو المحقّق في السيرة النبوية.

والحاصل : لم يكن قبول التحكيم والموافقة على الهدنة لغاية عزل الإمام نفسه عن الخلافة وإدلاء الأمر إلى الحكمين حتى يُخْتار للاُمّة الإسلامية خليفة بل كانت الغاية من قبوله هو فسح المجال للحكمين حتّى يقضوا في ضوء الكتاب والسنّة في حقّ الباغي الوارد في الكتاب العزير (١) وفيما يدّعيه ابن أبي سفيان في حقّ علي ، حيث كان يقول لايبايع الاّ بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان كما صرّح به في بعض رسائله إلى الإمام ، يقول الإمام :

« وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله ، وأمّا تلك التي تريد فإنّها خدعة الصبي عن اللبن في أوّل الفصال ».

وقد جاء في رسالة معاوية إلى الإمام قوله : « وادفع إليّ قتلة عثمان ، فإنّهم خاصّتك وخلصاؤك والمحدقون بك » (٢).

فإنّ ابن أبي سفيان كان يطلب في الظاهر قتلة عثمان ، ولكنّه في الباطن كان يمهدّ الطريق إلى الخلافة ، وربّما كان قانعاً لأن يقرّه الإمام على الشام (٣).

وبذلك ظهر بطلان قوله : « إنّ بيعة الإمام قد انفسخت بموافقته على الهدنة ، ورضاؤه بالتحكيم جبراً ، فلم يبق لأحد في عنقه بيعته » فإنّه تفسير لموقف الإمام بما يتجاوب هوى الكاتب ، فإنّ الإمام لم يخلع نفسه عن الخلافة أبداً ولا تردّد في كونه الخليفة الشرعي والقانوني للاُمّة ، ولو صحّ ما ذكره الكاتب وأنّ الإمام خلع نفسه عن الخلافة بمرأى ومسمع من جيشه وجيش عدوّه ، لما

__________________

١ ـ الحجرات : ٩.

٢ ـ ابن أبي الحديد ، شرح النهج ١٧ / ٢٥٣.

٣ ـ المصدر نفسه ، ومرّ تفصيله.

٣٧٤

قام أبو موسى بخلعه عن الخلافة ، إذ لامعنى لخلع المخلوع لاسيمّا من خلع نفسه واعترف به.

ولو كان قبول التحكيم ملازماً للخلع عن الإمامة فلماذا كتب الإمام ـ عندما وصل إليه نبأ الحكمين وخيانتهما في مورد الوكالة ـ إلى زعماء الخوارج : زيد بن حصين وعبد الله بن وهب الراسبي ومن معهما من الناس وقال : أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما ، قد خالفا كتاب الله واتّبعا هواهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنّة ولم يُنفَّذا للقرآن حكماً ، فبرأ الله ورسوله منهما والمؤمنون ، فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا فإنّا صائرون إلى عدوّنا وعدوّكم ، ونحن على الأمر الّذي كنّا عليه (١).

الحقّ إنّ من قرأ تاريخ مأساة التحكيم يقف على مدى الضغط الوارد عليه من جانب أصدقائه الحمقاء ، ثم يرجع ويترحّم على الإمام ويبكي عليه ببكاء عال ويقول : « رحم الله الإمام عاش بين عدوّ غادر ، وصديق انوك ».

٥ ـ والعجب العجاب أن يصبح عبدالله بن وهب الراسبي الخليفة الشرعي والقانوني للمسلمين فيجب على الاُمّة في جميع الأقطار والأصقاع ، إطاعة أمره ، بحجة أن نفراً من الخوارج اجتمعوا في منزله فبايعوه ، ولعلّ عدد المبايعين لا يتجاوز عن عدد الأصابع أو يزيد بقليل (٢).

إنّ البيعة الشرعيّة وانعقاد الإمامة لواحد من المسلمين رهن شروط وصلاحيات ، ذكرها المعنّيون من علماء علم الكلام في كتبهم ، ولم يذكر أحد أنّه إذا بايع عدّة من المسلمين شخصاً في صقع من الأصقاع يجب على عامّتهم الاعتراف بإمامته وخلافته.

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٧.

٢ ـ نفس المصدر.

٣٧٥

إنّ معنى ذلك انّه يجوز لاّحاد من المسلمين في البدو والقرى ، أن يختاروا رجلاً فيبايعوه على الخلافة وإن كان المبايعون بُعَداء عن العاصمة الإسلامية الّتي فيها أهل الحل والعقد.

لو صحّ أنّ الإمام خلع نفسه ـ ولن يصحّ حتى ولو صحّت الأحلام ـ فالواجب على المسلمين طرح الخلافة في شورى إسلامية عالميّة تضمّ إليها أكابر العلماء والفقهاء ، وأهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار ، ومن اتّبعهما بإحسان ، حتى يختاروا لأنفسهم إماماً ، لاطرحها في بيت مسدود ليس فيه إلاّ اُناس خرجوا على إمامهم الّذي تمّت البيعة له في مثل تلك الشورى ، لأنّ تصحيح ذلك بمعنى تصحيح الفوضى في صفوف المسلمين ، وشقّ عصاهم ، وفصم عراهم ، وغير ذلك ممّا لايخفى على القارئ الكريم بطلانه.

٦ ـ والعجب انّ الكاتب نقض ما كتبه هنا بما ذكره في الحلقة الثالثة من ذلك الكتاب ، فإذا وصف الإمام في المقام ، بأنّه استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة ، فقد صرّح في المقام الآخر بأنّ الإمام « عرف أنّها احدى المكائد الّتي تفطّن إليها ذهن عمرو بن العاص ، وأصرَّ هو واصحابه على الجهاد ، وكان الإمام والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية » وإن كنت في شكٍّ ممّا نقلناه عنه فاقرأ نصّه :

خالف معاوية بن أبي سفيان اجماع الاُمّة واشعل نار الفتنة وجهّز جيشاً لمحاربة الخليفة الشرعي الّذي اختاره المسلمون ، وقابله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بما يقابل به خليفة شرعي فئة باغية ، فجهّز جيشاً من أبطال الإسلام وقاده بنفسه ، والتقى الجيشان في صفّين ، وابتدأ القتال وعرف معاوية أنّه إذا لم يكن يلجأ إلى الحيلة فإنّه سوف يخسر القضية في

٣٧٦

أقرب ممّا يتوقّع ، ومهّد لذلك بتكوين طابور خامس في جيش علي ثم دعا إلى التحكيم.

وعرف علي وعرف أصحابه مقصد معاوية من التحكيم ، وأنّها احدى المكائد الّتي تفتق عنها ذهن عمرو بن العاص ، ولذلك قال علي : إنّما قاتلناهم بكتاب الله ، وأصرّ هو واصحابه على الجهاد ، ولكن الطابور الخامس الّذي كان يقوده أكبر صنايع معاوية : الأشعث بن قيس ، كان قد عمل في الجيش ، ومالت الأغلبية إلى قبول التحكيم ، وحينما كان علي والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية الّتي لجأ إليها الفريق الباغي ، لخّص أحد أصحابه موقفهم هذا في هذه الكلمة المشهورة « لاحكم إلاّ لله » وكانوا يصيحون بها في جوانب الجيش ويرددها أنصار علي في كل موقف وكان علي يستمع إليها راضياً بها وهو يناقش الناس ويدعوهم إلى التمسّك بمضمون هذه الكلمة وعدم الانخداع بحيل معاوية لأنّ قضيتهم واضحة وقد حكم فيها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات ...

وشاءت إرادة المولى سبحانه وتعالى ـ لحكمة يعلمها ـ أن لاتستجيب الإغلبية لعلي وأن تميل أكثريّة الجيش إلى دعاة الهزيمة ، وأن يتغلّب الأشعث ابن قيس صنيعة معاوية على المناضلين من أجل الحق ، فيجد الإمام نفسه مضطرّاً إلى التخلّي ، وترك الصفوة من أصحابه ليحافظ على الأغلبية ويسير معها ، فرضى بالتحكيم مرغماً ، وإذا هذه اللحظة الّتي رضى علي فيها بالتحكيم ، وموافقة الأغلبية ، كانت كلمة « لاحكم إلاّلله » تعبيراً عن موقفه وشعاراً لمبدئه بل انها تعبير وشعار لكّل مؤمن يحكّم كتاب الله فيما شجر بينه خلاف وبين

٣٧٧

الناس (١).

٧ ـ إنّ التعبير عن الخروج على الإمام المفترض طاعته بـ « الخلافة » ، كما أنّ التعبير عن التمرّد والشغب بـ« تشكيل الدولة » مصادرة على المطلوب والمشي على الدعوى المسبقة بلا برهان ، فيطيب لي أن أذكر نصّ الكاتب الّذي يصوَّر أنَّه كان للخوارج دولة بعد رفض التحكيم. قال :

« أصبحت الاُمّة الإسلامية منقسمة إلى ثلاث دول : دولة أسّسها معاوية وإن لم يبايعه عليها أحد إلى ذلك الحين ، ودولة يرأسها علي بن أبي طالب بعد أن فشلت في نظره حكومة الحكمين ، عاد فاستمسك بالبيعة الاُولى (٢) دون أن يعترف بعزل أبي موسى الأشعري له مندوبه في قضيّة التحكيم ، ودولة يرأسها عبد الله بن وهب الراسبي بعد أن بايعه جمع كبير من الذين انفصلوا عن علي ، عند قبول التحكيم ، ثم عند اعلان الحكم بعزل علي عن الخلافة ، ومع كلّ فرقة من هذه الفرق جمع غير قليل من كبار الصحابة وفيهم بعض المشهود لهم بالجنّة.

على أنّ هناك فريقاً رابعاً اعتزلوا هذا النقاش الّذي وقع بين المسلمين وبعدوا عن قضية الخلافة فلم يطلبوها لأنفسهم ، ولم يؤيّدوا واحداً من طالبيها ، ومن هذا الفريق السادة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري واُسامة بن زيد » (٣).

إنّ الكاتب ادّعى لابن وهب مقاماً ليس له أثر في التاريخ ولا في كلمات الخوارج حتى في نفس المجلس الّذي بايعوه ، فإنّ البيعة لم تكن إلاّ لأن يكون

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الثالثة : ٢٨٣ ـ ٢٨٣.

٢ ـ فأي معنى للاستمساك بالبيعة الاُولى إذا خلع نفسه بمرأى ومنظر من الناس ياترى ، أو ليس هذا دليلاً على أنّ الإمام لم يخلع نفسه في وجدان الكاتب؟

٣ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الأولى : ٢٤.

٣٧٨

الرجل أميراً للجهاد وقائداً عسكرياً في القتال لاخليفة شرعية يملأ الفراغ الحاصل من العزل المزعوم ، والشاهد على ذلك انّ حمزة بن سنان الأسدي أوّل من اقترح هذه الفكرة وقال : « فولّوا أمركم رجلاً منكم فإنّه لابدّ لكم من عماد وسناد وراية تحفّون بها وترجعون إليها ... ».

ولمّا قبلها عبد الله بن وهب ، قال : أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت (١).

٨ ـ لم يكن محاربة الإمام للخوارج وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي إلاّ لأجل أعمالهم إلارهابيّة الّتي بلغت الإمام ، فقال بعض المخلصين له : على ما ندع هؤلاء يخلّفوننا في أموالنا وعيالنا؟ سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام ، فقبل علي ، فنادى بالرحيل.

كان من المظنون جداً أن يقوم عبد الله بن وهب الراسبي بسبي النساء وقتل الذراري ، إذا رأوا أنّ العاصمة الإسلامية (الكوفة) خالية من زعيمها وجيشها خصوصاً انّ علياً ومواليه كانوا عندهم مشركين كافرين تحلّ أموالهم وتجوز إراقة دمائهم وسبي نسائهم ، فلأجل ذلك قلع الإمام عين الفتنة قبل أن يبادر بمحاربة عدوّ الله في الشام.

كلّ ذلك يدلّ على بطلان قول الكاتب « بعد أن جمع الإمام علي جيشه ومن بقي تحت طاعته من الجند ، فكّر في اعادة الكّرة على معاوية واخماد ثورته ومحاولة اخضاعه من جديد ، ولكن بعض أصحابه أشاروا عليه بمحاربة عبدالله ابن وهب الراسبي هذا الخليفة الجديد الّذي وصل إلى منصب الخلافة عن طريق البيعة ، وهو الطريق الشرعي للخلافة. واقتنع علي بصواب هذا الرأي وعدل عن محاربة معاوية إلى محاربة عبد الله بن وهب ، وكان أتباع عبدالله

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٥.

٣٧٩

يعتقدون أنّ إمامهم هو الإمام الحق وانّ كّلاً من علي ـ بعد التحكيم والعزل ـ ومعاوية ، ثائران يجب عليهما الرجوع إلى حظيرة الإمامة » (١).

٩ ـ روايات شاذة في أمر التحكيم :

الف ـ اعتمد الدكتور صالح الصوافي في تحليله مسألة التحكيم على رواية شاذّة ذكرها ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء وقال : « لمّا لم يبق إلاّ الكتاب ، قال الأحنف بن قيس لعلي : يا أمير المؤمنين انّ أبا موسى رجل يماني وقومه مع معاوية فابعثني معه فو الله لا يُحِلّ لك عقدة إلاّعقدت لك أشدّ منها ، فإن قلت انّي لست من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فابعث ابن عباس وابعثني معه ، فقال علي : إنّ الأنصار أتوني بأبي موسى فقالوا : ابعث هذا فقد رضيناه ولا نريد سواه والله بالغ أمره » (٢).

إنّ هذه الرواية شاذّة غير معروفة وقد اتّفق المؤرّخون على أنّ عليّاً كان يصرّ على بعث ابن عباس أو الاشتر ولم يكن له أيّ هوى مع أبي موسى الأشعري ، لما كان يستشف منه أنّ هواه مع غيره وكيف لا وهو الّذي خذل الناس عن مساعدة الإمام القائم يوم كان واليا على الكوفة ، وتقاعد عن نصرته ، ولم ينفّر الناس إلى ساحة قتال الناكثين بل دعاهم إلى البقاء في منازلهم بحجّة أنّها فتنة ، القاعد فيها خير من القائم (٣).

كيف يعتمد على تلك الرواية الشاذّة مع أنّ ابن قتيبة ، نقل خلافها في موضع آخر عند البحث عن ظهور المحكّمة ، ونقلها الدكتور أيضاً في كتابه ،

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى : ٢٤ ـ ٢٥.

٢ ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : ٩٩ نقلاً عن الإمامة والسياسة : ١١٤.

٣ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٩٧.

٣٨٠