بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعة علي :

قتل الخليفة بمرأى ومشهد من الصحابة ، وتركت جنازته في بيته ، واجتمع المهاجرون والأنصار في بيت علىّ ، وطلبوا منه بإصرار بالغ قبول الخلافة ، إذ لم يكن يوم ذاك رجل يوازيه ويدانيه في السبق الى الاسلام ، والزهد في الدنيا ، والقرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعلم الوافر بالقرآن والسنّة ، والامام يصف اجتماعهم في بيته ويقول : « فتداكوا علىّ تداكّ الابل الهيم ، يوم وردها ، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها ، حتى ظننت أنّهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي » (١).

وفي كلمة اُخرى له عليه‌السلام يقول واصفاً هجوم المهاجرين والأنصار على بيته لبيعته : « وبسطتم يدي فكففتها ، ومدد تموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الهيم على حياضها يوم وِرْدها حتى انقطعت النعل ، وسقط الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم ايّاي ، أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت اليها الكعاب » (٢).

فلمّا عرضوا عليه مسألة الخلافة والقيادة الاسلامية أجابهم بجدَ وحماس : « دعوني فالتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لاتقوم له القلوب ، ولا تثبت له العقول » (٣).

فلمّا أحسّ منهم الإلحاح والإصرار المؤكّد وانّه لابدّ من البيعة ورفع علم الخلافة قال عليه‌السلام : إذا كان لابدّ من البيعة فلنخرج إلى المسجد حتى تكون بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار ، وجاء الى المسجد فبايعه

____________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٥٤.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٩.

٣ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ١٥٦.

٢١

المهاجرون والأنصار وفي مقّدمتهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله ولم يتخلّف من البيعة إلاّ قليل لايتجاوز عدد الأنامل كاُسامة بن زيد ، وعبدالله بن عمر ، وسعد بن أبيوقاص ونظائرهم (١).

وقد عرفه التاريخ بأنّه كان رجلا زاهداً غير راغب في الدنيا ولامقبلا على الرئاسة وانّما قبل البيعة لأنّه تمّت الحجّة عليه وكان المسلمون يومذاك بحاجة الى قيادته وخلافته وهو يصف أمره : « والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنّكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها » (٢).

كلّ ذلك صار سبباً لقيام علي بالزعامة والخلافة وتدبير الأمور ، ولم يكن هدف المبايعين إلاّ ارجاع الاُمّة الى عصر الرسول ، ليقضي على الترف والبذخ ، ويرفع راية العدل والقسط ، ويهدم التفاضل المفروض على الاُمّة بالقهر والغلبة ، وينجي المضطهدين والمقهورين من الفقر المدقع ، ولمّا تمّت البيعة خطبهم في اليوم التالي وبين الخطوط العريضة للسياسة التي ينوي الالتزام بها طيلة ممارسته للخلافة فعلى الصعيد المالي قال في قطايع عثمان التي قطعها الخليفة لأقربائه وحاشيته : « والله لو وجدته قد تزّوج به النساء وملك به الاماء لرددته فانّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » (٣).

قال الكلبي : ثم أمر علي عليه‌السلام بكل سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقّوى به على المسلمين ، فقبض وأمر بقبض نجائب كانت في داره من ابل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر ألاّ يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ١٥٦.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٥.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٥.

٢٢

داره ، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اُصيبت أو اُصيب أصحابها.

فبلغ ذلك عمروبن العاص ، وكان بـ « ايلة » في أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس على عثمان ، فنزلها فكتب الى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع اذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تُقشر عن العصا لحاها (١).

ما مارسه الامام لتحقيق المساواة من خلال ردّ قطائع عثمان كان جرس الانذار في أسماع عبَدة الدنيا وأصحاب الأموال المكدّسة ، أيّام خلافة الخليفة الثالث ، فوقفوا على انّ علياً لايساومهم بالباطل ، على الباطل ولايتنازل عن الحق لصالح خلافته.

وعند ذلك بدأوا يتآمرون على خلافته الفتية في نفس المدينة المنورة وفي مكة المكرمة والشامات ، وقد كان هؤلاء متفرّقين في تلك البلاد.

وهذا هوالموضوع الذي نطرحه في الفصل التالي ، وستعرف أنّ ظهور الخوارج في الساحة الاسلامية من مخلّفات هذا التآمر الذي رفع راياته الناكثون والقاسطون.

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧٠.

٢٣

٢٤

الفصل الثاني

حوادث وطوارئ مريرة في عصر الخلافة العلوية

٢٥
٢٦

نهض الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالأمر ، بعد قتل الخليفة عثمان ، وقد عمّت الفتن والتمزّق والاضطراب الاُمّة الإسلامية ، وحاق بهم البلاء ، وصاروا شيعاً ، المعنّيون منهم ذوو أهواء وميول.

فمن مسلم واع يرى بنور الإيمان خروج القياده الإسلامية عن الجادّة المستقيمة ، وليس لها جمالها الموجود في العهد النبوي ، ولا بعده إلى وفاة الشيخين ، وهم الذين ثاروا على السلطة ، وقتلوا الخليفة ، ولمّ يدفنوه ، حتى راحوا إلى رجل ليقوم بالأمر ويقيم الاود ، ويصلح ما فسد ، ولم يكن هذا الرجل إلاّ الإمام المعروف بالورع والّتقى ، وقوّة القلب ، ورباطة الجأش.

إلى متوغّل في لذائذ الدنيا وزخارفها ، ادّخر من غنائمها وفراً ، وجمع من بيضائها وصفرائها ثروة طائلة ، واقتنى ضياعاً عامرة ، ودوراً فخمة ، وقصوراً شاهقة ، يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع ، كأنّ الدنيا خلقت لأجلهم ، فهؤلاء ـ بعد قتل الخليفة ـ لايرضون خروج الأمر من أيديهم ووقوعه في يد رجل لاتأخذه في الله لومة لائم والاُمّة الإسلاميّة عنده سواسية.

٢٧

إلى انتهازىّ لايهمّه شيء سوى طعمته في الملك والمال ، كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها.

فقام الإمام بالأمر ، وهذا وصف مجتمعه ، وهم إلى الشدة والقسوة أقرب إلى الصلاح والفلاح. وأوّل من جهر بالخلاف وألَّب المخالفين على علىّ ، هو معاوية بن أبي سفيان فقد كان واقفاً على أنّ عليّاً لايساومه بأيّة قيمة ولايبقيه في مقامه الذي كان عليه من عصر الخليفة الثاني إلى يوم بويع علىّ بالخلافة ، فقام بتأليب بعض الصحابة على الامام وإغرائهم على الخلاف ، بحجّة أنّه أخذ البيعة لهم من أهل الشام ، وهذا نص رسالته إلى الزبير بن العوام وقد وقف على أنّه بايع عليّاً بملأ من الناس ، وفيها : « بسم الله الرحمن الرحيم ، فانّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لايسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنّه لاشيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعتُ لطلحة بن عبيدالله من بعدك فاظهر الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مناوئكما ».

ولّما وصل هذا الكتاب إلى الزبير ، أعلم به طلحة فلم يشكّا في انّ معاوية ناصح لهما واجمعا عند ذلك على خلاف عليّ عليه‌السلام (١).

كانت الغاية الوحيدة من أخذ البيعة من رعاع الناس في الشام للزبير وطلحة وإعلامهما لذلك ، هو تشجيعهما على مخالفة الإمام عليه‌السلام بحجّة أنّهما خليفتان مترتبان ، وأنّه يجب على علىّ أن يترك الخلافة جانباً ، وبذلك أراد أن يحدث صدعاً في صفّ الذين بايعوا الإمام ، ويفتح باب الخلاف ونكث البيعة ، أمام الآخرين.

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣١.

٢٨

كانت تلك الرسالة تحمل شروراً إلى الاُمّة الإسلامية وقد اغتر الشيخان بكلام ابن أبي سفيان فتآمرا على الخلاف ونكث البيعة على وجه يأتي شرحه.

ولم يكن نكث البيعة منهما نهاية الخلاف ، بل كانت فاتحة لشرّ ثان وهو تجرّؤ معاوية على عليّ وبغيه على الإمام المفترض طاعته ، بالحرب الطاحنة ، وكان الإمام على أعتاب النصر والظفر حتى نجم شرّ ثالت وهو خروج طائفة من أصحاب الامام عليه بحجة واهية تحكي عن سذاجة القوم وقلّة وعيهم : وهي مسألة التحكيم ، وبذلك خاض الإمام في خلافته القصيرة التي لاتتجاوز عن خمسة أعوام ، حروباً دامية ، يحارب الناكثين تارة ، والقاسطين اُخرى ، والمارقين ثالثة ، وفي ذلك يقول الإمام : « فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنَّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدارُ الآخرِة نَجْعَلُها لِلّذِينَ لايُريدونَ عِلُوّاً فِي الأرْضِ ولافَساداً والعاقِبَةُ للمتّقين ) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حَلِيَت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها (١).

قام الإمام بفقأ عين الفتنة بعد انتهاء حرب صفّين ـ وياللأسف ـ ولم يمض زمن إلى أن اُغْتِيل بيد أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود (٢) ـ حسب تعبير النبي الأكرم ـ ، وبذلك طويت صحيفة عمره ولقى الله تعالى بنفس مطمئنة ، وقلب سليم ، وقد تنبّأ النبي الأكرم بحروبه الثلاثة ، وأنّه سيقاتل طوائف ثلاثة وهم بين ناكث وقاسط ومارق من الدين.

روت اُمّ سلمة أنّ علياً عليه‌السلام دخل على النبي الأكرم في بيتها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيراً إلى علي : هذا والله قاتل الناكثين

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

٢ ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا ٢٩٧.

٢٩

والقاسطين والمارقين من بعدي (١).

وروى علي عليه‌السلام ، عن النبي الأكرم : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (٢).

هذا مجمل تلك الحوادث المريرة في خلافته ، وكانت فتنة الخوارج نتيجة الحربين الطاحنتين : الجمل وصفّين ، فلأجل اجلاء الحقيقة ورفع السترعن وجهها نعرضهما على القارىء ، على وجه خاطف ، والتفصيل على عاتق التاريخ.

__________________

١ ـ ابن كثير الشامي : البداية والنهاية ٧ / ٣٠٥ ، وقد جمع أسانيد الحديث ومتونه.

٢ ـ الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ٤ / ٣٤٠.

٣٠

قتال الناكثين

(١)

حرب الجمل

النكث في اللغة هو نقض البيعة والمراد من قتال الناكثين : قتال الشيخين : الزبير وطلحة اللّذين نكثا بيعة الإمام وتبعهما طوائف من الناس ، بترغيب وترهيب ، وكان بدأ الخلاف انّ طلحة والزبير جاءا إلى عليّ وقالا له : يا أميرَ المؤمنين قد رأيتَ ما كنّا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلّها ، وعلمت رأي عثمان في بني اُميّة ، وقد ولاّك الله الخلافة من بعده ، فوّلنا بعضَ أعمالك ، فقال لهما : إرضيا بقَسم الله لكم. حتى أرى رأيي ، واعْلما أنَّي لا أشرك في أمانتي إلاّ مَن أرضى بدينه ، وأمانته من أصحابي ، ومن قد عرفت دخيلتَه.

فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة (١).

____________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٢.

٣١

خرجا من عنده وهما غاضبان ويحتالان للخروج عن بيعته ونكثها ، وفي ذلك الظرف القاسي ، وصل إليهما كتاب معاوية يدعوهما إلى نكث البيعة وأن أهلَ الشام بايعوا لهما إمامين مترتبين ، فاغترّا بالكتاب (١) وعزما النكث بجد.

ثم دخلا على علىّ فاستاذناه في العمرة ، فقال : ما العمرة تريدان ، فحلفا له بالله انّهما ما يريدان غير العمرة ، فقال لهما : ماالعمرة تريدان ، وانّما تريدان الغدرة ، ونكث البيعة ، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولانكثَ بيعته يريدان وما رأيهما غير العمرة ، فقال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية ، فأعاداها بأشدّ مايكون من الأيمان والمواثيق ، فأذنَ لهما فلمّا خرجا من عنده قال لمن كان حاضراً : والله لاترونهما إلاّ في فتنة يقتتلان فيها. قالوا : يا أميرالمؤمنين فمُرْ بردِّهما عليك.

قال : ليقضي الله أمراً كان مفعولا (٢).

خروج عائشة إلى مكة :

غادرت عائشة المدينة المنوّرة عندما حاصر الثوار بيت عثمان ، ونزلت في مكة ، ووصل خبر قتل الخليفة إليها وهي فيها ، وكانت على تطلُّع إلى أين انتهت الثورة وإلى من آلت إليه الخلافة ، فغادرت مكة إلى المدينة فلمّا نزلت « سرف » لقيها عبد ابن اُمّ كلاب فقالت له : « مهيم »؟ قال : قَتَلوا عثمان فمكثوا ثمانياً ، قال : ثم صنعوا ماذا؟ قال : إجتمعوا على علىّ بن أبي طالب ، فقالت : والله إنّ هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك ، رُدّوني رُدّوني ، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدمه ، فقال لها ابن اُمّ كلاب : ولم؟ فوالله إنّ أوّلَ من اَمالَ حرفه لأنت ، ولقد كنت

__________________

١ ـ تقدم نص الكتاب.

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٢.

٣٢

تقولين : اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت : إنّهم استتابوه ، ثم قتلوه ، ولقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل ، فقال لها : ابن اُمّ كلاب :

منك البداء ومنك الغير

و منكَ الرياح ومنكِ المطر

و انتِ أمرتِ بقتل الإمام

و قلتِ لنا أنّه قد كفر

فهبنا اطعناكَ في قتله

و قاتلُه عندنا مَنْ اَمَر

و لم يسقط السيف من فوقنا

ولم تنكسف شمسنا والقمر

فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت الحِجْرَ وسترت ، واجتمع إليها الناس فقالت : يا أيّها النّاس انّ عثمان قد قتل مظلوماً والله لأطلبّن بدمه (١).

ثم إنّ طلحة والزبير بعدما استأذنا عليّاً غادرا المدينة ونزلا مكة ، وكانت بينهما وبين عائشة صلة وثيقة يتآمرون ضد عليّ فلمّا بلغ عليّاً مؤامرة الزبير وطلحة وانّهما نكثا ايمانهما وعلى أهبة المكافحة معه ، أشار بعض أصحابه أن لايتبعهما فأجاب علي بقوله : « والله لاأكون كالضبع تَنام على طول اللّدم ، حتى يصلَ إليها طالبها ، ويختلها راصدها ، ولكن أضرب بالمقبل إلى الحق ، المدبَر عنه ، وبالسامع المطيع ، العاصي المريب أبداً ، حتى يأتي عليّ يومي » (٢).

مغادرة الشيخين وعائشة مكة :

اتّفق المؤامرون ومعهم جماعة من أعداء الامام ، على أن يرتحلو إلى البصرة ، ويّتخذوها مقرّاً للمعارضة المسلّحة.

__________________

١ ـ ابن قتيبة : الإمامة والسياسة ١ / ٤٩. الطبري : التاريخ ٣ / ٤٧٧.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، خطبة ٦.

٣٣

وقد كان عبدالله بن عامر ، عامل عثمان على البصرة ، هربَ منها حين أخذ البيعة لعلي بها على الناس ، جاريةُ بن قدامة السعدي ، ومسير عثمان بن حنيف الأنصاري إليها على خراجها من قِبَلِ علىّ.

وانصرف عن اليمن عاملُ عثمان وهو يعلى بن متيه فأتى مكّة وصادف بها عائشه وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني اُميّة ، فكان ممّن حرّض على الطلب بدم عثمان وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربع مائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً وبعث إلى عائشة بالجمل المسمّى « عسكرا ». وكان شراؤه عليه باليمن مائتي دينار فأرادوا الشام فصدَّهم ابن عامر ، وقال لهم : إنّ معاوية لا ينقاد اليكم ولايعطيكم من نفسه النصفة ، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد.

فجهّزهم بألف ألف درهم ، ومائة من الابل وغير ذلك ، فسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب ، فانتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب ، يعرف بـ« الحوأب » عليه اُناس من بني كلاب فعوت كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها : « الحوأب » ، فاسترجعتْ ، وذكرت ما قيل لها في ذلك (١) وقالت : رُدّوني إلى حرم رسول الله ، لاحاجة لي في المسير ، فقال الزبير : تالله ما هذا « الحوأب » ، ولقد غلط في ما أخبرك به ، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم بالله إنّ ذلك ليس بالحوأب وشهد معهما خمسون رجلا ممّن كان معهم.

فأتوا البصرة فخرج إليهم عثمان بن حنيف فمانعهم وجرى بينهم قتال ، ثم إنّهم اصطلحوا بعد ذلك على كفِّ الحرب إلى قدوم علىّ ، فلمّا كان في

__________________

١ ـ ورد في حديث روته عائشة ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول وعنده نساؤه : ليت شعري ايتكنّ تنبحُها كلابُ الحوأب سائرة إلى الشرق في كتيبة!

٣٤

بعض الليالي ، بيّتوا عثمانَ بن حنيف فأسَروَه وضربوه ونتفوا لحيته ، ثم إنّ القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه : سهل بن حنيف وغيره من الأنصار ، فخلوا عنه وأرادوا بيت المال فمانعهم الخُزّان والموكّلون به فقتل منهم سبعون رجلا من غير جرح ، وخمسون من السبعين ضربت أعناقهم صبراً من بعد الأسر ، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي وكان من سادات عبد القيس ، وزهّاد ربيعة ونُسّاكها وتشاح طلحة والزبير في الصلاة بالنّاس ، ثمّ اتّفقوا على أن يصلّي بالناس عبدالله بن الزبير يوماً ومحمّد بن طلحة يوماً في خطب طويل كان بين طلحة والزبير.

مسير علي إلى جانب البصرة :

وقف الامام على أنّ المتآمرين خرجوا من مكّة قاصدين البصرة ، فاهتم الامام بايقافهم في الطريق قبل الدخول إليها فسار من المدينة بعد أربعة أشهر من بيعته في سبعمائة راكب ، منهم أربعمائة من المهاجرين والأنصار ، منهم سبعون بدريّاً وباقيهم من الصحابة ، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري ، فانتهى إلى الربذة بين مكّة والكوفة ، وكان يترقّب إلقاء القبض على رؤوس الفتنة قبل الدخول الى البصرة ، لكن فاته ما يترقّب لأنّهم سبقوا الامام في الطريق ولحق بعلي من أهل المدينة ، جماعة من الأنصار ، فيهم خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين وأتاه من طىّ ستمائة راكب (١).

خرج عثمان بن حنيف من البصرة ، وقدم على علي عليه‌السلام بالربذة ، وقد نتفوا رأسه ولحيته وحاجبيه ، فقال : يا أميرالمؤمنين بعثتني ذا لحية ،

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب ٣ / ١٠٣ ـ ١٠٤ طبعة بيروت. الطبري : التاريخ ٣ / ٤٨٥. واللفظ للأوّل ، وفي لفظ الطبري زيادات تركناها روماً للاختصار.

٣٥

وجئتك أمرد ، فقال : أصبتَ خيراً وأجراً (١).

واتصلت بيعة علي بالكوفة : وغيرها من الأنصار ، وكانت الكوفة أسرعها إجابة إلى بيعته ، وأخذ له البيعة على أهلها ـ على كره ـ أبوموسى الأشعري حين تكاثر الناس عليه ، وكان عاملا لعثمان عليها (٢).

لمّا وقف الامام على ماجرى على عثمان بن حنيف وحَرَسِه ، بعثَ بعض أصحابه بكتاب إلى أبي موسى الأشعري يطلب منه استنهاضه للناس ، ولكنّه تهاون في الأمر ولم يَقُم بواجبه بعدما أخذ البيعة له ، واعترف بإمامته ، وقال للناس : إنّها فتنة صمّاء ، النائم فيها خير من اليقضان ، واليقظان فيها خير من القاعد ، والقاعد خير من القائم ، والقائم خير من الراكب ، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، فاغمدوا السيوف ، وانصلوا الأسنَّة ، واقطعوا الأوتار ، وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر ، وتتجلّى هذه الفتنة.

ولّما بلغ عليّاً خذلان أبي موسى الأشعري ، وانّه يصف محاربة الناكثين بالفتنة ، بعث هاشم بن هاشم المرقال وكتب الى أبي موسى : « إنّي لم اُولِّك الذي أنت به إلاّ لتكونَ من أعواني على الحق .... »

وكان أبوموسى من أوّل الأمر عثمانّي الهوى وقد أخذ البيعة لعلي على الناس بعد اكثار الناس عليه ـ كما تقدم ـ فلأجل ذلك بقى على ما كان عليه من الحياد ، ولم يُنهِض الناس ، واستشار السائب بن مالك الأشعري فأشار هو باتباع الإمام ومع ذلك لم يقدم عليه (٣).

فكتب هاشم إلى علىّ ، امتناع أبي موسى من الاستنفار.

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٩٥.

٢ ـ المسعودي : مروج الذهب ٣ / ٩٧.

٣ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٥٠٣.

٣٦

ولمّا تمّت الحجة عند الإمام انّ الرجل ليس على وتيرة صحيحة ، عزله عن منصبه فولّى على الكوفة قرظة بن كعب الأنصاري وكتب إلى أبي موسى اعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحوراً ، فما هذا أوّلُ يومنا منك وانّ لك فينا لهنات وهنات.

وسار علي فيمن معه حتى نزل بذي قار وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنفران الناس ، فسارا عنها ومعهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف ، وقيل ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا منهم الأشتر.

فانتهى علي إلى البصرة وراسل القوم وناشدهم فأبوا إلاّ قتاله (١).

قد وصلنا إلى أعتاب الحرب الطاحنةِ المعروفة بحرب « الجمل » وقبل الخوض في تفصيلها نشير إلى نكات تستفاد فيما سردناه من المقدمات ، ثم نخوض في صلب الموضوع حسب اقتضاء المقام.

١ ـ إنّ الزبير وطلحة بايعا عن طوع ورغبة ولكن بايعا لبغية دنيوية وطمعاً في المال والمقام ، ولم يمض زمان من بيعتهما إلاّ وقد أتيا عليّاً يسألانه اشتراكهما في بعض أعماله ، وكان لهما هوى في ولاية الكوفة والبصرة ، وكانت ديانة علي عليه‌السلام تصدّه عن الاجابة ، إذ لم يكونا صالحين لما يطلبانه ، وقد أثبتا ذلك ـ قبل اشعال نار الحرب ـ بنكثهما وتحريضهما الناس على النكث وقتلهم الأبرياء من الموكّلين وحرس بيت المال ، وقد انتهى الأمر بسفك دماء آلاف من المسلمين.

كل ذلك يعرب عن أنّ مقاومة علي ، تجاه طلبهما كانت أمراً صحيحاً يرضي به الربّ ورسوله ، ولم يكن لعلي هوى إلاّ رضى الله سبحانه ورضى رسوله.

__________________

١ ـ المسعودي : مروج الذهب ٣ / ١٠٤.

٣٧

٢ ـ إنّ أباموسى الأشعري الذي قلَّب الاُمور على علىّ في قضية التحكيم ، كان من أوّل الأمر غير راض ببيعة الإمام ولم يأخذ البيعة له إلاّ بعد اكثار الناس ، ولمّا أمره الإمام باستنهاض الناس واستنفارهم خذَّل الناس عن علي.

والعجب انّه كان يتمسّك في نفس الواقعة برواية سمعها من النبي أنّه قال : ستكون فتنة : القاعد فيها خير من النائم ، والنائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب (١).

نحن نفترض أنّه سمع من النبي ذلك الكلام ، ولكّنه هل يمكن له تسمية مبايعة المهاجرين والأنصار فتنة ، فلو صحّ ذلك ـ ولن يصحّ حتى لو صحّت الأحلام ـ لماذا لاتكون مبايعتهم السابقين من الخلفاء فتنة ، يكون القاعد فيها خيراً من القائم ، مع أنّ أبي موسي كان فيها من القائمين ، وقد قبل الولاية في عصر الخليفتين ، الثاني والثالث ، حتى اعتنق بيعة الإمام بعد اكثار الناس.

ومن بايع رجلا على الإمامة والقيادة ، كان عليه الذبّ عن إمامه وحياض سلطته.

٣ ـ إنّ الإمام عليه‌السلام أشار بقوله : « فما هذا أوّل يومنا منك وانّ لك فينا لهنات وهنات » إلى الجناية التي سوف يرتكبها أبوموسى في قضية التحكيم حيث يخلع عليّاً عن الإمامة والخلافة كما سيوافيك تفصيله.

٤ ـ إنّ في منازعة الشيخين : الزبير وطلحة في أمر جزئي كالإمامة في الطلاة ، يعرب عن طويتهما وما جبّلا عليه من التفاني في الرئاسة ، انظر إلى الرجلين يريدان أن يقودا أمر الجماعة ويكونا امامان للمسلمين وهذه نزعتهما.

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٩٨.

٣٨

على أعتاب حرب الجمل :

سار عليّ حتى نزل الموضع المعروف بالزاوية ، فصلّى أربع ركعات ، وعفر خدّيه على التراب وقد خالط ذلك بدموعه ثم رفع يديه يقول : اللّهمّ ربَّ السماوات وما أظلّتْ ، وربّ العرش العظيم ، هذه البصرة ، أسألك من خيرها ، وأعوذبك من شرّها ، اللّهمّ انزلنا فيها خير منزل ، وأنت خير المنزلين ، اللّهمّ إنّ هؤلاء القوم قد بغوا علىّ وخلعوا طاعتي ونكثوا بيعتي ، اللّهمّ أحقن دماء المسلمين.

ثمّ بعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء ، وقال : « علام تقاتلونني؟ » فأبوا إلاّ الحرب ، فبعث إليهم رجلا من أصحابه يقال له مسلم ، معه مصحف يدعوهم إلى الله تعالى فرموه بسهم فقتلوه ، فحمل إلى علي قتيلا.

فأمر عليّ أصحابه أن يصافوهم ولايبدؤهم بقتال ولايرموهم بسهم ، ولايضربوهم بسيف ، ولايطعنوهم برمح. حتى جاء عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول ، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل ، فقال عليّ : اللّهمّ اشهد. أعذروا إلى القوم ، ثم قام عمّار بن ياسر بين الصفّين فقال : أيّها القوم ما أنصفتم نبيّكم حين كفقتم عقائلكم في الخدور ، وأبرزتم عقيلته للسيوف ، وعائشة على الجمل في هودج من دفوف الخشب ، قد ألبسوه المسوحَ وجلودَ البقر ، وجعلوا دونه اللبود ، وقدغشى على ذلك بالدروع ، فدنا عمّار من موضعها فناداها : إلى ماذا تدعين؟ قالت : إلى الطلب بدم عثمان ، فقال : قاتل الله في هذا اليوم الباغيَ والطالبَ لغير الحق ، ثم قال : أيّها النّاس إنّكم لتعلمون أيّنا الممالى في قتل عثمان ، ثم أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبال :

فمنكِ البكاء ومنكِ العويل

ومنكِ الرياح ومنكِ المطر

٣٩

و أنت امرتَ بقتل الإمام

و قاتله عندنا من امر

وتواتر عليه الرمي فاتصل فحّرك فرسه ، وزال عن موضعه وأتى عليّاً عليه‌السلام فقال : ما تنظر يا أمير المؤمنين وليس عند القوم إلاّ الحرب.

خطبة علي يوم الجمل :

فقام علي في الناس خطيباً ورافعاً صوته يقول : أيّها النّاس إذا هَزَمتموهم فلا تُجْهِزوا على جريح ولاتَقْتلوا أسيراً ، ولاتتبعوا مولّياً ، ولاتطلبوا مُدْبراً ، ولاتكشفوا عورة ولاتمثلوا بقتيل ، ولاتهتكوا ستراً ، ولاتقربوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما تجدونه في عسكرهم من سلاح ، أوكراع ، أوعبد أو أمة ، وما سوى ذلك فهو ميراث ورثتهم على كتاب الله.

ثمّ إنّ عليّاً نادى كلاّ من الزبير وطلحة وكلّمهما وأتمّ عليهما الحجة فقال للأوّل : أما تذكر قول رسول الله عندما قلت له : اِنّي أحبُّ عليّاً ، فأجابك إنّك والله ستقاتله وأنت له ظالم ، وقال للثاني : أما سمعت قول رسول الله يقول : الّلهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأنت أوّل من بايعتني ثم نكثت ، وقد قال الله عزوجل : ( فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكِثُ عَلى نَفْسِهِ ).

ثمّ رجع علي إلى موضعه ، وبعث إلى والده محمّد بن الحنفية وكان صاحب رايته وقال : « احمل على القوم » فلم يرمنه النجاح والظفر فأخذ الراية من يده ، فحمل وحمل الناس معه فما كان القوم إلاّ كرماد اشتدَّت به الريح في يوم عاصف وأطاف بنوضبّة بجمل عائشة وأقبلوا يرتجزون.

نحن بنوضبَّة اصحابَ الجمل

رُدّوا علينا شيخنا ثم بجل

ننعي ابن عفان باطراف الأسل

والموت أحلى عندنا من العسل

٤٠