بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٤٢

الأوّل قد خرج عن السقيفة ببيعة لفيف من المهاجرين من الأنصار وتخلّف عن بيعته بنو هاشم والخزرجيون عامة.

كما انّ عمر بن الخطاب تسنّم منصة الخلافة بإيصاء من الخليفة ولم يكن هناك للناس أيّ رأي ولااختيار.

وقد كانت خلافة عثمان بانتخاب الشورى التي عَيَّنَ أعضاءها الخليفة الثاني ولم يكن للمهاجرين والأنصار أيّ نظر في تعيين تلك الشورى.

فإذا كان كلّ ذلك معطياً للخلافة ، الصبغة القانونية ، فبيعة المهاجرين والأنصار عليّاً هاتفين بأنّهم لايختارون غيره وفيهم الرعيل الأول من صحابة الرسول والتابعين لهم بإحسان ، أولى بأن تكون شرعية وقانونية. واتّفق الباحثون عن كيفية انعقاد الامامة لرجل ، على انّ بيعة أهل الحل والعقد من أهل المدينة حجّة على عامّة المسلمين.

يروي الطبري عن محمّد بن الحنيفة قال : كنت مع أبي حين قتل عثمان (رضي الله عنه) فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولانجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ، ولاأقدمَ سابقة ولاأقرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : لا تفعلوا ، فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك ، قال : ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّة ، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين ، قال : سالم بن أبي الجعد : فقال عبدالله بن عبّاس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، فأبى هو الاّ المسجد ، فلمّا دخل ، دخل عليه المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس (١).

وقد حفظ التاريخ أسماء المتخلّفين عن بيعة علي وهم نفر يسير لا يتجاوز

____________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٥٠.

١٠١

العشرة وهذا يدل على أنّ جوّ البيعة كان هادئاً حراً ، ولم يكن هناك أيّ ضغط واجبار ، فبايعت الجماهير ، وتخلّفت عدة قليلة كانت عثمانية الهوى كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وزيد بن ثابت ، والنعمان بن البشير ، ومحمّد بن مسلمة ، ورافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة.

يقول الطبري : أمّا حسّان فقد كان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار الله مرتين ، فقال أبو أيّوب : ما تنصره إلا انّه أكثر لك من العضدات ، فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة المدينة وترك ماأخذ منهم له (١)

ولاأظن انّه يوجد على أديم الأرض انتخاب جماهيري لقائد ، لايوجد فيه مخالف شاذ يأبى عن البيعة لدوافع شخصيّة.

وقد تعرفت فيما سبق على كلمات الإمام ونزيد في المقام قوله مخاطباً طلحتة والزبير : والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنّكم دعوتموني إليها وحمّلتموني عليها (٢).

ثالثاً : إذا خرجنا بهذه النتيجة : إنَّ بيعة الإمام كانت بيعة شرعية قانونية أطبق عليها المهاجرون والأنصار ، فلأيّ مبّرر يرفض معاوية عليّ ويؤخّر البيعة ويرفع قميص عثمان مطالباً بالثار؟ ولأجل ذلك نرى الإمام يُنَدِّده ويبيّن موقفه من بيعته ويكتب اليه قائلا : إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولاللغائب أن يرد ، انّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة رَدّوه إلى ما خرج منه ،

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٥٢.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٠.

١٠٢

فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولّى (١).

رابعاً : لو خرج الباحث بهذه النتيجة وهو أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره ، وأنّه يجب أخذ ثأره من قَتَلِته ، فلاشك انّ ذلك حقّ ولىّ الدم ، قال سبحانه : ( ومنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّه سُلطَاناً فَلا يُسْرِف فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) (٢) فهل كان معاوية وليّ الدم ، أو أنّ وليّ الدم أولاد المقتول وان نزلوا. إِنَّ معاوية حسب المقاييس الشرعية لم يكن وليّ الدم وانّما أولياؤه ولده فلهم حق القصاص ، ولكن لا ينالون حقّهم إلاّ برفع الأمر الى المحكمة الصالحة لتنظر في أمرهم. ولو عجزت المحكمة ، فلهم الاستنجاد بغيرهم ، لا في بدء الأمر ، ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يُندّد بقيامه بأخذ الثأر ولايراه صالحاً لهذا الأمر ويكتب الى معاوية : « زعمت أنّك انّما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان » : ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين أوْرَدْتُ كما أوردوا ، وأصدرتُ كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى وبعْد فما أنت وعثمان ، إنّما أنت رجل من بني أميّة ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه ، فإن زعمت أنّك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إليّ (٣).

وفي لفظ ابن قتيبة : أمّا قولك ادفع إليَّ قتلة عثمان ، فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان ، وهم أولى بذلك منك ، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع الى البيعة التي لزمتك وحاكم القوم إليَّ (٤).

خامساً : إذا خرجنا بهذه النتيجة ، أنّ أخذ الثأر وان كان حقّاً ثابتاً لأولياء

__________________

١ ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الكتب برقم ٦ وفي ذيل الكتاب إشارة الى قوله سبحانه ( ومن يشاقق الرسول ... ) النساء : ١١٥.

٢ ـ الاسراء : ٣٣.

٣ ـ المبرّد : الكامل ١ / ١٩٤ مكتبة المعارف بيروت.

٤ ـ ابن قتيبة : الامامة والسياسة ١ / ٨٨.

١٠٣

الدم ، لكنّهم لايقومون بأخذ حقّهم مباشرة ، بل اللازم عليهم رفع الشكوى الى المحاكم الصالحة التي أقامها وليّ المسلمين أعني الخليفة المفترض طاعته ، وإلا فلو قام وليّ الدم بالقصاص واخذ الحق مباشرة ، لزم الفوضى في المجتمع ، كما هو واضح لكلّ من له إلمام بالمسائل الاجتماعية ، فإذا كان هذا حقّاً ثابتاً للإمام ، فهل كان الإمام قادراً على تنفيذ حكم القصاص في حق اولئك الثائرين ، أو كانت الظروف لاتساعد إجراء الحكم ، ولا تعلم حقيقة الحال إلاّ بدراسة الموضوع تاريخياً ، فإنّه يشهد على أنّ الثائرين لم يكونوا أشخاصاً معيّنين ، بل كانت هناك انتفاضة شعبية مختلطة من الكوفيين والبصريين والمصريين ، والمدنيين ، وقد حاصروا بيت الخليفة قرابة أربعين يوماً ، ولم يكن في وسع أصحاب النبي رفع هذا الحصار أو تقويضه إلى أن حدثت حوادث مريرة أدّت إلى الهجوم العنيف على داره ، وقد بلغ المهاجمون من الكثرة مالايحصيه أحد ، ويعلم صحّة ذلك من الأمر التالي :

إنّ أبا مسلم الخولاني قام إلى معاوية في اُناس من قرّاء أهل الشام قبل مسير أمير المؤمنين إلى صفين فقالوا له : يا معاوية علامَ تقاتل عليّاً وليس لك مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته؟ قال معاوية لهم : مااُقاتل علياً وأنا أدعّي أنّ لي في الإسلام مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته ولكن خبّروني عنكم : ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلوماً؟ قالوا : بلى. قال : فلْيَدَعْ إلينا قتلته ، فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه. قالوا : فاكتب إليه كتاباً يأتيه به بعضنا ، فكتب إلى عليّ هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني فقدم به على عليّ ثم قام أبومسلم خطيباً فحمدالله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد فإنّك قد قمت بأمر وتولّيته ، والله ما أحبُ أنّه لغيرك ، أن أعطيت الحق من نفسك ، إنّ عثمان قتل مسلماً ، محرماً ، مظلوماً ، فادفع إلينا قتلته ، وانت أميرنا ، فإن خالفك أحد من

١٠٤

الناس كانت أيدينا لك ناصراً ، وألسنتنا لك شاهداً ، وكنت ذا عذر وحجة.

فقال له علي : اغدُ عَليّ غداً ، فخذ جواب كتابك ، فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعةُ أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد واخذوا ينادون : كلنّا قتل ابن عفان ، وأكثروا من النداء بذلك ، واُذن لأبي مسلم فدخل على عليّ أميرالمؤمنين فدفع إليه جواب كتاب معاوية ، فقال له أبومسلم : قد رأيت قوماً مالك معهم أمر. قال : وما ذاك؟ قال : بلغ القوم انّك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان ، فضجّوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنّهم كلّهم قتلة عثمان ، فقال علي : والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه ، مارأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولاإلى غيرك. (١)

نحن نفترض انّ بعض من لبس السلاح في هذه الواقعة لم يكونوا من المهاجمين ، أوالمؤلّبين ، أوالمجهزين ، لكن تواجد هذه الكميّة الهائلة من المتبنّين لهذه الفكرة في الكوفة ، فضلا عن أبناء جلدتهم في البصرة والمدينة ، المؤيّدين المتفرقين في بلادهم ، يدلّ على أنّ المسألة صارت أزمة اجتماعيةً معقّدةً ، ولم يكن الإمام متمكّناً من دفع من قام بالقتل إلى وليّ الدم.

ويعرب عن ذلك كلام الإمام للناكثين ، فقد دخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة ، فقال : يا عليّ إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود ، وانّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم ، فقال لهم : يا اخوتاه ، إنّي لست أجهل ما تعلمون ، ولكّني كيف أصنع بقوم يملكونا ، ولا نملكهم ، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، وثابت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم ، يسومونكم ما شاءوا ، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء ممّا تريدون؟ قالوا : لا. قال : فلا ،

__________________

١ ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين ٩٥ ـ ٩٧.

١٠٥

والله لا أرى إلاّ رأياً ترونه إن شاء الله (١).

فعلى هذا فلم تكن للامام يوم بويع ولابعده ولا بعد شهور ، أيّة مقدرة على القاء القبض على القاتلين ، وإلاّ لثارت تلك الجماهير على عليّ وخلافته الفتَّية ، وكانت المصيبة أعظم.

سادساً : لاشكّ انّ طلحة والزبير نكثا البيعة واخرجا زوجة رسول الله من بيتها ، وقد دخلوا البصرة بعنف وقتلوا حرس القصر ، إلى غير ذلك من الاُمور التي لايشكّ فيها أيّ ملمّ بالتاريخ ، ولكن القوم يذكرون الرجلين بخير وصلاح ويسترحمون عليهما ويرونهما من العشرة المبشّرة بالجنّة ولا يرون أعمالهم الإجرامية مخالفة لطهارتهما ، ويبّررون أعمالهم بالاجتهاد كما يبرّرون به عمل معاوية وغيرهم من المجرمين الطغاة حتى عمل مسلم بن عقبة ذلك الطاغي الذي أباح أعراض نساء المدينة لجيشه ثلاثة أيّام.

فلو صحّ ذلك التبرير فلماذا لايصحّ في حقّ هؤلاء الذين هاجموا بيت الخليفة واجهزوا عليه؟ فكانوا مجتهدين في الرأي ، مخطئين في النتيجة ، فلهم اُجر واحد ، كما أنّ للمصيب أجرين؟. ولكن لانرى أيّة كلمة حول هؤلاء يبرّر بها عملهم ، فما هذا التفريق بين المتماثلين؟ ولماذا تُقيَّمُ الاُمور بمكيالين.

سابعاً : نقل المؤرّخون انّه لمّا قتل عمر ، وثب عبيدالله بن عمر فقتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤ ، فلمّا بلغ الخبر عمر ، قال : إذا أنا متّ فاسألوا عبيدالله البيّنة على الهرمزان ، هل هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي ، وان لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيدالله من الهرمزان ، فلمّا ولي عثمان (رضي الله عنه) قيل له : ألا تمضي وصيّة عمر (رضي الله عنه) في عبيدالله؟ قال : ومن وليّ الهرمزان؟ قالوا :

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٥٨

١٠٦

أنت يا أميرالمؤمنين قال : قد عفوت عن عبيدالله بن عمر (١).

إنّي لا اُريد أن أحوم حول هذه القصّة ، كيف وقد نقم به على الخليفة حيث عطّل القصاص إذ قتل عبيدالله رجلا يصلّي وصبية صغيرة ، ومع ذلك عفى عنه الخليفة لسبب عاطفي أو غيره ، فَلِمَ لا يجوز ذلك للامام علي عليه‌السلام وقد رأى انّ في القَوَد مفسدةً عظمى على الاسلام والمسلمين؟ وانّ جبر دم الخليفة بالدية أصلح من القصاص والقود.

هذه هي المواضيع الهامّة التي كانت من المفترض دراستها والقضاء فيها ، ثم الخروج بنتيجة صحيحة عن الحكومة ، غير انّ الحَكَمين جعلاها وراء ظهورهما ، ولم ينبسا فيها ببنت شفة ، بل كان هوى أبي موسى الأشعري مع عبدالله بن عمر ، وكان هوى عمرو بن العاص مع معاوية ، فلنتعرف على عبدالله بن عمر ، ثم عمروبن العاص :

أمّا عبدالله بن عمر فكفى في ضعف نفسه انّه لمّا ولّي الحجاج الحجاز من قبل عبدالملك بن مروان جاءه ليلا ليبايعه ، فقال له الحجّاج ما أعجلك؟ فقال : سمعت رسول الله يقول : من مات بغير امام مات ميتة جاهلية (٢) فقال له : إنّ يدي مشغولة عنك ، وكان يكتب ، فدونك رجلي ، فمسح على رجله وخرج ، فقال الحجاج : يا أحمق. تترك بيعة علي بن أبي طالب وتأتيني مبايعاً في ليلة؟ وما هذا إلاّ انّ الخوف من السيف جاءك إلى هنا(٣).

وأمّا عمرو ، وما أدراك ما عمرو؟ ذلك الانسان الذي عرّفه الامام بقوله :

__________________

١ ـ البيهقي : السنن الكبرى ٨ / ٦١ ـ ولاحظ الطبري : التاريخ ٣ / ٣٠٣.

٢ ـ الهيثمي : مجمع الزوائد ٥ / ٢١٨. الطيالسي : المسند ٢٥٩ وللحديث صور اُخرى.

٣ ـ أبو جعفر الاسكافي : المعيار والموازنة ٢٤. وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٤٢ ـ عبدالله المامقاني : تنقيح المقال برقم ٦٩٨٩.

١٠٧

متى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً (١) ، فكان هواه مع معاوية لموعدة وعدها إيّهاه وهي ولاية مصر وقد تحدّث عنها المؤرّخون في قصّة طويلة حيث قال معاوية له : وهلّم فبايعني ، فقال عمرو : لا والله لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك. قال معاوية : سل ، تعط ، قال : مصر طعمة (٢).

وروى ابن مزاحم قال : قال معاوية لعمرو : إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه ، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم.

قال عمرو : إلى من؟ قال : إلى جهاد عليّ ، قال : فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير ، مالك هجرته ولاسابقته ، ولاطول جهاده ، ولا فقهه ، ولا علمه ، والله إنّ له ذلك حدّاً وجدّاً وحظّاً وحظوةً ، وبلاءاً من الله حسناً ، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال : حكمك. قال : مصر طعمة ، قال : فتلكّأ عليه معاوية.

قال نصر : وفي حديث آخر ، قال : قال له معاوية : يا أباعبدالله ، إنّي أكره أن يتحدّث العرب عنك انّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال : دعني عنك. قال معاوية : إنّي لو شئت أن اُمنّيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو : لا لعَمرالله ، ما مثلي يخْدَع ، لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية : اُدن منِّي برأسك اُسارّك. قال : فدنامنه عمرو يسارُّه. فعضَّ معاوية اُذنه وقال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحداً غيري وغيرك؟ (٣).

قال ابن أبي الحديد بعد هذا : « قلت : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمهم‌الله : قال عمرو : « دعنا عنك » كناية عن الإلحاد بل تصريح

__________________

١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٨٣.

٢ ـ ابن قتيبة : الامامة والسياسة ١ / ٩١ ـ مضى النص فلاحظ تعليقتنا عليه.

٣ ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين ٤٣.

١٠٨

به ، أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإنّ الاعتقاد بالآخرة وأنّها لاتباع بعرض من الدنيا ، من الخرافات. قال رحمهم‌الله : وما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قط في الإلحاد والزندقة ، وكان معاوية مثله ويكفي في تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي (١) وانّ معاوية عضَّ اُذن عمرو ، أين هذا من أخلاق علي عليه‌السلام وشدّته في ذات الله ، وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة (٢).

خلاصة البحث :

ما كانت دراسة جميع هذه المواضيع أمراً صعباً على الحكمين ، بل في دراسة الموضوع الأوّل من المواضيع السبعة كفاية للإدلاء بالحق ، وذلك إنّه إذا كانت خلافة الإمام خلافة قانونية شرعية ، فالخارج عليها باغ على الإمام يجري عليه حكم البغاة أوّلا وتابع لغير سبيل المؤمنين ، وخارق للإجماع ثانياً ، وقد قال سبحانه في حقّ هؤلاء :

( ومنْ يُشاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويتَّبِعَ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) (٣)

( وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احديهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفىء الى امر الله ) (٤)

ولا عجب بعد ذلك أنا نرى أنّ الإمام يصف حكم الحكمين بقوله : « فقد خالفا كتاب الله واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنّة ولم ينفّذا للقرآن حكماً»(٥).

__________________

١ ـ المراد ما سبق في كلام ابن مزاحم.

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٦٤ ـ ٦٥.

٣ ـ النساء : ١١٥

٤ ـ الحجرات : ٩.

٥ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٧.

١٠٩

١١٠

الفصل السادس

تحرّكاتهم العسكرية بعد صدور رأي الحكمين

١١١
١١٢

ولمّا بلغ الإمام ما حكم به الحكمان من الحكم الجائر ، قام خطيباً وقال ألا أنّ هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين ، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن ، واتّبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ، ولا سنّة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشدا ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام ، واصبحوا في معسكركم إن شاء الله ، ثم نزل وكتب إلى الخوارج بالنهر : « بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى زيد بن حصين (١) وعبدالله بن وهب ومن معهما من الناس. أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما ، قد خالفا كتاب الله ، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنّة ، ولم ينّفذا للقرآن حكماً ، فبرىء الله ورسوله

__________________

١ ـ وهذا الرجل من الذين فرضوا التحكيم على الإمام وجاء هو مع مسعر بن فدكي بزهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد ، شاكّي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم وقد اسودّت جباههم من السجود ... نادوا الامام باسمه لابإمرة المؤمنين : يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت إليه ... لاحظ : وقعة صفّين ٥٦٠ وقد مرّ النصُّ أيضاً.

١١٣

منهما والمؤمنون. فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا ، فإنّا صائرون إلى عدوّنا وعدوّكم ، ونحن على الأمر الذي كنّا عليه ، والسلام » (١).

كان المترقّب من الخوارج إجابة علي عليه‌السلام والخروج معه إلى قتال معاوية لأّنهم هم الذين كانوا يقولون لعلي عليه‌السلام : « تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك ، واخرِج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا » (٢).

ولكنّهم ـ يا للأسف ـ لم يستجيبوا إلى دعوة علي عليه‌السلام وكتبوا إليه : « أمّا بعد فإنّك لم تغضب لربّك ، إنّما غضبت لنفسك ، فإن شهدت على نفسك بالكفر ، واستقبلت التوبة ، نظرنا بيننا وبينك وإلاّ فقد نابذناك على سواء. إنّ الله لايحبّ الخائنين ». فلمّا قرأكتابهم آيس منهم فرأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى أهل الشام حتّى يلقاهم فيناجزهم ، فنزل بالنخيلة ، وقام فحمدالله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد فإنّه من ترك الجهاد في الله ، وادهن في أمره كان على شفا هلكة ، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة ، فاتّقوا الله وقاتلوا من حادّ الله وحاول أن يطفىء نور الله. قاتلوا الخاطئين ، الضالّين ، القاسطين ، المجرمين ، الذين ليسوا بقرّاء للقرآن ، ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام ، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهّيؤا للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب ، وقد بعثنا إلى اخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم ، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله (٣).

ثمّ إنّه لّبى دعوته من البصرة وحوالي الكوفة جمع كبير وقد اجتمع تحت

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٧.

٢ ـ المصدر نفسه ٥٢.

٣ ـ المصدر نفسه ٥٨.

١١٤

رايته ثماني وستّين ألفاً ومائتي رجل ، واستعدّ للمسير إلى الشام.

إستعدّ الإمام لمواجهة العدّو بالشام ، لكنّه فوجىء بما بلغ إليه من الناس أنّهم يقولون : لو سار الإمام بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم. فقام في الناس وحمدالله وأثنى عليه ، فأجاب دعوتهم خصوصاً بعد ما بلغ إليه أنّهم ذبحوا عبدالله بن خباب على ضفة النهر ، وبقروا بطن اُمّ ولده ، وهم على اُهْبَة الخروج ، وإليك تفصيله :

إنّ الخوارج اجتمعوا في منزل عبدالله بن وهب الراسبي ، فقال في خطبة له : أمّا بعد فوالله ماينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن ، وينيبون إلى حكم القرآن ، أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها والركون إليها والايثار إيّاها عناءً وتباراً (١) آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقول بالحق و ... فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال ، أو إلى بعض هذه المدائن ، منكرين لهذه البدع المضرّة. ثمّ خطب بعده ، حرقوص بن زهير وقال بمثل ماقال : وقال حمزة بن سنان الأسدي : يا قوم : إنّ الرأي ما رأيتم ، فولّوا أمركم رجلا منكم ، فإنّه لابدّ لكم من عماد وسناد ، وراية تحفّون بها ، وترجعون إليها ، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى ، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى ، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا ، وعرضوها على عبدالله بن وهب فقال : هاتوها ، أما والله لاآخذها رغبة في الدنيا ، ولاادعها فرقاً من الموت ، فبايعوه لعشر خلون من شوّال وكان يقال له ذوالثفنات.

ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي فقال ابن وهب : اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنّكم أهل الحق. قال شريح : نخرج

__________________

١ ـ التبار : الهلاك.

١١٥

إلى المدائن فننزلها ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكّانها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة ، فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين : إنّكم إن خرجتم مجتمعين اُتْبِعْتُم ولكن اخرجوا وحداناً مستخفّين ، فأمّا المدائن فإن بها من يمنعكم ، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسر النهروان وتكاتبوا اخوانكم من أهل البصرة ، قالوا : هذا هو الرأي.

وكتب عبدالله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم مااجتمعوا عليه ، ويحثّهم على اللحاق بهم وأرسل الكتاب إليهم ، فأجابوه أنّهم على اللحاق به.

فلمّا عزموا على المسير (١) ، تعبّدوا ليلتهم وكان ليلة الجمعة ، ويوم الجمعة ، وساروا يوم السبت فخرج شريح بن أوفى العبسي ، وهو يتلو قول الله : ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبْ قالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ * ولمّا تَوَجَّهَ تِلْقآءَ مَدْيَنَ قالَ عَسَى رَبِّي أن يَهْدِيَنِي سَوآءَ السَبِيلِ ) (٢).

ثمّ إنّ الخوارج تقاطرت من البصرة والكوفة حتى نزلوا جسر نهروان ، فصاروا جيشاً عظيم العدد والعُدَّة ، وكانت الأخبار عن أفعالهم الشنيعة تصل إلى الناس ففشى الرعب فيهم ، ولأجل ذلك ألحّ الواعون من ضباط علي على مناجزة هؤلاء ثم المسير إلى الشام ، فأجابهم الإمام ، وإليك بيان ما ارتكبوا من الجرائم.

روى الطبري عن أبي مخنف عن حميد بن هلال : انّ الخارجة التي أقبلت من البصرة جاءت حتى دنت من اخوانها بالنهر فخرجت عصابة منهم ، فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار ، فعبروا إليه فدعوه فتهدّدوه وافزعوه وقالوا له من أنت؟ قال : أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ المقصود الخوارج المتواجدون في الكوفة وأطرافها أعني الحرورية.

٢ ـ القصص : ٢١ـ٢٢ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٥٤ ـ ٥٥.

١١٦

ثمّ أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض وكان سقط عنه لمّا افزعوه ، فقالوا له : افزعناك؟ قال : نعم. قالوا له : لاروع عليك ، فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلّ الله ينفعنا به. قال : حدثني أبي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فتنة تكون ، يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه ، يمسي فيها مؤمناً ويصبح فيها كافراً ، ويُصْبح كافراً ، ويمسي فيها مؤمناً. فقالوا : لهذا الحديث سألناك.

فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا : ما تقول في عثمان في أوّل خلافته وفي آخرها؟ قال : إنّه كان محقّاً في أوّلها وفي آخرها. قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال : إنّه أعلم بالله منكم ، وأشدّ توقّياً على دينه ، وأنفذ بصيرة. فقالوا : إِنّك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لاعلى أفعالها. والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحداً ، فأخذوه فكتّفوه ثمّ أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى متمٌّ ، حتى نزلوا تحت نخلة مواقر ، فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه ، فقال أحدهم : بغير حلّها وبغير ثمن؟ فلفضها وألقاها من فمه ، ثمّ أخذ سيفه فأخذ يمينه ، فمرّ به خنزير لأهل الذمّة فضربه بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض ، فأتى صاحب الخزير فأرضاه من خنزيره.

فلمّا رأى ذلك منهم ابن خباب قال : لئن كنتم صادقين فيما أرى ، فما عَلَيَّ منكم بأس إنّي لمسلم ما أحدثت في الاسلام حدثاً ولقد آمنتموني. قلتم : لاروع عليك. فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه ، وسال دمه في الماء وأقبلوا إلى المرأة ، فقالت : إنّما أنا أمراة ألاتتّقون الله؟ فبقروا بطنها.

وقتلوا ثلاث نسوة من طىّ وقتلوا اُمّ سنان الصيداوية ، فبلغ ذلك عليّاً ومن معه من المسلمين من قتلهم عبدالله بن خباب واعتراضهم الناس ، فبعث

١١٧

إليهم الحارث بن مرّة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغ عنهم ويكتب به إليه على وجهه ولايكتمه ، فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسألهم ، فخرج القوم إليه فقتلوه ، وأتى الخبر أمير المؤمنين والناس ، فقام إليه الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين عَلامَ تدع هؤلاء يخلفوننا في أموالنا وعيالنا؟ سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام ، فقبل علي فنادى بالرحيل ، ولمّا أراد علي المسير إلى أهل النهر من الأنبار ، قدم قيس بن سعد بن عبادة وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره ، ثمّ جاء مقبلا إليهم ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر وبعث إلى أهل النهر : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ، ثمّ أنا تارككم وكاف عنكم حتى نلقى أهل الشام ، فلعلّ الله يقلب قلوبكم ، ويردّكم إلى خير ممّا أنتم عليه من أمركم ، فبعثوا إليه وقالوا : كلّنا قتلناهم وكلّنا نستحلّ دماءهم ودماءكم. ولمّا وصل على جانب النهر وقف عليهم فقال :

أيّتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدّها عن الحقّ الهوى ... إنّي نذيركم ان تصبحوا تلفيكم الاُمّة غداً صرعى بأثناء هذا النهر ، وبأهضام هذا الغائط بغير بيّنة من ربّكم ولابرهان بيّن ، ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة ، وأخبرتكم أنّ طلب القوم إيّاها منكم دهن ومكيدة لكم ، ونبّأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وانّي أعرف بهم منكم ، عرفتهم أطفالا ورجالا ، فهم أهل المكر والغدر ، وانّكم إن فارقتم رأيي ، جانبتم الحزم ، فعصيتموني حتى إذا أقررت بأن حكمت ، فلمّا فعلت شرطت واستوثقت ، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وان يميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنّة ، فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأوّل فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم؟ قالوا : إنّا حكمنا فلمّا حكمنا أثمنا وكنّا بذلك

١١٨

كافرين ، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك وإن أبيت فاعتزلنا ، فانّا منابذوك على سواء ، إنّ الله لايحب الخائنين ، فقال عليّ : أصابكم حاصب ، ولابقي منكم وابر. اَبَعْد إيماني برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، ثمّ انصرف عنهم (١).

ولم يكتف الإمام بهذا الأمر ، بل كلّمهم في معسكرهم بما يلي : « أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا : منّا من شهد ومنّا من لم يشهد. قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفّين فرقة ، ومن لم يشهدها فرقة ، حتى اُكَلِّم كّلا منكم بكلامه ، ونادى الناس ، فقال :

امسكوا عن الكلام ، انصتوا لقولي ، واقبلوا بأفئدتكم إلىّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها.

ثمّ كلّمهم عليه‌السلام بكلام طويل ، من جملته : ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلةً وغيلةً ومكراً وخديعةً : اخواننا وأهل دعوتنا ، استقالونا واستراموا إلى كتاب الله سبحانه ، فالرأي القبول منهم ، والتنفيس عنهم؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان ، وباطنه عدوان ، وأوّله رحمة ، وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم ، وألزموا طريقتكم وعضّوا على الجهاد ، بنواجذكم ، ولاتلتفتوا إلى ناعق نعق ، إن اُجيب أضلّ وإن ترك ذلّ (٢).

ولمّا أتمّ الإمام الحجة عليهم ، ورأى أنّ آخر الدواء الكي ، فعبّأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي ، وعلى ميسرته شبث بن ربعي ، أو

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٤ / ٦٠ ـ ٦٣. المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ١٥٦. الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٣٦.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ١٢١.

١١٩

معقل بن قياس الرياحي ، وعلى الخيل أبا أيّوب الأنصاري ، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري ، وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل ، قيس بن سعد بن عبادة.

وعبّأت الخوراج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجّالة حرقوص بن زهير السعدي.

الحرص على صيانة نفوسهم :

ثمّ إنّ الإمام توخّياً لحفظ الدماء وصيانة الأنفس ، بعث الأسود بن يزيد في ألفي فارس حتى أتى حمزة بن سنان وهو في ثلاثمائة فارس من خيلهم ورفع عليّ راية أمان ، مع ابي أيوب فناداهم أبو أيوب : من جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن ، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن ـ انّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة اخواننا منكم في سفك دمائكم.

لقد كان هذا التخطيط والسياسة الحكيمة مؤثّراً في تفرّق القوم وصيانة دمائهم فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي (١) في خمسائة فارس ، وخرجت طائفة اُخرى متفرّقين ، فنزلت الكوفة ، وخرج إلى علي عليه‌السلام منهم نحو من مائة ، وكانوا أربعة آلاف وكان الذين بقوا مع عبدالله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة ، وزحفوا إلى علي عليه‌السلام.

وقدم على الخيل دون الرجال وصفّ الناس وراء الخيل صفّين ، وصفّ

__________________

١ ـ سيأتي خروجه على معاوية في الفصل الثامن فانتظر.

١٢٠