شرح الكافية الشّافية - ج ١

أبي عبد الله جمال الدين محمّد بن عبد الله بن محمّد بن مالك الطائي الجياني الشافعي

شرح الكافية الشّافية - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله جمال الدين محمّد بن عبد الله بن محمّد بن مالك الطائي الجياني الشافعي


المحقق: علي محمّد معوّض
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2874-4
الصفحات: ٥٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

ولا قول من قال : «حبّذا» فعل يرتفع به المخصوص على أنه فاعله» فإن ذلك تكلف ما لا يحتاج إليه من إخراج لفظ مما هو أصله.

قال ابن خروف بعد أن مثل بـ «حبّذا زيد» «حب» : فعل ، وذا : فاعلها وزيد : مبتدأ وخبره : حبذا. هذا قول سيبويه (١) ، وأخطأ عليه من زعم غير ذلك ؛ هذا قول ابن خروف ، وكفى به.

وقال ابن كيسان : «ذا» من قولهم : «حبّذا» إشارة إلى مفرد مضاف إلى المخصوص حذف وأقيم هو مقامه ، فتقدير «حبّذا هند» : حبذا حسنها».

وأشرت بقولى :

وغير «ذا» ارفعه بـ «حبّ» فاعلا

أو جرّه بالبا ...

إلى أنه يقال : «حبّ زيد رجلا» ، و «حبّ بزيد رجلا» قال الشاعر : [من الطويل]

فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها

وحبّ بها مقتولة حين تقتل (٢)

ولك فى حاء «حبّ» إذا جردت من «ذا» ، الفتح على الأصل ، والضم على أن أصله «حبب» فجعلت الضمة على الحاء ، وأدغمت الباء فى الباء.

وهذا التحويل مطرد فى فاء كل فعل على «فعل» مقصود به المدح.

__________________

(١) وزعم الخليل ـ رحمه‌الله ـ أن حبذا بمنزلة حب الشىء ، ولكنّ «ذا» و «حبّ» بمنزلة كلمة واحدة نحو لو لا ، وهو اسم مرفوع كما تقول : يا ابن عمّ ، فالعمّ مجرور ، ألا ترى أنك تقول للمؤنّث حبّذا ولا تقول حبّذه لأنه صار مع حبّ على ما ذكرت لك وصار المذكر هو اللازم لأنه كالمثل. ينظر : الكتاب (٢ / ١٨٠).

(٢) البيت للأخطل فى ديوانه ص ٢٦٣ ، وإصلاح المنطق ص ٣٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٢٧ ، ٤٣٠ ، ٤٣١ ، والدرر ٥ / ٢٢٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٤ ، ولسان العرب (قتل) ، (كفى) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٦ ، وتاج العروس (قتل) ، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ١٠٨ ، وسر صناعة الإعراب ص ١٤٣ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٨٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٤٣ ، ٧٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٦١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٨٠٦ ، وشرح المفصل ٧ / ١٢٩ ، ١٤١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٩.

٥٠١

باب أفعل التفضيل

(ص)

ممّا بنوا فعل تعجّب بنى

أفعل فى التّفضيل مثل (الأحسن)

وما أبوا بناء ذاك منه لا

تجز بنا ذا منه نحو (استعجلا)

وما به إلى تعجّب وصل

لمانع به إلى التّفضيل صل

ف (ذا أشدّ النّاس عجبا) مثل (ما

أشدّ عجبه) فقس عليهما

وما هناك شذّ قد شذّ هنا

فصوغ (أقمن) مؤذن بـ (أقمنا)

وفى (ألصّ من شظاظ) إذ ورد

ل (ما ألصّه) و (ألصص) مستند

وصوغه من (أفعل) الفعل اطّرد

ومن مبين حمقا ـ أيضا ـ ورد

وشذّ نحو قولهم (أبيض من)

وذا وشبهه بتأويل قمن

وما بنوا من فعل مفعول بلا

لبس فليس نادرا كـ (أشغلا)

وغالبا أغناهم (خير) و (شرّ)

عن قولهم : (أخير منه) و (أشرّ)

وفى التّعجّب ارو : (ما خير) و (ما

شرّ) بحذف الهمز وانصب بهما

(ش) قد تقدم الإعلام بأن الذى يبنى منه فعل التعجب هو : كل فعل ثلاثى ، متصرف ، تام ، قابل معناه للتفاضل ، غير مبنى للمفعول ، ولا منفى ، ولا مدلول على فاعله بـ «أفعل» وهذا كله معتبر أيضا فيما يبنى منه أفعل التفضيل.

فيمتنع بناء أفعل التفضيل :

مما ليس ثلاثيا كـ «انطلق» و «دحرج».

ومما ليس متصرفا كـ «نعم» و «بئس».

ومما ليس تامّا كـ «ظلّ» و «صار».

ومما لا يقبل التفاضل كـ «مات» و «فنى».

ومن مبنى للمفعول غير مأمون اللبس كـ «ضرب».

ومن ملازم للنفى نحو : «ما عجت به».

ومن مدلول على فاعله بـ «أفعل» كـ «عمى» و «عرج» و «لمى» و «دعج» كما امتنع بناء فعل التعجب منها.

ويتوصل إلى التفضيل فيما فيه مانع بمثل ما توصل فيه إلى التعجب :

فكما قيل فى «أعجب» و «اختصر» «ما أعجبه» و «ما أخصره» يقال فيه : «هو

٥٠٢

أعجب» و «هو أخصر».

وما عد من الشواذ فى التعجب عد من الشواذ فى التفضيل :

فمن الشواذ فى التعجب قولهم : «أقمن به» بمعنى : ما أحقه. ووجه شذوذه أنه بنى من قولهم : «هو قمن بكذا» أى : حقيق به ، وإنما يبنى فعل التعجب من فعل مقيد بالقيود التى قدمت ذكرها ، لا من صفة لا فعل لها ، فلو قيل فى التفضيل : «هو أقمن» لساوى «أقمن به» فى الشذوذ ؛ لأن أفعل التفضيل إنما يبنى مما يبنى منه فعل التعجب.

وفى أمثالهم قولهم : «هو ألصّ من شظاظ» فبنوا «ألصّ» من لفظ «اللّص» دون فعل ، فلو قيل فى التعجب : «ما ألصّه» لساواه فى الشذوذ لأنه مبنى من غير فعل.

ثم بينت أن أفعل التفضيل إذا بنى من فعل على «أفعل» كـ «أعطى» لم يعد شاذّا كما لا يعد شاذّا التعجب منه ، وقد مضى الإعلام بسبب ذلك.

ومن المسموع فى ذلك : «هو أعطاهم للدّراهم ، وأولاهم للمعروف ، وأكرم لى من زيد» أى : أشد إكراما ، و «هذا المكان أقفر من غيره» وفى أمثالهم : «أفلس من ابن المذلّق».

وفى الحديث : «فهو لما سواها أضيع» (١) ، وكما قيل فيما دل على جهل : «ما أحمقه» مع كون فاعله مدلولا عليه بـ «أفعل» ، قيل فيه : «هو أحمق من كذا ، وأرعن ، وأهوج وأنوك» ، وفى المثل : «هو أحمق من هبنّقة».

وقد تقدم الإعلام بأن سبب استثناء «أحمق» ونظائره من المدلول على فاعله بـ «أفعل» شبه «حمق» فى المعنى بـ «جهل» فاشتركا فى الاستعمالين لتقاربهما فى المعنى.

وفى الحديث ـ فى وصف ماء الحوض ـ الذى نرجو بفضل الله وروده فى عافية ـ : «أبيض من اللّبن ، وأحلى من العسل» ، فظاهره أن فيه شذوذا ؛ إذ كاد حقه لكونه من باب «أفعل» المبنى للفاعل أن يقال فيه : «أشدّ بياضا».

__________________

(١) أخرجه مالك (١ / ٦) كتاب وقوت الصلاة : باب وقوت الصلاة ، (٦) ، ومن طريقه البيهقى فى السنن الكبرى (١ / ٤٤٥) عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله : «إن أهم أمركم الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع ...».

٥٠٣

فإن حمل على الشذوذ كان نظير قولهم : «هو أسود من حنك (١) الغراب» ونظير قول الراجز : [من الرجز]

جارية فى درعها الفضفاض

أبيض من أخت بنى أباض (٢)

وجائز أن يكون «أبيض» مبنيا من قولهم : «باض الشّيء الشّيء بيوضا» إذا فاقه فى البياض ، فالمعنى على هذا أن غلبة ذلك الماء لغيره من الأشياء المبيضة أكثر من غلبة بعضها بعضا ، و «أبيض» بهذا الاعتبار أبلغ من «أشدّ بياضا».

ويجوز أن تكون «من» المذكورة بعد «أبيض» متعلقة بمحذوف دل عليه «أبيض» المذكور ، والتقدير : ماؤه أبيض أصفى أو أخلص من اللبن.

فإلى هذين التأويلين أشرت بقولى :

 ...

وذا وشبهه بتأويل قمن

أى : حقيق. ثم نبهت بقولى :

وما بنوا من فعل مفعول بلا

لبس فليس نادرا ...

على أن نحو قولهم : «هو أزهى من ديك» و «هو أشهر منه» و «أشغل من ذات النّحيين» و «أعذر» و «ألوم» و «أشرّ» و «أعتى» مما بنى من فعل ما لم يسم فاعله دون إيقاع فى لبس ليس فيه شذوذ فيتوقف فيه على السماع ؛ بل هو فى التفضيل مطرد كاطراده فى التعجب ، بخلاف ما يوقع فى لبس.

ثم نبهت على أن قولهم : «خير من كذا» و «شرّ من كذا» الأصل فيه «أخير» و «أشرّ» ، ولا يكادون يستعملون الأصل ، ومن استعمالهم إياه قول الراجز :

[من الرجز]

بلال خير النّاس وابن الأخير (٣)

__________________

(١) فى أ: حلك.

(٢) الرجز لرؤبة فى ملحق ديوانه ص ١٧٦ ، وخزانة الأدب ٨ / ٢٣٠ ، ٢٣٣ ، ٢٣٩ ، وبلا نسبة فى أمالى المرتضى ١ / ٩٢ ، ٢ / ٣١٧ ، والإنصاف ١ / ١٥٠ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٣ ، ٧ / ١٤٧ ، ولسان العرب (بيض) ، وتاج العروس (بيض).

(٣) الرجز بلا نسبة فى الدرر ٦ / ٢٦٥ ، وشرح التصريح ٢ / ١٠١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٧٧٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٦٦.

٥٠٤

ومنه قراءة أبى قلابة (١) : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ)(٢) [القمر : ٢٦].

وقد حكى فى التعجب «ما خيره» و «ما شرّه» بمعنى : ما أخيره ، وما أشره.

إلا أن حذف الهمزة فى التعجب كثبوتها فى التفضيل ، والعكس هو المشهور.

(ص)

وأفعل التّفضيل إن تجرّدا

فبعده «من» يلزمون أبدا

فى النّعت والحال ، وفى النعت ندر

حذف وشاع لدليل فى الخبر

[ويلزم الإفراد ، والتذكيرا

مصاحبا «من» لفظا او تقديرا] (٣)

و «من» وما جرّته منه كالصله

فى منعهم إثباتها منفصله

وإن تكن بتلو «من» مستفهما

فلهما كن أبدا مقدّما

كمثل : «ممّن أنت خير» ولدى

إخبار التّقديم نزرا وردا

ومع إضافة أو «ال» «من» تجتنب

وإن تجامع «أل» فتأويل وجب

وفصل أفعل و «من» بظرف او

تمييز او شبيه ظرف قد رووا

وقد أتى فصلهما بأكثرا

من واحد كقول شاد غبرا

«ألين مسّا فى حشايا البطن

من يثربيّات قداد خشن»

(ش) المراد بتجرد أفعل التفضيل : خلوه من الإضافة ، ومن الألف واللام ، فإذا كان كذلك ، وكان نعتا ، أو حالا جيء بعده بـ «من» جارة للمفضول نحو : «رأيت رجلا أفضل من زيد» ، و «شربت الماء أبرد من الثّلج» ، وندر حذفها بعد الصفة فى قول الراجز : [من الرجز]

تروّحى أجدر أن تقيلى

غدا بجنبى بارد ظليل (٤)

أى : تروحى وأتى مكانا أجدر أن تقيلى فيه من غيره.

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن أبى دارة ، أبو قلابة ، مقرئ معروف. ينظر : طبقات القراء (٢ / ٦٢).

(٢) قال أبو الفتح : «الأشرّ» بتشديد الراء هو الأصل المرفوض ، لأن أصل قولهم : هذا خير منه وهذا شر منه ـ هذا أخير منه ، وأشر منه. فكثر استعمال هاتين الكلمتين ، فحذف الهمزة منهما. ويدل على ذلك قولهم : الخورى ، والشرّى ، تأنيث الأخير والأشر ، وقال رؤبة :

بلال خير النّاس وابن الأخير.

ينظر : المحتسب (٢ / ٢٩٩).

(٣) فى أ:

ويلزم الإفراد والتذكير إن

يضف إلى نكرة أو يول (من)

(٤) الرجز لأحيحة بن الجلاح فى شرح التصريح ٢ / ١٠٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٦ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٣ / ٢٩١ ، ٣٩٠ ، وخزانة الأدب ٥ / ٥٧ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٨٥.

٥٠٥

وإن كان أفعل التفضيل خبرا جيء ـ أيضا ـ بـ «من» جارة للمفضل عليه.

ويكثر الاستغناء عنهما إذا دل عليهما دليل كقوله ـ تعالى ـ : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى : ١٧].

وإذا جرد أفعل التفضيل وصاحب «من» لفظا أو تقديرا فلا بد من إفراده وتذكيره كقولك : «زيد أفضل من عمرو» و «الزّيدان أفضل من العمرين» و «الزّيدون أفضل من العمرين» و «عمرة أفضل من هند» وما أشبه ذلك.

ويستوى المجرد والمضاف إلى نكرة فى لزوم الإفراد ، والتذكير نحو : «مررت برجلين أفضل من ذين» و «برجال أفضل من أولاء» او «بامرأة أفضل من ذى» و «بنسوة أحسن من الهندات» ويقال : «هما أفضل رجلين» و «هم أفضل رجال» و «هى أحسن امرأة» و «هنّ أحسن نسوة».

ولا يفصل بين أفعل التفضيل و «من» بأجنبى لأنهما بمنزلة المضاف ، والمضاف إليه بوجه ماولهما شبه بالصفة الناصبة والمنصوب بها ؛ فلذلك حسن انفصالهما بتمييز نحو : «زيد أكثر ما لا منك» ، وبظرف نحو : «أنت أحظى عندى منه» ، وبجار ومجرور نحو : «هو أدنى إلى منك» ومنه قوله ـ تعالى ـ : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] و (نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [الواقعة : ٨٥] و (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦].

وقد اجتمع أربعة فصول فى قول الشاعر : [من البسيط]

ما زلت أبسط فى عضّ الزّمان يدا

للنّاس بالخير من عمرو ومن هرم

وقد اجتمع فصلان فى قول الراجز : [من الرجز]

لأكلة من أقط بسمن

ألين مسّا فى حشايا البطن

من يثربيّات قداد خشن (١)

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (قذذ) ، (تقن) ، (خشن) ، (عكا) ، وشرح عمدة الحافظ ص ٧٦٣ ، وشرح المفصل ١ / ٨٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٦ ، وتاج العروس (قذذ) ، (خشن) ، (عكا) ، وديوان الأدب ٤ / ٥٤ ، ومقاييس اللغة ١ / ٣٥٠ ، ومجمل اللغة ١ / ٣٣٢ ، والمخصص ١٣ / ٢٤٠ ، و ١٤ / ١٨ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٤٠ ، ٩ / ٦٠.

٥٠٦

فاغتفر هذا الفصل ، لأنه بمساو لـ «من» فى التعلق بـ «أفعل».

فلو كان مما لا يتعلق به لم يجز.

ولذلك جوز نحو : «ما من أحد أحسن فى عينه الكحل منه فى عينك».

بخلاف رفع «الكحل» بـ «أحسن» أزال أجنبيته.

بخلاف جعله مبتدأ ، وجعل «أحسن» خبره ؛ فإنه ممتنع ؛ لوجود الفصل بأجنبى لا عمل لـ «أحسن» فيه.

ولوقوع المخبر عنه بين الخبر وما هو من تمام معناه.

وقد حملهم جواز الفصل بما ذكر على جواز التقديم كقول الشاعر : [من الطويل]

فقالت لنا : أهلا وسهلا وزوّدت

جنى النّحل ، بل ما زوّدت منه أطيب (١)

وقال آخر : [من الطويل]

ولا عيب فيها غير أنّ قطوفها

قطوف (٢) ، وألّا شىء منهنّ أكمل (٣)

فلو كان المجرور بـ «من» مستفهما به ، وجب تقديمهما كقولك «ممّن أنت خير»؟

ذكر هذه المسألة أبو على فى التذكرة ، وإلى هذا أشرت بقولى :

[وإن تكن بتلو «من» مستفهما

فلهما كن أبدا مقدّما

وأشرت بقولى :] (٤)

 ... ولدى

إخبار التّقديم نزرا وردا

إلى ما تضمنه البيتان المتقدم ذكرهما

ثم نبهت على استغناء أفعل التفضيل عن «من» ومجرورها بالإضافة وبالألف واللام.

__________________

(١) البيت للفرزدق فى خزانة الأدب ٨ / ٢٦٩ ، والدرر ٥ / ٢٩٦ ، وشرح المفصل ٢ / ٦٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٣ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٨ / ٢٩٤ ، ٢٩٥ ، وتذكرة النحاة ص ٤٧ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٨٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٦٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٧٦٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٤.

(٢) القطوف : المتقارب الخطو البطىء. (اللسان ـ قطف).

(٣) البيت لذى الرمة فى ديوانه ص ١٦٠٠ ، وتذكرة النحاة ص ٤٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٧٦٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٤ ، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى ٢ / ٣٨٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٦٩.

(٤) سقط من أ.

٥٠٧

وأشرت بقولى :

 ...

وإن تجامع (ال) فتأويل وجب

إلى قول الأعشى : [من السريع]

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر (١)

فإن فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : ألا تكون «من» لابتداء الغاية كما هى فى : «زيد أفضل منك» بل تكون للتبين كما هى فى قولك : «أنت منهم الفارس الشّجاع» أى : من بينهم.

الثانى : أن تعلق «من» بمحذوف دل عليه المذكور.

الثالث : أن تكون الألف واللام زائدتين ، فلا يمتنع معهما وجود «من» ؛ كما لا يمتنع مع التجرد منهما.

وقد تقدم شرح ما بقى من الأبيات فلا حاجة إلى إعادة ذلك.

(ص)

وإن تلا (أل) أو يضف لمعرفه

بغير معنى (من) يطابق كالصّفه

وجوّز الوجهين فى المضاف إن

به أردت ما اقتضى مصحوب (من)

[وإن يضف بغير معنى (من) يجب

وقوعه طبقا لما له نسب] (٢)

وهو بمعنى (بعض) او (كلّ) على

نحو الّذى فى باب (أى) فصّلا

(ش) لأفعل التفضيل ثلاثة أحوال :

الأول : حال تجرده من الإضافة والألف واللام ؛ وقد تقدم أن حقه فيه ملازمة الإفراد والتذكير. ومصاحبة «من» لفظا أو تقديرا.

وقد تقدم ـ أيضا ـ التنبيه على أن المضاف إلى نكرة يساوى المجرد فى لزوم

__________________

(١) البيت فى ديوانه ص ١٩٣ ، والاشتقاق ص ٦٥ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٩٥ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، ٣ / ٤٠٠ ، ٨ / ٢٥٠ ، ٢٥٤ ، والخصائص ١ / ١٨٥ ، ٣ / ٢٣٦ ، وشرح التصريح ٢ / ١٠٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٥١ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٩٠٢ ، وشرح المفصل ٦ / ١٠٠ ، ١٠٣ ، ولسان العرب (كثر) ، (سدف) ، (حصى) ، ومغنى اللبيب ٢ / ٥٧٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨ ، ونوادر أبى زيد ص ٢٥ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٢٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ١١ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٨٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٦٥ ، وشرح المفصل ٣ / ٦.

(٢) سقط من «أ».

٥٠٨

الإفراد والتذكير ، والثانى : حال تعريف بالألف واللام وهو الذى عبرت عنه بـ :

 ... تلو «ال»

 ...

ولا بد له حينئذ من مطابقة ما هو له فيقال : «زيد الأفضل» و «الزّيدان الأفضلان» و «الزّيدون الأفضلون» و «هند الفضلى» و «الهندان الفضليان» و «الهندات الفضليات» أو «الفضّل».

والثالث : حال الإضافة إلى معرفة ، وهو فيها على ضربين :

أحدهما : أن يضاف مرادا به معنى المجرد.

والثانى : أن يضاف مرادا به معنى المعرف بالألف واللام.

فالمراد به معنى المجرد ، يجوز أن يوافقه فى ملازمة الإفراد والتذكير ، وأن يوافق المعرف بالألف واللام فى ملازمة المطابقة لما هو له.

وقد اجتمع الأمران فى قول النبى ـ عليه‌السلام ـ : «ألا أخبركم بأحبّكم إلى وأقربكم منّى مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، الموطّئون أكنافا الّذين يألفون ويؤلفون».

والمراد به معنى الألف واللام لا بد من مطابقته لما هو له ، كما لا بد منها للمعرف بالألف واللام لتساويهما فى التعريف ، وعدم اعتبار معنى «من».

ولا يلزم كونه بعض ما أضيف إليه ؛ بخلاف المراد به معنى المجرد فإنه يساويه فى اعتبار معنى «من» ولذلك قد يتأول بنكرة فيقع حالا ، ولا بد حينئذ من كونه بعض ما أضيف إليه.

فلو قيل : «يوسف أحسن إخوته» امتنع عند إرادة معنى المجرد ، وجاز عند إرادة معنى المعرف بالألف واللام ؛ لما ذكرت لك. ولما تقدم فى «باب الإضافة» الإعلام بأن «أيّا» بمعنى «بعض» إن أضيفت إلى معرفة ، وبمعنى «كلّ» إن أضيفت إلى نكرة وكان أفعل التفضيل مثلها فى ذلك نبهت عليه بقولى :

وهو بمعنى «بعض» او «كلّ» على

نحو الذى فى باب «أى» فصّلا

ولهذا يقال : «خير الرّجلين زيد» و «خير رجلين الزّيدان».

وقيد المضاف الذى يساوى المقرون بـ «ال» فى مطابقة ما هو له بكون ما أضيف إليه معرفة ، وعدم إرادة معنى «من» تنبيها على أن المضاف إلى نكرة يساوى المقرون بـ «من» فى لزوم الإفراد والتذكير لتساويهما فى التنكير.

٥٠٩

(ص)

وظاهرا بأفعل التّفضيل لا

ترفعه ما لم تره قد جعلا

مخلّصا من أن يحال بين (من)

وبينه بأجنبى مقترن

ك (لن ترى من امرئ أجدر به

فضل من الصّدّيق) فاعرف وانتبه

والرّفع ـ مطلقا ـ به قليل

حكاه سيبويه ؛ والخليل

ونصبه المفعول ممنوع ومن

فسّر ناصبا به فقد فطن

(ش) لا يرفع أفعل التفضيل ـ فى اللغة المشهورة ـ اسما ظاهرا ؛ لأن شبهه باسم الفاعل ضعيف من قبل أنه فى حال التنكير لا يؤنث ، ولا يثنى ، ولا يجمع ، بخلاف اسم الفاعل ، والصفة المشبهة به.

فإن أدى ترك رفعه الظاهر إلى فصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل ، والمفضل عليه تخلص من ذلك بجعل المبتدأ فاعل أفعل بشرط كونه سببيّا كـ «الصّوم» بالنسبة إلى الأيام فى قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما من أيّام أحبّ إلى الله فيها الصّوم من أيّام العشر».

وإنما اشترط كون الظاهر سببيّا ؛ لأن ذلك يجعله صالحا للقيام مقام المضمر ؛ فإن الاستغناء بالظاهر السببى عن المضمر كثير.

ولأن كونه سببيّا على الوجه المستعمل يجعل أفعل واقعا موقع الفعل ؛ وذلك أن قولك : «ما من أحد أحسن فى عينه الكحل من زيد» يقوم مقامه : ما من أحد يحسن فى عينه الكحل كزيد ، فتنزل ارتفاع الظاهر بـ «أفعل» هنا لوقوعه موقع الفعل منزلة إعمال اسم الفاعل الموصول به الألف واللام حال المضى لأن وصل الألف واللام به أوجب تقديره بفعل.

وحكى سيبويه (١) أن بعض العرب يقول : «مررت برجل أكرم منه أبوه» ؛ فيرفع بأفعل التفضيل الظاهر مطلقا وأجمعوا على أنه لا ينصب المفعول به.

فإن ورد ما يوهم جواز ذلك جعل نصبه بفعل مقدر يفسره «أفعل» كقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ؛ فـ «حيث» ـ هنا ـ مفعول به لا مفعول فيه ، وهو فى موضع نصب بفعل مقدر يدل عليه «أعلم».

__________________

(١) نص عبارة سيبويه : «مررت بعبد الله خير منه أبوه ...». ينظر : الكتاب (٢ / ٣٤).

٥١٠

ومن ذلك قول الشاعر : [من الطويل]

ولم أر مثل الحى حيّا مصبّحا

ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا

أكرّ وأحمى للحقيقة منهم

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (١)

فنصب «القوانس» بفعل مفسر بـ «أضرب».

(ص)

ونحو (أهون) مفيد (هيّنا)

قيسا عليه ابن يزيد استحسنا

وما بلام جرّ بعد (أفعلا)

فاجعله مفعولا وأمّا مع (إلى)

ففاعل بشرط معنى حبّ او

بغض وفى تعجّب هذا اقتفوا

وما يفيد العلم بالبا عدّيا

فى الموضعين كـ (العلا أدرى بيا)

وفيهما يستصحبون حرف جرّ

كان به الفعل معدّى نحو (كرّ)

(ش) استعمال أفعل غير مقصود به تفضيل كثير ؛ ومنه قوله ـ تعالى ـ : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) [الإسراء : ٢٥] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٣٧] أى : عالم بما فى نفوسكم ، وهين عليه

ومنه قولهم : «النّاقص (٢) والأشجّ (٣) أعدلا بنى مروان» (٤) أى : عادلاهم.

__________________

(١) البيتان للعباس بن مرداس فى ديوانه ص ٦٩ ، وينظر الأصمعيات ص ٢٠٥ ، وحماسة البحترى ص ٤٨ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣١٩ ، ٣٢١ ، وشرح التصريح ١ / ٣٣٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٤٤١ ، ١٧٠٠ ، ولسان العرب (قنس) ، ونوادر أبى زيد ص ٥٩ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٣٤٤ ، ٤ / ٧٩ ، وأمالى ابن الحاجب ١ / ٤٦٠ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٠ ، وشرح الأشمونى ١ / ٢٩١ ، ومغنى اللبيب ص ٢ / ٦١٨.

(٢) هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان ، ولقب بالناقص. لأن سلفه الوليد بن يزيد كان قد زاد فى أعطيات الجند ، فلما ولى يزيد نقص الزيادة. كان من أهل الورع والصلاح. مات سنة ١٢٦ ه‍.

ينظر : الأعلام (٨ / ١٩٠ ـ ١٩١) ، تاريخ الإسلام للذهبى (٥ / ١٨٨).

(٣) هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموى القرشى ، أبو حفص الخليفة الصالح والملك العادل ، قيل له : خامس الخلفاء الراشدين ، تشبيها له بهم ، سمى «أشج بنى أمية» ، لأن دابة رمته وهو غلام فشجته ، وكان بجهته أثر الشجة. مات سنة ١٠١ ه‍.

ينظر : الأعلام (٥ / ٥٠) ، سير أعلام النبلاء (٥ / ١١٤) ، صفة الصفوة (٢ / ٦٣).

(٤) مروان بن الحكم : بطن من بنى أمية ، من قريش ، من العدنانية. منهم العائلة المالكة فى الدولة الأموية ، ومنهم جماعة كانت تقطن فى صعيد مصر ، ومن منازلها فى الشام «دابق» إحدى قرى حلب. ـ

٥١١

ورأى محمد بن يزيد المبرد اطراد هذا قياسا فإلى هذا أشرت بقولى :

ونحو «أهون» مفيد «هيّنا»

قيسا عليه ابن يزيد استحسنا

والقيس والقياس : مصدرا «قاس».

ثم نبهت على تعدية أفعل التفضيل بحروف الجر ، وجملة القول فى ذلك :

أن أفعل التفضيل إن كان من متعد بنفسه دال على حب أو بغض عدى باللام إلى ما هو مفعول فى المعنى ، وب «إلى» إلى ما هو فاعل فى المعنى كقولك : «المؤمن أحبّ لله من نفسه ، وهو أحبّ إلى الله من غيره».

وإن كان من متعد بنفسه دال على علم (١) عدى بالباء نحو : «زيد أعرف بى ، وأنا أدرى به»

وإن كان من متعد بنفسه غير ما تقدم عدى باللام نحو : «هو أطلب للثّأر ، وأنفع للجار».

وإن كان من متعد بحرف جر عدى به لا بغيره نحو : «هو أزهد فى الدّنيا ، وأسرع إلى الخير ، وأبعد من الإثم ، وأحرص على الحمد ، وأجدر بالحلم ، وأصد عن الخنا».

ولفعل التعجب من هذا الاستعمال ما لأفعل التفضيل نحو : «ما أحبّ المؤمن لله ، وأحبّه إلى الله ، وما أعرفه بنفسه ، وأقطعه للعوائق ، وأغضّه لطرفه وأزهده فى الدّنيا ، وأسرعه إلى الخير ، وأحرصه عليه ، وأجدره به» ـ والله أعلم ـ.

__________________

ـ ينظر : تاريخ الطبرى (٧ / ٣٨ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٠) ، (٨ / ١٦ ، ٢٢٧) ، (٩ / ٨٥) ، معجم البلدان لياقوت (٢ / ٥١٣) ، البيان والإعراب للمقريزى (ص ٤٧).

(١) فى أ: على علم غير ما تقدم.

٥١٢

باب التوابع

(ص)

التّابع التّالى بلا تقيّد

فى حاصل الإعراب والمجدّد

وهو لدى التّقسيم بلّغت الأمل

نعت وتوكيد ، وعطف ، وبدل

(ش) ... التالى ...

يعم خبر المبتدأ ، وثانى المفعولين ، وحال المنصوب ، والجواب المجزوم بعد شرط مجزوم.

فقولى :

 ... بلا تقيّد

 ...

مخرج لما سوى التابع ؛ لأنها لا تساوى ما قبلها فى الإعراب إلا مع كون عامله الموجود فى الحال غير مبتدل.

فلو تبدل بعامل متجدد لزال التوافق فى الإعراب ؛ بخلاف المسمى تابعا ـ فى الاصطلاح ـ فإن موافقته لما قبله فى الإعراب لا تتقيد بعامل دون عامل.

ثم نبهت على أن التابع على أربعة أقسام : نعت ، وتوكيد ، وعطف ، وبدل ، وأخرت التنبيه على أن العطف عطفان : عطف بيان ، وعطف نسق.

وسأبين ذلك ـ إن شاء الله ـ تعالى ـ فى موضع الحاجة إليه.

(ص)

وتابعا بالأجنبى المحض لا

تفصل ، وفصل بسواه قبلا

إن لم يكن توكيد توكيد ولا

نعتا لمبهم كـ (سل ذا الرّجلا)

أو صفة تلزم ما بها اتّصف

ك (الأحمر) المذكور قبله (خلف)

أو بعضا التّمام دونه عدم

أو ما بتابعيّة لفظا لزم

وعمل التّابع قبل ما تبع

لا توقعن ففعل ذاك ممتنع

ومانعوه علماء البصره

وغيرهم أجاز دون كثره

(ش) حق التابع أن يكون متصلا بمتبوعه :

فإن فصل بينهما بغير أجنبى حسن كقوله ـ تعالى ـ : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] ، ففصل بالمبتدأ بين الصفة والموصوف ؛ لكونه بعض الخبر.

٥١٣

وكقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] ، ففصل بالفعل ومفعوله الثانى بين الصفة والموصوف ؛ لإضافة المفعول الأول إليه ، فلم يعد الفاصل أجنبيا.

ومن الفصل بما ليس أجنبيا محضا الفصل بـ (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] بين الأيدى والأرجل ؛ لأن المجموع عمل واحد قصد الإعلام بترتيبه فحسن.

وكان ذلك أسهل من الجملة المعترض بها بين شيئين امتزاجهما أشد من امتزاج المعطوف والمعطوف عليه ؛ كالموصول والصلة ، والموصوف والصفة.

فلو جيء بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة لا يكون مضمونها جزء ما توسطت فيه ، ولا هى حالية ، ولا اعتراضية ، تمحضت أجنبيتها ، ولم يجز الفصل بها.

ثم نبهت على ما لا يجوز الفصل (١) بينه وبين متبوعه :

فمن ذلك : توكيد التوكيد كـ «أكتعين» و «أبصعين»

ومنه : نعت المبهم كقولى :

 ...

 ... سل ذا الرّجلا

ومنه الصفة اللازمة كـ «خلف الأحمر» (٢) و «الشّعرى (٣) العبور».

ومنه المعطوف المتمم ما لا يستغنى عنه من الصفات كقولك : «إنّ امرأ ينصح ولا يقبل خاسر» ، فلو جعل «خاسر» بين «ينصح» و «لا يقبل» لم يجز ؛ لأنهما جزءا صفة ، ولا يستغنى عنهما ، ولا يغنى أولهما عن ثانيهما.

فلو جاز الاكتفاء بأولهما لم يمتنع الفصل كقول الشاعر : [من الكامل]

إنّ امرأ أمن الحوادث جاهل

ورجا الخلود كضارب بقداح (٤)

وأصل الكلام : إن امرأ أمن الحوادث ورجا الخلود ففصل ؛ لأن «أمن الحوادث» صالح للاكتفاء به ؛ بخلاف «ينصح» من المثال المتقدم ذكره.

__________________

(١) فى أ: ما لا يجوز أن يفصل.

(٢) هو خلف بن حيان ، أبو محرز ، المعروف بالأحمر ، راوية ، عالم بالأدب ، شاعر من أهل البصرة. كان معلم الأصمعى ومعلم أهل البصرة ، قال الأخفش : لم أدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف والأصمعى. وكان يضع الشعر ، وينسبه إلى العرب. له ديوان شعر ، وكتاب «جبال العرب وما قيل فيها من الشعر» ، مقدمة فى النحو. مات نحو سنة (١٨٠ ه‍).

ينظر : الأعلام (٢ / ٣١٠) ، بغية الوعاة (١ / ٥٥٤).

(٣) الشّعرى : كوكب. (المقاييس ـ شعر).

(٤) البيت للسموأل بن عادياء فى الديوان ص ٨٦.

٥١٤

إلى نحو : «إن امرأ ينصح ولا يقبل خاسر» أشرت بقولى :

أو بعضا التّمام دونه عدم

 ...

لأن مجموع «ينصح» و «لا يقبل» جزءا صفة لا يستغنى عنهما «إنّ امرأ».

وأشرت بقولى :

 ...

أو ما بتابعيّة لفظا لزم

إلى نحو قولهم : «أبيض يقق» (١) فإن «يققا» تابعيته لازمة ، فهو فى النعت كـ «أكتعين» فى التوكيد ، فلا يفصل من متبوعه ، كما لا يفصل ذلك من المؤكد به ، وكل نعت يلازم النعتية فحكمه حكم «يقق».

ثم نبهت على أن التابع لا يتقدم معموله على المتبوع ؛ فلا يقال فى نحو : «هذا رجل يأكل طعامك» «هذا طعامك رجل يأكل» ، ولا فى نحو : «قمت فضربت زيدا» «زيدا قمت فضربت».

وأجاز ذلك الكوفيون.

ووافقهم الزمخشري (٢) فى تقديم معمول الصفة على الموصوف ، فعلق «فى أنفسهم» من قوله ـ تعالى ـ : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء : ٦٣] بصفة القول.

وغير ما ذهب إليه أولى ؛ لأن التابع لا يتقدم على المتبوع ، فلا يتقدم معموله.

وأما «فى أنفسهم» فمتعلق بـ «قل» ـ والله اعلم ـ.

باب النعت

(ص)

النّعت تابع متمّ ما سبق

بوسمه أو وسم ما به اعتلق

ك (امرر بشخص محسن ، وزر فتى

برّا بنوه بيّنا فيه الفتا)

وليعط فى التّعريف والتّنكير ما

لما تلاه كـ (ائت قوما كرما)

وهو لدى التّوحيد والتّذكير أو

سواهما كالفعل ، فاقف ما قفوا

__________________

(١) أبيض يقق : شديد البياض. (القاموس ـ يقق).

(٢) قال الزمخشرى : فإن قلت بم تعلق قوله : (فى أنفسهم)؟ قلت : بقوله : بليغا ، أى : قل لهم قولا بليغا فى أنفسهم. ينظر : الكشاف (١ / ٥٢٧).

٥١٥

ك (ابنين برّين شج قلباهما

و (امرأتين حسن مرآهما)

(ش) التابع : جنس يعم النعت ، والعطف المسمى عطف بيان ، والعطف المسمى نسقا ، والتوكيد والبدل. فقولى :

 ... متمّ ما سبق

 ...

مخرج لعطف النسق ، وللبدل.

ويشترك مع النعت فى قولى :

 ... متمّ ما سبق

 ...

التوكيد ، وعطف البيان.

والمراد بإتمامها ما سبق : أنها تكمل دلالته ، وترفع اشتراكه ، واحتماله.

إلا أن النعت يوصل إلى ذلك التكميل بدلالته على معنى فى المنعوت ، أو فى شيء من سببه ، أى : من المتعلقات به.

والتوكيد ، وعطف البيان ليسا كذلك ، فخرجا حين قلت :

 ...

بوسمه أو وسم ما به اعتلق

فالنعت المكمل متبوعه بوسمه كقولى :

 ... «امرر بشخص محسن»

 ...

والمكمل متبوعه بوسم ما به اعتلق كقولى :

 ... زر فتى

برّا بنوه ...

ف «برّا» نعت جار فى اللفظ على «فتى» وهو فى المعنى لـ «بنوه»

ولا بد من موافقة النعت المنعوت فى التعريف والتنكير.

وسواء فى ذلك : النعت الجارى على ما هو له كـ «شخص محسن»

والجارى على ما هو لشيء من سببه : «زر فتى برّا بنوه».

وكون النعت موافقا للمنعوت فى الإعراب مستغنى عن ذكره بما تقدم فى حد التابع من قولى :

التّابع التّالى بلا تقيّد

فى حاصل الإعراب والمجدّد

وأما الموافقة فى التوحيد ، والتذكير ، وأضدادهما ، فلا يلزم إلا إذا كان النعت جاريا على ما هو له ؛ كقولك : «مررت برجلين فارهين».

أو كان جاريا على ما هو لشيء من سببه ، ولم يرفع ظاهرا نحو : «مررت بامرأة

٥١٦

حسنة الوجه ، وبرجال حسان الوجوه».

فلو كان النعت جاريا على ما هو لشيء من سببه ، وارتفع به ما هو له ، فعل به ما يفعل بالفعل الواقع موقعه ، فقيل : «مررت بامرأة حسن وجهها ، وبرجال حسنة وجوههم».

كما يقال مع الفعل : «مررت بامرأة حسن وجهها ، وبرجال حسنت وجوههم»

وإلى هذا أشرت بقولى :

وهو لدى التّوحيد والتّذكير أو

سواهما كالفعل ...

ثم قلت :

ك : «ابنين برّين شج قلباهما

وامرأتين حسن مرآهما»

فالأول : مثال لما يستحق المطابقة لجريانه على ما هو له.

والثانى والثالث : مثالان لسببى رفع ظاهرا ؛ فلا يستحق المطابقة.

(ص)

وانعت بمشتقّ كـ (صعب) و (أشب)

وشبهه كـ (ذا) و (ذى) والمنتسب

وكلّ ما أوّل بالمشتقّ من

سواه إن ينعت به فهو قمن

وانعت بـ (كلّ) وب (حق) وب (جد)

ناوى معنى (كامل) فيما قصد

وكن مضيفها لمثل ما تلت

مثل (الفتى كلّ الفتى امرؤ ثبت)

ويرفع التّالى بمنسوب كما

يرفع بالمشتقّ فاحفظ وافهما

ك (الخارجى رأيه لا ترحما)

و (الهاشمى أصله لا تحرما)

ونعتوا بجملة منكّرا

فأعطيت ما أعطيته خبرا

وامنع هنا إيقاع ذات الطّلب

وإن أتت فالقول أضمر تصب

من ذاك قول راجز ممّن فرط

(جاءوا بمذق هل رأيت الذّئب قط)

ونعتوا بمصدر كثيرا

فالتزموا الإفراد والتّذكيرا

ك (امرأة رضى ، وشخصين رضى)

و (زرت إنسانا وقوما حرضا)

(ش) المراد بالمشتق هنا : ما كان اسم فاعل ، أو اسم مفعول ، أو أحد أمثلة المبالغة ، أو صفة مشبهة باسم الفاعل ، أو أفعل تفضيل ، وكل ذلك معروف بما سبق من ذكره.

ويجمعها كلها أن يقال :

٥١٧

المشتق الموصوف به : ما دل على فاعل ، أو مفعول به متضمنا معنى «فعل» وحروفه.

والمراد بشبه المشتق : ما أقيم مقامه من الأسماء العارية من الاشتقاق ؛ كاسم الإشارة ، و «ذى» بمعنى : صاحب أو بمعنى الذى.

وقد عممت ذلك بقولى :

وكلّ ما أوّل بالمشتقّ من

سواه إن ينعت به فهو قمن

ثم أشرت إلى أن «كلّا» و «حقّا» و «جدّا» ينعت بها دالة على معنى «كامل» ؛ بشرط إضافتها إلى مثل المنعوت بها لفظا ومعنى كقولك : «زيد الرّجل كلّ الرّجل ، والعالم حقّ العالم ، والكريم جدّ الكريم».

وللاسم المنسوب إليه مزية على غيره من الجارى مجرى المشتق ؛ لكثرة الحاجة إليه فى المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث.

فلذلك رفع به الظاهر دون شذوذ ؛ فيقال : «مررت برجل عربى أبوه ، عجميّة أمّه».

ومثل ذلك قولى :

 ... الخارجى رأيه لا ترحما

والهاشمى أصله لا تحرما

وقد نعتوا النكرات بالجمل ؛ لكن بشرط ألا تكون الجملة طلبية ؛ لأن معنى الطلبية محتمل للثبوت والانتفاء ، فلم يكن فى وقوعها نعتا فائدة.

بخلاف وقوع الجملة الخبرية نعتا ؛ فإنه يفيد كقولك : «رأيت رجلا يرجى خيره» و «عرفت امرأة يبهر حسنها».

وقد شذ النعت بالجملة الطلبية» فى قول الراجز : [من الرجز]

جاءوا بمذق (١) هل رأيت الذّئب قطّ (٢)

__________________

(١) المذق : اللبن الممزوج ينظر : مقاييس اللغة (مذق).

(٢) الرجز للعجاج فى ملحق ديوانه ٢ / ٣٠٤ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٠٩ ، والدرر ٦ / ١٠ ، وشرح التصريح ٢ / ١١٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٦١ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ١١٥ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣١٠ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٠ ، ٥ / ٢٤ ، ٤٦٨ ، ٦ / ١٣٨ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٤٩٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٧٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٤١ ، وشرح المفصل ٣ / ٥٢ ، ٥٣ ، ولسان العرب (خضر) ، (مذق) ، والمحتسب ٢ / ١٦٥ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٤٦ ، ٢ / ٥٨٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١١٧ ، وتهذيب اللغة ٧ / ١٠٦ ، وتاج العروس (خضر) ، والمخصص ١٣ / ١٧٧ ، وأساس البلاغة (ضيح) ، وتاج العروس (مذق).

٥١٨

يصف قوما سقوا ضيفهم لبنا مخلوطا بالماء.

ومن النعت بما حقه فى الأصل ألا ينعت به : النعت بالمصدر ؛ كقولهم :

«رجل رضى» «امرأة رضى» و «رجلان رضى» و «رجال رضى» ؛ فالتزموا فيه لفظ الإفراد والتذكير كأنهم قصدوا بذلك التنبيه على أن أصله : «ذو رضى» و «ذات رضى» و «رجلان ذوا رضى» و «رجال ذوو رضى» ، فلما حذفوا المضاف تركوا المضاف إليه على ما كان عليه.

(ص)

ونعت غير واحد إذا اختلف

فعاطفا فرّقه لا إذا ائتلف

ك (فتيين حسنين زرنا)

و (حسنا وفاحشا أجرنا)

وإن نعوت كثرت وقد تلت

مفتقرا لذكرهنّ أتبعت

واقطع أو اتبع إن يكن معيّنا

بدونها أو بعضا اقطع معلنا

وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا

مبتدأ أو ناصبا لن يظهرا

وتعطف النّعوت بعضها على

بعض كـ (زر قوما كراما وملا)

(ش) إذا اتفق اثنان فيما ينعتان به ، أو جماعة فيما ينعتون به ، استغنيت عن تفريق النعتين والنعوت فقلت : «رأيت فتيين حسنين» و «زرت رجالا كرماء».

فإن اختلف النعتان ، أو النعوت ، وجب التفريق كقولك : «رأيت رجلين حسنا وفاحشا ، ورجالا كريما وبخيلا ، وعالما وجاهلا ، وشجاعا وجبانا».

وقد يكون للاسم نعتان وأكثر :

فإن كان الاسم معينا للمسمى دون ما نعت به ، جاز القطع رفعا على أنه خبر مبتدأ لا يظهر ، ونصبا على إضمار فعل لا يظهر.

وإن لم يتعين المسمى إلا بجميع النعوت فالإتباع متعين.

وإن حصل التعيين ببعض دون بعض ، وجب الإتباع فيما لا يحصل التعيين بدونه ، وجاز فيما سواه الإتباع والقطع ، رفعا ، أو نصبا.

وتعطف بعض النعوت على بعض ، قال الله ـ تعالى ـ : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) [الأعلى : ١ ـ ٤].

(ص)

والنّعت بعد (لا) و (إمّا) قد يرد

وحتما التّكرار فيهما وجد

٥١٩

ك (جاء من إمّا ضن وإمّا

ذو فاقة يشكو الجوى والغمّا)

و (صل خليلا لا مخالفا ولا

مبطّئا عمّا ابتغى أهل الولا)

والنّعت ـ غالبا ـ لتخصيص الّذى

يتلوه كـ (اهجرنّ زيدا البذى)

وقد يفيد مدحا ، او ترحّما

أو ذمّا ، او توكيد ما تقدّما

والاسم موصوف به ومتّصف

وذو امتناع منهما معا كـ (أف)

وقابل لأحد الأمرين

ك (يقق) فاعلم و (ذى رعين)

والنّعت والمنعوت ربّما حذف

ما منهما يعلم حين ينحذف

ولقّبوا نعتا على الجوار ما

رأيته كقول بعض القدما

كأنّ نسج العنكبوت المرمل

و (فى بجاد) بعده (مزمّل)

(ش) إذا قصد النعت بمنفى ، جيء بالمنعوت ثم بالنعت مقرونا بـ «لا». وإذا قصد النعت بمشكوك فيه ، أو منوع أو شبههما ، جيء بالمنعوت ثم بالنعت مقرونا بـ «إمّا».

وتكرارهما لازم كقولى :

 ... جاءمن إمّا ضن وإمّا

ذو فاقة ...

ف «من» هنا نكرة موصوفة ؛ كأنه قال : «جاءلى إنسان إما ضن وإما ذو فاقة».

ومثال المقرون بـ «لا» قولى :

 ... صل خليلا لا مخالفا ولا

مبطّئا ...

ثم نبهت على المعانى المفادة بالنعت وهى : التخصيص كـ «الشّعرى العبور».

ومجرد المدح كـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١]

ومجرد الذم كـ (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨]

ومجرد الترحم نحو : «رأيت عبدك الذّليل».

ومجرد التوكيد نحو : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١]

والاسم منه ما يوصف ، ويوصف به ؛ كاسم الإشارة.

وما يمتنع منه الأمران ؛ كالمضمر ، واسم الفعل.

وما يوصف ولا يوصف به ؛ كالعلم ، وإليه أشرت بـ :

 ...

 ... (ذى رعين) ...

فإنه قيل من أقيال حمير.

٥٢٠