بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (١).

( ومنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَاُولئكَ هُمُ الكافِروُنَ ) (٢).

سأل الأقرع بن حابس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحج علينا كل عام يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب لما قدرتم عليه ، ولو لم تفعلوا لكفرتم ، وقال : من ترك الصلاة كفر ، وقال : ليس بين العبد والكفر إلاّ تركه الصلاة ، وقال : ألا لاترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقال : الرشا في الحكم كفر ».

وخلاصة البحث انّ الأباضية عندما يطلقون كلمة الكفر على أحد من أهل التوحيد فهم يقصدون كفر النعمة ، وهو ما يطلق عليه غيرهم كلمة الفسوق والعصيان ، والمعنى الذي يطلق عليه الاباضية كفر النعمة ويطلق عليه المعتزلة (٣) الفسوق ، ويطلق عليه غيرهم النفاق أو العصيان فهو معنى واحد.

والسبب الذي دعا الاباضية إلى اطلاقهم هذه الكلمة على العصاة بدلا من كلمة النفاق أو الفسوق أمران :

أوّلهما : إنّها الكلمة التي أطلقها الكتاب الكريم والسنّة القويمة عليهم في كثير من المواضيع والمناسبات.

ثانيهما : إنّ لكلمة النفاق أثراً خاصّاً في تاريخ الإسلام ، فقد اشتهر بها عدد من الناس في زمن رسول الله ، آمنوا ظاهراً ، ولكن قلوبهم لم تطمئن بالإيمان ، فكان القرآن الكريم ينزل بتقريعهم ، ويفضح بعضهم ، ويتوعّدهم بالعذاب الأليم

____________

١ ـ النمل : ٤٠.

٢ ـ المائدة : ٤٤.

٣ ـ اطلاق الفاسق على مرتكب الكبيرة غير مختصّ بالمعتزلة ، بل الأشاعرة والإمامية في ذلك أيضاً سواء ، بل الفرقتان الاخيرتان أولى بهذا الاصطلاح من المعتزلة ، لأنه عندهما مؤمن ، لا كافر ولا مشرك بخلاف المعتزلة فإنّه عندهم لاكافر ولا مؤمن بل منزلة بين المنزلتين.

٢٦١

في الدنيا والآخرة حتى اشتهروا بهذا الاسم وعرفوا به ، قال الله تعالى :
( المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض يَأْمُرُونَ بالمُنْكَرِ وينْهَوْنْ عَنِ المَعْرُوفِ ويقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (١) حتى صارت هذه الكلمة تشبه أن تكون علماً لهم فإذا اطلقت انصرفت إليهم.

والنقاش في هذا الموضوع نقاش لغويّ والاختلافات لفظي ، والنتيجة انّ من يصرّ على معصية الله يلاقي نفس الجزاء الذي يلاقيه من يكفر بالله ، أمّا معاملة المسلمين لمن يفسق عن أمر الله ، أو ينافق في دين الله ، أو يكفر بنعمة الله ، فإنّها معاملة للعاصي المنتهك الذي تجب محاولة ارشاده إلى وجوب الاستمساك بدينه ورجوعه إلى أوامر ربّه ، واقلاعه عن محادة الله ورسوله ، فإن أصرّ واستكبر وتغلّب عليه الشيطان ، بُرِئ منه (٢).

يلاحظ عليه : أوّلا : انّ المحكّمة الاُولى كانوا لايريدون من الكفر إلاّ الخروج عن الدين ، وكانوا يقولون للإمام أميرالمؤمنين : تب من كفرك ، وكان يجيبهم : أبعد ايماني بالله ، وجهادي مع رسول الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين (٣).

فلمّا أحسّ عبدالله بن اباض أو من قبله بتطرّف هذه الفكرة عاد بتأويله إلى كفر النعمة تحرّزاً عن ردّ فعل للنظرية الاُولى.

ثانياً : لو فرضنا إنّ القرآن الكريم استعمل الكفر في كفر النعمة أو استعمله الحديث في حق تارك الصلاة ، ولكن هذا الاستعمال طفيف جدّاً ، فقد ورد لفظ الكفر ومشتقّاته في القرآن قريباً من ٤٥٠ مرّة واُريد في أغلبها كفر الملّة

__________________

١ ـ التوبة : ٦٧.

٢ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحقلة الاُولى ٨٩ ـ ٩٢.

٣ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٥٨.

٢٦٢

والخروج عن الدين ، ولو استعمل في كفر النعمة فانّما استعمل مورد أو موردين ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ لفظ الكفر والكافر يعطيان مفهوماً خاصّاً يهزّ القلوب ويروّعها ، إذ لايقصد منه إلاّ الخروج عن الدين فاستعمال ذلك في كلّ معصية كبيرة ، يقلّل من شدّة خطره ويُصغّر أمره العظيم. والأثر الخاص الذي ادّعاه لكلمة النفاق ، موجود في كلمة الكفر بوجه أشدّ. فلو عدلوا عن إعماله ، فليعدلوا عن اطلاق كلمة الكفر لأجله والكلمتان مشتركتان في أثر السيّىء.

أوليس الأولى للاباضية أن ينتهجوا نهج جميع المسلمين فيختاروا لفظاً غيره في مورد ركوب الكبيرة؟

وقد تنبّه لما ذكرناه الكاتب الاباضي حيث علّق على ماينسب إلى الاباضية : « المخالفون كفّار نعمة لا كفّار في الاعتقاد » قوله : لا شكّ انّ أيّ مسلم إذا قيل له : « إنّ الاباضية يعتبرونك غير مسلم ، ويرونك كافراً » يتملّكه الغضب ويعتبرهم فرقة ضالّة ظالمة تستحقّ اللعن ، ولن ينتظر منك أن تشرح له الفرق بين معاني الكفر (١).

ولكن اللوم متوجّه عليه وعلى أسلافه لا لأصحاب المقالات فإنّهم استعملوا لفظ الكفر في حق المخالفين غير أنّ المتطرّفين فسّروه بالكفر في الاعتقاد وغيرهم فسّروه بكفر النعمة مستشهدين بأنّه ورد لفظ الكفر في مورد المرتكبين للكبائر ، ونقلوا عن الرسول الأعظم أنّه قال : الرشوة في الحكم كفر ، وقوله من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه فيما يقال فقد كفر بما اُنزل على محمّد (٢).

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية ١ / ١٠٣.

٢ ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : ١٢٣.

٢٦٣

٦ ـ الخروج على الإمام الجائر :

يقول أبو الحسن الأشعري : « والاباضية لاترى اعتراض الناس بالسيف لكنّهم يرون ازالة أئمّة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمّة بأيّ شيء قدروا عليه بالسيف أو بغيره » (١).

وربّما ينسب إليهم أمر غير صحيح ، وهوأنّ « الاباضية لايرون وجوب اقامة الخلافة » (٢).

إنّ وجوب الخروج على الإمام الجائر أصل يدعمه الكتاب والسنّة النبوية وسيرة أئمّة أهل البيت إذا كانت هناك قدرة ومنعة ، وهذا الأصل الذي ذهبت إليه الاباضية بل الخوارج عامّة ، هو الأصل العام في منهجهم ، ولكن نرى أنّ بعض الكتّاب الجدد من الاباضية الذين يريدون ايجاد اللقاء بينهم وبين أهل السنّة يطرحون هذا الأصل بصورة ضئيلة.

يقول علي يحيى معمر : إنّ الاباضية يرون أنّه لابدّ للاُمّة المسلمة من اقامة دولة ونصب حاكم يتولّى تصريف شؤونها ، فإذا ابتليت الاُمّة بأن كان حاكمها ظالماً ، فإنّ الاباضية لايرون وجوب الخروج عليه لاسيّما إذا خيف أن يؤدّي ذلك إلى فتنة وفساد أو أن يترتّب على الخروج ضرر أكبر ممّا هم فيه ، ثم يقول : إذا كانت الدولة القائمة جائرة وكان في امكان الاُمّة المسلمة تغييرها بدولة عادلة دون احداث فتن أكبر تضّر بالمسلمين فإنّهم ينبغي (٣) لهم تغييرها. أمّا إذ كان ذلك لايتسنّى إلاّ بفتن واضرار فإنّ البقاء مع الدولة الجائرة ومناصرتها في حفظ الثغور ومحاربة أعداء الاسلام ، وحفظ

__________________

١ ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين : ١٨٩.

٢ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية : ٢ / ٥٣ ـ ٥٤.

٣ ـ إنّ الرجل لتوخّي المماشاة مع أهل السنّة يعّبر عن مذهبه بلفظ لايوافقه ، بل عليه أن يقول مكان « ينبغي » « يجب ».

٢٦٤

الحقوق ، والقيام بما هو من مصالح المسلمين واعزاز كلمتهم ، أوكد وأوجب (١).

إنّ ما ذكره لاتدعمه سيرة الأباضية في القرون الاُولى ويكفي في ذلك ما ذكره المؤرّخون في حق أبي يحيى عبدالله بن يحيى طالب الحق ، قالوا : إنّه كتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة وإلى غيره من الاباضية بالبصرة يشاورهم بالخروج ، فكتبوا إليه : إن استطعت ألاّ تقيم إلاّ يوماً واحداً فافعل ، فأشخص إليه عبيدةُ بن مسلم أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من الاباضية فقدموا عليه حضرموت ، فحثّوه على الخروج ، وأتوه بكتب أصحابه ، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار الامارة إلى آخر ما سيوافيك بيانه من حروبه مع المروانيين وتسلّطه على مكّة والمدينة.

وأظنّ انّ ما يكتبه علي يحيى معمّر في هذا الكتاب وفي كتاب « الاباضية في موكب التاريخ » دعايات وشعارات لصالح التقارب بين الاباضية وسائر الفرق خصوصاً أهل السنّة ، ولأجل ذلك يريد أن يطرح اُصول الاباضية بصورة خفيفة حتى يتجاوب مع شعور أهل السنّة ، تلك الأكثرية الساحقة ، وأوضح دليل على أنّهم يرون الخروج واجباً مع القدرة والمنعة بلا اكتراث ، إنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ويرون أنفسهم اخلافهم والسائرين على دربهم ، وهم قد خرجوا على عليٍّ بزعم أنّه خرج بالتحكيم عن سواء السبيل.

وأظنّ انّ هذا الأصل أصل لامع في عقيدة الخوارج والاباضية بشرطها وشروطها ، وأنّ التخفيض عن قوّة هذا الأصل دعاية بحتة.

والعجب أنّه يعترف بهذا الأصل في موضع آخر من كتابه ويقول : إنّ الثورة على الضلم والفساد والرشوة ومايتبع ذلك من البلايا والمحن ، إنّما هو المنهج الذي جاء به الإسلام ودعا إليه المسلمين ، ودعا المسلمون إليه ، وقاموا

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية ٢ / ٥٣ ـ ٥٤.

٢٦٥

به في مختلف أدوار التاريخ ، ولم تسكت الألسنة الآمرة بالمعروف ، الناهية عن المنكر ، ولم تكفّ الأيدي الثائرة في أيّ فترة من فترات الحكم المنحرف .... وقد استشهد في هذا السبيل عدد من أفذاذ الرجال ، ويكفي أن أذكر الأمثلة لاُولئك الثائرين على الانحراف والفساد : شهيد كربلاء الإمام الحسين سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعبدالله بن الزبير نجل ذات النطاقين ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن علي بن الحسين ، وكلّ واحد من هؤلاء يمثّل ثورة عارمة من الاُمّة المسلمة على الحكم الظالم ، والخروج عليه ومدافعته حتى الاستشهاد (١).

٧ ـ التولّي والتبرّي والوقوف :

قد اتّخذ الاباضيون « التولّي » و« التبرّي » نحلة ولهما أصل في الكتاب والسنّة وهما ممّا يعتنقه كل مسلم اجمالا ، ولكن التفسير الاباضي لهذين المفهومين يختلف تماماً مع تفسير الجمهور ، وإليك بيانه بنقل نصوصهم من كتبهم :

« أصل الولاية ، الموافقة في الدين ، فكل من وافقك في الدين فهو وليّك ، سواء علمت بموافقته أو جهلتها ، أو برئتَ منه بالظاهر ، لحدث عرفته منه وهو قد تاب ورجع عنه ، فالملائكة عليهم‌السلام أولياؤنا لأنّهم موافقوننا في أصل الامتثال ، وكذلك أهل الطاعة من الاُمم السالفة ، فإنّه وإن اختلفت الأوامر بالنظر لاختلاف الشرائع ، فالدين عندالله الإسلام أي الانقياد لأحكامه مطلقاً.

فاعلم انّ ممّا يدين به المسلمون وهو لازم لهم ، الولاية لأولياء الله والحب لهم ، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم. فولاية من اتّصف بالإيمان فرض

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية ١ / ١٨٣.

٢٦٦

واجب ، ثبت وجوبه بأدّلة قطعية ، وأمّا البراءة فهي مثل الولاية فتجب البراءة من الفاسقين مطلقاً سواء كانوا من المشركين أو كانوا أهل كفر نعمة ، فالبراءة منهم واجب بنصّ الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة.

ثمّ إنّهم ذكروا للولاية والبراءة أقساماً نوردها فيما يلي :

١ ـ أن يرد الكتاب بما يوجب ولاية أحد ، أو البراءة منه ، كالأنبياء المذكورين بأسمائهم في الولاية وكأبليس في البراءة.

٢ ـ ما نطق فيه رسول من رسل الله انّ فلاناً من أهل السعادة ، أو من أهل الشقاء ، بشرط أن يسمع السامع من لسان الرسول ذلك الكلام حين نطقه.

٣ ـ ولاية الجملة وبراءة الجملة ، وصورتها أن يعتقد المكلّف ولاية أهل طاعة الله من الأوّلين والآخرين إنسهم وجنِّهم وملائكتِهم ، وأن يعتقد البراء من جميع أهل معصية الله من الأوّلين والآخرين إنسِهِم وجنِّهم إلى يوم الدين.

وهذا القسم هو الذي يعبّر عنه بعقيدة الإنسان لأنّه لابدّ لكل مكلّف أن يعتقده ديناً.

٤ ـ نعم يجب الوقوف فيمن لم يعلم فيه موجب الولاية ولا البراءة لقوله تعالى : ( ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « المؤمن وقّاف ، والمنافق وثّاب(٢).

قال أبو سعيد الكدمي : واعملوا رحمنا الله وإيّاكم : انّ الولاية والبراءة فريضتان وقد نطق بذلك القرآن وأكّدته السنّة ، ونسخته آثار الأئمّة الذين هم

__________________

١ ـ الاسراء : ٣٦.

٢ ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : ٢٥٨ ـ ٢٦٣ بتلخيص ، وكان عليه أن يذكر قسماً خامساً وهو تولّي شخص معيّن لكونه مطيعاً والتبرّي منه لكونه عاصياً إذا لمسنا شخصيّاً منهما الطاعة أو العصيان ، ولعلّه لم يذكره لكونه مستفاداً من القسم الاوّل.

٢٦٧

حجّة الله في دينه ، فمن ذلك قوله تعالى : ( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذ قالُوا لِقَوْ مِهِمْ إنّا بُرَءَ ؤُاْ مِنْكُمْ وممّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وبدَا بَيْنَنا وبيْنَكُمُ العَداوَةُ وَالبَغْضاءُ أَبَداً حتّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ ) (١).

ويقول أيضاً : لايجوز له أن يتولّى أحداً من علماء أهل الخلاف ولامن أفضلهم ، ولو جهل أمرهم ، ولو ظنّ أنّهم أهل الحقّ وأهل الفضل ، ماجاز أن يتولّى أحداً منهم بدين (٢).

ويقول أيضاً : البراءة حكم من أعظم أحكام الإسلام (٣).

ويقول : واعلموا انّه ممّا يلزم المسلمون ويدينون به : الولاية لأولياء الله والحبّ لهم ، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم ، ومن أحبَّ عبداً في الله فكأنّما أحبّ الله ، وذلك من أشرف أعمال البّر (٤).

وقد حرّر هذه المسألة أحد المعاصرين من علماء الاباضية وقال :

ولاية الجملة وبراءتها فريضتان بالكتاب والسنّة والاجماع على كلّ مكلّف عند بلوغه إن قامت عليه الحجّة ، وأمّا ولاية الأشخاص وبراءتها فواجبتان قياساً عليهما.

إنّ محبّة المؤمن الموفي بدينه ، الحريص على واجباته ، المبتعد عن المحارم ، المتخلِّق بأخلاق الإسلام ، المتّبع لهدى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبت محبّته على المؤمنين ، وأُعلِنَت ولايته بين المسلمين ، وطلبت له المغفرة والرحمة من ربّ العالمين.

فإذا نزغ أحدهم من الشيطان نزغ ، ولم يستعذ بالله من الشيطان ، فأقدم على المعصية ولم يُسارع إلى التوبة ، انفصم هذا الرباط الذي يربطه

__________________

١ ـ أبوسعيد الكدمي : المعتبر ٢ / ١٣٤. والآية من سورة الممتحنة : ٤.

٢ ـ المصدر نفسه ١ / ٩٥.

٣ ـ المصدر نفسه : ١ / ١٣٥.

٤ ـ المصدر نفسه : ١ / ١٣٧.

٢٦٨

بالمؤمنين ، وتهدَّمَتْ هذه الاُخوّة التي قامت على الدين حتى يجدّد ايمانه بربّه ، ويستغفرالله من ذنبه ، ويصل حبال قلبه بفاطر السموات والأرض ، فإذا فعل ذلك ، رجعت منزلته بين اخوانه كما كانت ، وعزَّتْ نفسه بينهم بعد أن هانت ( ولِلِّهِ العِزّةُ ولرَسُولِهِ وللمُؤْمِنِينَ ).

إنّ المسلم الذي يعلن بين الملأ قول « لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله » ، ثمّ يجترئ على أوامر الله فيتخلّى عن واجباته ، أو يقدم على ارتكاب المحظورات ... لايحقّ أن يكرم بالتساوي مع الصادقين ولا يمكن أن تشمله المحّبة في الدين ، بل يجب أن يجد الغلظة من المؤمنين وأن يسمع التقريع والتوبيخ ، وأن يُطْلب الابتعاد عنه ، وأن يُعْلَنَ البراءة منه ، ويُقلَّلَ التعامل معه حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت ، ولايجد ملجأ من الله إلاّ إليه ، فأمّا أن يشرح الله صدره للإسلام ، وأن يفتح قلبه للإيمان وأن يسخّر أعضاءه للعبادة ، وأن يباعد بينه وبين المعصية فيتوب ممّا ارتكب ويعود إلى حظيرة الإسلام بالعمل الصالح ، والجهاد المتواصل ، جهاد النفس والهوى ، فترتبط أواصره حينئذ بأواصر الناس ، ويصبح بعد الهداية والتوفيق أخاً في الله.

وأمّا أن يرتكس إلى الشيطان ، ويصّر على العصيان ، ويبتعد عن محاسبة النفس ، ويستمرّ في الغواية والضلال ، وحينئذ لايمكن لأولياء الله أن يحبّوا عدوّالله ، ولا أن يرضوا عمّن جاهره بالمعصية ، وانّ القلوب المؤمنة لتستحي أن تّتجه إلى المليك الديّان لتطلب منه الرحمة والغفران ، لعبيد الشهوات واغوياء الشيطان.

إنّ العصاة الذين يصرّون على ما فعلوا ويجاهرون الله والناس بما ارتكبوا ، انفصلوا بكبريائهم عن ربّهم ، وابتعدوا عن محّبة إخوانهم ، وحادوا الله ورسوله.

٢٦٩

( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادً اللهَ ورسُولَهُ .... ) (١). ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ ورسُولَهُ أُوْلئِكَ فِى الأذَلِيْنَ ) (٢). ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ ورسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (٣).

إنّ المجتمع الاسلامي أنظف من أن تقع فيه المعصية من مسلم ، ثم يسكتون عنه ، فيدعونه فيهم محبوباً قبل أن يبادر إلى التوبة والاستغفار والتكفير إن كانت المعصية ممّا يتحلّل منه بالتكفير.

إنّ هذه القضيّة من القضايا التي يكاد ينفرد بها الاباضية (٤) عن غيرهم من الفرق الإسلامية فلم يساووا بين مؤمن تقيّ وعاص شقيّ في المعاملة ، وقالوا : يجب على المجتمع المسلم أن يُعْلِنَ كلمة الحق في كلّ فرد من أفراده ، وأن يتولّى تهذيب الناشزين ، وتقويم المنحرفين وتربية المتذرّعين بالوسائل التي شرعها الإسلام للتربية الجماعية من أمر بمعروف ونهي عن منكر ، واعراض عمّن يتولّى عن الله.

وليس من الحق أبداً أن نتغاضى عن اُولئك الذين يرتكبون المعاصي ، ونضعهم في صفّ واحد مع المؤمنين الموفين ، بل يجب أن نزجر العاصي عن معصيته ، وأن نعالِنَه بالعداوة ، مادام منحرفاً عن سبيل الله ، وأن لانساوي في المعاملة بينه وبين الموفي ، وأن لانعطيه من المحبّة وطلب المغفرة ، وحسن التعامل ، مانعطيه للذي يراقب الله في الخفاء والعلانية ، ويرجع إليه في كلّ كبيرة وصغيرة ، ويقف عند حدوده التي رسمها لايتخطّاها ، ( وَلِيَجِدُوا فِيْكُمْ

__________________

١ ـ المجادلة : ٢٢.

٢ ـ المجادلة : ٢٠.

٣ ـ المجادلة : ٥.

٤ ـ ستعرف ضعفه وانّه ممّا أصفقت عليه الاُمّة الإسلامية اجمالا ، نعم انفردت الاباضية بالغلظة والشدّة في المسألة.

٢٧٠

غِلْظَة ) ، والاباضية لايخرجون العصاة من الملّة ولايحكمون عليهم بالشرك ، ولكن يوجبون البراءة منهم وبغضهم واعلان ذلك لهم حتى يقلعوا عن معصيتهم ويتوبوا إلى ربّهم (١).

هذا عصارة ماذكروه في هذه المسألة ، أي الولاية والبراءة والوقوف.

يلاحظ عليه : لاأظنّ أنّ من أحاط بالكتاب والسنّة أو ألمَّ بهما أن ينكر وجوب التولّي والتبرّي فإن المصدرين الأساسيّين مملوءان بالأمر بتولّي الرسول ، والمؤمنين ، والتبرّي من المشركين وأهل الكتاب والعصاة ، وإليك رشحة من ذلك فيكفي فيه قوله سبحانه : ( لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ) (٢) وقوله عزّوجلّ : ( وَالمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْض ) (٣) وقوله عزّوجلّ : ( فَإن لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ فِي الدَّينِ ومواليِكُمْ ) (٤) وقوله عزّوجلّ : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللهَ ورسُولَهُ ولَو كانُواْ آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُم أَوْ إخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورضُوا عَنْهُ أُوْلِئكَ حِزْبُ الله ألا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ ). (٥)

وأمّا السنّة فيكفي في ذلك الأحاديث التالية :

قال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : من ترك انكار المنكر بقبله ولسانه

____________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحقلة الاُولى ٨٣ ـ ٨٧.

٢ ـ آل عمران : ٢٨.

٣ ـ التوبة : ٧١.

٤ ـ الأحزاب : ٥.

٥ ـ المجادلة : ٢٢.

٢٧١

فهو ميّت بين الأحياء (١).

وقال عليه‌السلام : أمَرَنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهَّرة (٢).

وقال عليه‌السلام : أدنى الانكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهّرة.

وعن الإمام جعفرالصادق عليه‌السلام : حسب المؤمن غيرة إذا رأى منكراً أن يَعْلَم الله عزّوجلّ من قلبه انكاراً. (٣)

إنّ الحب والبغض من الظواهر والحالات النفسية ، ولهما آثار على الأعضاء والجوارح في حياة الإنسان ، فلقاء أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة من آثار تلك الظاهرة ، هذا كلّه ممّا لااشكال فيه.

إنّما الكلام في موضع آخر يجب إلفات النظر إليه وهو أنّ التبرّي من عصاة المسلمين ليس شيئاً مطلوباً بالذات ، وإنّما الغاية منه ارجاع العاصي إلى حظيرة الطاعة ، وإلحاقه بأصفياء الاُمّة ، وعلى ذلك فهو من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيدور وجوبه مدار وجود شرائطهما : منها كون التبرّي مؤثّراً في كبح جماح العاصي وتماديه في الغي ، ولأجل ذلك جوّز الإسلام غيبة المتجاهر بالفسق وربّما أوجب الوقيعة في أهل البدع ، واكثارالوقيعة فيهم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أربعة ليس غيبتهم غيبة : الفاسق المعلن بفسقه ، والإمام الكذّاب إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر ، والمتفكّهون بالاُمّهات ، والخارج من الجماعة الطاعن على أمّتي ، الشاهر عليها بسيفه » (٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لاغيبة لثلاث : سلطان جائر ، وفاسق معلن ،

__________________

١و٢و٣ ـ الحرّ العاملي : وسائل الشيعة ١١ / ٤٠٤.

٤ ـ حسين النوري : المستدرك ، الجزء ٩ ، الباب ١٣٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٢.

٢٧٢

وصاحب بدعة » (١).

فعلى ذلك فوجوب التبرّي رهن شروط نشير إليها :

١ ـ أن يحتمل كون التبرّي مؤثّراً في ارجاعه عن المعصية كما عرفت ، وإلاّ فلايجب كما هو الحال في جميع مراتب الأمر بالمعروف.

٢ ـ إن لايكون اظهار التبرّي موجباً لتماديه في الغي ، وانكبابه على الإثم ، فإنّ إيجاب التبرّي في ذلك ينتج نقيض المطلوب.

٣ ـ يكفي في التبرّي ، الاعراب عمّا في ضمير المتبرّي من كونه كارهاً لعمله ، بلا حاجة إلى اعمال الغلظة والشدّة كما في كلام القائل.

ثمّ الآيات والروايات الدالّة على التبرّي واردة في حقّ الكفّار والعصاة المتمادين في الغي ، لامن عصى مرّة واحدة ويبدو أنّه سوف يرجع ويستغفر.

وأمّا ما ذكره القائل في كيفية التبرّي فليس عليه دليل بل الدليل على خلافه ، لأنّ المعاملة مع العصاة على النحو الذي ذكره القائل لم يكن رائجاً في عصر الرسول ، إلاّ في حقّ العتاة المتمادين في الغي ، أو المتخلّفين عن الزحف ، وقد ورد في حقّهم قوله سبحانه : ( وعلَى الثَّلاثّةِ الَّذِينَ خُلَّفُوا حَتّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وظنُّوا أَنْ لامَلْجَأ مِنَ اللهِ إلاّ اِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا اِنَّ اللهِ هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ )(٢). ترى أنّ الغلظة والشدّة كانت في حقّ هؤلاء الثلاثة الذين تخلّفوا عن الجهاد في الوقت الذي كان الرسول في أشدّ حاجة إلى المجاهد الصادق ، فنزل الوحي بالضغط وايجاد الضيق عليهم حتى يصلوا إلى مرتبة تضيق عليهم أرض المدينة بما رحبت.

وأمّا المعاملة لكلّ عاص ولو مرّة واحدة بهذا النحو والضغط عليه حتى

__________________

١ ـ حسين النوري : المستدرك ، الجزء ٩ ، الباب ١٣٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١.

٢ ـ التوبة : ١١٨.

٢٧٣

تضيق عليه الأرض ، فهو بعيد عن سماحة الإسلام ، كيف وقد قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش الذين يستغفرون للذين تابوا واتّبعوا سبيله : ( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شىْء رَحْمَةً ) (١) وقال سبحانه : ( ولا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ اِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ اِلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ ) (٢) وقال سبحانه : ( قالَ ومنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ اِلاّ الضّالُّونَ ) (٣) وقال سبحانه : ( قُلْ يا عِبادِىَ الَّذِينَ اَسْرَفُوا عَلى اَنْفُسِهِمْ لا تَقنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعاً اِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيِمُ ) (٤).

فأين هذه الوعود ودعوة العصاة إلى حظيرة الغفران والنهي عن اليأس من روح الله ممّا جاء في كلام هذا القائل؟ فالاباضية وإن كانوا غير متطرّفين في مسلكهم لكن في التبرّي عن العاصي في جميع الأحوال والظروف على النحو الذي سمعت نوع تطرّف كما لايخفى.

على أنّ هذا النحو من التبرّي الوارد في كلام القائل يناسب العيشة القبلية ، والاجتماعات الصغيرة ، ولايتمشّى أبداً مع الاجتماعات الكبيرة التي تضم الفسّاق ، إلى العدول في جميع الأندية والمجالس كما لايخفى.

اكمال :

ثمّ إنّه لو ثبت كون رجل عدوّاً من أعداء الله لارتكابه الكبائر أو لإرتداده عن الدين ، فليس لآحاد الاُمّة القيام بإجراء الحدّ عليه ، وإنّما واجب الآحاد هو التبرّي منه ، ومن فعله ، روحاً وجسداً ، وأمّا إجراء الحدّ عليه فإنّما هو على

__________________

١ ـ غافر : ٧.

٢ ـ يوسف : ٨٧.

٣ ـ الحجر : ٥٦.

٤ ـ الزمر : ٥٣.

٢٧٤

القويّ المطاع في الاُمّة وهو الحاكم الإسلامي ، ولأجل ذلك ينقسم الأمر بالمعروف الى قسمين : قسم يُعَدُّ واجباً فردّياً ، يقوم به آحاد الاُمّة ، وقسم يعدّ رسالة اجتماعية تقوم به القوّة التنفيذية في الدولة الاسلامية ، وهنا كلمة قيّمة للإمام الصادق عليه‌السلام نذكرها :

سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الاُمّة جميعاً؟ فقال : لا. فقيل له : ولم؟ قال : إنّما هو على القويّ المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لاعلى الضعيف الذي لايهتدي سبيلا إلى أيٍّ ، مِنْ أيّ؟ يقول من الحق إلى الباطل ، والدليل على ذلك من كتاب الله عزّوجلّ قوله : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ اُمَّة يَدْعُونَ اِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاصّ غير عام. (١)

٨ ـ آراء الاباضية في الصحابة :

قد طرحنا مسألة عدالة الصحابة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد أهل الحديث ، والمعروف بين كتّاب الفرق انّ الاباضية يحبّون الشيخين ويبغضون الصهرين ، غير أنّ كتّاب الاباضية في هذا العصر ينكرون هذه النسبة ويقولون إنّ الدعاية التي سلّطها المغرضون على الاباضية نبذتهم بهذه الفرية ، وذهب علي يحيى معمّر في نقد النسبة وتزييفها إلى نقل الكلمات التي فيها الثناء البالغ على الصهرين ، ينقل عن أبي حفص عمرو بن عيسى قوله :

وعلى الهادي صلاة نشرها

عنبرٌ ماخبّ ساع ورمل

وسلام يتوالى وعلى

آله والصحب ما الغيث هطل

سيما الصديق والفاروق والجامع

القرآن والشهم البطل

__________________

١ ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة ١١ / ٤٠٠. والآية من سورة آل عمران : ١٠٤.

٢٧٥

وينقل عن ديوان البدر التلاتي مايلي :

بنت الرسول زوجها وابناها

أهل لبيت قد فشى سناها

رضى إلاله يطلب التلاتي

لهم جميعاً ولمن عناها (١)

نحن نرحّب بهذا الود الذي أمر الله سبحانه به في كتابه بالنسبة إلى العترة الطاهرة إذ قال : ( قُلْ لااَسْأَلُكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (٢).

ولكن لايمكننا التجاهل بأنّهم يحبّون المحكّمة الاُولى ، ويعتبرونهم أئمّة ، وهم قُتلوا بسيف علي ، وهل يمكن الجمع بين الحبّين والودّين؟ قد قال الله سبحانه : ( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَيْنِ فِىْ جَوْفِهِ ) (٣) وهل يجتمع حبّ علي وودّه وحبّ من كان يكفّر عليّاً ويطلب منه التوبة؟ كيف وهؤلاء هم الذين قلّبوا له ظهر المجنَ وضعّفوا أركان حكومته الراشدة.

نرى أنّ الاباضية يعدّون عمران بن حطان من القعدة ، وهو إمام لهم بعد أبي بلال ، وهو القائل في حق عبدالرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، قوله:

ياضربة من تقي ما أراد بها

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّى لأذكره يوماً فأحسبه

أوفى البريّة عندالله ميزانا (٤)

ومع هذا السعي لكتمان الحقيقة فالظاهر أن للشهرة حقيقة : أمّا حبّهما للشيخين فليس مجال شك وأمّا بغضهما للصهرين فقد وقفت في الفصل التاسع على نظر قدمائهم في حق الإمام علي عليه‌السلام وإليك نظرهم في حق عثمان ، ليعلم

__________________

١ ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية ٢ / ٥٠.

٢ ـ الشورى : ٢٣.

٣ ـ الاحزاب : ٤.

٤ ـ مرّ مصدر البيتين.

٢٧٦

مدى صحّة النسبة :

فإن قال : فما قولكم في عثمان بن عفان؟ قلنا له : في منزلة البراءة عند المسلمين.

فإن قال : من أين وجبت البراءة من عثمان بن عفان وقد تقدمت ولايته وصحّت عقدة إمامته مع فضائله المعروفة في الإسلام ، وفي تزويج النبي له عليه‌السلام بابنتيه واحدة بعد واحدة؟ قلنا : إن الولاية والبراءة هما فرضان في كتاب الله لا عذر للعباد في جهلهما ، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نحكم وندين له في عباده بما يظهر لنا في اُمورهم ولم يكلّفنا علم الغيب. ثم وجدنا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قدّموا عثمان إماماً لهم بعد عمر بن الخطاب ـ رحمه‌الله ـ ، ثم قصدوا إليه فقتلوه على ما استحقّ عندهم من الأحداث التي زايل بها الحق وسبيله ، فمن قال إنّ عثمان قتل مظلوماً كان قد أوجب على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البراءة بقتلهم لعثمان بن عفان وألزام البراءة من علي بن أبي طالب لأنّه وضعه المسلمون بعد عثمان إماماً لهم.

وعلى الإمام إقامة الحدود ولم يغيّر ذلك علي بن أبي طالب ولم ينكره ولم يقم الحد على من قتل عثمان ، وحارب من طلب بدمه وهو طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام ، ولو لم يكن مستحقاً للقتل وأنّه مظلوم لكان علي قد كفر لقتاله لمن طلب بدم عثمان بن عفّان. فلما قاتل علي والمسلمون من طلب بدم عثمان وصوّبوا من قتله وأقرّهم علي بين يديه وكانوا أعوانه وانصاره ، كان دليلا على أنّهم محقّون في قتله لأنّ إجماعهم على ذلك حجّة لغيرهم ودليل. وأمّا قولك زوّجه النبي بابنتيه واحدة بعد واحدة فإنا لاننكر ذلك ولايكون عثمان مستوجباً للولاية بتزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بابنتيه. ولو كان عقد النبي له بالنكاح موجباً للرجل المشرك الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٧٧

قد زوّجه بابنته زينب قبل التحريم بين المسلمين والمشركين مع قوله الله تبارك وتعالى : ( إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (١) ، فهذا مبطل لاحتجاجك علينا بتزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بابنتيه.

وأمّا قولك : إنّه كانت له فضائل في الإسلام متقدّمة ، فإن الأعمال بالخواتم في الآخرة ، لابالفضائل الاُولى (٢).

وعلى كل تقدير فما يذكره هذا الكاتب وغيره هو الحق الذي يجب أن تمشي عليه الاباضية في حياتهم الدينية ويجب علينا احترام الصحابة وودّهم على الموازين التي وردت في الكتاب والسنّة ، ولا أظنّ مسلماً على أديم الأرض يبغض الصحابي بما هو صحابي أو بما أنّه رأى النبي أو بما أنّ له صلة به ، ولو كان هناك استنكار فانّما لبعض الصحابة أمثال المغيرة بن شعبة وبسر بن أرطاة ، وعمرو بن العاص ، وسمرة بن جندب لما قاموا به من سفك الدماء البريئة والظلم في الأحكام ، والطلب الحث بلذائذ الدنيا ، كيف لايصحّ التبرّي منهم؟ وقد قال عمرو بن العاص لمعاوية عندما دعاه للمشاركة في الحرب ضدّ علي أبياتاً أوّلها :

معاوية لا اعطيك ديني ولم أنل

به منك دنياً فانظرن كيف تصنع

فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة

أخذتَ بها شيخاً يضرّ وينفع (٣)

__________________

١ ـ النساء : ٤٨ و ١١٦.

٢ ـ السير والجوابات لعلماء وأئمة عمان ١ / ٣٧٤ ـ ٣٧٥ طبع وزارة التراث القومي والثقافة ، تحقيق سيدة إسماعيل كاشف.

٣ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٥٥٨. اليعقوبي : التاريخ ٢ / ١٧٥ طبع النجف الاشرف.

٢٧٨

الفتاوى الشاذّة عن الكتاب والسنّة

المذهب الاباضي يدّعي أنّه يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذاهب أهل السنّة ، ولا يختلف معها إلاّ في مسائل قليلة اختلاف مذاهب السنّة نفسها في ما بينها.

وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلاّ لأنّ مؤسّسه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنابلة ، بل أنّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب في أنّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظمهم إلاّ من التابعين.

كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من الاباضية كالربيع بن حبيب وغيره ، ليست إلاّ أحاديث وردت عن البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة.

٢٧٩

إنّ الاباضية لا يعترفون بالتقليد فيما يأخذون أو يدّعون حتى لفقهائهم أنفسهم ، والمشهور عنهم أنّهم يقولون : إنّهم رجال تقييد لاتقليد ، أي أنّهم يتقيّدن بالكتاب والسنّة ، وبما تقيّد والتزم به السلف الصالح ، ولايقلّدون أصحاب المذاهب أو أصحاب الأقوال إلاّ إذا كانت أقوالهم موافقة للكتاب والسنّة (١).

إنّ المذهب الاباضي كما وصفه الكاتب يستند إلى الأدلّة الشرعية والعقلية ، فالعقل عندهم حجّة كالكتاب والسنّة ، وليس ذلك أمراً خفيّاً على من سبر كتبهم العقائدية والفقهية ، وقد كان ذلك معروفاً عنهم في القرون الاُولى حتى بين مخالفيهم على وجه قالوا : باغناء العقل عن السمع في أوّل التكليف. يقول المفيد شيخ الشيعة في القرن الرابع :

« اتفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع وأنّه غير منفك عن سمع ينبّه الغافل على كيفيّة الاستدلال ، وأنّه لابدّ في أوّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول ، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها من السمع والتوقّف ، إلاّ أنّ البغداديين من المعتزلة خاصّة يوجبون الرسالة في أوّل التكليف » (٢).

وهذا النحو من الاعتماد على العقل يعد نوع مغالاة في القول بحجيّته إلاّ في مورد لزوم إصل المعرفة ، لاستقلاله عليه دفعاً للضرر المحتمل وغيره ما حرّر

__________________

١ ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب وعلاقتهم بأباضية عمان والبصرة : ٥٨ ـ ٦١.

٢ ـ الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ) : أوائل المقالات ١١ ـ ١٢.

٢٨٠