بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

قال : فقال له قائل : يا أمير المؤمنين اقسم الفي بيننا والسبي ، قال : فلمّا أكثروا عليه ، قال : أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنين في سهمه؟ فكفّوا (١).

٣ ـ روى الطبري أيضاً : لمّا فرغ عليّ من بيعة أهل البصرة ، نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة ، فقسّمها على من شهد معه ، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة وقال : لكم إن أظفركم الله عزّوجلّ بالشام مثلها إلى اعطياتكم ، وخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء (٢).

كل ذلك يعرب عن طغيان نزعة الاعتراض على القوم ، وأنّهم كانوا يرون لأنفسهم حق التدخل في شؤون القيادة.

٤ ـ إنّا نرى أنّ الأشعث لمّا قرأ وثيقة التحكيم على الشاميين ، استقبلوه برضى ولمّا عرضها على رايات عنزة وغيرهم من العراقيين ، قابلوه بالاعتراض والسيف.

قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ، ويمرّ به على صفوف أهل الشام وراياتهم ، فرضوا بذلك ، ثم مرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مرّ برايات عنزة ـ وكان مع عليّ من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف ـ فلمّا مرّ بهم الأشعث فقرأه عليهم ، قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله. ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية. وهما أوّل من حكم ، واسماهما معدان وجعد ، اخوان ، ثم مرّ بها على مراد ، فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :

ما لعليّ في الدماء قد حكم

لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

____________

١ ـ الحرّ العاملي : وسائل الشيعة ١١ الباب ٢٥ الحديث ٥ و ٧ ص ٥٨.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٥٤٤. والمراد من السبائيّة : الخوارج ، فإنّه كثيراً مايطلقها عليهم.

١٤١

لاحكم إلاّ لله ولو كره المشركون. ثم مرّ على رايات بني راسب فقرأه عليهم فقالوا : لاحكم إلاّ لله ، لانرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم : لاحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين ، فقال رجل منهم لآخر : أمّا هذا فقد طعن طعنة نافذة. وخرج عروة بن اديّة أخو مرداس بن اديّة التميمي ، فقال : أتحكّمون الرجال في أمرالله ، لاحكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث. ثم شدّ بسيفه ليضرب به الأشعث ، فأخطأه وضرب به عجز دابّته ضربة خفيفة فاندفعت به الدابة وصاح به الناس : أن امسك يدك. فكفّ ورجع الأشعث إلى قومه (١).

٥ ـ إنّ بعض من صار من الخوارج كانوا متواجدين في الكوفة أيّام خلافة عثمان ، وكانوا يعترضون على عمّاله مثل سعيد بن العاص ، فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان فأمر بتسييرهم من الكوفة ، ونرى بين المعترضين ، حرقوص بن زهير السعدي ، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي ، وزيد بن حصين الطائي وهم رؤوس الخوارج وكانوا ملتفّين حول الأشتر النخعي ، وكانوا يعدّون من أصحابه ، حتى كتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال : إنّي لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القرّاء ـ وهم السفهاء ـ شيئاً فكتب إليه : أن سيّرهم إلى الشام (٢).

نعم اجتمع مع الأشتر غيرهم ، من الرجال الصالحين والعّباد الناسكين كزيد وصعصعة بن صوحان وكعب بن عبده وعدي بن حاتم الطائي ، ويزيد بن قيس الأرحبي (الذي كان له مواقف مشكورة في حرب صفّين) ، وعمرو بن الحمق ، وكميل بن زياد النخعي ، وحارث بن عبدالله الأعور الهمداني ،

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٧ ـ ٥٨٨.

٢ ـ الغدير : ٥ / ٣١ نقلاً عن الأنساب للبلاذري : ٥ / ٣٩.

١٤٢

وغيرهم من الصلحاء ، وذلك يكشف عن وجود نزعة الاعتراض في قرّاء الكوفة ورؤسائهم ، نعم كون هؤلاء محّقين في اعتراضهم على عامل الخليفة الثالث وحتى الخليفة نفسه لايكون دليلا على أنّهم محقّون كذلك في مسألة التحكيم وما خلّف من الآثار السيّئة ، ولا دليل على تلك الملازمة ، فرّب انسان يكون محقّاً في دعوى ومبطلا في دعوى اُخرى ، والامعان في حقيقة الاعتراضين ـ الاعتراض على عامل الخليفة الثالث والاعتراض على أميرالمؤمنين عليـ يكفي في تصديق ماذكرنا.

نعم إنّ الإسلام لا يخالف سياسة الانتقاد وحرية التعبير عن الرأي ، ولايريد للاُمّة أن تكون كقطيع من الماشية بل انّه يدعو إلى النقد إذا كان لأجل طلب الحق ، مثلا إذا بدا للانسان أنّ قول القائد لا يماثل عمله فله السؤال والنقاش ولكن باسلوب بنّاء ، لغاية الوصول إلى الحق ، وهذا ما يدعو إليه الإسلام خصوصاً فيما إذا كان القائد انساناً غير معصوم ، بل نجد ذلك في عصر المعصوم أيضاً ، روى أصحاب السيرة لمّا توفّي عبدالله ولد النبي بكى عليه وجرت دموعه على خدّيه ، فاستظهر بعض الصحابة أنّ عمل النبي هذا ينافي ما أوصى به من عدم البكاء على المّيت ، فاجابه النبي وأرشده إلى الحق وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ، ولكنّي نهيت عن صوتين احمقين وآخرين : صوت عند مصيبة ، وخمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنة شيطان ، وصوت عند نعمة لهو ، وهذه رحمة ومن لايَرْحَم لايُرْحَم (١).

نعم إذا كانت الغاية مجرّد إبداء الرأي ، وحبّ الاعتراض ، فهذا ما يعدّه الكتاب والسنّة من المجادلة بالباطل ( ما يُجادِلُ فِى آياتِ اللهِ إلاّ الَّذِيْنَ كَفَروا فَلا

__________________

١ ـ برهان الدين الحلبي : السيرة الحلبية ٣ / ٣٩٥.

١٤٣

يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البِلادِ ) (١) وقال سبحانه : ( ويجادِلُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بَالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ). (٢)

نحن نرى تلكما النزعتين متجسّدتين في الأشتر والملتفّين حوله من الصلحاء من جهة ، وحرقوص وزملائه من جهه اُخرى ، وإن اشتركوا في حقبة من الزمن في صبغة الاعتراض.

فالنزعة الاُولى : كانت نابعة عن روح صادقة لاعن هوى نفسي ، ولأجل ذلك بقوا على اعتراضهم ومخالفتهم لعامل الخليفة إلى أن قُتِلَ عثمان ، لأنّهم أدركوا أنّ عمل الخليفة وعمّاله يفارق مبادىء الإسلام ، وتحمّلوا التسيير والتبعيد عن الوطن ، ولكن لمّا واجهوا عليّاً ووجدوا فيه ضالّتهم المنشودة من أنّه القائد الإلهي الذي يعمل لأجل الله ، سلّموا إليه مقاليد امورهم.

والنزعة الثانية : كانت نابعة عن روح مكابرة تريد فرض ما تحبّ وترى ، سواء أكان حقّاً أم باطلا ، ونذكر هنا نموذجاً للقسمين :

قال ابن مزاحم : قيل لعلي لمّا كتبت الصحيفة : إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم ، فقال علي : بلى إنّ الأشتر ليرضى اِذا رَضيْتُ ، وقد رضيتُ ورضيتُم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الإقرار ، إلاّ ان يُعْصى الله ويتعدّى ما في كتابه (٣).

وإي تسليم أعلى وأنبل من تسليم الأشتر لأمر القيادة ، فقد كان النصر حليفاً له ولم يبق بينه وبين تحقّقه الاّ عدوة الفرس ، أو قاب قوسين او أدنى ، فلمّا وقف على أنّ مواصلة الحرب ولو فترة قليلة سيؤدّي إلى القضاء

__________________

١ ـ غافر : ٤.

٢ ـ الكهف : ٥٦.

٣ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٩٨.

١٤٤

على حياة الإمام ، تراجع عن ساحة القتال ، ورجع طائعاً مذعناً لما أمره به الإمام عليه‌السلام وخاطب اُولئك الذين وقفوا بوجه الإمام ، وقال خُدِعَتم والله فانخدعتم ، ودُعِيْتُم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباة السود كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زهادة في الدنيا ، وشوقاً إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحاً يا أشباه النِّيب الجلاّلة ، ما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون (١).

هذا هو الأشتر وهذه طاعته للامام الحق ، وأمّا الخوارج فسَلْ عن عنادهم ولجاجهم في وجه الحق ، فقد احتجّ عبدالله بن عباس على صحّة مبدأ التحكيم بقوله : « إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد » فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذوا عَدْل مِنْكُمْ ) فكيف في الامامة ... ، فلمّا سمعت الخوارج تلك المعارضة قال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم : ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون ) وقال عزّوجلّ : ( وتنْذِرَ به قَوْماً لدّا ) (٢).

إلى هنا وقفت على العامل الأوّل لظهور هذه النكسة ، وإليك بيان العامل الثاني :

الثاني : وجود العملاء في جيش الإمام :

كان في ج

يش الإمام عملاء لمعاوية يعملون لصالحه ، حيث كانوا يضمرون العداء لعليّ ، ويتحّينون الفُرصَ للقضاء على حكومته وحياته ، كأمثال الأشعث بن قيس ، وقد عرفت أنّه خطب في أوان طلوع فكرة إنهاء الحرب وقال : من لذرارينا ونسائنا إن قُتِلْنا؟ يقول هذا والخوارج بمرأى

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٦٣.

٢ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٢٢ طبع مطبعة المعارف بمصر.

١٤٥

ومسمع منه ، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد : « كلّ فساد كان في خلافة عليّ عليه‌السلام وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث » (١).

وإليك الشواهد على صحّة تلك النظرية :

١ ـ كان الأشعث عاملا لعثمان على آذربايجان ، وقد كان عمروبن عثمان تزوّج ابنة الأشعث بن قيس ، ولمّا بويع عليّ عليه‌السلام كتب إليه مع زياد ابن مرحب الهمداني رسالة ذكر فيها بيعة طلحة والزبير ونقضهما البيعة وقال : « وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه أمانة ، وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ ». فلمّا قرأ كتاب علي قال لبعض أصحابه : « إنّه قد أوحشني وهو آخذ بمال آذربايجان » وأراد اللحوق بمعاوية فمنعه بعض أصحابه حتى قدم على عليّ ، وهو معزول عن الولاية (٢).

قال المسعوديّ : وبعث إلى الأشعث بن قيس يعزله عن آذربايجان وأرمينية وكان عاملا لعثمان عليها ، وكان في نفس الأشعث على عليّ ما ذكرنا من العزل وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من الأموال (٣).

٢ ـ كانت رئاسة قبيلتي كندة وربيعة للأشعث فانتزعها عليّ عليه‌السلام منه وولّى حسان بن مخدوع عليهما ، ثمّ بعد هن وهنات أشركه في الرئاسة (٤) وقد أثار ذلك حفيظة الأشعث على علىّ وإن لم يظهر ذلك.

٣ ـ كان الأشعث متّهماً بالتنسيق مع معاوية خلال فترة الحرب ، يقول ابن مزاحم : إنّ ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث رسولا فقال له : « إنّ ابن عمّك

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٩.

٢ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٢٩.

٣ ـ المسعودي : مروج الذهب ٣ / ١١٧.

٤ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ١٥٣.

١٤٦

ذي الكلاع يقرئك السّلام ورحمة الله ، وإن كان ذوالكلاع قد اُصيب وهو في الميسرة ، فتأذن لنا فيه » فقال له الأشعث : اقرأ صاحبك السّلام ورحمة الله ، وقل له : إنّي أخاف أن يتهمني علي ، فاطلبه إلى سعيد بن قيس فإنّه في الميمنة ، فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم ، وكانوا في اليوم والأيام يتراسلون (١).

٤ ـ أرسل معاوية بن ابي سفيان أخاه عتبة بن أبي سفيان ، فقال : الق الأشعث ، فإنّه إن رضي رضيت العامّة ، فخرج عتبة فنادي الأشعث بن قيس ، فقال الناس : هذا الرجل يدعوك ، فقال الأشعث : سلوه من هو؟ فقال : أنا عتبة بن أبي سفيان ، فقال الأشعث : غلام مترف ولابدّ من لقائه ، فخرج إليه ، فأبلغه دعوة معاوية (٢).

وهذا يعرب أنّ معاوية كان يحاول ايجاد موطأ قدم له في ساحة علي عليه‌السلام من خلال كسب رضا الأشعث ، وقد نجح الرجل في ذلك بعض النجاح وقد كانت نتيجة هذه الدعوة أنّه قال في جواب معاوية : أمّا البقية فلستم بأحوج إليها منّا ، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله.

فلمّا بلغ معاوية كلام الأشعث ، أيقن بأنّ الأشعث قد جنج للسلم ، وشاعت نتيجة المفاوضة في صفوف الجيشين ، إلى أن اجترأ الأشعث على ابداء رأيه في الحرب والطلب من عليّ أنهائها رحمة بالذراري والنساء وهذا ماتقرأه فيما يلي :

٥ ـ إنّ الأشعث قام ليلة الهرير في أصحابه من كندة ، فألقى خطاباً يتوخّى منه تثبيط العزائم وايقاف الحرب لصالح معاوية ، وكانت امارات النصر لعلي

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٣٤١.

٢ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٤٦٥.

١٤٧

ظاهرة ، وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الأسنّة في نهار تلك الليلة ، فقال في خطابه : « قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فني فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط ، إلاّ فليبلّغ الشاهد الغائب ، انّا إن نحن توافقنا غداً انّه لفناء العرب وضيعة الحرمات ، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ولكنّي رجل مسنّ اخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا.

قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث ، فقال : أصاب وربّ الكعبة ، لئن نحن التقينا غداً لتميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا ، ولتميلنّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم ، وأنّما يبصر هذا ذووا الأحلام والنهى ، اربطوا المصاحف على أطراف القنا.

فصار أهل الشام فنادوا في سواد الليل : يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم ، الله الله في البقية. فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلَّدوها الخيل ... (١).

٦ ـ إنّ رفع المصاحف أوجد الفوضى في جيش علي عليه‌السلام وفرّقهم إلى فرقتين ، فمنهم من يطلب مواصلة الحرب كعمروبن الحمق وغيره ، ومنهم من يصرّ على إنهائها ، ومنهم الأشعث فقام خطيباً مغضباً فقال : يا أمير المؤمنين أجب القوم إلى كتاب الله فإنّك أحقّ به منهم ، وقد أحبّ الناس البقاء وكرهوا القتال (٢).

٧ ـ وبعدما رضي الإمام بالتصالح لاُمور تقدّمت ، وتوافق الطرفان على أن يبعث كلّ واحد حكماً ، اختار الإمام أن يكون الحكم من قِبَلِه ، ابن عباس ،

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٤٩ ـ ٥٥٠.

٢ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٥١.

١٤٨

فلم يقبله الأشعث ، وقال : والله ما نبالي أكنتَ أنت أو ابن عباس ولانريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر ، قال علي : إنّي اجعل الأشتر ، قال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر (١).

٨ ـ كان الأشعث يتبجّح بكتاب الصلح ولمّا تمّت كتابته وشهد عليه شهود من الطرفين أخذ به ومرّ به على صفوف أهل الشام والعراق يعرضه عليهم ، واستقبله أهل الشام بالرضا ، وأمّا أهل العراق فقد أوجد فيهم فوضى فمنهم من رضى ومنهم من حمل عليه هاتفاً بقوله : لا حكم إلاّ لله (٢).

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الرجل وإن لم يكن من الخوارج لكنّه إمّا كان عميلا لمعاوية ، كما هو الظاهر ممّا سردناه عليك ، أوكان في نفسه شيء يجرّه إلى أن يتّخذ موقفاً خاصّاً مناوئاً لعليّ عليه‌السلام ولأجل ذلك كان ما ألقاه من كلام حول ايقاف الحرب فرصة لما يرومه معاوية من انهاء الحرب وايجاد الفوضى ، وبذلك تقف على صحّة ماذكره ابن أبي الحديد : من أنّ كل فساد كان في خلافة عليّ فأصله الأشعث.

يقول اليعقوبي : لمّا رفعوا المصاحف وقالوا : ندعوكم إلى كتاب الله ، فقال علي : إنّها مكيدة وليسوا بأصحاب قرآن ، فاعترض الأشعث بن قيس الكندي ، ـ وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسهـ فقال : قد دعوا القوم إلى الحقّ ، فقال علىّ عليه‌السلام إنّهم إنّما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم ، فقال الأشعث : والله لئن لم تجبهم انصرفتُ عنك ، ومالت اليمانية مع الأشعث ، فقال الأشعث : والله لتجيبنّهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنِّك إليهم

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٧٢.

٢ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٨.

١٤٩

برمّتك. (١).

ويؤيّد ذلك ما ذكره المبرّد في كامله : لمّا استقرّت الخوارج في حروراء بعث علي عليه‌السلام إليهم صعصعة بن صوحان العبدي وزياد بن النضير الحارثي مع عبدالله بن عباس فقال لصعصعة : بأي القوم رأيتهم أشدَّ إطاقة؟ فقال : يزيد بن قيس الأرحبّي ، فركب علي إليهم إلى حروراء ، فجعل يتخلّلهم حتى صار إلى مَضْرب يزيد بن قيس ، فصلّى فيه ركعتين ، ثم خرج فاتّكأ على قوسه ، وأقبل على الناس ، فقال : هذا مقام من فلج (٢) فيه فلج يوم القيامة ، ثمّ كلّمهم وناشدهم ، فقالوا : أنّا أذنبنا ذنباً عظيماً بالتحكيم ، وقد تبنا ، فتب إلى الله كما تبنا نعدلك ، فقال علي عليه‌السلام : أنا استغفر الله من كلّ ذنب ، فرجعوا معه وهم ستّة آلاف ، فلمّا استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّاً عليه‌السلام رجع عن التحكيم ، ورآه ظلالا وقالوا : إنّما ينتظر أميرالمؤمنين أن يسمن الكراع (٣) وتجنى الأموال ، ثمّ ينهض بنا إلى الشام ، فأتى الأشعث عليّاً عليه‌السلام فقال : يا أميرالمؤمنين ، إنّ الناس قد تحدّثوا أنّك رأيت الحكومة ضلالا والاقامة عليها كفراً ، فقام عليّ عليه‌السلام يخطب ، فقال : من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب ، ومن رآها ضلالا فقد ضلّ ، فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكَّمت(٤).

قال ابن أبي الحديد : إنّ الخوارج لمّا قالوا لعليّ : تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا ، ننهض معك إلى حرب الشام ، فقال لهم عليّ : كلمة مجملة مرسلة

__________________

١ ـ اليعقوبي : التاريخ ٢ / ١٧٨ طبعة النجف.

٢ ـ فلج فيه ، من الفلج : وهو الظفر.

٣ ـ الكراع : اسم للخيل.

٤ ـ المبرّد : الكامل ٢ / ١٥٥ ، وفي المصدر : فقال الصعصعة والصحيح ما أثبتناه.

١٥٠

يقولها الأنبياء والمعصومين وهي قوله :

« استغفرالله من كلّ ذنب » فرضوا بها وعدّوها اجابة لهم إلى سؤالهم ، وصفت له عليه‌السلام نيّاتهم ، واستخلص بها ضمائرهم ، من غير أن تتضمّن تلك الكلمة اعترافاً بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث ، وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية ، فانتقض ما دبّره ، وعاد الخوارج إلى شبهتهم الاُولى ، وراجعوا التحكيم والمروق (١).

هل العصبية القبلية دفعت الأشعث إلى المخالفة؟ :

من هذا البحث انصافاً تقف على قيمة مايذكره البعض وهو أنّ العصبية القبلية أثّرت في انحراف الأشعث عن علي ، بل مهّدت لنشوء الخوارج وظهورهم في الساحة ، وذلك بحجة أنّ الأشعث اعترض على ترشيح عبدالله بن عباس ممثّلا لعليّ ، وقال : لا والله لا يحكم فيها مُضريّان حتى تقوم الساعة ، ولكن اجعله من أهل اليمن ، إذا جعلوا (أهل الشام) رجلا من مضر. فقال علي : إنّي أخاف أن يُخْدَع يَمَنَيِّكُم ، فإنّ عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في امر هوى ، فقال الأشعث : والله لأن يحكماببعض ما نكرهه وأحدهما من أهل اليمن أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبّ في حكمهما وهما مضريان (٢).

إنّ تحليل انحراف الأشعث عن عليّ عليه‌السلام وايجاده الفوضى في قسم كبير من جيشه بهذا العامل النفسي ضعيف جداً ، ولاننكر أن يكون لهذا العامل أيضاً رصيداً في ما كان يضمره ويعمله.

____________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٨٠.

٢ ـ الدكتور نايف معروف : الخوارج في العصر الاُموي ٢٥ وما نقله عن الأشعث ، ذكره ابن مزاحم في وقعة صفّين ٥٠٠.

١٥١

وأبعد من ذلك تحليل نشوء الخوارج في ساحة القتال بالعصبية القبلية ، انّها أنجبت حركة الخوارج فصارت عصبيتهم الموجّهة ضدّ قريش وسلطانها المتجسّد في الحكومة العلوية يومذاك ، سبباً لتلك الحركة الهدّامة بشهادة أنّا لانجد في صفوف الخوارج قرشياً واحداً بل على العكس من ذلك فإنّهم كانوا يحملون لواء التمرّد على قيادتها (١).

إنّ تحليل هذه الحركة الكبيرة من بدئها إلى نهايتها بهذا العامل النفسي أشبه بتعليل الهزّة الكبيرة الموجبة لانهدام المدن والقرى ، بسقوط صخرة من أعلى الجبل إلى هّوة سحيقة ، نعم لايمكن انكار العصبية القبلية بين جميع القبائل العربية ، خصوصاً بين قبيلتي تميم وقريش ، ولكنّه ليس بمعنى أنّه الباعث والعامل المحدِث لهذه الضجّة الكبيرة التي شغلت بال المسلمين والخلفاء طوال قرون ، بل العامل لحدوث هذه الحركة هو ما عرفته في المقام وفي الفصل الثالث عند البحث عن نشوء الخوارج.

__________________

١ ـ الدكتور نايف معروف : الخوارج في العصر الاُموي ٢٨.

١٥٢

الفصل الثامن

الخوارج في عصر معاوية بن أبي سفيان

١٥٣
١٥٤

قد تعرّفت على مأساة التحكيم وما خلّف من آثار ونتائج سيّئة في جيش الإمام وأصحابه حيث فرّقهم وشقَّ شملهم ، فانقلب الاخوان أعداءً ، وأصبح الأنصار معارضين ، إلى أن أدّى ذلك إلى حروب دامية ضدّ إمامهم أمير المؤمنين ولم يبرحوا حتى قضوا على حياته حيلة وغيلة.

لقد بذر معاوية تلك البذرة في جيش الإمام ، ولم يدر بخلده أنّ هذه البذرة سوف تنمو وتكون أشواكاً تعكّر عليه صفو خلافته ، وتشغل باله عشرين سنة إلى العام الذي هلك فيه ، فحصد مازرع ووقع بالحفرة التي حفرها ، وسوف نذكر الحروب والانتفاضات التي جرت في عهد معاوية بعد أن تسنّم عرش الخلافة من عام ٤١ إلى ٦٠ من الهجرة.

نعم لم تقف انتفاضاتهم بهلاك معاوية ، بل استمرّت بعد هلاكه ، وعلى طول عهد بني اُميّة ، غير انّا نكتفي بما جرى في عهد معاوية وبعده بقليل ، ليكون نموذجاً لسائر الثورات التي قاموا بها إلى أواخر العصر الأموي. فكانوا مثلا لقوله سبحانه : ( ألَمْ يَأتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَروُا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وبالَ أَمْرِهِمْ

١٥٥

وَ لَهُمْ عَذابٌ اَليِمٌ ) (١).

وقبل ذلك نلفت نظر القارىء إلى هذه الانتفاضات من زاوية اُخرى ، فالخوارج وإن قاموا في وجه الطغاة اللئام من بني اُميّة فثاروا عليهم هنا وهناك بصورة عشوائية ومتفرّقة ، فأسهروا عيونهم وزعزعوا كيانهم ، ولكنّهم أيضاً ذاقوا وبال أمرهم لأنّهم عصوا إمامهم ، وقلّبوا الاُمور عليه ، وأوجدوا الفوضى في عصره ، فصدق فيهم قول الامام وهو يخاطبهم : « أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، يتّخذها الظالمون فيكم سنّة » (٢).

وهذا الكلام تنّبؤ من الإمام عن مستقبلهم المظلم ، ويحقّ له هذا التنّبؤ ، كيف وهو باب علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نعم احتمل ابن أبي الحديد أن يكون دعاءً أيضاً وقال : وهذه المخاطبة لهم وهذا الدعاء عليهم ، وهذه الأخبار عن مستقبل حالهم ، وقد وقع ذلك ، فإنّ الله تعالى سلّط على الخوارج بعده الذلّ الشامل ، والسيف القاطع ، والاثرة من السلطان ، ومازال حالهم يضمحل حتى افناهم الله تعالى وافنى جمهورهم.

ثمّ إنّ ابن أبي الحديد ذكر في أخبارهم شيئاً كثيراً وأطنب الكلام في سيف المهلّب بن أبي صفرة وبنيه على الخوارج وانّ نتيجته كانت الحتف القاضي ، والموت الزؤوم للخوارج.

إنّ موسوعتنا هذه موسوعة تاريخ العقائد ، لا تاريخ الأقوام ، ولأجل ذلك ضربنا صفحاً عن نقل جميع الانتفاضات التي أقامها الخوارج في الشهود المختلفة ، وفي أماكن متفرّقة ، واكتفينا بماقاموا به في العصر الإموي ، وخصّصنا بالذكر خصوص ما يرجع إلى عهد معاوية بن أبي سفيان زارع هذه

__________________

١ ـ التغابن ٥.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٥٨.

١٥٦

البذرة ، وحاصد نتائجها الدنيوية ، وحافر تلك الحفرة والواقع فيها ، وطلباً للاكمال نشير إلى الانتفاضات الواقعة بعد عهد معاوية بوجه موجز.

اغتيل الإمام علي عليه‌السلام بيد أشقى الأوّلين والآخرين على ما وصفه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه (١) وقضى نحبه فبويع الحسن خليفة بعد أبيه وتمّت له البيعة في رمضان سنة أربعين ، وكان معاوية يتحّين الفرص ليسيطر على العراق كما سيطر على مصر ويأخذ بمقاليد الحكم ، وقد أعطاه قتل الإمام فرصة لبسط نفوذه على العراق وخلع الحسن عن الحكم ، فقدّم أمامه عبدالله بن عامر ليفتح الطريق إلى معاوية ، ثمّ غادر هو الشام متوجّهاً إلى العراق.

ولمّا وقف الحسن على خطّة معاوية وانّه بصدد مواجهته بالقوّة العسكرية قدّم كتائب من جيشه وعلى رأسهم كتيبة قيس بن سعد بن عباده ، وخرج هو من الكوفة حتى نزل المدائن مستعدّاً لمواجهة معاوية ، غير أنّ الحوادث المريرة ـ التي ليس المقام مناسباً لذكرها ـ خيَّبتْ أمله ، فلم يَر بدّا من التنازل عن الحكم وتسليم الأمر إلى معاوية من خلال وثيقة الصلح ، وكيف لايكون مضطرّاً إلى التصالح وقد أعرب عن اضطهاده وتخاذل أصحابه ونهب ماله قبل مواجهة العدوّ ، فقام خطيباً وقال : « يا أهل العراق انّه سخّى بنفسي عنكم ثلاث : قتلكم أبي ، وطعنكم إيّاي وانتهابكم متاعي »(٢).

أخذ معاوية بمقاليد الحكم وكان يتبجّح بأنّه أزال جميع الموانع التي

__________________

١ ـ سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص ١٥٨.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ١٢٢ وقد ذكر الطبري صورة وثيقة الصلح في ذلك المقام ولكن ما ذكره لايشتمل على جميع بنود الصلح ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

١٥٧

كانت تقف في طريقه لتولّي سدّة الحكم ، لكنّه كان غافلا عن أنّ البذرة التي بذرها في صفّين لأجل إيجاد الفرقة في صفوف جيش عليّ عليه‌السلام سوف تنمو ويأكل من ثمرها وتكون عليه ضدّاً ، فإن تسليم الحسن الحكم لمعاوية ، ومبايعة أهل العراق له قد أغضب رؤوس الخوارج المختفين في جيش الحسن والمتفرّقين في البلاد ، إذ شعروا أنّ هذا التصالح خطر على كيانهم ووجودهم ، ولأجل ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم لمحاربة النظام الجديد كما حاربوا النظام السابق ، فالخوارج كانوا ينظرون إلى عليّ عليه‌السلام ومعاوية بمنظار واحد بعد قضية التحكيم وإن كان عليّ عليه‌السلام في نظرهم إماماً عادلا محقّاً قبل التحكيم.

وإليك بعض حروبهم في عصر معاوية على وجه الإجمال :

١ ـ خروج فروة بن نوفل : يقول الطبري : وفي هذه السنة سنة ٤١ خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام عليّ عليه‌السلام بـ « شهرزور » على معاوية ، فلمّا قدم معاوية العراق قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة فقالت الحرورية الخمسمائة التي كانت اعتزلت بـ« شهرزور » مع فروة بن نوفل الأشجعي : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه ، فسيروا إلى معاوية نجاهده ، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفه فأرسل اليهم معاوية خيلا من خيل أهل الشام فكشفوا أهل الشام ، فقال معاوية لأهل الكوفة : لاأمان لكم والله عندي حتى تكّفوا بوائقكم ، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم ، فقالت لهم الخوارج : ويلكم ما تبغون منّا ، أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم ، دعونا حتى نقاتله وإن أصبناه كنّا قد كفينا كم عدوّكم ، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا ، قالوا : لا والله حتى نقاتلكم ، فقالوا : رحم الله اخواننا

١٥٨

من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة ، وأخذت أشجع (١) صاحبهم فروة وكان سيد القوم واستعمل الخوارج عليهم عبدالله بن أبي الحر (٢) ، رجلا من طيّ ، فقاتلوهم ، فقتلوا (٣).

وممّا يذكره المؤرّخون من حديث معركة النخيلة : انّ قبيلة اشجع تمكّنت من أخذ فروة بن نوفل من بين أصحابه الخوارج ، فولّى الخوارجُ عليهم عبدالله بن ابى الحرباء ، فقتل في أثناء المعركة ، فولّى الخوارج عليهم حوثرةَ بن وداع بن مسعود الأسدي ، فعاد إلى النخيلة ، فأرسل اليه معاوية أباه ، لعلَّه يردُّه وقال له :

اُخرج إلى ابنك فلعلَّه يرقُّ إذا رآك.

فخرج إليه وكلّمه وناشده وقال :

ألاأجيئك بأبنك؟ فلعلّك إذا رأيتَه كرهتَ فراقهَ.

فقال حوثرة : إنّي إلى طعنة من يد كافر يرمح القلب فيها ساعة ، أشوق منّي إلى ابني.

فرجع أبوه وأخبر معاوية بقوله.

فأرسل معاوية إليهم جنداً فقتلوهم جميعا (٤).

٢ ـ خروج شبيب بن بجرة :كان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليّاً ، فلمّا دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب المتقرّب وقال : أنا وابن ملجم قتلنا عليّاً ، فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع ،

__________________

١ ـ اسم قبيلة من قبائل الكوفة ، والمراد أنّ القبيلة التي كانت تحمي معاوية أخذت فروة بن نوفل رئيس الخوارج.

٢ ـ وفي الكامل لابن الاثير (عبدالله بن أبي الهوساء) ٣ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٣ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ١٢٦.

٤ ـ عمر ابو النضر : الخوارج في الإسلام ٣١.

١٥٩

فقال : لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنّه ببابي لأهلكنّكم ، أخْرِجوه من بلدكم ، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله ، فلمّا ولي المغيرة بن شعبة الكوفة ، خرج عليه بالطفّ قريب الكوفة ، فبعث إليه المغيرة خيلا عليها خالد بن أرفطة ، وقيل معقل بن قيس ، فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه (١).

هذه عبرة خاطفة عن ثورات الخوارج في الكوفة ، قبل أن يولّى المغيرة بن شعبة من قبل معاوية ، وبعدما تولّى هو الكوفة كانت لهم ثورات أخمدها المغيرة بدهائه وسيفه وإليكها مجملة :

الخوارج والمغيرة بن شعبة والي معاوية في الكوفة :

غادر معاوية الكوفة إلى الشام واستعمل عبدالله بن عمرو بن العاص على الكوفة ، فأتاه المغيرة بن شعبة فقال له : استعملت عبدالله على الكوفة ، وأباه على مصر ، فتكون أميراً بين نابي الأسد ، فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة ، ولمّا بلغ عمرو ما قاله المغيرة ، دخل على معاوية فقال : استعملت المغيرة على الخراج فيغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه ، استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتّقيك ، فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة.

فلقى المغيرة عمرو ، فقال عمرو : أنت المشير على أميرالمؤمنين بما أشرت به في عبدالله؟ قال : نعم. قال : هذه بتلك (٢) وكان المغيرة يمثّل

__________________

١ ـ ابن الاثير : الكامل ٣ / ٢٠٦.

٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ١٢٧. ابن الاثير : الكامل ٣ / ٢٠٦. هؤلاء هم الصحابة العدول الذين يؤخذ عنهم الدين والفتوى!!.

١٦٠