بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

في محلّه (١)

إنّ القول بحجّية العقل لايعني منها إلاّ حجّيته في موارد يستقلّ بحكمها العقل على وجه اللزوم والقطع كالملازمات العقليّة ، مستقلّة كانت أو غير مستقلّة ، والأوّل كاستقلاله بالبراءة عن أيّ تكليف فيما إذا لم يرد من الشارع فيه بيان ، ولزوم الفحص عن بيّنة مدّعي النبوّة ، والنظر في دعواه وبرهانه ، والثاني كالمسائل المعروفة بباب « الملازمات العقلّية » في اُصول الفقه ، كادّعاء الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، أو نقيضه (الضد العام) إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه ، ولا يحتجّ به الاّ فيما إذا لم يرد من الشرع حكم في مورده ، وإلاّ فلا يقام له وزن ، ولأجل الغلوّا الموجود في كلماتهم التي ترتبط بالعقل نجد لهم فتاوى فقهية لاتوافق الكتاب والسنّة ، وقد أعطوا للعقل العاطفي فيها قيمة أكثر ممّا أعطوه للكتاب والسنّة ، فقدّموا حكم العقل الظنّي على الحكم الشرعي القطعي ، وإليك نماذج :

١ ـ قد بلغت السماحة وحب السلام لدى الاباضية أنّ فقهاءهم فضّلوا الصلح بين أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما ، وأنّه لاينبغي لأحد أن يفضّل أيّ فئة منهما على الاُخرى ، حتى لاتحدث فتنة ، وفي ذلك قال أحد شيوخهم من المغاربة : « إنّه إذا وقعت الفتنة بين فئتين من المؤمنين فالأحبّ إليّ أن يصطلحوا ، فإن لم يفعلوا فالأحبّ إليّ أن لاتغلب فئة فئة ، فإنّ من أحبّ أن تغلب أحدهما الاُخرى فقد دخل في الفتنة ولزمه ما لزمه أهل تلك ، وكان سيفه يقطر دماً ، والسلامة عندي أن يكونا في البراءة سواء ، لايرجّح احدى الطائفتين ، فإنّه متى رجّح اُثم » (٢).

____________

١ ـ لا حظ محاظراتنا في الالهيات بقلم الشيخ حسن مكّي العاملي ١ / ٢٤.

٢ ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : ٦١ ، نقلا عن الدرجيني : طبقات المشايخ بالمغرب ٢ / ٤٩١.

٢٨١

لاشك انّ هذه الفتوى صدرت عن عاطفة القائل وكونه محبّاً للوئام والسلام ، لكنّها عاطفة في غير محلّها وربّما تتم لصالح الظالمين والفئات الباغية ، والذكر الحكيم يصرّح بخلافه وانّه يجب مقاتلة الباغي إن لم يرجع إلى أمر الله ، قال سبحانه : ( وانْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلَى الاُخْرَى فَقاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ اِلَى أَمْرِاللهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ واقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (١).

وعلى ضوء ما ذكره القائل ، فالواجب على المسلمين في الفتنة التي أثارها طلحة والزبير في خلافة علي عليه‌السلام أو الفتنة التي أثارها ابن أبي سفيان بعد حرب الجمل ، أن لاتفضّل أي فئة على الاُخرى حتى لاتحدث فتنة ، وهذا النوع من حبّ الصلح والسلام أشبه بالخضوع لعاطفة عشواء ولو كان في ذلك ركوب الباطل.

٢ ـ اتّفقت الاُمّة الإسلامية على أنّ الزنا بمجرّده لاينشر الحرمة بين الفاعلين إلاّ في موارد خاصّة كما إذا كانت الزانية مزوّجة ، ويسمى في مصطلح الفقه« الزنا بذات الاحصان » وروت عائشة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الحرام ، لا يحرّم الحلال.

ومع ذلك فقد جاءت الاباضية بفتوى شاذّة حسبها أنّها صيانة لكرامة المرأة حتى أنّ بعض المتأخّرين منهم صاغها في قالب اجتماعي حسب أنّه ينطلي على أصحاب الفقه ، قال:

« لقد كانت بيئة الحياة في الاُمّة المسلمة لا تبيح للمرأة أن تخلى برجل أجنبي ولا تبيح لرجل أن يختلي بامرأة اجنبية عنه ، وذلك خوفاً من الفتنة ، لأنّ الدوافع الجنسية قد تتغلّب على النفس عند الرجل أو عند المرأة وهما مختليان ،

__________________

١ ـ الحجرات : ٩.

٢٨٢

فيصلان إلى المحذور ، ويقع السوء الذي منه يحذران. ولقد درس الاباضية هذه المشكلة منذ خير القرون وانتهوا فيها إلى رأيهم الذي ينفردون به فيما أعرف ، فحرّموا الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم ، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الذي يحارب الفاحشة.

روت اُمّ المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن رسول الله أنّه قال : « أيّما رجل زنا بامرأة ثم تزوّجها فهما زانيان إلى يوم القيامة » (١).

يلاحظ عليه أوّلا : انّ الخضوع للعاطفة والتمسّك بهذه الذرائع إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة دليل من الشرع وإلاّ فيضرب بها عرض الجدار ، وإن نبع عن مبدأ عقلي!!! أو عاطفي ، فإذا كان الكتاب والسنّة واجماع الاُمّة حاكماً بجواز التزويج فلايسوغ لنا التمسّك بهذه الوجوه ، ويكفي في ذلك اطلاق قوله سبحانه : ( واحِلَّ لَكُمْ ماوَرآءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتْغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِين ) (٢) ، نعم عن بعض الفقهاء اشتراط الجواز بالتوبة ، وعلى كلّ تقدير فليس في الاُمّة من يحرّم إلاّ الحسن البصري ، وقوله شاذّ مخالف للكتاب واتّفاق الاُمّة.

قال الشيخ الطوسي : إذا زنى بامراة جاز له نكاحها فيما بعد ، وبه قال عامّة أهل العلم ، وقال الحسن البصري : لايجوز ، وقال قتادة ومحمّد (وفي نسخة أحمد) : إن تابا جاز وإلاّ لم يجز ، وروي ذلك في أخبارنا (٣).

وقال ابن قدامة : « وإذا زنت المرأة لم يحل لمن يعلم ذلك نكاحها إلاّ بشرطين :

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى ١١١ ـ ١١٢ ـ

٢ ـ النساء : ٢٤.

٣ ـ الشيخ الطوسي : الخلاف ج ٢ ، كتاب النكاح ، المسألة ٧١ ص ٣٧٨.

٢٨٣

١ ـ انقضاء العدّة.

٢ ـ التوبة : وإذا وجد الشرطان حلّ نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر أهل العلم ، منهم : أبوبكر وعمر وابنه وابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة والزهري والثوري والشافعي وابن المنذر واصحاب الرأي ، وروي عن ابن مسعود والبّراء بن عازب وعائشة : انّها لاتحلّ للزاني بحال ، ويحتمل انّهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة أو قبل استبرائها فيكون كقولنا ، فأمّا تحريمها على الاطلاق فلايصحّ لقول الله تعالى : ( واحِلَّ لَكُمْ ماوَراءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِاَمْوالِكُمْ ... ) ، لأنّها محلّلة لغير الزاني فحلّت له كغيرها (١).

ثانياً : إنّ صيانة كرامة المرأة إنّما هو في تجويز الزواج لافي التحريم لأنّ الزواج ـ بعد الإثم ـ يغطّي الفاحشة التي صدرت منهما عن جهالة ، ويصير الفاعلان في المجتمع الإسلامي كزوجين شرعيّين يتعامل الناس معهما معاملة صحيحة وواقعية ، وأمّا إذا أفتينا بحرمة الزواج ، فالمرأة المخدوعة المحكومة بحكم العاطفة ربّما تلتحق بالغانيات إذا انتشر أمرها وظهر سرّها ، ورغب عنها كلّ شابّ غيور.

٣ ـ « قد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الاستجداء والمسألة ، واعتمد الاباضية تلك الأحاديث الشريفة فمنعوا المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال ، فإذا هانت عليه كرامته ، وذهب يسأل الناس الزكاة ، حرم منها عقاباً له على هذا الهوان ، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس ، والاعتماد على الكفاح » (٢).

لاشك انّ السؤال والاستجداء حرام شرعاً ومكروه في بعض الموارد ،

__________________

١ ـ عبد الله بن قدامة : المغني ٧ / ٦٤ ـ ٦٥.

٢ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى ١١٦.

٢٨٤

غير أنّ الافتاء بتحريم الزكاة بحجّة صيانة ماء وجه السائل فتوى على خلاف الكتاب والسنّة ، ولو كان ذلك موجباً للتحريم لصدر فيه نصّ عن رسول الله لكثرة الابتلاءبها.

أضف إلى ذلك انّه سبحانه يأمر باعطاء السائل وعدم نهره ، يقول سبحانه : ( والَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ والَمحْرُومِ ) (١).

وقال سبحانه : ( وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) (٢).

وقال سبحانه : ( واتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامى وَالمَسَاكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفي الرِّقابِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ ) (٣) ، والآية مطلقة تعم مورد الزكاة وغيره لولم نقل بورودها فيها.

__________________

١ ـ المعارج : ٢٤ ـ ٢٥.

٢ ـ الضحى : ١٠.

٣ ـ البقرة : ١٧٧.

٢٨٥
٢٨٦

خاتمة المطاف

قد تعرّفت في ماسبق على عقائد الاباضية وخصائصهم وقد اخترنا منها أموراً ثمانية بقي هنا أمرٌ يطيب لنا أن نلفت نظر القارىء إليه :

أ ـ إنّ الاباضية لتجويزهم التقيّة جعلوا مسالك الدين أربعة تنتهي في المرحلة الرابعة إلى الكتمان المساوق للتقيّة ، فقالوا : مسالك الدين أربعة :

١ ـ الظهور

٢ ـ الدفاع

٣ ـ الشراء

٤ ـ الكتمان.

إنّ للاباضية لجنة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي تسمّى بـ « العزّابة » ولأجل ايقاف القارىء على خصوصيّات وصلاحيّات هذه اللجنة وشؤونها نأتي بنصّ كتابهم ، فإليك البيان :

مسالك الدين عند الباضية :

إنّ المجتمع الإسلامي إمّا أن يكون ظاهراً على أعدائه ، حرّاً في أراضيه ، مستقّلا بأحكامه ، عاملا بكتاب الله وسنّة رسوله ، منفّذاً لأحكام الدين ، لايخضع

٢٨٧

لأجنبيّ بوجه من الوجوه ، ولايستبدّ به حاكم ، ولا يطغى عليه ذو سلطان ، فهذه الحالة هي حالة الظهور ، وهي أكمل الحالات للمجتمع المسلم ، وعليها يجب أن تكون الاُمّة ، لأنّها المنزلة التي ارتضاها الله للمؤمنين ( وللَّهِ العِزَّة ولرَسولِهِ وللمؤمِنينَ ). فإذا انحدر المسلمون عن هذا المقام ، وتضاءلوا عن هذا الشرف ، ونزلوا عن هذه المرتبة التي رفعهم إليها الإيمان بالله ، والثقة فيه ، فيجب أن لايهادنوا الظلم ، وأن لايستكينوا للطغيان ، وأن لايسمحوا للأيدي العابثة ، أن تعبث بمقدّرات الاُمّة ، فتنتهك حرماتهم ، وتحول دون اُمور دينهم ، وتتحكّم في أعمالهم وعباداتهم ، وتتصرّف في أموالهم بغير التشريع الذي وضعه عالم الغيب والشهادة ، والهدى الذي تركه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبناء الإسلام.

إذا انحدرت الاُمّة إلى هذه الوهدة ، فيسيطر عليها عدوّ أجنبي ، أو تخلّى ـ من أولته الاُمّة ثقتها ، وأسلمته مقاليدها ، ووضعت بين يديه رعايتها ـ عن الأمانة ، وحاد بها عن الطريق ، وخان الله ورسوله والمسلمين فيما وضع بين يديه ، وجب حينئذ أن يقف المسلمون في طريق تلك الدولة الباغية ، يأمرونها بالمعروف ، وينهونها عن المنكر ، ويلزمونها أن تسلك بهم طريق الصواب ، فإذا اعتزّت بالإثم ، واستمرأن طعم الظلم ، واستكبرت أن تخضع لأمرالله ، وأن ترجع إلى سبيل الله ، فحينئذ يأتي القسم الثاني من التنظيم الإسلامي وهو الدفاع ، والدفاع في مسالك الدين يرادف ما يعبّر عنه في العصر الحاضر بالثورة ... الثورة على الاستعمار الأجنبي ، أو الثورة على الاستعمار الداخلي : كالثورة على الظلم ، والثورة على الاقطاع ، والثورة على الفساد ، والثورة على الانحراف عن دين الله في كلّ مظاهره وأشكاله. والزعيم الذي يقود هذه الثورة يسمّى « إمام الدفاع » وله على الاُمّة الثائرة حق الطاعة والامتثال ، مادامت

٢٨٨

الثورة قائمة ، فاذا استقرّت الاُمور ، ورجعت إلى الهدوء والاستقرار ، أصبح واحداً من أفراد الاُمّة ، له حقوقهم ، وعليه واجباتهم ، ورجوع الاُمور إلى نصابها يكون بأحد أمرين : إمّا نجاح الثورة ، وإمّا فشلها ، ونجاحها يكون بأحد أمرين : إمّا استجابة الدولة لمطالب الاُمّة ، ورجوعها إلى أحكام الله ، وفي هذه الحالة ينتهي عمل الثورة إلى هذا الحد. وإمّا الإطاحة بالنظام الفاسد ، وقلب الحكم الظالم ، وتغييره إلى نظام إسلامي ، يتمشّى مع التشريع الذي جاء به كتاب الله الكريم ، وعندئذ أيضاً لايكون لزعيم الثورة أو أمير الدفاع ، أيّ حق في الحكم ، إلاّ إذا اختارته الاُمّة ، لشروط توفّرت فيه بعد الهدوء والاجتماع والتفكير والمفاضلة ، حسب الشروط المتبعة في اختيار أمير للمؤمنين.

فإذا ضعف المسلمون حتى عن هذا الموقف ، وأصبحوا لايستجيبون لداعي الثورة ، ويفضّلون طريق السلامة ، ويركنون إلى الدعة والاستراحة ، جاء المسلك الثالث من مسالك الدين ، وهو الشراء : فحق لقلّة منهم إذا بلغوا أربعين شخصاً أن يعلنوا الثورة على الفساد ، وبما أنّ هذه الثورة التي يقوم بها عدد قليل ، لايتوقّع لها النجاح في كفاحها ضدّ دولة ظالمة مسلّحة ، واُمّة مسالمة راضية بالذل ، فإن هذا التنظيم يشبه أن يكون شغباً على دولة ظالمة حتى لاتطمئنّ إلى تنفيذ خططها الجائرة ، وقد لاتكون لها نتائج غير هذا القلق الذي يخيّم على الظالمين ، والتوجّس والخوف الذي يسود أعمالهم وحركاتهم ، ولذلك فقد اشترط لهذا التنظيم ، شروط قاسية لايقبلها إلاّ الفدائيّون ، الذين وهبوا حياتهم لحياة الاُمّة ، وذلك أنّه لايحلّ لهم بعد أن ينخرطوا في هذه المؤسّسة ، أن يعودوا إلى بلادهم ، أو يستقرّوا في أمكنتهم ، أو يتخلّوا عن رسالتهم ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى النجاح أو القتل ، والقتل أقرب الأمرين إليهم ، وعندما تضطرّ الظروف أحدهم إلى منزله لشأن من شؤون تمديد الثورة ،

٢٨٩

كالتزوّد ، فإنّه يعتبر في منزله غريباً مسافراً يقصر الصلاة. ولكنّه عندما يكون في شعف الجبال ، أو بطون الأدوية ، يقطع المواصلات على الطغاة ، أو يهدم الجسور التي تمرّبها القطر الظالمة ، أو يقتلع اُسس القلاع التي تجمع ذخيرة الجبابرة ، حينئذ يعتبر في منزله وبين أهله ، وهم في كلّ ذلك لايحلّ لهم أن يروّعوا الآمنين ، أو أن يسيئوا إلى المسالمين. إنّه تنظيم رائع للفدائية في الإسلام عندما يتحكّم الظلم ، ويستعلي عبيد الشيطان ، وتعطّل أحكام الله بأحكام الإنسان ، يقول أبو إسحاق : « الشراء من أخص أوصاف الاباضية ».

فإذا رضيت الاُمّة بالذل ، واستسلمت للظلم ، وجرى عليها حكم الطغاة ، ولم يقم فيها من يثور لكرامة الإسلام المهدرة ، ولالشرف الرسالة التي أعزّت الإنسانية ، وتغلّب حبّ الدعة على كلّ فرد ، وركن الجميع إلى الراحة ، فلم تتكوّن حتى الفدائية التي تقضّ مضاجع الظالمين ، وتذكّرهم أنّ حكمهم لن يقر ، وأنّ كراسيهم لن تستقر ، وأنّ المقاومة لاتزال هي أمل المؤمنين ، وانّهم سوف يحاسبون أمام الله ، والاُمّة حساباً عسيراً.

إذا ضعفت الاُمّة حتى عن هذه المرتبة ، أصبحت تحت التنظيم الأخير ، تنظيم الكتمان. وعندئذ يجب أن يبتعد المؤمنون عن مساعدة الظالمين بتولّي الوظائف الظالمة ، وأن تتولّى شؤونهم جمعيات تبثّ فيهم هداية الله ، وتملأ قلوبهم بالإيمان بالله ، وتنشر فيهم المعرفة والثقافة الاسلامية التي تبصّرهم بدين الله ، فلاتكون علاقتهم بالظالمين إلاّ في أيسر طريق ، وأضيق مجال ، فيما يتعلّق بجباية الأموال المفروضة عليهم للحاكمين ، وهي الجمعيّات ، أو ما يسمّى في التنظيم الاباضي « بحلقة العزّابة » (١).

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى ٩٣ ـ ٩٦.

٢٩٠

العزّابة :

تعريف العزّابة : العزّابة هيئة محدودة العدد ، تمثّل خيرة أهل البلد علماً وصلاحاً ، وهذه الهيئة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي ، الشؤون الدينية ، والشؤون التعليمية ، والشؤون الاجتماعية ، والشؤون السياسية. وهي في زمن الظهور والدفاع تمثّل مجلس الشورى للإمام أو عامله ومن ينوب عنه. أمّا في زمني الشراء أو الكتمان فهي تمثّل الإمام وتقوم بعمله.

تختار هيئة العزّابة من بينها شيخاً يسمّى « شيخ العزّابة » يكون أعلمهم وأكثرهم كفاءة ، ولايشترط فيه أن يكون أكبر هم سنّاً ، والشيخ يرأس الهيئة في جلساتها ، ويمثّلها في جميع أعمالها ، ويتكلّم باسمها ، وينفّذ قراراتها ، ويتولّى الاشراف المباشر على جميع شؤون البلد أو الاُمّة ، ويجب أن تعرض عليه جميع المشاكل والأحداث ، وحكمه بعد قرار الهيئة نافذ في جميع الأحكام.

اشتقاق كلمة العزّابة : اشتقّت هذه الكلمة من العزوب أو العزابة ، وهي تعني العزالة ، والغربة ، والتصوّف والتهجّد ، والانقطاع في رؤوس الجبال ، ويقصد بها في هذا الاستعمال الانقطاع إلى خدمة المصلحة العامة ، والاعراض عن حظوظ النفس ، والبعد عن مشاغل الحياة ، من أهل ومال وولد ، فإنّ العزّابي لايعطي لهؤلاء من جهده ووقته إلاّ القليل ، أمّا أعظم طاقته فيجب أن يصرفها لله في خدمة المسلمين ، دون مقابل يتقاضاه على عمله ، أو أجر يرجوه منهم ، لأنّ أجره وحسابه على الله.

معنى كلمة الحلقة : كلمة الحلقة استعمال ثان يقصد به هيئة العزّابة ، فهي مرادفة لها ، وقد اُخذت هذه الكلمة من التحليق ، وهو الاستدارة ، وذلك انّ العزّابة في اجتماعاتهم الرسمية يجلسون على هيئة حلقة أو دائرة ، وهو أنسب وضع لتبادل الآراء ، ودارسة وجهات النظر المختلفة.

٢٩١

كما أنّ الجلوس على هذا الوضع أفضل حال عند الدراسة ، أو تلاوة القرآن الكريم ، والاّتجاه إلى الله بالدعاء.

مقرّ العزّابة : المقرّ الرسمي للعزّابة يكون في المسجد ، ولذلك فلزام أن يكون في جانب من جوانب المسجد بيت خاص بالعزّابة ، ويستحسن أن يكون بعيداً عن مجالس الناس ، حتى لاتسمع المداولات التي تجري فيه ، وهذا البيت الخاص بهم لايجوز لغيرهم الدخول إليه مطلقاً ، ويتحتّم على الجدد منهم أن يقوموا بتنظيفه ومراقبته وفرشه وملاحظة جميع مايلزمه ، وفيه تحفظ وثائقهم فلايطّلع عليها أحد غيرهم. وجميع المداولات والمناقشات والمباحث التي تجري داخله تعتبر سرّيّة ، لايجوز اخراجها وافشاؤها لأيّ سبب من الأسباب ، ماعدا القرارات التي تّتخذ للتنفيذ فيتولّى الشيخ اعلانها ، وقد ينوب عنه أحد الأعضاء الآخرين ، ولايجوز للعزّابة أن يناقشوا أي موضوع في غيرمقرّهم الرسمي ، وبعد أن ينتهوا إلى قرار في أي موضوع يحق لهم أن ينتقلوا إلى مكان آخر لتنفيذ ذلك القرار ، إذا كان تنفيذه يقتضي منهم الانتقال ، وإذا أصدروا أمراً في شأن من الشؤون الاجتماعية للبلد ، كتحديد المهور ، أو تحديد الأسعار ، أوبدء العمل في المواسم الزراعية ، أو ما شاكل ذلك ، فلم يستجب الجمهور لقرارهم ، اعتصموا في مقرّهم ، ولزموا المسجد دون أن يقوموا بأعمالهم المعتادة ، وامتنعوا من دخول الأسواق والبلد ، حتى يستجيب الناس للحكم ، ويقوموا بتنفيذ الأمر ، ولم تحدث مثل هذه الحالة عند الاباضية في ليبيا ، إلاّ عدداً قليلا من المرّات ، استجاب فيها الناس لأمر العزّابة بأسرع مايمكن ، بل لقد كان الناس يسارعون حين يسمعون بمثل هذا الموقف من العزّابة ، فيقنعون بعضهم ، ويبلّغون موافقتهم إلى المجلس قبل حضور وقت الصلاة الثانية ، فتسيرالاُمور في معتادها.

٢٩٢

عدد أعضاء الحلقة : يتراوح عدد أعضاء الحلقة بين عشرة أعضاء وستة عشر عضواً ، يوزّع عليهم العمل كما يأتي :

١ ـ شيخ العزّابة : ويكون أعلم القوم ، وأقواهم شخصية ، وأقدرهم على حلّ المشاكل.

٢ ـ المستشارون : ويكون عددهم أربعة لايزيدون ولاينقصون ، ويلزمون الشيخ ، ولايقطع أمراً دون موافقتهم.

٣ ـ الإمام : شخص واحد ، يقوم بصلاة الجماعة ، ويجوز أن يكون أحد الأربعة المستشارين.

٤ ـ المؤذّن : وهو شخص واحد مسؤول عن تحرّي أوقات الصلاة ، والقيام بمهمّة الأذان ، ويصحّ أن يكون أحد الأربعة المستشارين.

٥ ـ وكلاء الأوقاف : يخصّص عضوان للاشراف على الأوقاف ، وعلى ميزانيّة الحلقة ، وضبط الواردات والصادرات ، وطريقة اصلاح وتنمية الأوقاف ، ويشترط في هذين العضوين بالاضافة إلى الشروط العامّة لأعضاء الحلقة ، أن لايكونا من الأغنياء المكثرين ، ولامن الفقراء المعوزين ، ولكن من متوسّطي الحال المستورين.

٦ ـ المعلّمون : يخصّص ثلاثة أعضاء أو أكثر أو أقلّ حسب الحاجة ، للاشراف على التربية والتعليم ، وتنظيم الدراسة ، ومراقبة التلاميذ في المحاضر ، وهي دور التعليم ، أو في الأقسام الداخلية ، وما إلى ذلك من شؤون التعليم.

٧ ـ حقوق الموتى : يخصّص أربعة أعضاء أو خمسة للاشراف على حقوق الموتى ، فيتولّون الاشراف على غسلهم ، وتجهيزهم ، والصّلاة عليهم ، ودفنهم ومراقبة تنفيذ وصاياهم ، وتقسيم تركاتهم حسب الفرائض في أحكام

٢٩٣

الإسلام.

وإذا توفّي شخص وهو في براءة المسلمين بأن مات على معصية ، فإنّ هؤلاء العزّابة لايقومون بحقوقه ، لأنّ العاصي لاحقّ له على المؤمنين ، ولكنّهم يسمحون لمن شاء من غير أعضاء الحلقة أن يقوم بتلك الحقوق ، ذلك أنّ القيام باُمور الميّت فرض على الكفاية ، إذا قام به البعض أجزى عن الباقين.

شروط العضوية : يشترط في أعضاء العزّابة عدّة شروط ، منها :

١ ـ أن يكون حافظاً لكتاب الله.

٢ ـ أن يمرّ بمراحل الدراسة مرحلة مرحلة ، ويستوفي الدراسة فيها.

٣ ـ أن يكون محافظاً على الزّي الرسمي للطلبة عندما كان في الدراسة ، وللزّي الرسمي للعزّابة عندما يدخل الحلقة.

٤ ـ أن يكون أديباً كيّساً فطناً ، ذا لباقة ومهارة في تصريف الاُمور.

٥ ـ أن يكون محبّاً للدراسة راغباً فيها ، مواصلا للتعلّم والتعليم.

٦ ـ أن لاتكون له مشاغل دنيوية كثيرة تحمله على كثرة التردّد على الأسواق ، والاختلاط بالعامّة والسَوَقة ، اختلاطاً يزري بمقامه ، ويذهب بهيبته.

٧ ـ أن يغسل جسده بماء ويغسل قلبه بماء وسدر ، وهذه عبارة اصطلاحية ، يقصد منها أن يكون الإنسان نظيف اليد ، والبطن ، والعين من أموال الناس ، وأن يكون نظيف القلب من جميع أمراض القلوب ، أي أن يكون طاهر الباطن والظاهر.

وقد شرح أبو عمار عبد الكافي هذه العبارة ، بقوله : « أمّا الجسد فيغسله من الدنس في الناس ، وأمّا القلب فيغسله من الغش والتكّبر وما أشبه ذلك ممّا يوجب حبط العمل » والعبارة كماترى في غاية الدقّة ، وهي تحتمل أكثر ممّا أشرت إليه وأشار إليه العلاّمة أبو عمار فتأمّلها ، فكلّما تأمّلتها وجدت فيها

٢٩٤

معنى جديداً ....

ولقد شدّد المشايخ في تنظيف المؤمن لقلبه ، لأنّ أدران القلوب أشدّ قذارة من أدران الأبدان ، ولذلك أوجبوا عليه أن يغسل جسده بالماء ، وأن يغسل قلبه بماء وسدر ، وهي كناية تفيد الحرص الشديد على نظافة الباطن أكثر من نظافة الظاهر ، فإنّ من طهرت سريرته حسنت سيرته ، واستقامت اُموره ، وكثرت محاسبته لنفسه ، ورعايته لسلوكه ، وفي ذلك النجاح.

واجبات الحلقة : على هيئة العزّابة واجبات أكيدة هي مسؤولة عنها باعتبارها هيئة ، وتتلخّص هذه الواجبات فيما يلي :

١ ـ الاشراف على التعليم وتهيئة الوسائل لذلك ، وتيسير السبل أمام جميع الأطفال لينالوا قسطاً من الدراسة ، ويتعلّموا جزءاً من القرآن الكريم وما يعرفون به اُمور دينهم ، وهذا أقل ما يمكن أن يتاح للطفل ، فإذا كانت اُسرة الطفل فقيرة بحيث لاتستغني عن مجهوده الضعيف ، أو ليس لها ما تموّنه به أوقات الدراسة ، وجب أن تقدّم له مساعدة ، وذلك بالانفاق عليه.

٢ ـ مراعاة الحالة الاجتماعية للناس ، وتيسير سبل الحياة للفقير والضعيف وايجاد العمل للجميع ، وذلك بمطالبة الأغنياء وأصحاب اليسار أن يستعينوا بالفقراء في انجاز أعمالهم مقابل اُجور ، كثيراً ما يعيّنها أعضاء العزّابة.

٣ ـ حلّ المشاكل التي تنجم بين الناس ، والفصل في قضاياهم ، والحكم بينهم في خصوماتهم وايصال الحقوق إلى أصحابها.

٤ ـ الاشراف على أوقاف المساجد ، وعلى ميزانية الحلقة أو ضبط الصادر والوارد ، وانفاق جميع ذلك في وجوهه ، والعمل على تنمية الأوقاف الثابتة ، واصلاحها ، واستغلالها أحسن استغلال.

٥ ـ حفظ الأسواق ومراقبتها من أن تقع فيها معاملات لايبيحها الشرع ، أو

٢٩٥

أن ترد إليها أموال مسترابة أو مشبوهة.

٦ ـ تنظيم الحراسة البلدية على أموال الناس من زراعة وماشية حتى لاتصل إليها أيدي الغارة والسرقة والاضرار.

٧ ـ الحكم على العصاة والمجرمين وتأديبهم ، واعلان البراءة منهم ، وقطع التعامل معهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله.

٨ ـ القيام بالعلاقات الخارجية وتنظيمها ، سواء كانت علاقات حرب أو سلام.

هذه بعض المهام التي تناط بمجلس العزّابة باعتباره هيئة مسؤولة عن المجتمع أمام الله وأمام الناس ، وعلى الهيئة أن توزّع الأعمال على الأعضاء حسب الكفاءة والمقدرة ، والذي يقوم بذلك إنّما هو الشيخ بعد اتّفاق الحلقة.

أين تنشأ حلق العزّابة : تنشأ حلق العزّابة في كل بلد أو قرية ، وحلقة العزّابة هم الذين يشرفون على اُمور البلد أو القرية الخاصّة ، فإذا كان هنالك أمر هام ، أو حدث أكبر من مستوى القرية أو البلد رفع إلى المجلس الأعلى للعزّابة الذي يرأسه الشيخ الأكبر ، أو حاكم الجبل حسبما كان في جبل نفوسة ، وذلك كمسائل ايقاع الحدود ، وما يتعلّق بالأمن العام ، وما إلى ذلك من المشاكل التي تكون أكبر من المستوى المحلّي للقرية ، والهيئة الكبرى للعزّابة أو الهيئة العامة لهم هي الهيئة التي يرأسها الشيخ الأكبر ، ولابدّ أن يكون شيخاً للعزّابة في بلده ويقوم مقام الإمام في أزمنة الكتمان ، أمّا أعضاء العزّابة الذين يكونون معه فهم المستشارون ، ويكونون من شيوخ حلق العزّابة في بلدانهم. ومقرّهم هو مركز البلاد وعاصمتها ، ولهم مع الشيخ اجتماعات دورية ، مرة في كلّ ثلاثة أشهر ، ومتى دعت الحاجة. وأحكام هذا المجلس نافذة على جميع البلاد ، وكل الحلق خاضع مادّياً وأدبيّاً لهذا المجلس ، ويعتبر السلطة الحقيقية للمجتمع

٢٩٦

الاباضي ، أمّا بقية الحلق فهي مساعدة له ، منفّذة لأعماله ، ويجب على الشيخ الأكبر للعزّابة ان يكون مقر حكمه في مركز البلاد ، فإذا اختار السكن في غير ذلك المكان فعليه أن يباشر الأحكام في مركز الحكم لا في محل السكن كما كان يفعل أبو هارون موسى بن هارون ، وأبو عبدالله بن جلداسن اللالوتي ، وأبو يحيى الارّجاني ، وغيرهم.

إنّ شيخ العزّابة في المجتمع الاباضي يمثّل سلطة الإمام العادل ، ويقوم بجميع مهامه في النطاق الذي تسمح به ظروف الحياة في زمن كل واحد منهم. وهو مقيّد بمجلس الشورى الذي لايحق له أن يصدر رأياً قبل موافقته ، اللّهمّ إلاّ في الأحكام الثابتة في الدين الإسلامي ، وله أن يستعين بشخص يقوم له مقام المفتي ، والقصد من هذا المفتي هو تحرير نصوص الحكم المستمدّة من الشرع الشريف ، أو المساعدة على ترجيح الأقوال في المسائل الخلافية التي تتعدّد فيها وجهات أنظار الفقهاء. وليس المقصود من وجود المفتي أن يبصر الشيخ باحكام لا يعرفها ، لأنّ شيخ العزّابة يشترط فيه أن يكون من أعلم المشايخ ، إذا لم يكن أعلمهم.

وفي الاجتماعات الدورية التي تعقد في ثلاثة أشهر ، أو في ستّة أشهر ، يحضر ممثّلون عن جميع حلق العزّابة ، ويستعرضون ما لديهم من مشاكل ، ويدرسون معاً وضع المجتمع ، ويتّخذون في ذلك القرارات اللازمة ، يرسمون خطط السير في المستقبل ، على أنّه يحق لكل حلقة أن تتّصل بالمجلس الأعلى وتدعوه للانعقاد إذا كانت هنالك أسباب تدعو إلى ذلك ، كما أنّ لها الحق أن تعرض مشاكلها الخاصة على الشيخ الأكبر ، وتقتبس منه الرأي والنصيحة.

ويمثّل كلّ حلقة من حلق العزّابة شيخها وبعض مستشاريه ، إلاّ في أحوال الضرورة التي يتعذّر فيها عليه أن يقوم بهذه المهمّة.

٢٩٧

اختيار أعضاء الحلقة : يراعى في اختيار العزّابة بالاضافة إلى الشروط التي يجب أن تتوفّر في كل شخص أن يكونوا ممثّلين للقبائل أو الجهات التي يشتمل عليها البلد ، ولايشترط تساوي العدد ، كما أنّه إذا لم يوجد في قبيلة ما ، من تتوفّر فيه الشروط الشخصية اُخذ من غيرها ، وعندما يحتاج العزّابة إلى اضافة عضو جديد إلى الحلقة يأخذونه عن أحد طريقين :

إمّا أن يطلبوا من القبيلة التي يراد أخذ العضو منها أن ترشّح عدداً ممّن تتوفّر فيهم شروط العضوية والكفاءات المطلوبة مع الشهرة بالصلاح ، والتقوى ، والعفاف ، والنزاهة ، وحب الخير ، والايثار ، والتضحية ، والعمل للصالح العام ، فتختار الهيئة واحداً منهم ، وإمّا أن يطلبوا إلى منظمة « إيرْوان » أن يقدّموا إليهم واحداً ممّن يملأ ذلك الفراغ.

حين يتعيّن العضو لأن يشغل مركزاً في العزّابة ، يدعى إلى مقرّهم الرسمي ويتولّى الشيخ تعريفه بالسيرة التي يجب عليه أن يسيرها ، وبالأدب الذي يلتزمه ، ويؤكّد عليه أن يعرف انّ من أوكد الواجبات عليه أن يحافظ على آداب الإسلام ، ويتخلّق بأخلاقه الحميدة ، من الاستقامة والنزاهة ، والعفّة ، والانقطاع إلى خدمة الاُمّة ، والتزام المسجد ، والاعراض عن حظوظ الدنيا إلاّ بمقدار الضرورة ، والاجتهاد في العبادة ، والتواضع للمؤمنين ، والغلظة على العصاة والمجرمين ، وأن يكون قدوة حسنة للناس في قوله وفي عمله ، وأن يتحرّى في رزقه التحرّي الكامل ، ويختار له أن يكون مجال احترافه الزراعة ، لأنّ التجارة تسبّب له احتكاكاً مباشراً بالناس ، فيغلب أن لايسلم منها بالحق أو بالباطل ، وهم يلخّصون هذا الموقف في عبارة مشهورة متداولة هي :

« أن لايكون في مسجده ، أو حقله أو بيته » وبعد أن يعرّف بجميع ما يترتّب عليه من حقوق وواجبات ، وما يلقى عليه من مهام ومسؤوليات ، يطلب

٢٩٨

إليه أن يعلن عن قبوله أو رفضه ، فإذا أعلن قبوله ـ وهذا ما يحدث فعلا ـ اُسندت إليه المهامّ العملية ، كأن يقوم بالتدريس أو وكالة المسجد ، أو الاشتراك في الاشراف على حقوق الموتى ، ثمّ اعلم انّه يعتبر أصغر العزّابة ، ولو كان أكبر من بعضهم سنّاً ، وعليه أن يتولّى خدمتهم ، ويطلب إلى سلفه ـ أي العزّابي الذي كان أصغرهم قبل هذا العضو الجديدـ أن يبقى معه ثلاثة أيّام ، يدرّبه فيها على آداب خدمة العزّابة ، لأنّه يعتبر رئيسه المباشر ، وعندما يجلس العزّابة يتحتّم أن يكون مجلسه بعده ... وترتيب مجالس العزّابة ضروري ، فلايجوز للمتأخّر أن يسبق المتقدّم ، والعزّابي يعتبر رئيساً في أي مكان يوجد فيه ، وله وحده حق افتتاح الكلام في المجالس العامّة ، وكذلك اختتامه ، وادارة المناقشات ، وما إلى ذلك ، فلايجوز لتلميذ أو عامي أن يتولّى شيئاً من ذلك إلاّ بإذنه.

عقوبة العزّابي :

المطلوب من العزّابي أن يكون قدوة ومثلا للاستقامة ، ولذلك فإنّ ما يعتبر من غير أخطاء صغيرة يعتبر منه أخطاء كبيرة يجب عليه الاحتراس منها ، والابتعاد عنها ، وهذا حتى في مكارم الأخلاق ، ومعاملة الناس ، فإذا قدّر عليه فأخطأ ، نظر مجلس العزّابة في موضوعه:

فإن كان الخطأ كبيراً يتّصل بمعصية الله ، ويسىء إلى سمعة العزّابة ، أو يلحق إهانة بالمسجد أو استخفافاً بالحق ، أو ما أشبه ذلك ، وجب عليهم أن يحكموا عليه بالبراءة على الأشهاد ، كما يقع بالنسبة لغيره من الناس ، ولايرفع عنه حكم البراءة حتى يتوب علناً ، وليس له بعد ذلك حق الرجوع إلى مجلس العزّابة أبداً ، فإنّ من اُخرج من هذا المجلس بطريق البراءة لايحق له دخوله مرّة

٢٩٩

ثانية ، وإن تاب ونصحت توبته ، ويبقى كسائر المسلمين له حقوقهم وعليه واجباتهم.

أمّا إذا كان الخطأ صغيراً لايقتضي التوبة ، فإنّهم يعقدون له مجلس تأديب سرّي ، وقد يحكمون عليه بالابعاد عن مجلس العزّابة لمدة طويلة أو قصيرة حسب الخطأ الذي ارتكبه ، وستروا عليه ذلك عن الناس.

وبسبب هذا الحكم كان العزّابة من أشد المحافظين على الإسلام وآدابه ، وقد لخّص أحد المشايخ هذه السيرة في عبارة لطيفة فقال : « إنّ متولّي الناس مثل اللبن يغّيره أي شيء يقع عليه ».

كيف تكون نظام العزّابة :

في أواخر القرن الثالث الهجري وقعت حادثتان كبيرتان ، وكان لهما أثر كبير على الاباضية ، في ليبيا وتونس والجزائر :

الاُولى : الحرب الطاحنة بين الأغالبة والاباضية في قصر مانو ، وقد تلقّى فيها الاباضية ضربة عنيفة من يد الطاغية أحمد بن الأغلب.

أمّا الثانية : فهي تغّلب الشيعة على الدولة الرستمية في الجزائر ، وقضائهم على هذه الدولة.

وإذا كانت كلتا الدولتين الأغلبية والشيعية لاتتبعان أحكام الإسلام ، ولاتعملان بها ، فقد فكّر علماء الاباضية في جعل نظام يسيرون عليه ، يحفظون به أحكام الله في مواطنهم ، ويسيّرون به الاُمّة في الوجهة الصالحة ، دون أن يلتجئوا إلى اعلان دولة جديدة ، أو يتعلّقوا بدولة ظالمة مستبدّة.

فاهتدوا إلى وضع هذا النظام ، وقد كان في أوّل الأمر عرفاً يسير عليه الناس ، حتى جاء الإمام الكبير أبو عبدالله محمد بن بكر في أواخر القرن الرابع ،

٣٠٠