بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

والكافرون والفاسقون (١). وانّي لم أكن أذكر لك شيئاً من شأن عثمان والأئمّة إلاّ والله يعلمه أنّه الحق ، وسأنزع لك من ذلك البيّنة من كتاب الله الذي أنزله على رسوله ، وسأكتب إليك في الذي كتبت به ، وأخبرك من خبر عثمان والذي طعنّا عليه فيه ، وأبيّن شأنه والذي أتى عثمان.

لقد كان كما ذكرت من قدم في الإسلام وعمل به ولكنّ الله لم يجر العباد من الفتنة والردّة عن الإسلام ، وإنّ الله بعث محمّداً بالحق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنزل الكتاب فيه بيّنات كل شيء يحكم بين الناس فيما اختلفوا ( هُدىً ورحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ) (٢). فأحلّ الله في كتابه حلالا وحرّم حراماً وفرض فيه حكماً وفصّل فيه قضاءه وبيّن حدوده فقال : ( تِلْكَ حُدودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها ) (٣). وقال : ( ومنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللهِ فاُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (٤). وقسم ربّنا قسماً وليس لعباده فيه الخيرة ، ثمّ أمر نبيّه باتّباع كتابه ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( واتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبُكَ ) (٥). وقال : ( فَإِذَا قَرَأناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٦). فعمل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر ربّه ومعه عثمان ومن شاء الله من أصحابه لايرون رسول الله يتعدّى من قبله شيئاً ، ولايبدّل فريضة ، ولايستحلّ شيئاً حرّمه الله ، ولايحرّم شيئاً أحلّه الله ، ولايحكم بين الناس إلاّ بما

____________

١ ـ قال الله تعالى في سورة المائدة ٤٤ ـ ٤٥ و ٤٧. ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ). ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ). ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَاُولئكَ هم الفاسِقُونَ ).

٢ ـ الأعراف : ٥٢ ، ويوسف ١١١.

٣ ـ البقرة : ١٨٧.

٤ ـ البقرة : ٢٢٩.

٥ ـ الأحزاب : ٢.

٦ ـ القيامة : ١٨ ـ ١٩.

٣٤١

أنزل الله ، فكان يقول : ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبَّي عَذَابَ يَوْم عَظيِم ) (١). فسّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شاء الله تابعاً لما أمر الله ، يتبع ما جاء من الله ، والمؤمنون معه يعلّمهم وينظرون إلى عمله حتى توفّاه الله عليه الصلاة والسلام وهم عنه راضون ، فنسأل الله سبيله وعملا بسنّته. ثم أورث الله عباده الكتاب الذي جاء به محمّد وهداه ولايهتدي من اهتدى من الناس إلاّ باتّباعه ولايضّل من ضلّ من الناس إلاّ بتركه.

ثمّ قام من بعده أبو بكر على الناس فأخذ بكتاب الله وسنّة نبّيه ولم يفارقه أحد من المسلمين في حكم حكمه ، ولاقسم قسّمه حتى فارق الدنيا وأهل الإسلام عنه راضون وله مجامعون.

ثمّ قام من بعده عمر بن الخطاب قوّياً في الأمر ، شديداً على أهل النفاق ، يهتدي بمن كان قبله من المؤمنين ، يحكم بكتاب الله ، وابتلاه الله بفتوح من الدنيا ما لم يبتل به صاحباه ، وفارق الدنيا والدين ظاهر وكلمة الإسلام جامعة وشهادتهم قائمة ، والمؤمنون شهداء الله في الأرض. وكذلك قال الله : ( جَعَلْنَا كُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ويكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٢). ثمّ أشار المؤمنون فولّوا عثمان ، فعمل ماشاء الله بما يعرف أهل الإسلام حتى بسطت له الدنيا وفتح له من خزائن الأرض ما شاء الله. ثمّ أحدث اُموراً لم يعمل به صاحباه قبله ، وعهد الناس يومئذ قريب بنبيّهم حديث. فلمّا رأى المؤمنون ما أحدث عثمان أتوه فكلّموه وذكّروه بكتاب الله وسنّة من كان قبله من المؤمنين.

وقال الله : ( ومنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنّا مِنَ الُْمجرِمِيْنَ

__________________

١ ـ الأنعام : ١٥ ، ويونس : ١٥.

٢ ـ البقرة : ١٤٣.

٣٤٢

مُنْتَقِمُونَ ) (١). فسفَّه أن ذكّروه بآيات الله وأخذهم بالجبروت ، وضرب منهم من شاء الله وسجن ونفاهم في أطراف الأرض من شاء الله منهم نفياً أن ذكّروه بكتاب الله وسنّة نبيّه ومن كان قبله من المؤمنين ، وقال الله : ( ومنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ونسِىَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ) (٢).

وإنّي اُبيّن لك يا عبدالملك بن مروان الذي أنكر المؤمنون على عثمان وفارقناه عليه فيما استحلّ من المعاصي عسى أن تكون جاهلا عنه غافلا وأنت على دينه وهواه!! لايحملنّك يا عبدالملك هوى عثمان أن تجحد بآيات الله وتكذّب بها!!! فإنّ عثمان لايغني عنك من الله شيئاً ، فالله ، الله يا عبدالملك بن مروان قبل التناوش من مكان بعيد ، وقبل أن يكون لزاماً ، وأجل مسمّى!! وإنّه كان ممّا طعن المؤمنون عليه وفارقوه وفارقناه فيه ، فإنّ الله قال : ( ومنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِها اُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أنْ يَدْخُلُوها إلاّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزىٌ ولهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ ) (٣). فكان عثمان أوّل من منع مساجد الله أن يقضى فيها بكتاب الله. وممّا نقمناه عليه وفارقناه عليه أنّ الله قال لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِم مِنْ شَىْء وما مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمينَ ) (٤).

فكان أوّل (٥) هذه الاُمّة طردهم ونفاهم ، فكان ممّن نفاهم من أهل المدينة

__________________

١ ـ السجدة : ٢٢ ـ

٢ ـ الكهف : ٥٧.

٣ ـ البقرة : ١١٤.

٤ ـ الأنعام : ٥٢.

٥ ـ في نسخة « خيار ».

٣٤٣

أبوذَرّ الغفاري ، ومسلم الجهني ، ونافع بن الحطام (١) ، ونفى من أهل الكوفة كعب بن أبي الحلمة ، وأبي الرحل الوجاج ، وجندب بن زهير (٢) ، وجندب هو الذي قتل الساحر الذي كان يلعب به الوليد بن عقبة (٣) ، ونفى عمرو بن زرارة ، وزيد بن صوحان (٤) ، وأسود بن ذريح ، ويزيد بن قيس الهمداني ، وكردوس بن الحضرمي ، في ناس كثير من أهل الكوفة.

ونفى من أهل البصرة عامر بن عبدالله القشري ، ومذعور العبدي ولا أستطيع لك عددهم من المؤمنين.

وممّا نقمنا عليه أنّه أمّر أخاه الوليد بن عقبة على المؤمنين ، وكان يلعب بالسحرة ويصلّي بالناس سكران ، فاسق في دين الله ، أمّره من أجل قرابته ، على المؤمنين المهاجرين والأنصار ، وإنّما عهدهم حديث بعهدالله ورسوله والمؤمنين.

وممّا نقمنا عليه إمارته قرابته على عبادالله وجعل المال دولة بين الأغنياء ، وقال الله : ( كَيْ لاَ يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ ) (٥). وبدّل كلام الله وبدَّل القول واتّبع الهوى.

__________________

١ ـ ورد الاسم أيضاً : « نافع بن الحطامي ».

٢ ـ جندب بن زهير الأزدي : ذكر الطبري أنّه قتل في صفّين وهو يحارب مع عليّ بن أبي طالب.

٣ ـ الوليد بن عقبة ، أخ عثمان بن عفان لاُمّه ، وروي أنّه وهو أمير على الكوفة ، صلّى بالناس الصبح وهو سكران ، ثمّ قال لهم : إن شئتم أن أزيدكم ركعة زدتكم ، فلمّا بلغ عثمان ذلك لم يسرع إلى إقامة الحدّ عليه ، بل أخّر ذلك. (انظر : ابن قتيبة : الإمامة والسياسة ج ١ ص ٣٦).

٤ ـ زيد بن صوحان : قتل شهيداً يوم الجمل.

٥ ـ الحشر : ٧.

٣٤٤

وممّا نقمنا عليه أنّه انطلق إلى الأرض ليحميها لنفسه ولأهله (١) حمى حتى منع قطر السماء والرزق الذي أنزله الله لعباده ، لأنفسهم وأنعامهم. وقد قال الله : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وحلالا قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُون* وما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيامَةَ ) (٢).

وممّا نقمنا عليه أنّه أوّل من تعدّى في الصدقات وقد قال الله : ( إنَّمَا الصَدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمَساكِينَ والعامِلِينَ عَلَيْهَا والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي الرِّقَابِ والغَارِمينَ وفي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السِّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٣). وقال الله : ( وما كَانَ لِمُؤْمِن ولامُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ ورسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومنْ يَعصِ اللهَ ورسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاَ مُبيناً ) (٤).

وأحدث عثمان منه فرائض كان فرضها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رحمة الله عليه ـ ، وانتقص أصحاب بدر ألّفاً من عطائهم ، وكنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله ، وقال الله : ( والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْها فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِهَا جِباهُهُمْ

__________________

١ ـ يقال حمى فلان الأرض يحميها حمى حتى لايقرب. والحمى موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. وقال الإمام الشافعي في تفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا حمى إلاّ لله ولرسوله » : كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً فحمى لخاصّته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره ، فلم يرعه معه أحد ، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله ، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون. (انظر : دكتور حسن إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسي ج ١ هامش صفحة ٢٧٣).

٢ ـ يونس : ٥٩ ـ ٦٠.

٣ ـ التوبة : ٦٠.

٤ ـ الأحزاب : ٣٦.

٣٤٥

وَجُنُوبُهُمْ وظهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (١).

وممّا نقمنا عليه أنّه كان يضمّ كلّ ضالّة إلى إبله ولايرّدها ولايعرّفها ، وكان يأخذ من الإبل والغنم ممّن وجد ما عنده من الناس وإن كانوا قد أسلموا عليها (٢) ، وكان لهم في حكم الله أنّ لهم ما أسلموا عليه. وقال الله : ( ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلاتَعْثُوْا فِى الأرضِ مُفسدِينَ ) (٣). وقال : ( لاَ تَأْكُلُوا أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَراض مِنْكُمْ ولاتَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً * ومنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْواناً وظلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيِه ناراً وكانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) (٤).

وممّا نقمنا عليه أنّه أخذ خمس الله لنفسه ويعطيها أقاربه ويجعل منهم عمّالا على أصحابه وكان ذلك تبديلا لفرائض الله ، وفرض الله الخمس لله ولرسوله : ( وَلِذِي القُرْبَى واليَتَامَى والمسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وما أنْزَلْنا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (٥).

وممّا نقمنا عليه أنّه منع أهل البحرين وأهل عُمان أن يبيعوا شيئاً من طعامهم حتى يباع طعام الإمارة ، وكان ذلك تحريماً لما أحلّ الله : ( واحَلَّ اللهُ البَيْعَ وحرَّمَ الرِّبا ) (٦).

فلو أردنا أن نخبر بكثير من مظالم عثمان لم نحصها إلاّ ما شاء الله ، وكل ما عددت عليكم من عمل عثمان يُكفّر الرجل أن يعمل ببعض هذا.

__________________

١ ـ التوبة : ٣٤ ـ ٣٥.

٢ ـ أسلموا عليها : تصالحوا عليها.

٣ ـ هود : ٨٥.

٤ ـ النساء : ٢٩ ـ ٣٠.

٥ ـ الأنفال : ٤١.

٦ ـ البقرة : ٢٧٥.

٣٤٦

وكان من عمل عثمان أنّه يحكم بغير ما أنزل الله وخالف سنّة نبي الله والخليفتين الصالحين أبي بكر وعمر وقد قال الله : ( ومنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويتَّبِعْ غَيْرَ سبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى ونصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصيِرَاً ) (١).

وقال : ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ). (٢) ، ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٣) ، ( ومنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرَاً ) (٤) ، وقال : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ ) (٥) ، وقال : ( ولاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُون ) (٦).

وقال : ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ) والفاسقون (٧) والكافرون (٨) وقال : ( ألا لَعَنةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين ).

وقال : ( ومَنْ يَلعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيراً ). وقال : ( وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ). وقال : ( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلمةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَهُمْ لاَيُؤْمِنُونَ ) (٩). فكل هذه الآيات تشهد على عثمان ، وإنّما شهدنا بما شهدت هذه الآيات : ( اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أنَزَلَهُ بِعِلْمِهِ والمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكفَى بِاللهِ

__________________

١ ـ النساء : ١١٥.

٢ ـ المائدة ٤٥.

٣ ـ هود : ١٨.

٤ ـ النساء : ٥٢.

٥ ـ البقرة : ١٢٤.

٦ ـ هود : ١١٣.

٧ ـ وفي سورة المائدة : ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) آية ٤٧.

٨ ـ وفي سورة المائدة : ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ) آية ٤٤.

٩ ـ يونس ٣٣.

٣٤٧

شَهِيداً ). (١)

وقال : ( فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرضِ إنَّهُ لَحَقٌ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (٢).

فلمّا رأى المؤمنون الذي نزل به عثمان من معصية الله ، والمؤمنون شهداء الله ناظرون أعمال الناس ، وكذلك قال الله : ( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ وستُرَدُّونَ إلَى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) (٣).

وترك خصومة الخصمين في الحق والباطل ودفع ما وعد الله من الفتن ، وقال الله : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهمْ لاَيُفْتَنُونَ * ولقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وليَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ ) (٤).

فعلم المؤمنون أنّ طاعة عثمان على ذلك طاعة إبليس ، فساروا إلى عثمان من أطراف الأرض ، واجتمعوا في ملأ من المهاجرين والأنصار وعامّة أزواج النبيـ عليه الصلاة والسلام ـ فأتوه فذكّروه الله وأخبروه الذي أتى من معاصي الله ، فزعم أنّه يعرف الذي يقولون ، وأنّه يتوب إلى الله منه ويراجع الحق فيقبلوا منه الذي اتّقاهم به من اعتراف الذنب والتوبة والرجوع إلى أمر الله ، فجامعوه وقبلوا منه ، وكان حقّاً على أهل الإسلام إذا اتّقوا بالحق أن يقبلوه ويجامعوه ما استقام على الحق. فلمّا تفرّق الناس على ما اتّقاهم به من الحق نكث عن الذي عاهدهم عليه وعاد فيما تاب منه ، فكتب في أدبارهم أن تقطع أيدهم وارجلهم من خلاف. فلمّا ظهر المؤمنون على كتابه ونكثه على العهد الذي عاهدهم عليه رجعوا فقتلوه بحكم الله ، وقال الله : ( وانْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ

__________________

١ ـ النساء : ١٦٦.

٢ ـ الذاريات : ٢٣.

٣ ـ التوبة : ١٠٥.

٤ ـ العنكبوت : ١ ـ ٣.

٣٤٨

مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطعَنُوا فِي دِيْنِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) (١). فجامع أهل الاسلام ما شاءالله ، وعمل بالحق ، وقد يعمل الإنسان بالاسلام زماناً ثم يرتد عنه. وقال الله : ( إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وامْلَى لَهُمْ ) (٢).

فلمّا استحلّ معصية الله وترك سنّة من كان قبله من المؤمنين ، علم المؤمنون أنّ الجهاد في سبيل الله أولى ، وأنّ الطاعة في مجاهدة عثمان على أحكامه. فهذا من خبر عثمان والذي فارقناه فيه ، ونطعن عليه اليوم ، وطعن عليه المؤمنون قبلنا ، وذكرت أنّه كان مع رسول الله وختنه (٣) ، فقد كان عليّ بن أبي طالب أقرب إلى رسول الله وأحبّ إليه منه ، وكان ختنه ومن أهل الإسلام. وأنت تشهد عليه بذلك وأنا بعد على ذلك ، فكيف تكون قرابته من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجاةً إذا ترك الحق وضلّ كفراً (٤).

واعلم ، إنّما علامة كفر هذه الاُمّة كفرها الحكم بغير ما أنزل الله ، ذلك بأنّ الله قال : ( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكَافِرُون ) (٥).فلا أصدق من الله قيلا ، وقال : ( فَبِأيِّ حَدِيث بَعْدَ اللهِ واياتِهِ يُؤْمِنُونَ ) (٦).

__________________

١ ـ التوبة : ١٢.

٢ ـ محمّد : ٢٥.

٣ ـ الختن : زوج الابنة. الجمع أختان.

٤ ـ قال سبحانه لنبيّه : ( لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) الزمر / ٦٥ ، ولكن الكلام في وقوع الشرط. إنّ الإمام لم يشرك ، ولم يضل أبداً. إنّما ترك الحق اُولئِكَ الذين ألجأوه إلى إجابة دعوة الشاميين ، وحذّروه من مواصلة الحرب وقد كان الامام على أعتاب النصر ، وقد بلغوا في اللجاج والعناد إلى حدّ لم يمهلوا القائد لقواته ـ الأشتر ـ عدوة فرس أو فواق ناقة ، فلاحظ.

٥ ـ المائدة : ٤٤.

٦ ـ الجاثية : ٦.

٣٤٩

فلا يغرّنّك يا عبدالملك بن مروان ، عثمان عن نفسك ، ولاتسند دينك إلى الرجال يتمنّون ويريدون ويستدرجون من حيث لايعلمون ، فإنّ أملك الأعمال بخواتمها ، وكتاب الله جديد ينطق بالحق أجارنا الله باتباعه أن نضل او نبغي (١) فاعتصم بحبل الله يا عبدالملك واعتصم بالله ، وإنّه من يعتصم بالله يهده صراطاً مستقيماً. وهو حبل الله الذي أمر المؤمنين أن يعتصموا به ولايتفرّقوا. وليس حبل الله الرجال من أيّهم حَسُنَ ينهبون ويطعنون ، فاُذكّرك الله لما أن تدبّرت القرآن فإنّه حق. وقال الله : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أقْفالُها ) (٢).فكّن تابعاً لما جاء من الله تهتدي ، وبه تخاصم من خاصمك من الناس ، وإليه تدعو وبه تحتجّ ، فإنّه من يكن القرآن حجّته يوم القيامة به يخاصم من خاصمه ويفلح في الدنيا والآخرة. فإنّ الناس فقد اختصموا ( إنَّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) (٣) فتعمل لما بعد الموت ولايغرّنّك بالله الغرور.

وأَمّا قولك في شأن معاوية بن أبي سفيان أنّ الله قام معه وعجّل نصره وأفلح حجّه وأظهره على عدوّه بطلب دم عثمان ، فإن يكن يعتبر الدين من قبل الدولة أن يظهر الناس بعضهم على بعض في الدنيا فإنّا لانعتبر الدين بالدولة ، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون ، وقد ظهر الكفّار على المسلمين ليبتلي المسلمين بذلك ويعلى الكافرين (٤). وقال : ( وتلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وليَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ واللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وليمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويمْحَقَ الكافِرِين ) (٥).

__________________

١ ـ وفي نسخة : « أن نبغي أو نضل ».

٢ ـ محمّد : ٢٤.

٣ ـ الزمر : ٣١ ـ

٤ ـ وفي نسخة « ويملأ الكافرين ».

٥ ـ آل عمران ١٤٠ ـ ١٤١.

٣٥٠

فإن كان الدين إذا ظهر الناس بعضهم على بعض فقد سمعت الذي أصاب المشركون من يوم اُحُد ، وقد ظهر الذين قتلوا ابن عفان عليه وعلى شيعته يوم الدار (١) وظهر أيضاً عليّ ، على أهل البصرة وهم شيعة عثمان (٢) ، وظهر المختار على ابن زياد(٣) ، وأصحابه وهم شيعتهم ، وظهر معصب الخبيث على المختار (٤) وظهر ابن السجف على أخنس بن دلجة وأصحابه ، وظهر أهل الشام على أهل المدينة (٥) ، وظهر ابن الزبير على أهل الشام بمكة يوم استفتحوا منها ما حرّم الله عليكم وهم شيعتكم.

فإن كان هؤلاء على الدين فلايعتبر الدين من قبل الدولة ، فقد يظهر الناس بعضهم على بعض ويعطي الله رجالا ملكاً في الدنيا ، فقد أعطى فرعون ملكاً وظهر في الأرض ، وقد أعطى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه ، وقد أعطى فرعون ما سمعت.

ثمّ إنّما اشترى معاوية (٦) الإمارة من الحسن بن علي ، ثمّ لم يف له بالذي

____________

١ ـ اقتحم الثوار على عثمان بن عفان داره ، بعد أن نشب القتال بينهم وبين من تصّدى للدفاع عنه وذلك في الثامن عشر من ذي الحجّة سنة ٣٥ هـ وقتلوه وعرف ذلك اليوم بـ « يوم الدار ».

٢ ـ يشير إلى انتصار الإمام علي بن أبي طالب في وقعة الجمل ، التي دارت بينه وبين عائشة وطلحة والزبير وذلك في جمادى الآخرة سنة ٣٦ هـ.

٣ ـ أرسل المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، جيشاً بقيادة إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيدالله بن زياد عامل الأمويين. وسار إبراهيم بن الأشتر حين لقى ابن زياد ومن معه من أهل الشام على نهر الخازر(نهر بين اربيل والموصل ويصب في دجلة) فدارت الدائرة على ابن زياد وقتل هووكثير من أهل الشام وحمل رأسه إلى المختار.

٤ ـ هزم المختار وقتل في الكوفة سنة ٦٧ هـ في الحرب التي دارت بينه وبين مصعب بن الزبير.

٥ ـ حاضر مسلم بن عقبة المري ، المدينة المنورة ، من ناحية الحرة وفتحها وأباحها ، وذلك في أثناء حكم يزيد بن معاوية.

٦ ـ تعبير خاطئ والصحيح : تصالح الإمام مع معاوية بعد ما أتمّ الحجّة على الاُمّة.

٣٥١

عاهده عليه ، وقال : ( واوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ولا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكيدِها وقدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا اِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * ولا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وليُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُم فِيهَ تَخْتَلِفُونَ ) (١).

فلا تسأل عن معاوية ولا عن عمله ولا صنيعه ، غير أنّا قد أدركنا ورأينا عمله وسيرته في الناس ولا نعلم من الناس أحداً (٢) أترك للقسمة التي قسمها اللّه ، ولا لحكم حكمه الله ، ولاأسفك لدم حرام منه ، فلو لم يصب من الدماء إلاّ دم ابن سمية (٣) لكان في ذلك ما يكفّره.

ثمّ استخلف ابنه يزيد فاسقاً من الناس لعيناً يشرب الخمر المكفر فيكفيه من السوء ، وكان يتبع هواه بغير هدى من الله وقال الله : ( ومنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إنَّ الله لا يَهدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٤). فلم يخف عمل معاوية ويزيد على كل ذي عقل من الناس ، فاتّق الله يا عبدالملك ولاتخادع من نفسك في معاوية!! فقد بلغنا أنّ أهل البيت يطعنون على معاوية ويزيد وعملهما وما رأى من خبر معاوية من بعدهما ، فالذي طعنّا عليهما وعليه وفارقناه عليه ، فإنّ منهم فتنة كمن يكون يتولّى عثمان ومن بعده. فإنّا نشهد الله والملائكة أنّا منهم

__________________

١ ـ النحل : ٩١ ـ ٩٢.

٢ ـ كتب في المخطوطة : « شيئاً لأحد ».

٣ ـ يشير إلى ما عمله معاوية بن أبي سفيان في سنة ٤٥ هـ حين ردّ اعتبار زياد بن سمية في نسبه فأحبّ أن يجعله أخاه وأتى بشهود شهدوا بأنّه ابن أبي سفيان ، وهذا ما يعبّر عنه بالاستلحاق. وأصبح زياد يعرف باسم زياد بن أبي سفيان بعد أن كان يعرف باسم زياد بن سمية أو زياد بن أبيه. وقد دفع معاوية إلى ذلك الاعتبارات السياسية ، ومنذ أن اعترف معاوية بن أبي سفيان بزياد أخاً له وابناً غير شرعي لأبيه ، تفانى زياد في خدمة البيت الأموي.

٤ ـ القصص : ٥٠.

٣٥٢

براء ولهم أعداء ، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا ، نعيش على ذلك ما عشنا ونموت عليه إذا متنا ، ونبعث عليه إذا بعثنا ، نحاسب بذلك عندالله.

وكتبت إليّ تحذّرني الغلو في الدين ، وإنّي أعوذ بالله من الغلو في الدين ، وساُبيّن لك ماالغلو في الدين إذا جهلته ، فإنّه ما كان يقال على الله غير الحق ويعمل بغير كتابه الذي بيّن لنا وسنّة نبيه الذي بيّن لنا ، اتباعك قوماً قد ضلّوا وأضلّوا عن سواء السبيل. فذلك عثمان والأئمّة من بعدهم وأنت على طاعتهم وتجامعهم على معصية الله ، والله يقول : ( يا أهْلَ الكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحَقَّ ) (١). فهذا سبيل أهل الغلو في الدين فليس من دعا إلى الله وإلى كتابه ورضى بحكمه ، وغضب لله حين عصي أمره ، وأخذ بحكمه حين ضيع وتركت سنّة نبيّه.

وكتبت إليّ تعرض على الخوارج ، تزعم أنّهم يغلون في دينهم ويفارقون أهل الإسلام ، وتزعم أنّهم يتّبعون غير سبيل المؤمنين ، وإنّني اُبيّن لك سبليهم ، إنّهم أصحاب عثمان ، والذي أنكروا عليه ما أحدث من تغيير السنّة ، فارقوه حين أحدث وترك حكم الله ، وفارقوه حين عصى ربّه ، وهم أصحاب عليّ بن أبي طالب حين حكّم عمرو بن العاص (٢) وترك حكم الله ، فأنكروه عليه وفارقوه فيه وأبوا أن يقرّوا لحكم البشر دون حكم كتاب الله ، فهم لمن بعدهم أشدّ عداوة وأشدّ مفارقة. كانوا يتولّون في دينهم وسنّتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر وعمر بن الخطاب ، ويدعون إلى سبيلهم ويرضون بسنّتهم على ذلك ، كانوا يخرجون وإليه يدعون وعليه يفارقون. وقد علم من عرفهم من الناس ورأى عملهم أنّهم كانوا أحسن الناس

__________________

١ ـ النساء : ١٧١.

٢ ـ لم يحكّم عمروبن العاص ، وإنّما حكّم القرآن كما تشهد على ذلك وثيقة التحيكم.فلاحظ.

٣٥٣

عملا وأشدّ قتالا في سبيل الله. وقال الله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وليَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) (١).

فهذا خبر الخوارج ، نشهد الله والملائكة انّا لمن عاداهم أعداء وانّا لمن والاهم أولياء ، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا ، على ذلك نعيش ماعشنا ، ونموت على ذلك إذا متنا ، غير أنّا نبرأ إلى الله من ابن الأزرق وأتباعه من الناس ، لقد كانوا خرجوا حين خرجوا على الإسلام فيما ظهر لنا ، ولكنّهم ارتدّوا عنه وكفروا بعد إيمانهم (٢) فنبرأ إلى الله منهم.

أمّا بعد فإنّك كتبت إليّ أن أكتب إليك بجواب كتابك ، وأجتهد في النصيحة ، وإنّي اُبيّن لك إن كنت تعلم وافضل ما كتبت إليك به ، وذكّرتني بالله أن اُبيّن لك فإنّي قد بيّنت لك بجهد نفسي ، وأخبرتك خبر الاُمّة ، وكان حقَّاً عليّ أن أنصح لك واُبيّن لك ما قد علمت. إنّ الله يقول : ( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّناتِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتابِ اُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ويلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا واصْلَحُوا وبيَّنُوا فَأُولئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وانا التَّوَّابُ الرَّحيمُ ) (٣). فإنَّ الله لم يتَّخذني عبداً وأن أكفر بربّي ، ولااُخادع الناس بشيء ليس في نفسي ، واُخالف إلى ما أنهى عنه ، فأمري علانية غير سرّ ، أدعو إلى كتاب الله وليحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه ويرضوا بحكمه ويتوبوا إلى ربّهم ويراجعوا كتاب الله ، ولئن أدعوكم إلى كتاب الله ليحكم بيني وبينكم في الذي اختلفوا فيه ، ونحرّم ما حرّم الله ، ونحكم بما حكم الله ، ونبرأ ممّن برىء اللهُ منه ورسوله ، ونتولّى من يتولّاه الله ، ونطيع من أحلّ لنا طاعة في كتابه ، ونعصي

__________________

١ ـ التوبة : ١٢٣.

٢ ـ يشيرهنا إلى تبرّئ الاباضية من نافع بن الأزرق والأزارقة وذلك لغلوّهم وتطرّفهم في الدين.

٣ ـ البقرة : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٣٥٤

من أمر الله بمعصيته. أن نطيعه فهذا الذي أدركنا عليه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإنّ هذه الاُمّة لم تحرّم حراماً ولم تسفك دماءً إلاّ حين تركوا كتاب ربّهم الذي أمرهم أن يعتصموا به ، ويأمنوا عليه ، وانّهم لايزالون مفترقين مختلفين حتى يراجعوا كتاب الله وسنّة نبيّه ، وينتصحوا كتاب الله على أنفسهم ، ويحكّموه إلى ما اختلفوا فيه. فإنّ الله يقول : ( وما اخْتَلَفْتُمْ فِيِه مِنْ شَيء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ والَيْهِ أُنيبُ ) (١). وإنّ هذا هو السبيل الواضح لايشبّه به شيء من السبل ، وهو الذي هدى الله به من كان قبلنا ، محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخليفتين الصالحين من بعده ، فلايضلّ من اتّبعه ولايهتدي من تركه ، وقال : ( وانَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوهُ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيِلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٢). فاحذر أن تفرّق بك السبل عن سبيله ، ويزّين لك الضلالة باتّباعك هواك فيما جمعت إليه الرجال ، فإنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ، إنّما هي الأهواء والدين. إنّما يتبع الناس في الدنيا والآخرة إمامين ، إمام هدى ، وإمام ضلالة. أمّا إمام الهدى فهو يحكم بما أنزل الله ويقسم بقسمه ويتبع كتاب الله ، وهم الذين قال الله : ( وجعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (٣) وهؤلاء أولياء المؤمنين الذين أمرالله بطاعتهم ، ونهى عن معصيتهم. وأمّا إمام الضلالة فهو الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقسم بغير ما قسم الله ، ويتبع هواه بغير سنّة من الله فذلك كفر كما سمّى الله ، ونهى عن طاعتهم وأمر بجهادهم ، وقال : ( فَلا تُطِعِ الكافِرينَ وجاهِدَهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيرا ) (٤).

__________________

١ ـ الشورى : ١٠.

٢ ـ الأنعام : ١٥٣.

٣ ـ السجدة : ٢٤.

٤ ـ الفرقان : ٥٢.

٣٥٥

فإنّه حقّ أنزله بالحق وينطق به ، وليس بعد الحق إلاّ الضلال فأنّى تصرفون. ولا يضربن الذكر عنك صفحاً ، ولاتشكّنّ في كتاب الله ، ولا حول ولاقوّة إلاّ بالله ، فإنّه من لم ينفعه كتاب الله ، لم ينفعه غيره.

كتبت إليّ أن أكتب إليك بمرجوع كتابك ، فإنّي قد كتبت إليك ، وأنا اُذكّرك بالله العظيم إنّ استطعت بالله لمّا قرأت كتابي ثمّ تدبّر فيه وأنت فارغ ثم تدبّره ، فقد كتبت إليك بجواب كتابك وبيّنت لك ما علمت ونصحت لك. فإنّي اُذكّرك بالله العظيم لمّا قرأت كتابي وتدبّرته ، واكتب إليّ إن استطعت بجواب كتابي إذا كتبت إليك ، إنّما أتنازع فيه أنا وأنت ، انزع عليه بيّنة من كتاب الله اُصدّق فيه قولك ، فلاتعرض لي بالدنيا فإنّه لارغبة لي في الدنيا ، وليست من حاجتي ، ولكن لتكن نصحتك لي في الدين ، ولما بعد الموت ، فإنّ ذلك أفضل النصيحة ، فإنّ الله قادر أن يجمع بيننا وبينك على الطاعة ، فإنّه لاخير لمن لم يكن على طاعة الله. وبالله التوفيق وفيه الرضى ، والسلام عليه ، والحمد لله ، وصلّى الله على نبيّه محمّد وآله وسلّم تسليماً (١).

__________________

١ ـ السير والجوابات لعلماء وأئمّة عمان ٢ / ٣٢٥ ـ ٣٤٥ تحقيق الاُستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف ، ط وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان ، والجواهر المنتقاة ١٥٦ ـ ١٦٢ ، وازالة الوعثاء عن اتباع أبي الشعثاء ٨٦ ـ ١٠١.

٣٥٦

الفصل الثاني عشر

في عقائد فرق الخوارج ومخطّطاتهم في الحياة

٣٥٧
٣٥٨

ظهرت الخوارج في الساحة الإسلامية بصورة تيار سياسي لايتبنّون إلاّ تطبيق الحكم الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة في أمر البغاة(الشاميين) وكان الجميع يحملون شعار« لاحكم إلاّ لله » يريدون بذلك انّ حكم الله في حق البغاة هو القتال ، لاتحكيم الرجال ، ولم يكن لهم يومذاك منهج كلامي ، ولمّا قضى عليّ عليه‌السلام نحبه ، ركّز الخوارج جهدهم على مكافحة الحكّام الظالمين كمعاوية وآله ، ومروان بن الحكم وأولاده ، وقد حفظ التاريخ انتفاضاتهم في وجه خلفاء بني اُميّة وعمّالهم كما تعرّفت على لفيف منها.

فلا عجب عندئذ إذا رأينا أنّ خارجياً يقتفي أصحاب الحديث في العقائد ، أو يتبنّى عقيدة المعتزلة في غير مورد من الاُصول وما هذا إلاّ لأنّ القوم في القرنين الأوّلين كانوا مقاتلين ، قبل أن يكونوا أصحاب فكر ، وكانوا ثوّاراً في وجه الحكومات ، قبل أن يكونوا فرقة دينية تتبنّى اُصولا عقائدية ، والامعان في المبدأ الذي اتّخذوه كحجر زاوية (تخطئة التحكيم) أو الاُسس التي تبنّوها في العهد الاموي ، أي بعد استيلاء معاوية على الحكم ، إلى عهد عبد الملك بن مروان ( ت ٧٥ ) إلى آخر الدولة المروانية ( ١٣٢ هـ ) يعرب عن أنّ

٣٥٩

القوم لم يكن لهم يوم ذاك فكر كلامي ولا فقهي ، وأنّ الغاية من تبنّي الاُسس المذكورة في هذا الفصل (تكفير مرتكبي الكبيرة وحرمة مناكحتهم ولزوم الخروج على الطغاة و ... ) إنّما هو تمهيد لأساليب توصلهم إلى القضاء على الخلفاء وحكّام الجور ، والاستيلاء على منصَّة الحكم. ولذلك لم يورثوا سوى الشغب والثورة والأخذ بزمام الحكم.

نعم الفرقة الباقية منهم ـ كالاباضية ـ لمّا استشعروا أنّه لايصحّ بفريق سياسي أن يعيش بلا مبدأ كلامي أو فقهي ، تداولوا بعض الموضوعات الكلامية والفقهية بالبحث والتمحيص. ويبدو من خلال الرجوع إلى آثار تلك الفرقة أنّ أكثر ما يتبنّونه في مجال العقائد إنّما هو نتاج متأخّر لم يفكّر به مؤسّس الفرقة كعبدالله بن اباض ولاالتابعي الآخر كجابر بن زيد ، وأكثر ماورثوا من الأوّل شجاعته الروحية ، وصراحته في بيان الحقائق ، ومن الثاني أحاديث موقوفة ، نقلها جابر عن عدّة من الصحابة ، وأين هذا من منهج كلامي منسجم ، وفقه واسع يتكفّل بيان تكاليف العباد في الحياة في عامّة المجالات. وهذا يؤيّد أنّ الخوارج ـ ظهرت يوم ظهرت ـ كفرقة سياسية ثم آلت إلى فرقة دينية.

ونحن نمّر في هذا الفصل على عقائدهم واُسسهم التي تعرّفت على سماتها والغايات المتوخّاة منها.

٣٦٠