بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

وقال الشهرستاني : عبدالله بن اباض الذي خرج في أيام مروان بن محمّد (١).

ولعلّ وجه اشتباههم هو : وقوع فتنة الاباضية في أواخر حكومة مروان بن محمّد ، وكان في رأس الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي طالب الحق وكان اباضياً.

قال ابن العماد : وفي سنة ١٣٠ كانت فتنة الاباضية وهم المنسوبون إلى عبدالله بن اباض. قال : مخالفونا من أهل القبلة كفّار ، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مؤمن ، بناءً على أنّ الأعمال داخلة في الإيمان ، وكفّروا عليّاً وأكثر الصحابة ، وكان داعيتهم في هذه الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي (طالب الحق) ، وكانت لهم وقعة بقديد مع عبدالعزيز بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فقتل عبدالعزيز ومن معه من أهل المدينة ، فكانوا سبعمائة أكثرهم من قريش منهم : تخرمة بن سليمان الوالبي ، روى عن عبدالله بن جعفر وجماعة ، وبعدها سارت الخوارج إلى وادي القرى ولقيهم عبدالملك السعدي فقتلهم ولحق رئيسهم إلى مكّة فقتله أيضاً ، ثمّ سار إلى تبالة ـ وراء مكّة بستّ مراحل ـ فقتل داعيتهم الكندي (٢).

ومن الأوهام ما ذكره ابن نشوان الحميري عن أبي القاسم البلخي المعتزلي : انّ عبدالله لم يمت حتى ترك قوله أجمع ، ورجع إلى الاعتزال (٣) ، والرجل توفّي ولم يكن للاعتزال أي أثر ، فإنّ رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء الذي ولد عام ٨٠.

ثمّ إنّ الاباضية انقسمت إلى فرق خرجوا عن الاعتدال والمرونة ومالوا

____________

١ ـ الشهرستاني : الملل والنحل ١ / ١٣٤.

٢ ـ ابن عماد الحنبلي : شذرات الذهب ١ / ١٧٧.

٣ ـ ابن نشوان الحميري : الحور العين ١٧٣.

٢٢١

إلى التطرّف والشدّة ، ولكن جمهور الاباضية على الاعتدال. يقول الأشعري :

وجمهور الاباضية يتولّى المحكّمة كلّها إلاّ من خرج ، ويزعمون أنّ مخالفيهم من أهل الصلاة كفّار ، وليسوا بمشركين ، حلال مناكحتم وموارثتهم حلال غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب ، حرام ماوارء ذلك ، وحرام قتلهم وسبيهم في السر ، إلاّ من دعا إلى الشرك في دار التقيّة ودان به ، وزعموا أنّ الدار ـ يعنون دار مخالفيهم ـ دار توحيد إلاّ عسكر السلطان ، فإنّه دار كفر ـ يعني عندهم ـ.

وحكي عنهم أنّهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم ، وحرّموا الاستعراض إذا خرجوا ، وحرّموا دماء مخالفيهم حتّى يدعوهم إلى دينهم ، فبرأت الخوارج منهم على ذلك ، وقالوا : إنّ كل طاعة إيمان ودين ، وإنّ مرتكبي الكبائر موحّدون وليسوا بمؤمنين (١).

وقريب من ذلك ما ذكره البغدادي في كتابه ، يقول : افترقت الاباضية فيما بينها فرقاً يجمعها القول بأنّ كفّار هذه الاُمّة ـ يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الاُمّة ـ براء من الشرك والإيمان ، وانّهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنّهم كفّار ، وأجازوا شهادتهم وحرّموا دماءهم في السرّ واستحلّوها في العلانية ، وصحّحوا مناكحتهم ، والتوارث منهم ، وزعموا أنّهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ، لايدينون دين الحق ، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض ، والذي استحلّوه الخيل والسلاح ، فأمّا الذهب والفضة فإنّهم يردّونهما إلى أصحابهما عند الغنيمة.

ثمّ افترقت الاباضية فيما بينهم أربع فرق : الحفصية ، والحارثية ، واليزيدية ، وأصحاب طاعة لايراد الله بها.

__________________

١ ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين ١٠٤ ـ ١٠٥.

٢٢٢

ثم قال : واليزيدية ، منهم غلاة لقولهم بنسخ شريعة الإسلام في آخر الزمان (١).

ولأجل تصريح عبدالله بن اباض بأنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم لا محيص عن تفسير الكفر فيما نقله البغدادي عنه بالكفر بالنعم ، نعم بعض الفرق منهم خرجوا عن الاعتدال وحكموا بكفر المسلمين كفراً حقيقياً.

هذا ما يقوله أصحاب المقالات عنهم ولكنّهم في كتبهم المنتشرة في السنوات الأخيرة يقولون خلاف ذلك ، وانّهم لا يختلفون مع جماهير المسلمين إلاّ في مسألة التحكيم ، وأمّا ما سواه فهم وغيرهم سواسية ، وينكرون وجود هذه الفرق التي نسبها إليهم الأشعري ثم البغدادي (٢). ولأجل ذلك يجب دراسة مذهبهم من كتبهم.

الاباضية في كتب اعلامهم :

قد تعرّفت على المذهب الاباضي وترجمة مؤسّسه على ما في كتب الفرق والتاريخ ، غير أنّ كُتّاب الاباضية في العصر الحاضر وماقبله يتحرّجون من أن يُعَدُّوا من فرق الخوارج ، وإن كانوا يتّفقون معهم في بعض المبادئ ولكن يخالفونهم في كثير من المبادئ والعقائد ، ويعتقدون أنّه مذهب نجم في أواخر القرن الأوّل بيد مؤسّسه عبدالله بن اباض وجابر بن زيد العماني ، فكأنّ الأوّل قائداً مخطّطاً والثاني قائداً دينياً ، وانّ الخوارج هم المتطرّفون كالأزارقة الذين كانوا يكفّرون المسلمين ويعدّونهم مشركين ويستبيحون أموالهم ويستحيون

____________

١ ـ البغدادي : الفَرق بين الفِرق : ١٠٣ ، ثمّ ذكر عقائد فرق الاباضية تبعاً للشيخ الأشعري في المقالات ١٠٢ ـ ١١١ ، ومن أراد التفصيل فليرجع إليهما.

٢ ـ الاباضية بين الفرق الإسلامية ١ / ٢١ ـ ٢٨.

٢٢٣

نسائهم ويقتلون أولادهم ، وأمّا غيرهم الذين لايعتنقون هذا المبدأ وماشابه فليسوا من الخوارج.

وقد بذلت الاباضية في هذه العصور الأخيرة جهوداً في تنزيههم عن كونهم من هذه الطائفة وانّ المقصود منه غيرهم ، وإليك بعض نصوصهم وتحليلاتهم :

هل الاباضية من الخوارج؟ :

١ ـ قد عمد البعض من الخوارج بعد وقعة النهروان إلى سلوك طريق لايتّفق مع الاُصول الصحيحة للشريعة الغّراء وأحد ثوا في الإسلام حدثاً كبيراً بما استحلّوا من استعراض المسلمين بالسيف وتكفير أهل القبلة الذين لايذهبون مذهبهم ، وتفرّق هؤلاء الخارجون إلى فرق عديدة كان منها الأزارقة والنجدات والصفرية ... وهؤلاء هم الذين أصبحوا يعرفون بالخوارج ، ويعني وصفهم بذلك أنّهم خارجون عن الدين ومارقون بما استحلّوا من المحرّمات وما خالفوا فيه من الأحكام الصحيحة للإسلام.

أمّا الاباضية ـ وهم عرفوا بجماعة المسلمين أهل الحقّ والاستقامة ـ فهم لايرون رأي هؤلاء الخوارج بل يرونهم مارقين خارجين عن الدين ، ورغم أنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ـ وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي ـ إلاّ أنّهم لم يوافقوا الأزارقة ومن والاهم من بعده بل تبّرأوا منهم ولم يذهبوا مذهبهم.

وعلى ذلك فالخوارج هم غير الاباضية ولايمكن اعتبار الاباضية احدى فرقهم ، وإلاّ فكيف نجمع بين النقيضين في صعيد واحد ، وكيف نصف من يتمسّك بصحيح الإسلام ، ولايكفّر أصحاب القبلة ، ولايستحلّ دماء المسلمين ولا أموالهم إلاّ دفعاً لبغي أو ردّاً لعدوان؟ .... كيف نصف هؤلاء بأنّهم من

٢٢٤

الخوارج الذين أبوا إلاّ مفارقة الجماعة والخروج عليهم واستعراض المسلمين بالسيف ، واستحلال دمائهم وأموالهم بغير حقّها ، وذهابهم إلى تكفير هؤلاء ، وإذا كانت الاباضية قد والوا المحكّمة الاُولى إلاّ أنّ ولاءهم لم يكن لمن خرج من بعد ذلك على الدين ، وكان سلوكهم مروقاً وعصياناً (١).

٢ ـ الاباضية لم يجمعهم جامع بالصفرية والأزارقة ومن نحا نحوهم إلاّ انكار الحكومة بين علي ومعاوية ، وأمّا استحلال الدماء والأموال من أهل التوحيد ، والحكم بكفرهم كفرَ شرك ، فقد انفرد به الأزارقة والصفرية والنجدية ، وبه استباحوا حمى المسلمين ولمّا كان مخالفونا لايتورّعون ، ولايكلِّفون أنفسهم مؤونة البحث عن الحق ، ليقفوا عنده ، خلطوا بين الاباضية الذين لايستبيحون قطرة من دم موحّد بالتوحيد الذي معه ، وبين ما استحلّوا الدماء بالمعصية الكبيرة حتى قتلوا الأطفال تبعاً لآبائهم ، مع أنّ الفرق كبير جداً كالفرق بين المستحل والمحرّم.

ثمّ قال : إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر ، وإنّما هي انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب عليّ ، المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا اللفظ بعد ثبوت الأمر لمعاوية والاستقرار ولم يفرّقوا في ذلك بين المتطرف وغيره (٢).

٣ ـ إنّ الاباضية رغم اعتدالهم من الناحية المذهبية والفقهية إلاّ أنّهم كانوا في عداء سياسي مع دولة بني اُمية ودولة بني العباس لأنّهم كانوا يقولون بأنّ الإمامة أو الخلافة حق لأيّ مسلم صالح ، فلا تكون قاصرة على قريش ، ولا على بطونها المختلفة من الأمويين أو العباسيين أو العلويين ، ولمّا كان هذا الموقف

__________________

١ ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : ٢١٢.

٢ ـ أبو إسحاق السالمي : تحفة الأعيان : هامش الجزء الأوّل كما في الإمام جابر بن زيد العماني.

٢٢٥

السياسي للاباضية يلتقي من الناحية النظرية ومن الناحية الفكرية البحتة مع الخوارج : الأزارقة والنجدات والصفرية ، فقد عممّ كُتاب الفرق القول ووضعوا الاباضية ضمن هؤلاء الخوارج واعتبروهم فرقة رابعة من فرقهم ، والاباضية أنفسهم كما هو موجود في كتبهم القديمة والحديثة يتبرّأون من هؤلاء الخوارج كل البراءة بل ويقاتلونهم بأشدّ قتال.

إنّ المذهب الاباضي لم يعرف بهذا الاسم إلاّ منذ الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة حينما غلب على أصحابه هذا الاسم واشتهروا به ، وانّما أصحابه قبل ذلك يعرفون باسم جماعة القعدة وهو اسم له دلالته السياسية ، وقد أطلقه عليهم جماعات الخوارج من الأزارقة وغيرهم احتقاراً لهم ورفضاً لمبدئهم : ذاك في القعود ، فقد وضع هؤلاء القعدة لأنفسهم مبدأ المسالمة وعدم اشتهار السيف في وجه اخوانهم من المسلمين ، وأجازوا لأنفسهم البقاء تحت حكم الجبابرة ، وقالوا بعدم جواز قتل أطفال مخالفيهم ولا قتل نسائهم ولا استحلال أموالهم وأخذوا يعملون على نشر مبادئهم السياسية في سرّيّة وكتمان ، ودخلوا في مرحلة كتمان طويلة امتدّت منذ أن تأسّس المذهب على يد جابر بن زيد في أواخر القرن الأوّل للهجرة حتى هاجر معظم علماء المذهب وآخر أئمة الكتمان أبو سفيان محبوب بن الرحيل إلى عمان في أواخر القرن الثاني للهجرة (١).

٤ ـ إنّ مذهب الاباضية لم يعرف بهذا الاسم في المصادر الاباضية إلاّ في الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة وقد قبلت الاباضية بهذا الاسم منذ ذلك التاريخ لأنّه غلب عليهم بمرور الزمن وصار علماً يلتفّون حوله ، وإنّما يطلقون على أنفسهم قبل ذلك اسم « جماعة المسلمين » أو « أهل الدعوة » أو « أهل الاستقامة » وقد سمّاهم أعداؤهم من الخوارج المتطرّفين باسم « القعدة »

__________________

١ ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : ٥٤ ـ ٥٦.

٢٢٦

احتقاراً لهم ، لأنّهم طبقاً لوجهة نظر هؤلاء الخوارج ، قعدوا عن الجهاد في سبيل الله بمحاربة الولاة والحكّام الظالمين.

وكان هؤلاء القعدة قد رأوا القعود عن الحرب ، وعن رفع السيف ضد اخوانهم المسلمين عقب موقعة النهروان التي وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب وجماعة المحكّمة الذين عارضوه لقبوله التحكيم ، وقالوا : « لاحكم إلاّ لله » واشتهروا باسم « المحكّمة » أو « الشراة » أو « الحرورية » وأطلق عليهم خصومهم من أرباب الدولة الأمويّة اسم الخوارج (١).

٥ ـ إنّ الصفريّة اتّخذت الخروج بالسيف على الدولة وسيلة لتحقيق أهدافهم ، فإنّ الصفريّة في بلاد المغرب اتّبعوا هذا الاسلوب في هذه المنطقة النائية ، ولذلك رفعوا لواء الثورة ضدّ بني اُميّة منذ عام ١٢٢.

وقد أظهر هؤلاء الصفرية من تطرّف شديد في معاملتهم لخصومهم سواء كانوا من العرب أم من البرير ، فكانوا يستحلّون سبي النساء ، ويستحلّون الأموال ، يسفكون الدماء ، وكانوا في حركتهم في بلاد المغرب أقسى على الناس من حركة الأزارقة في بلاد المشرق ، وقد وصل تطرّف البرير الصفرية إلى غايته عندما داهموا القيروان في عام ١٣٩ ، واحتلّوها وفعلوا بأهلها وبمساجدها ما تقشعرّ له الأبدان على يد قبيلة« ورفجومة » التي كان أهلها من غلاة الصفرية.

ثمّ بعد فترات تنقّلت قيادة البربر من الصفرية إلى الاباضية بعد أن ضاق البربر بعنف الصفرية وتطّرفهم المقيت ، فضعف أمر الصفرية منذ ذلك الحين وذاب أغلبهم في الاباضية (٢).

__________________

١ ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : ١٢ ـ ١٣.

٢ ـ نفس المصدر : ٥٣.

٢٢٧

٦ ـ المذهب الاباضي يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذهب أهل السنّة ، ولايختلف معها إلاّ في مسائل قليلة ، اختلاف مذاهب السنّة فيما بينها ، فلا يخلو منها مذهب لايخالف غيره في قليل أو كثير من المسائل ، وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلاّ لأنّ مؤسسّه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة ، بل انّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب ، في انّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظهم إلاّ من التابعين ، كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من الاباضية كالربيع بن حبيب وغيره ، ليست إلاّ أحاديث وردت عند البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي دواد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة (١).

٧ ـ اطلاق لفظ الخوارج على الاباضية من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصّب السياسي أوّلا ثمّ عن المذهبي ثانياً ، لمّا ظهر غلاة المذاهب وقد خلطوا بين الاباضية والأزارقة والصفرية والنجدية.

إنّ لاطلاق الخوارج على الاباضية سببين :

الف ـ اشتراكهم مع سائر الخوارج في انكار التحكيم ، فصار ذلك سبباً للجمع بين كل منكر للتحكيم في صعيد واحد.

ب ـ إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر وإنّما انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ، ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب علىّ المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا الأمر بعد ثبوت الأمر لمعاوية ، فإنّ

__________________

١ ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : ٦٠.

٢٢٨

الأمويين أطلقوا هذه التسمية على كل من يعارض ملكهم العضوض (١) ولم يفرّقوا بين الاباضية وبين سواهم من متطرّفي الخوارج (٢).

٨ ـ إنّ ابن اباض تبّرأ من الأزارقة في الرسالة التي كتبها إلى عبدالملك وجاء فيها : أنا براء إلى الله من ابن الأزرق وضيعه وأبقاعه ، لأنّه خرج عن مبادئ الإسلام فيما ظهر لنا واحدث وارتدّ وكفر بعد إسلامه فنبرأ إلى الله منهم (٣).

نَظُرنا في الموضوع :

هذه كلمات القوم وهي تعبّر عن كونهم مصرّين على أنّهم ليسوا بخوارج ومن سمّاهم بذلك فقد ظلمهم ، وبما أنّ الخوارج لم يكونوا ذوي سمعة حسنة ، وكان المسلمون يتبرّأون من عقائدهم وأعمالهم ، صار هذا هو الحافز لعلماء الاباضية على السعي البالغ من اخراج أنفسهم عن صفوفهم ، وانّهم فرقة مستقلّة لاصلة لهم بالخوارج إلاّكونهم مشتركين في أصل واحد وهو انكار التحكيم.

ولعلّ القارىء ، يتعجّب من الاطناب والافاضة في المقام وماهذا إلاّ لأجل اراءة منطق القوم فيما يتبنّونه لئلاّنبخس حقوقهم ، فإنّهم كما عرفت يتّهمون المخالفين بعدم التورع في البحث وعدم تكليف الأنفس مؤونة الفحص عن الحق ، ولكنّها غير لاصقة بنا ، فإنّا كلّفنا أنفسنا مؤونة البحث ويشهد بذلك نقل كلماتهم ، ومع هذا كل ما ذكروه أشبه بالخطابة ، وذلك :

__________________

١ ـ لازم ذلك أن يسمّوا الشيعة أيضاً باسم الخوارج.

٢ ـ صالح بن أحمد الصوافي ، الإمام جابر بن زيد العماني : ٢١٣ ـ ٢١٤ ، والكاتب غفل عن القريض المعروف في شأن أبي بلال المنتصر كما سيوافيك ، وكانت الحادثة سنة ٦٠ قبل فتنة الأزارقة.

٣ ـ الإمام جابر بن زيد العماني : ٢٢٤ ، ونقلا عن الجواهر المنتقاة للبرادي : ١٥٦ ـ ١٦٧.

٢٢٩

أوّلا : إنّ هذه الكلمات تحكي أنّ الاباضية أوّل من خطّ خطّ الاعتدال ومشى على ضوئه ، واكتفى بالعزلة والقعود ولم يحارب الناس ، ولم يعترضهم ، ولكنّه في غير محلّه إذ لو صحّ كلّ ذلك في عبدالله بن اباض فراسم هذا الخط هو أبو بلال مرداس بن جدير ، فإنّه أوّل من ندّد بعمل الخوارج في اعتراضهم الناس ونهب أموالهم ، وكان ينادي بأعلى صوته بأنّه لا يحارب الاّ من حاربه ولايروّع أحداً ولا ... ولا ... فعلى ذلك يجب أن يقال : إنّ مبدىء هذه الكفرة هو أبوبلال المقتول عام« ٦٠ » وقد كان أبو بلال قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وأنكر التحكيم وشهد النهر ونجا فيمن نجا (١).

ثانياً : إنّ الحجر الأساس لفرقة الخوارج هو التطّرف والخروج عن الاعتدال ، وإن كان للتطرّف مدارج ومراحل ، فالقوم من بدو الخروج على علي وانكار التحكيم عليه بعدما فرضوه عليه ، كانو متطرّفين ، لا يحترمون دماً ولاعرضاً. إنّ تخصيص التطرّف بالأزارقة ، والنجدات ، والصفرية بزعم أنّهم هم الذين كانوا يستعرضون المسلمين ، ويستحلّون دماءهم ، ويكفّرون أهل القبلة ، كلام فارغ عن الحجّة ، بل الحجة على خلافه ، فإنّ المحكّمة الاُولى وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي أيضاً كانوا من المتطرّفين ، ويظهر ذلك من خطب هذا الراسبي وكلماته التي ألقاها في الحروراء ، وقد نقلنا بعض كلماته في الفصل السادس ، وإليك لقطات منها :

قال مخاطباً إخوانه عند الشخوص من الحروراء إلى النهروان : فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضرّة (٢).

__________________

١ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٨٣ ومرّ تفصيله.

٢ ـ مرّ المصدر في الفصل السادس.

٢٣٠

ماذا يريد من قوله : الظالم أهلها ، وهل يريد بلدة الكوفة وأهلها الملتفّين حول الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ والحال انّ الآية نزلت في حق المشركين قال سبحانه : ( وِمالَكُمْ لاتُقاتِلُونَ فِى سَبِيِلِ اللهِ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجال وَالنِّساءِ والوِلْدانِ الّذيِنَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخرِجْنا مِنْ هذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نصِيراً ) (١).

إنّ المحكّمة الاُولى هم الذين بقروا بطن زوجة عبدالله بن خباب بن الأرت ، ذلك التابعي العظيم ، ولم يكتفوا بذلك ، فذبحوا زوجها كما يذبح الكبش ، بعدما أعطوه الأمان ، وهم الذين قتلوا ثلاث نسوة من طي ، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية ، كل ذلك ارتكبوه بعد ما انتقلوا من الحروراء إلى النهروان ، ولمّا بلغ عليّاً هذه الجنايات المروِّعة عمد إلى مقاتلتهم بعد ما أتمّ الحجّة عليهم.

وأيّ دليل على تطرّفهم أتقن من توصيف الإمام إيّاهم بقوله : « سيوفكم على عواتقكم ، تضعونها مواضع البُرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب » (٢).

أبعد هذا يصحّ للاُستاذ صالح بن أحمد الصوافي تخصيص التطرّف بالخوارج الذين جاءوا بعدهم.

هذا هو شبيب ، مساعد ابن ملجم في قتل علي ، دخل على معاوية في الكوفة بعد قتل عليّ ، ولمّا وقف معاوية على أنّه فيها ، بعث إلى الأشجع لأن يخرجه من الكوفة ، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله. (٣)

____________

١ ـ النساء ٧٥.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

٣ ـ ابن الأثير : الكامل ٣ / ٢٠٦.

٢٣١

وهذا هو قريب بن مرّة وزحاف الطائي قد خرجا في امارة زياد بن أبيه فاعترضا الناس ، فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه ، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت : « الحرورية »!!!

انج بنفسك ، فنادوه (قريب وزحاف ومن معهما) : لسنا حرورية ، نحن الشرط ، فوقف فقتلوه ، ثمّ جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا حتى مرّا على بني علي بن سود من الأزد ، وكانوا رماة فرموهم رمياً شديداً ، فصاحوا : يا بني علي! البقيا! لارماء بيننا. قال رجل من بني علي :

لاشيء للقوم سوى السهام

مشحوذة في غلس الظلام

ففرّ عنهم الخوارج إلى ان واجهوا بنو طاحية من بني سود ، وقبائل من مزينة وغيرها ، ووقعت الحرب فقتل الخوارج عن آخرهم ، وقتل قريب وزحاف (١).

ما ذكرنا نماذج من استعراضهم للناس وقتلهم الأبرياء ، قبل قيام ابن الأزرق بالدعوة ، فإنّ ماذكرنا يرجع إلى عهد علي وما بعده بقليل ، وأمّا فتنة الأزارقة والنجدات فهي راجعة إلى عصر ابنه يزيد بن معاوية فهي من حوادث بعد الستين.

ثالثاً : إنّ تخصيص اسم الخوارج بالمتطرّفين منهم كالأزارقة والنجدات تخصيص بلاوجه ، فقد اُطلق هذا اللفظ في عصر عليّ على هؤلاء أي على عبدالله بن وهب الراسبي وذي الخويصرة ومن قتل معهما في وقعة النهروان :

هذا هو الإمام علي بن أبي طالب ـ بعد ما خرج من قتال الخوارج في ضفة النهر مرفوع الرأس ـ قال : لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطاه

__________________

١ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٨٠.

٢٣٢

كمن طلب الباطل فأدركه (١). فلو كانت هذه الكلمة لعلي كما هوالمقطوع لكان دليلا على أنّ القوم في بدء نشوئهم كانوا مسمّين بهذا الاسم ، وإن كان لغيره فالظاهر أنّ ذلك الغير هو الموالي للخوارج بقرينة مدحهم في ذيل الجملة ، فكان شاهداً على أنّ القوم كانوا مسمّين بهذا الاسم منذ البداية.

ويظهر ممّا نظمه نفس الخوارج من الأشعار أنّ تسميتهم بها كان رائجاً في عصر معاوية أي قبل الستين وقبل أنّ يتسنّم الأزارقة والنجدات منصّة القيادة يقول عيسى بن فاتك من بني تميم تأييداً لموقف أبي بلال مرداس به ادية الذي قتل عام ٦٠ في أبيات :

أألفا مؤمن فيما زعمتم

ويهزمهم بآسك أربعونا؟

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم

ولكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شكّ

على الفئة الكثيرة ينصرونا (٢)

ويُستنتج من ذلك الأمرين : أنّ الخوارج اُطلق يوم اُطلق على من خرج عن طاعة أمير المؤمنين وأنكروا التحكيم عليه من غير فرق بين أوائلهم ومن بعدهم.

رابعاً : لاشك إنّ المحكّمة الاُولى كانوا يبغضون عليّاً ويكفّرونه ، وتشهد بذلك كلماتهم واشعارهم خصوصاً في مفاوضاتهم مع عليّ ، وقد تضافرت الروايات أنّ حبّه آية الإيمان وبغضه آية النفاق ، ولايمكن لعالم ملّم بالأحاديث انكار ذلك.

هذا هو مسلم روى في صحيحه عن زر بن حبيش قال : قال عليّ : والذي

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٦٠.

٢ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٨٦ ، ابن سلاّم (م ٢٧٣) بدء الاسلام وشرائع الدين : ١١١ ، مرّت قصة أبي بلال.

٢٣٣

خلق الجنّة وبرأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الاُميّ إليّ لايحبّني إلاّ مؤمن ولايبغضني إلاّ منافق (١).

وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن زرّ بن حبيش ، عن علي قال : عهد النبي إليّ أنّه لايحبّك إلاّ مؤمن ولايبغضك إلاّ منافق (٢).

ورواه النسائي في خصائصه بعدّة طرق (٣).

ورواه الحافظ ابن عساكر في تاريخه بأسانيد تربو على ١٨ طريقاً (٤).

وعلى ضوء ذلك فهؤلاء محكومون بالنفاق والخلود في النار ، فيشملهم قول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن ذي الخويصرة الذي كان في الرعيل الأوّل من المحكّمة : فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة (٥).

روى المبرّد في الكامل أنّ عليّاً (رضي الله عنه) وجّه إلى رسول الله مذهّبة من اليمن فقسّمت أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن جالس المجاشعي ، وربعاً لزيد الخيل الطائي ، وربعاً لعيينة بن حصن الغزاري ، وربعاً لعلقمة بن علاثة الكلابي ، فقام إليه رجل مضطرب الخلق غائر العينين ناتئُ الجبهة فقال : لقد رأيت قسمة مااُريد بها وجه الله ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تورّد خداه ، ثم قال : أيأمنني الله عزّوجلّ على أهل الأرض ولاتأمنوني؟ فقام إليه عمر فقال : أقتله يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه سيكون من

__________________

١ ـ مسلم : الصحيح ١ ، كتاب الايمان ٦٠.

٢ ـ أحمد بن حنبل : المسند ١ / ١٢٧. الحديث ٩٤٨ ، وفضائل الصحابة ٢ / ٥٦٣ ، ونقله في كتابه الأخير في غير واحد من المواضع ، لاحظ الأحاديث ٩٧٩ ، ١٠٥٩ ، ١٠٨٦ ، ١١٤٦.

٣ ـ الحافظ أبو عبدالرحمان النسائي : الخصائص ١٨٧.

٤ ـ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق ، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب ٢ / ١٩٠ ـ ١٩٩.

٥ ـ ابن هشام : السيرة النبوية ٤ / ٤٩٦. ابن الأثير : الكامل ٢ / ١٦٤.

٢٣٤

ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلاترى ، شيئاً ، وتنظر في الرصاف فلاترى شيئاً ، وتتمارى في الفوق (١).

إنّ المحكّمة الاُولى كفّروا من طهّره الله سبحانه في كتابه وقال : ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبُ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويطَهَركُمْ تَطْهِيراً ) (٢) وقد اصفقت الاُمّة إلاّ الشواذ من الخوارج كعكرمة على نزول الآية في حقّ العترة الطاهرة ، هذا هو مسلم يروي في صحيحة عن عائشة ، قالت : خرج النبي غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود وجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين بن علي فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) (٣).

وروى إمام الحنابلة في مسنده نزول الآية في شأن الخمسة الطاهرة ، فمن أراد فليرجع إلى مظانّه (٤).

إلى غير ذلك من الآيات النازلة في حقّ أهل البيت.

أفيصحّ لنا الحكم باسلام من يكفّر ويبغض ويقاتل من طهّره الله في نصّ كتابه ، ومحكم ذكره؟

ولأجل ذلك فالمحكّمة الاُولى محكومون بالكفر والنفاق وإن افترضنا أنّهم اكتفوا بانكار التحكيم فقط ، ولم يستعرضوا المسلمين بالسيف ولم يقتلوا النساء ولا الأطفال ولاكفّروا المسلمين.

وفي كلمات أئمّة أهل بيت اشارة إلى هذا النوع.

__________________

١ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٤٢.

٢ ـ الأحزاب : ٣٣.

٣ ـ مسلم : الصحيح ٧ / ١٣٠.

٤ ـ أحمد بن حنبل : المسند : ٤ / ١٠٧ و ٦ / ٢٩٢ ، ٢٩٦ و ٣٢٣.

٢٣٥

كان عبدالله بن نافع بن الأزرق يقول : لو عرفت أنّ بين قطريها أحداً تبلغني إليه الإبل يخصمني بأنّ عليّاً عليه‌السلام قتل أهل النهروان وهو غير ظالم ، لرحلتها إليه ، فقيل له : إئت ولده محمّد الباقر عليه‌السلام فأتاه فسأله ، فقال بعد كلام : الحمد لله الذي أكرمنا بنوبّته ، واختصّنا بولايته ، يامعشر أولاد المهاجرين والأنصار من كان عنده منقبة في أمير المؤمنين ، فليقم وليحدّث ، فقاموا ونشروا من مناقبه فلمّا انتهوا إلى قوله : لاُعطينّ الراية غداً رجلا يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله ، سأله أبو جعفر عن صحّته فقال : هو حقّ لاشكّ فيه ، ولكن عليّاً أحدث الكفر بعد.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : أخبرني عن الله أحبّ علي بن أبي طالب يوم أحبّه وهو يعلم أنّه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ، إن قلت : لا ، كفرت ، فقال : قد علم ، فقال : فأحبّه على أن يعمل بطاعته أم على أن يعمل بمعصيته؟ قال : على أن يعمل بطاعته ، فقال أبو جعفر : قم مخصوماً ، فقام عبدالله بن نافع ابن الأزرق وهو يقول : حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، اللهُ يَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه (١).

روى الشريف المرتضى عن الشيخ المفيد : أحبّ الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم مع الخوارج ، فأمر بإحضار هشام بن الحكم وإحضار عبدالله بن يزيد الاباضيّ (٢) وجلس بحيث يسمع كلامهما ولايرى القوم شخصه ، وكان بالحضرة يحيى بن خالد ، فقال يحيى لعبدالله بن يزيد : سل أبا محمّد ـ يعني هشاماً ـ عن شيء ، فقال هشام : لا مسألة للخوارج علينا ، فقال

__________________

١ ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل آبي طالب : ٢ / ٢٨٩ كما في البحار ١٠ / ١٥٨.

٢ ـ ترجمه ابن حجر في لسان الميزان ٣ / ٣٨٧ بقوله : عبدالله بن يزيد الفزاري الكوفي المتكلّم ، ذكره ابن حزم في النحل : انّ الاباضية من الخوارج أخذوا مذهبهم عنه.

٢٣٦

عبدالله بن يزيد ، وكيف ذلك؟ فقال هشام : لأنّكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بإمامته وفضله ، ثمّ فارقتمونا في عداوته والبراءة منه ، فنحن على إجماعنا وشهادتكم لنا ، وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا ، ودعواكم غير مقبولة علينا ، إذ الاختلاف لايقابل الاتّفاق ، وشهادة الخصم لخصمه ، مقبولةٌ ، وشهادته عليه مردودة.

قال يحيى بن خالد : لقد قرَّبت قطعه يا أبامحمّد ، ولكن جاره شيئاً ، فإنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يحبّ ذلك ، قال : فقال هشام : أنا أفعل ذلك ، غير أنّ الكلام ربّما انتهى إلى حدّ يغمض ويدق على الأفهام ، فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه عليه ، فإن أحبّ الإنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا ، إن خرجت عن الطريق ردَّني إليه ، وإن جار في حكمه شهد عليه ، فقال عبدالله بن يزيد : لقد دعا أبومحمّد إلى الإنصاف ، فقال هشام : فمن يكون هذه الواسطة؟ وما يكون مذهبه؟ أيكون من أصحابي ، أو من أصحابك ، أو مخالفاً للملّة أو لنا جمعياً؟ قال عبدالله بن يزيد : اختر من شئت فقد رضيت به ، قال هشام : أمّا أنا فأرى أنّه إن كان من أصحابي لم يؤمن عليه العصبيّة لي ، وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم عليَّ ، وإن كان مخالفاً لنا جميعاً لم يكن مأموناً عليّ ولا عليك ، ولكن يكون رجلا من أصحابي ، ورجلا من أصحابك ، فينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحقّ ومحض الحكم بالعدل ، فقال عبدالله بن يزيد : فقد أنصفت يا أبامحمّد ، وكنت أنتظر هذا منك.

فأقبل هشام على يحيى بن خالد فقال له : قد قطعته أيّها الوزير ، ودمّرت (١) على مذاهبه كلّها بأهون سعي ، ولم يبق معه شيء ، واستغنيت عن مناظرته ، قال : فحرّك الرشيد الستر ، فأصغى يحيى بن خالد فقال له : هذا متكلّم الشيعة وافق

__________________

١ ـ دمّر عليه : هجم عليه هجوم الشر. دمّر عليه : أهلكه.

٢٣٧

الرجل موافقة لم تتضمّن مناظرة ، ثمّ ادّعى عليه أنّه قد قطّعه وأفسد عليه مذهبه ، فمره أن يبيّن عن صحّة ما ادّعاه على الرجل ، فقال يحيى بن خالد لهشام : إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحّة ما ادّعيت على هذا الرجل ، قال : فقال هشام رحمه‌الله : إنّ هؤلاء القوم لم يزالوا معنا على ولاية أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حتّى كان من أمر الحكمين ماكان ، فأكفروه بالتحكيم وضلّلوه بذلك ، وهم الّذين اضطرّوه إليه ، والآن فقد حكّم هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختاراً غير مضطرّ رجلين مختلفين في مذهبهما : أحدهما يكفّره ، والآخر يعدّله ، فإن كان مصيباً في ذلك فأمير المؤمنين أولى بالصواب ، وإن كان مخطئاً كافراً فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها ، والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليّاً عليه‌السلام قال : فاستحسن ذلك الرشيد وامر بصلته وجائزته (١).

إنّ عداء القوم بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين كانت ظاهرة في كتب أوائلهم ، هذا هو محمّد بن سعيد الكدمي أحد علماء المذهب الاباضي بعمان ، حتى لُقّب بإمام المذهب في القرن الرابع الهجري يذكر عليّاً في كتابه ويقول :

« إنّ علي بن أبي طالب استخلف على الناس ، ونقض عهد الله وحكم في الدار غير حكم كتاب الله ، وقتل المسلمين وسار بالجور في أهل رعيّته ، فعلى الذي قد صحّت منه سعادة عليّ بن أبي طالب أن يتولّى لله علي بن أبي طالب على سفكه لدماء المسلمين وعلى تحكيمه في الدماء غير حكم كتاب الله ، وسيرته القبيحة ، لا يحلّ له الشك في ولايته ، وعليه أن يبرأ لله من باطله ومن سفك دمه إن قدر على ذلك ، وليس له أن ينكر على المسلمين

__________________

١ ـ الشريف المرتضى : الفصول المختارة ١ / ٢٦.

٢٣٨

البراءة منه » (١).

وهذا هو ابن سلاّم الاباضي المتوفّى بعد عام ٢٧٣ يقول : « وحكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، وحكّموا الحكمين في أمر قضاه الله ، واختلفت الاُمّة وتفرّقت الكلمة ، وصار الناس شيعتين مفترقتين ، وظهر أهل الباطل من أصحاب معاوية على أهل الحق ، فاختفى المسلمون بالحقّ الذي تمسّكوا به فاختلفت عليهم كلمة المختلفين ، يقتلونهم على دين الله الحنيف والملّة الصادقة ( مِلَّةَ إبْراهيِمَ حَنيِفاً وما كانَ مِنَ المُشْرِكينَ ) (٢). يبصّرون الناس دينهم في السرّ ويصبرون في الله على الأذى والقتل ، واحتقروا ذلك في ذات الله » (٣).

ياليت ابن سلاّم يشير إلى الذين حكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، إلى الذين فرضوا التحكيم على الإمام المفترض طاعته في أمر قضاه الله. أو ليس هؤلاء أشياخه وأولياءه الذين كانوا مقنّعين في الحديد يدعون إمامهم باسم عليّ لابإمرة المؤمنين ، ويقولون : « أجب القوم إلى كتاب الله وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ».

إنّ الكاتب نسى أو تناسى الجرائم المريرة التي ارتكبتها المحكّمة الاُولى حين تنقّلهم من حروراء إلى النهروان. فكان الأولى له التنويه بذلك ، لكّنه شطب على هذه الحقائق التاريخية بقلم عريض ، وإلى الله المشتكى.

يقول بعض فقهائهم في مسألة « الولاية والبراءة ».

فإن قالوا : فما تقولون في علي بن أبي طالب؟ قلنا له : إنّ علي بن أبي طالب مع المسلمين في منزلة البراءة.

__________________

١ ـ الكدمي ـ محمّد بن سعيد : المعتبر ٢ / ٤١.

٢ ـ البقرة : ١٣٥.

٣ ـ ابن سلام الاباضي : بدء الاسلام وشرائع الدين ١٠٦.

٢٣٩

فإن قال : من أين وجبت عليه البراءة وقد كان إماماً للمسلمين وهو ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وختنه (١) ، مع فضائله المشهورة وقتاله بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشركين؟

قلنا له : أوجبنا عليه البراءة من وجوه شتّى ، أحدها أنّه ترك الحرب التي أمر الله بها للفئة الباغية قبل أن تفئ إلى الله ، واحدها تحكيم الحكمين في دماء المسلمين وفيما لم يأذن الله به المضلّين الذين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحذّرهما ويخوّفهما أصحابه.

وأحدهما بقتله أهل النهروان وهم الأفضلون من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم الأربعة آلاف رجل من خيار الصحابة رحمهم‌الله. والأخبار بذلك تطول ويضيق بها الكتاب ويتّسع بها الجواب ولم نعدّ كتابنا هذا لشرح جميع أخبارهم ، وإنّما أردنا أن نلوّح لكم ونذكر بعض الذي كان من أحداثهم ، لتكونوا من ذلك على علم ومعرفة لتعلموا ضلال من ضلّ وخالف وشغب عليكم وبالله التوفيق.

فإن قالوا : فما تقولون في طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام؟ قلنا له : إنّهما عند المسلمين بمنزلة البراءة.

فإن قال : من أين وجبت عليهما البراءة؟ قلنا له : بخروجهما على علي بن أبي طالب والمسلمين وطلبهما بدم عثمان بن عفان بإرادتهما إزالة علي بن أبي طالب عن إمامته ، وقالا : حتى يكون الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم إماماً غيره ، بعد رضائهما به وبيعتهما له وأعطيا صفقة أيديهما (٢) على طاعة الله وطاعة رسوله وعلى قتال من خرج يطلب بدم

__________________

١ ـ الختن : الصهر ، زوج الابنة ، والجمع : أختان.

٢ ـ صفقة الأيدي تعني توكيد البيعة.

٢٤٠