شرح شافية ابن الحاجب

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٥

صوته شيئا قليلا ، فكأنك وقفت على الحاء ، وأما اللام فمخرجها ـ أعنى طرف اللسان ـ لا يتجافى عن موضعه من الحنك عند النطق به ، فلا يجرى منه صوت ، لكنه لما لم يسدّ طريق الصوت بالكلية كالدال والتاء بل انحرف طرف اللسان عند النطق به خرج الصوت عند النطق به من مستدقّ اللسان فويق مخرجه ، وأما الميم والنون فإن الصوت لا يخرج من موضعيهما من الفم ، لكن لما كان لهما مخرجان فى الفم وفى الخيشوم جرى به الصوت من الأنف دون الفم ؛ لأنك لو أمسكت أنفك لم يجر الصوت بهما ، وأما الراء فلم يجر الصوت فى ابتداء النطق به ، لكنه جرى شيئا لانحرافه وميله إلى اللام ، كما قلنا فى العين المائلة إلى الحاء ، وأيضا الراء مكرر ، فاذا تكرر جرى الصوت معه فى أثناء التكرر ، وكذلك الواو والياء والألف لا يجرى الصوت معها كثيرا ، لكن لما كانت مخارجها تتسع لهواء الصوت أشد من اتساع غيرها من المجهورة كان الصوت معها يكثر فيجرى منه شىء ، واتساع مخرج الألف لهواء صوته أكثر من اتساع مخرجى الواو والياء لهواء صوتهما ، فلذلك سمى الهاوى :

أى ذات الهواء ، كالناشب (١) والنابل (٢) ، وإنما كان الاتساع للألف أكثر لأنك تضم شفتيك للواو فيتضيق المخرج وترفع لسانك قبل الحنك للياء ، وأما الألف فلا تعمل له شيئا من هذا ، بل تفرج المخرج ؛ فأوسعهن مخرجا الألف ، ثم الياء ، ثم الواو ، وهذه الحروف أخفى الحروف ؛ لاتساع مخارجها ، وأخفاهن الألف ؛ لأن سعة مخرجها أكثر

__________________

(١) الناشب : صاحب النشاب ، والنشاب ـ كرمان ـ : النبل ، والواحدة نشابة ـ كرمانة ـ

(٢) النابل : صاحب النبل ، أو صانعه مثل النبال ، والنبل : السهام ، ولا واحد له من لفظه ، ويقال : واحده نبلة

٢٦١

قوله «المطبقة ما ينطبق معه الحنك على اللسان» لأنك ترفع اللسان إليه فيصير الحنك كالطبق على اللسان ، فتكون الحروف التى تخرج بينهما مطبقا عليها

قوله «على مخرجه» ليس بمطرد ؛ لأن مخرج الضاد حافة اللسان ، وحافة اللسان تنطبق على الأضراس كما ذكرنا ، وباقى اللسان ينطبق عليه الحنك ، قال سيبويه : لو لا الإطباق فى الصاد لكان سينا ، وفى الظاء كان ذالا ، وفى الطاء كان دالا ، ولخرجت الضاد من الكلام ؛ لأنه ليس شىء من الحروف من موضعها غيرها

قوله «والمنفتحة بخلافها» لأنه ينفتح ما بين اللسان والحنك عند النطق بها ، والمستعلية : ما يرتفع بسببها اللسان ، وهى المطبقة والخاء والغين المعجمتان والقاف ؛ لأنه يرتفع اللسان بهذه الثلاثة أيضا ، لكن لا إلى حد انطباق الحنك عليها ، والمنخفضة : ما ينخفض معه اللسان ولا يرتفع ، وهى كل ما عدا المستعلية

قوله «حروف الذلاقة» الذّلاقة : الفصاحة والخفة فى الكلام ، وهذه الحروف أخفّ الحروف ، ولا ينفك رباعى ولا خماسى من حرف منها ، إلا شاذا ، كالعسجد (١) والدّهدقة (٢) والزّهزقة (٣) والعسطوس (٤) ، وذلك لأن الرباعى والخماسى ثقيلان ، فلم يخليا من حرف سهل على اللسان خفيف ، والمصمتة : ضد حروف الذلاقة ، والشىء المصمت هو الذى لا جوف له ، فيكون ثقيلا ، سميت بذلك لثقلها على اللسان ، بخلاف حروف الذلاقة ، وقيل : إنما سميت بذلك لأنها أصمتت عن أن يبنى منها وحدها رباعى أو خماسى ،

__________________

(١) العسجد : الذهب ، وهو أيضا الجوهر كله كالدر والياقوت ، ويقال : بعير عسجد ؛ إذا كان ضخما

(٢) الدهدقة : مصدر قولك : دهدق اللحم ؛ إذا كسره وقطعه وكسر عظامه

(٣) الزهزقة : شدة الضحك ، وهى أيضا ترقيص الأم الصبى

(٤) العسطوس ـ كقربوس ـ : وربما شددت سينه الأولى : شجرة كالخيزران تكون بالجزيرة ، وهو أيضا رأس النصارى

٢٦٢

والأول أولى ، لأنها ضد حروف الذلاقة فى المعنى ، فمضادّتها لها فى الاسم أنسب

قوله «وحروف القلقلة» إنما سميت حروف القلقلة لأنها يصحبها ضغط اللسان فى مخرجها فى الوقف مع شدة الصوت المتصعد من الصدر ، وهذا الضغط التام يمنع خروج ذلك الصوت ، فإذا أردت بيانها للمخاطب احتجت إلى قلقلة اللسان وتحريكه عن موضعه حتى يخرج صوتها فيسمع ، وبعض العرب أشدّ صوتا كأنهم الذين يرومون الحركة فى الوقف ، وبعض الحروف إذا وقفت عليها خرج معها مثل النفخة ولم تنضغط ضغط الأول ، وهى الظاء والذال والضاد والزاى ، فإن الضاد تجد المنفذ بين الأضراس ، والظاء والذال والزاى تجد منفذا من بين الثنايا

وأما الحروف المهموسة فكلها تقف عليها مع نفخ لأبهن يجرين مع النفس ، وبعض العرب أشد نفخا ، كأنهم الذين يرومون الحركة فى الوقف

وبعض الحروف لا يصحبها فى الوقف لا صوت كما فى القلقلة ، ولا نفخ كما فى المهموسة ، ولا شبه نفخ كما فى الحروف الأربعة ، وهو اللام والنون والميم والعين والغين والهمزة ، أما عدم الصوت فلأنه لم يتصعّد من الصدر صوت يحتاج إلى إخراجه ، وأيضا لم يحصل ضغط تام ، وأما عدم النفخ فلأن اللام والنون لا يجدان منفذا كما وجدت الحروف الأربعة بين الأسنان وذلك لأنهما ارتفعتا عن الثنايا ، وكذلك الميم ، لأنك تضم الشفتين بها ، وأما العين والغين والهمزة فانك لو أردت النفخ من مواضعها لم يمكن ، ولا يكون شىء من النفخ والصوت فى الوصل نحو أذهب زيدا ، وخذهما ، واحرسهما ، وذلك لاتصال الحرف الثانى به فلا يبقى لا صوت ولا نفخ

قوله «قد طبج» الطّبج : ضرب اليد على مجوف ، وإنما سمى اللام منحرفا لأن اللسان ينحرف عند النطق به ، ومخرجه من اللسان ـ أعنى طرفه ـ لا يتجافى عن موضعه من الحنك ، وليس يخرج الصوت من ذلك المخرج ،

٢٦٣

بل يتجافى ناحيتها مستدقّ اللسان ، ولا تعترضان الصوت ، بل تخليان طريقه ، ويخرج الصوت من تينك الناحيتين ، وإنما سمى الراء مكررا لأن طرف اللسان إذا تكلم به كأنه يتعثر : أى يقوم فيعثر ؛ للتكرير الذى فيه ، ولذلك كانت حركته كحركتين ، كما تبين فى باب الإمالة (١) ، ومعنى الهاوى ذو الهواء كما ذكرنا ، وإنما سمى التاء مهتوتا لأن الهتّ سرد الكلام على سرعة ، فهو حرف خفيف لا يصعب التكلم به على سرعة.

قال : «ومتى قصد إدغام أحد المتقاربين فلا بدّ من القلب ، والقياس قلب الأوّل إلّا لعارض فى نحو اذبحتّودا واذبحّاذه ، وفى جملة من تاء الافتعال لنحوه ولكثرة تغيّرها ، ومحّم فى معهم ضعيف ، وستّ أصله سدس شاذّ لازم»

أقول : شرع فى بيان إدغام المتقاربة بعضها فى بعض ، وقدم مقدمة يعرف بها كيفية إدغامها ، ثم ذكر مقدمة أخرى يعرف بها ما لم يجز إدغامه منها فى مقاربه ، وهى قوله «ولا يدغم منها فى كلمة» إلى قوله «فالهاء فى الحاء» إنما كان القياس قلب الأول إلى الثانى دون العكس لأن الادغام تغيير الحرف الأول بايصاله إلى الثانى وجعله معه كحرف واحد ، فلما كان لا بد للأول من التغيير بعد صيرورة المتقاربين مثلين ابتدأت بتغييره بالقلب

قوله «إلا لعارض» اعلم أنه قد يعرض ما يمنع من القياس المذكور ، وهو شيئان :

أحدهما : كون الأول أخف من الثانى ، وهو إما فى حرفين حلقيين أولهما أعلى من الثانى ، وذلك إذا قصد إدغام الحاء إما فى العين أو فى الهاء فقط ، ولا يدغم حلقىّ فى حلقى آخر أدخل منه كما يجىء ، وإنما أدغمت الحاء فى أحد الحرفين مع أن حروف الحلق يقل فيها الإدغام ـ كما يجىء ـ لثقلها ؛ فلهذا قلّ المضاعف منها كما

__________________

(١) انظر (ص ٢٠ من هذا الجزء)

٢٦٤

يجىء ، فلم يدغم بعضها فى بعض فى كلمتين أيضا فى الأغلب ؛ لئلا يكون شبه مضاعف مصوغ منها ، وإنما أدغمت الحاء فى أحدهما لشدة مقاربة الحاء لهما ، وإنما قلبت الثانى إلى الأول فى نحو اذبح عتودا (١) ، واذبح هذه ، مع أن القياس العكس ؛ لأن أنزلها فى الحلق أثقلها ، فأثقلها الهمزة ثم الهاء ، ثم العين ثم الغين ثم الحاء ثم الخاء ، فالحاء أخف من الغين والخاء ، والمقصود من الإدغام التخفيف ، فلو قلبت الأولى التى هى أخف إلى الثانية التى هى أثقل لمشت خفة الادغام بثقل الحرف المقلوب إليه فكأنه لم يدغم شىء فى شىء ، وأما فى الواو والياء فى نحو سيد وأصله سيود وذلك لثقل الواو كما مر فى باب الإعلال

وثانيهما كون الحرف الأول ذا فضيلة ليست فى الثانى ، فيبقى عليها بترك قلبه إلى الثانى ، ولا يدغم فى مثل هذا كما يجىء ، إلا أن يكون الثانى زائدا فلا يبالى بقلبه وتغييره على خلاف القياس ، نحو اسّمع وازّان

ومعنى قوله «لنحوه ولكثرة تغيرها» أى : لكون الأول أخف من الثانى ولكثرة تغير التاء لغير الإدغام كما فى اضطرب واصطبر

قوله «ومحّم فى معهم ضعيف» كان القياس الأوّل : أى قلب الأول إلى الثانى ، أن يقال مهّم ، بقلب العين هاء ، وقياس العارض ، وهو كون الثانى : أى الهاء أدخل فى الحلق وأثقل ، أن يقلب الثانى إلى الأول فيقال معّم ، فاستثقل كلاهما ، ولهذا كان تضعيف الهاء نحو قهّ (٢) وكهّ (٣) السكران ، والعين نحو دعّ (٤) وكعّ (٥) قليلا جدا ، واستثقل أيضا ترك الإدغام لأن كل واحدة منهما

__________________

(١) العتود : ولد المعز

(٢) قه الرجل : اشتد ضحكه. انظر (ص ٧٣ من هذا الجزء)

(٣) كه السكران : أخرج نفسه. انظر (ص ٧٣ من هذا الجزء)

(٤) الدع : الدفع العنيف ، وفى التنزيل (فذلك الّذى يدعّ اليتيم) : أى يدفعه بعنف

(٥) كع الرجل : جبن ، وهو من باب نصر وضرب وعلم ، انظر (ح ١ ص ١٣٤)

٢٦٥

مستثقلة لنزولها فى الحلق فكيف بهما مجتمعين مع تنافرهما؟ إذ العين مجهورة والهاء مهموسة ، فطلبوا حرفا مناسبا لهما أخف منهما ، وهو الحاء : أما كونه أخف فلأنه أعلى منهما فى الحلق ، ولذلك كثر نحو محّ (١) ودحّ (٢) وزحّ (٣) بخلاف دعّ وكعّ وكهّ وقهّ ، وأما مناسبته للعين فلأنهما من وسط الحلق ، وأما الهاء فبالهمس والرخاوة ؛ فلذا قلب بعض بنى تميم العين والهاء حاءين وأدغم أحدهما فى الآخر نحو محّم ومحّاؤلاء ، فى معهم ومع هؤلاء ، والأكثر ترك القلب والإدغام لعروض اجتماعهما ، وكذا قولك ستّ أصله سدس ، بدلالة التسديس وبين الدال والسين تقارب فى المخرج ؛ لأن كليهما من طرف اللسان ، فلو قلب ، الدال سينا كما هو القياس اجتمع ثلاث سينات ، ولا يجوز قلب السين دالا خوفا من زوال فضيلة الصفير ، ومع تقارب الدال والسين فى المخرج بينهما تنافر فى الصفة ؛ لأن الدال مجهورة شديدة والسين مهموسة رخوة ، فتقاربهما داع إلى ترك اجتماعهما مظهرين ، وكذا تنافرهما وقلب أحدهما إلى الآخر ممتنع ، كما مر ، فلم يبق إلا قلبهما إلى حرف يناسبهما ، وهو التاء ؛ لأنها من مخرج الدال ومثل السين فى الهمس

قال : «ولا يدغم منها فى كلمة ما يؤدّى إلى لبس بتركيب آخر ، نحو وطد ووتد وشاة زنماء ، ومن ثمّ لم يقولوا : وطدا ولا وتدا ، بل قالوا : طدة وتدة لما يلزم من ثقل أو لبس ، بخلاف نحو امّحى واطّيّر ، وجاء ودّ فى وتد فى تميم»

__________________

(١) مح الثوب : كنصر وضرب ـ : بلى

(٢) الدح : الدس والنكاح ، وهو أيضا الدفع فى القفا

(٣) تقول : زحه يزحه ـ كمده يمده ـ ؛ إذا نحاه عن موضعه ودفعه وجذبه فى عجلة

٢٦٦

أقول : إذا اجتمع من المتقاربة شيئان : فإن كانا فى كلمتين نحو من مثلك فإنه يدغم أحدهما فى الآخر ، ولا يبالى باللبس لو عرض ؛ لأنهما فى معرض الانفكاك ، فإذا انفكا يعرف أصل كل واحد منهما ، ثم إن تحركا لم يجب الإدغام ولم يتأكد ، وإن سكن الأول فقد يجب كالنون فى حروف (يرملون) ، وكلام التعريف فيما سنذكر ، ولا يجب فى غيرهما ، بل يتأكد ولا سيما إذا اشتد التقارب ، وإن كانا فى كلمة : فإن تحركا وألبس الادغام مثالا بمثال لم يدغم ، كما فى وطد (١) : أى أحكم ، ووتد : أى ضرب الوتد ، وكذا فى الاسم ، نحو وتد ، وإن لم يلبس جاز الادغام نحو ازّمّل (٢) فى تزمّل ، لأن افعّلّ ـ بتضعيف الفاء والعين ـ ليس من أبنيتهم ، بل لا يجىء إلا وقد أدغم فى فائه تاء تفعّل كاتّرّك وازّمّل ، ومن ثم لا تقول : اقّطع واضّرب ، وإن كان أولهما ساكنا : فإن ألبس ولم يكن تقاربهما كاملا بقى الأول عير مدغم ، نحو قنوان (٣) وصنوان (٤) وبنيان وقنية (٥) وبنية وكنية ومنية وقنواء (٦)

__________________

(١) قال فى اللسان : «وطد الشىء يطده وطدا وطدة فهو موطود ووطيد : أثبته وثقله ، والتوطيد مثله» ومثله فى القاموس : ومنه تعلم أن قول ابن الحاجب «ومن ثم لم يقولوا : وطدا» غير سديد ، وكذا دعواه أنه لم يرد الوتد ؛ فقد ذكر صاحبا القاموس واللسان أنه يقال : وتد الوتد يتده وتداوتدة ، إذا ثبته ، وقد وجه الرضى ما ذكره ابن الحاجب. بأنه جرى على لغة بعض العرب

(٢) تقول : تزمل فى ثوبه ، وازمل ، إذا تلفف. وفى التنزيل (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً)

(٣) القنوان : جمع قنو ، وهو من النخلة بمنزلة العنقود من العنب

(٤) صنوان : جمع صنو ، وهو الأخ الشقيق. انظر (ج ٢ ص ٩٣)

(٥) القنية ـ بضم فسكون أو بكسر فسكون ـ ما يتخذه الانسان من الغنم ونحوها لنفسه لا للتجارة ، وانظر (ج ٢ ص ٤٣)

(٦) تقول : رجل أقنى الأنف ، وامرأة قنواء الأنف إذا كان أعلى أنفهما مرتفعا ووسطه محدودبا ، وهو من علامة الكرم عندهم.

٢٦٧

وشاة زنماء (١) وغنم زنم ، وإن كان نقاربهما كاملا جاز الاظهار نظرا إلى الالتباس بالادغام ، وجاز الادغام نظرا إلى شدة التقارب ، وذلك نحو وتد يتد وتدا ووطد يطد وطدا وعتدان فى جمع عتود

ومنهم من يدغم التاء فى الدال فيقول وتد يتد ودّا وعتودا وعدّانا ، قال الأخطل :

١٩١ ـ واذكر غدانة عدّانا مزنّمة

من الحبلّق تبنى حولها الصّير (٢)

ومنه قولهم ودّ فى وتد ، خففه بنو تميم بحذف كسرة التاء نحو كبد وفخذ كما مر فى أول الكتاب (٣) فقالوا بعد الاسكان : ودّ ، ولم يجز فى لغتهم وتد ـ بسكون التاء مظهرة ـ كما قيل عتدان ؛ لكثرة استعمال هذه اللفظة فيستثقل ، وجمعه على أوتاد يزيل اللبس ، ولم يجز الادغام فى نحو وطد لئلا تزول فضيلة الاطباق ، ومن العرب من يلتزم تدة وطدة فى مصدر وتد ووطد خوفا من الاستثقال لو قيل : وتدا ووطدا غير مدغمتين ، ومن الالتباس لو قيل : ودّا ، وكذا يلتزم فى وتد اللغة الحجازية : أعنى كسر التاء ؛ لما ذكرنا

__________________

(١) الزنمة ـ بالتحريك ـ شىء يقطع من أذن البعير فيترك معلقا ، يفعل بكرامها ، يقال : بعير زنم وأزنم ومزنم ـ كمعظم ـ وناقة زنمة وزنماء ومزنمة

(٢) هذا البيت للأخطل التغلبى من قصيدة يمدح فيها عبد الملك بن مروان ، وغدانة ـ بضم الغين المعجمة وبعدها دال مهملة ـ قبيلة من تميم ، أبوها غدانة بن يربوع ، «وعدانا» أصله عتدانا ، والعتدان : جمع عتود ، وهو الجذع من أولاد المعز ، والمزنمة : ذات الزنمة ، والحبلق ـ بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وتشديد اللام : ـ أولاد المعز ، والصير : جمع صيرة ، وهى الحظيرة ، يهجو هؤلاء القوم بأنهم رعاة لا ذكر لهم ولا شرف ـ والاستشهاد بالبيت فى قوله «عدانا» فان أصله عتدان فأبدل التاء دالا ثم أدغم الدال فى الدال

(٣) انظر (ح ١ ص ٣٩ وما بعدها)

٢٦٨

وإنما لم يبنوا صيغة تقع فيها النون ساكنة قبل الراء واللام نحو قنر وعنل ؛ لأن الادغام لا يجوز فيه كما جاز فى عتدان ؛ لأن التاء والدال أشد تقاربا من النون واللام والراء ، بدليل إدغام كل واحد من الدال والتاء فى الآخر ، بخلاف الراء واللام فإنهما لا يدغمان فى النون كما يدغم النون فيهما فى كلمتين نحو من ربك ومن لك ؛ لأن الادغام إذن عارض غير لازم ؛ فعلى هذا لو قيل نحو قنر وعنل لم يجز الإدغام لما ذكرنا ؛ فلم يبق إلا الإظهار وهو مستثقل ؛ لأن النون قريبة المخرج من اللام والراء ؛ فكأنهما مثلان ، وعتدان ووتد وتدا بفك الادغام ضعيف قليل لا يقاس عليه ، وأما زنماء وصنوان ونحوهما بالإظهار فإنما جاز لعدم كمال التقارب بين الحرفين

وإن لم يلبس إدغام أحد المتقاربين فى الآخر فى كلمة أدغم نحو امّحى ؛ لأن افّعل ليس من أبنيتهم بتكرير الفاء إلا مدغما فيه نون انفعل كامحّى ، أو مدغما فى تاء افتعل كادّكر ، على ما يجىء ، ومن ثم لم يقل : اضّرب واقّطع ، قال الخليل : وتقول فى انفعل من وجلت : اوّجل ومن اليسر ايّسر*

قوله «أو لبس» أى : لو أدغم*

قوله «وفى تميم» أى : فى لغة تميم وهى إسكان كسرة عين فعل نحو كبد فى كبد

قال : «ولم تدغم حروف (ضوى مشفر) فيما يقاربها لزيادة صفتها ، ونحو سيّد وليّة إنّما أدغما لأنّ الاعلال صيّرهما مثلين ، وأدغمت النّون فى اللّام والرّاء لكراهة نبرتها ، وفى الميم ـ وإن لم يتقاربا ـ لغنتها ، وفى الواو والياء لامكان بقائها ، وقد جاء لبعض شّأنهم ، واغفر لّى ؛ ونخسف بّهم ، ولا حروف الصّفير فى غيرها ؛ لفوات [صفتها] ، ولا المطبقة فى غيرها من غير إطباق على الأفصح ، ولا حرف حلق فى أدخل منه إلّا الحاء فى العين والهاء ، ومن ثمّ قالوا فيهما اذبحّتودا واذبحّاذه»

٢٦٩

أقول : اعلم أن إدغام أحد المتقاربين فى الآخر فى كلمة إذا لم يلبس ليس إلا فى أبواب يسيرة ، نحو انفعل وافتعل وتفعّل وتفاعل وفنعلل ، نحو امّحى واسمع وازّمّل وادّارك وهمّرش (١) وأما غير ذلك فملبس لا يجوز إلا مع شدة التقارب وسكون الأول نحو ودّ وعدّان ، ومع ذلك فهو قليل ، والغالب فى إدغام أحد المتقاربين فى الآخر إنما يكون فى كلمتين وفى انفعل وافتعل وتفعّل وتفاعل وفنعلل.

فنقول : المانع من إدغام أحد المتقاربين فى الآخر شيئان : أحدهما اتصاف الأول بصفة ليست فى الثانى ؛ فلا يدغم الأول فى الثانى إبقاء على تلك الصفة ، فمن ثم لم تدغم حروف (ضوى مشفر) (٢) فيما ليس فيه صفة المدغم ، وجاز إدغام الواو والياء من هذه الحروف أحدهما فى الآخر ؛ لأن فضيلة اللين التى فى أحدهما لا تذهب بإدغامه فى الآخر ؛ إذ المدغم فيه أيضا متصف باللين ، ولم تدغم حروف الصفير فيما ليس فيه صفير إلا فى باب افتعل كاّسمع وازّان ، ولا حروف الإطباق فى غيرها بلا إطباق إلا فى باب الافتعال نحو اطّرب ، وذلك لزوال المانع فيه بقلب الثانى إلى حروف الصفير وإلى حروف الإطباق ، وذلك لكون الثانى زائدا فلا يستنكر تغيره ، وفضيلة الضاد الاستطالة ، وفضيلة الواو والياء اللّين ، وفضيلة الميم الغنة ، وفضيلة الشين التفشى والرخاوة ، فلا تدغم فى الجيم مع تقاربهما فى المخرج ، وفضيله الفاء التأفيف ، وهو صوت يخرج من الفم مع النطق بالفاء ، وفضيلة الراء التكرير ، وأيضا لو أدغم لكان كمضعف أدغم فى غيره نحو ردّد ، ولا يجوز

قوله «ونحو سيّد وليّة» اعتراض على نفسه ، وذلك أنه قرر أن الواو والياء

__________________

(١) الهمرش : العجوز المسنة. انظر (ج ٢ ص ٣٦٤)

(٢) ضوى : هزل ، والمشفر ـ بزنة منير ـ الشفة ، أو خاص بالبعير

٢٧٠

لا يدغم أحدهما فى مقاربه ، فكأنه قال : كيف أدغم أحدهما فى الآخر فى سيّد ولىّ؟ ثم أجاب بأن قلب الواو إلى الياء لو كان للادغام لورد ذلك ؛ لكنه إنما قلبت ياء لاستثقال اجتماعهما لا للادغام ، ولهذا تقلب الواو ياء : سواء كانت أولى أو ثانية ، ولو كان القلب لإدغام أحد المتقاربين فى الآخر لقلبت الأولى إلى الثانية فقط ، كما هو القياس ، ثم بعد القلب اجتمع ياءان أولاهما ساكنة فوجب الادغام ، فهذا من باب إدغام المتماثلين لا من إدغام المتقاربين ؛ وفى هذا الجواب نظر ؛ لأن القلب لو كان لمجرد استثقال اجتماعهما لقلب الواو ياء ، وأولاهما متحركة كطويل وطويت ، فعرفنا أن القلب من أول الأمر لأجل الادغام ، وذلك لأن الواو والياء تقاربتا فى الصفة ، وهى كونهما لينتين ومجهورتين وبين الشديدة والرخوة وان لم يتقاربا فى المخرج ؛ فأدغمت إحداهما فى الأخرى وقلبت الواو وإن كانت ثانية ؛ لأن القصد التخفيف بالادغام ، والواو المشددة ليست بأخف من الواو والياء كما قلنا فى اذبحّتودا واذبحّاذه ؛ فجعل التقارب فى الصفة كالتقارب فى المخرج ، وجرّأهم على الادغام أيضا سكون الأول وكونه بذاك عرضة للادغام ، وأما فضيلة اللين فلا تذهب ـ كما قلنا ـ لأن كل واحدة منهما متصفة بتلك الصفة.

قوله «وأدغمت النون فى اللام» اعتراض آخر على نفسه ، وذلك أن فضيلة الغنّة تذهب بالادغام ، وأجاب المصنف بأنها وإن كانت تذهب بالادغام لكنهم اغتفروا ذلك ؛ لأن للنون نبرة : أى رفع صوت ، وهذا جواب فيه نظر أيضا ؛ لأنه إن كان الموجب للادغام النبرة فلتخف بلا إدغام كما تخفى مع القاف والكاف والدال والتاء وغيرهما ، كما يجىء

والحق أن يقال : إن للنون مخرجين : أحدهما فى الفم ، والآخر فى الخيشوم إذ لا بد فيها من الغنة ، وإذا أردت إخراجها فى حالة واحدة من المخرجين ، فلا

٢٧١

بد فيها من اعتماد قوى وعلاج شديد ؛ إذ الاعتماد على المخرجين فى حالة واحدة أقوى من الاعتماد على مخرج واحد

والحروف التى هى غير النون على ضربين : أحدهما يحتاج إلى اعتماد قوى وهى حروف الحلق ، والآخر لا يحتاج إلى ذلك ، وهى حروف الفم والشفة ؛ فالنون وحروف الحلق متساويان فى الاحتياج إلى فضل اعتماد وإعمال لآلة الصوت ، وهى : أى النون إما أن تكون ساكنة أو متحركة ، فاذا كانت ساكنة وبعدها غير حرف الحلق فهناك داعيان إلى إخفائها

أحدهما سكونها ؛ لأن الاعتماد على الحرف الساكن أقل من الاعتماد على الحرف المتحرك ، والآخر كون الحرف الذى لا يحتاج فى إخراجه إلى فضل اعتماد عقيب النون بلا فصل ؛ ليجرى الاعتمادان على نسق واحد ، فأخفيت النون الساكنة قبل غير حروف الحلق

فان حصل للنون الساكنة مع الحروف التى بعدها من غير حروف الحلق قرب مخرج كاللام والراء ، أو قرب صفة كالميم ؛ لأن فيه أيضا غنة ، وكالواو والياء ؛ لأن النون معهما من المجهورة وما بين الشديدة والرخوة وجب إدغام النون فى تلك الحروف ؛ لأن القصد الاخفاء ، والتقارب داع إلى غاية الاخفاء التى هى الادغام

وإن لم يكن هناك قرب لا فى المخرج ولا فى الصفة أخفى النون بقلة الاعتماد ، وذلك بأن يقتصر على أحد مخرجيه ولا يمكن أن يكون ذلك إلا الخيشوم ، وذلك لأن الاعتماد فيها على مخرجها من الفم يستلزم الاعتماد على الخيشوم بخلاف العكس ؛ فيقتصر على مخرج الخيشوم فيحصل النون الخفية ، ثم بعد ذلك إن تنافرت هى والحرف الذى يجىء بعدها ، وهى الباء فقط ، كما فى عنبر قلبت تلك النون الخفية إلى حرف متوسط بين النون وذلك الحرف ، وهى الميم ، كما ذكرنا

٢٧٢

فى باب الإبدال ، (١) وإن لم يتنافرا بقيت خفية كما فى غير الباء من سوى حروف الحلق ، أما مع الحلقية فلا تخفى ؛ لأن حرف الحلق يحتاج إلى فضل اعتماد فتجرى النون على أصلها من فضل الاعتماد ؛ ليجرى الاعتماد على نسق واحد ، ومن الناس من يخفى النون قبل الغين والخاء المعجمتين ؛ لكونهما قريبتين من حروف الفم ، وكذلك النون الساكنة الموقوف عليها يخرجها من المخرجين ؛ لأن الحرف الموقوف عليه يحتاج إلى فضل بيان كما مر فى باب الوقف (٢) ومن ثم يقال : أفعى وأفعو ، وكذلك النون المتحركة ـ قبل أى حرف كانت ـ تخرج من المخرجين ؛ لاحتياجها إلى فضل اعتماد ، فإذا أدغمت النون فى حروف يرملون نظرت :

فإن كان المدغم فيه اللام والراء فالأولى ترك الغنة ؛ لأن النون تقاربهما فى المخرج وفى الصفة أيضا ؛ لأن الثلاثة مجهورة وبين الشديدة والرخوة ؛ فاغتفر ذهاب الغنة مع كونها فضيلة للنون ؛ للقرب فى المخرج والصفة

وإن كان المدغم فيه واوا أو ياء فالأولى الغنة لوجهين : أحدهما أن مقاربة النون إياهما بالصفة لا بالمخرج ؛ فالأولى أن لا يغتفر ذهاب فضيلة النون : أى الغنة رأسا لمثل هذا القرب غير الكامل ، بل ينبغى أن يكون للنون معهما حالة بين الإخفاء والإدغام ، وهى الحالة التى فوق الإخفاء ودون الإدغام التام ، فيبقى شىء من الغنة

وإن كان المدغم فيه ميما أدغم إدغاما تاما ، لأن فضيلة الغنة حاصلة فى المدغم فيه ؛ إذ فى الميم غنة وإن كانت أقل من غنة النون ، وبعض العرب يدغمها فى اللام والراء مع الغنة أيضا ضنا بفضيلة النون ؛ فلا يكون الإدغام إذن إدغاما تاما ،

__________________

(١) انظر (ص ٢١٦ من هذا الجزء)

(٢) انظر (ج ٢ ص ٢٨٦)

٢٧٣

وبعضهم ترك الغنة مع الواو والياء اقتصارا فى الإدغام التام على التقارب فى المخرج أو الصفة

هذا ، ومذهب سيبويه وسائر النحاة أن إدغام النون فى اللام والراء والواو والياء مع الغنة أيضا إدغام تام ، والغنة ليست من النون ؛ لأن النون مقلوبة إلى الحرف الذى بعدها ، بل إنما أشرب صوت الفم غنة ؛ قال سيبويه : «لا تدغم النون فى شىء من الحروف حتى تحول إلى جنس ذلك الحرف ؛ فإذا أدغمت فى حرف فمخرجها مخرج ذلك الحرف ؛ فلا يمكن إدغامها فى هذه الحروف حتى تكون مثلهن سواء فى كل شىء ، وهذه الحروف لا حظ لها فى الخيشوم وإنما يشرب صوت الفم غنة» هذا كلامه

قوله «وفى الميم وإن لم يتقاربا» ليس باعتراض لكنه شىء عرض فى أثناء هذا الاعتراض

قوله «وفى الواو والياء لامكان بقائها» اعتراض وجواب : أى لإمكان بقاء الغنة : أما على ما اخترناه فالعنة للنون التى هى كالمدغمة ، وأما على ما قال النحاة فلاشراب الواو والياء المضعفين غنة

قوله «وقد جاء لبعض شّأنهم واغفر لّى ونخسف بّهم» نقل عن بعض القراء الإدغام فى مثله ، وحذاق أهل الأداء على أن المزاد بالإدغام فى مثله الاخفاء ، وتعبيرهم عنه بلفظ الإدغام تجوز لأن الاخفاء قريب من الإدغام ، ولو كان ذلك إدغاما لالتقى ساكنان لا على حدّه فى نحو لبعض شأنهم ، وأجاز الكسائى والفراء إدغام الراء فى اللام قياسا كراهة لتكرير اللام ، وأبو عمرو يأتى بالميم المتحركة المتحرك ما قبلها خفيّة إذا كان بعدها باء نحو (بأعلم بالشّاكرين) وأصحابه يسمون ذلك إدغاما مجازا وهو إخفاء

قوله «ولا حروف الصفير فى غيرها» لئلا تذهب فضيلة الصفير ، وإنما يدغم بعضها فى بعض كما يجىء

٢٧٤

قوله «ولا المطبقة فى غيرها» تقول : احفظ ذّلك ، واحفظ ثّابتا ، بالادغام مع الاطباق وتركه ، وإبقاؤه أفصح كما يجىء

قوله «ولا حرف حلق فى أدخل منه» اعلم أن الادغام فى حروف الحلق غير قوى ؛ فإن المضاعف من الهاء قليل ، نحو كهّ الرجل ورجل فهّ (١) ، وأما الألف والهمزة فلم يجىء منهما مضاعف ، وكذا المضاعف من العين قليل ، نحو دعّ وكعّ ، وكان حق الحاء أن تكون أقل فى باب التضعيف من الغين والخاء ؛ لأنه أنزل منهما فى الحلق ، لكنه إنما كثر نحو بحّ (٢) وزحّ (٣) وصحّ (٤) وفحّ (٥) ، وغير ذلك لكونه مهموسا رخوا ، والهمس والرخاوة أسهل على الناطق من الشدة والجهر ، والغين لا تجىء عينا ولاما معا إلا مع حاجز (٦) كالضّغيغة (٧) ،

__________________

(١) رجل فه ، وفهيه ، وفهفه ، إذا كان عييا

(٢) بح الرجل ـ من باب علم وفتح ـ إذا أصابته بحة ، وهى بضم الباء : خشونة وغلظ فى الصوت

(٣) انظر (ص ٢٦٦ من هذا الجزء)

(٤) صح الرجل فهو صحيح ؛ إذا ذهب مرضه ، أو برىء من كل عيب

(٥) فحت الأفعى : صوتت من فيها ، وبابه قعد

(٦) لم يصب المؤلف فى هذا الذى زعمه من أن الغين لا تكون عين الكلمة ولامها إلا مع حاجز بين العين واللام ؛ فقد ورد الفغة ، وهو تضوع الرائحة ، قالوا : فغتنى الرائحة ـ بتشديد الغين ـ إذا فاحت. وقالوا : الطغ ـ بتشديد الغين ـ وهو الثور. وقالوا : صغ ؛ إذا أكل كثيرا. وقالوا : شغ البعير ببوله ؛ إذا فرقه ، وشغ القوم : تفرقوا

(٧) الذى فى القاموس : الضغيغ ـ كأمير ـ : الخصب ، وأقمت عنده فى ضغيغ دهره : أى قدر تمامه. وبهاء : الروضة الناضرة ، والعجين الرقيق ، والجماعة من الناس يختلطون ، وخبز الأرز المرقق ، ومن العيش الناعم الغض. ولم نعثر على المعنى الذى ذكره الشارح

٢٧٥

وهى اللبن المحقون حتى تشتد حموضته ، والخاء أكثر منه ؛ لأنه أقرب إلى الفم ، وأيضا هى مهموسة رخوة كالحاء نحو المخ والفخ ورخّ : أى نكح ، والغين مجهورة كالعين ، وإنما قل تضعيفها لصعوبتها وتكلف إخراجها مخففة فكيف بها مضعفة ؛ فعلى هذا ثبت قلة إدغام المتقاربين من حروف الحلق ، وسيجىء ، فإن اتفق أدغم الأنزل فى الأعلى نحو اجبه حّاتما (١) كما يجىء بعد ، فإن اتفق كون الثانى أنزل لم يدغم إلا أن يكون بينهما قرب قريب ، ويدغم إذ ذاك بمخالفة شرط إدغام المتقاربين ، وذلك بأن يقلب الثانى إلى الأول ، وذلك كالحاء التى بعدها العين أو الهاء ، نحو اذبحّتودا واذبحّاذه إذ لو قلب الأول إلى الثانى لم يكن أخف منه قبل الادغام

قوله «ومن ثم قالوا اذ بحّتودا» أى : ومن أجل أن إدغام حرف الحلق فى أدخل منه لا يجوز لأجل الثقل قلبوا الثانى لما اتفق مثل ذلك إلى الأول حتى لا يكون ثقل

قال : «فالهاء فى الحاء والعين فى الحاء والحاء فى الهاء والعين بقلبهما حاءين ؛ وجاء (فمن زحزح عّن النّار) والغين فى الخاء والخاء فى الغين»

أقول : أخذ فى التفصيل بعد ما أجمل ؛ فالهمزة والألف لا يدغمان كما ذكر ، وأما الهاء فتدغم فى الحاء فقط ، نحو اجبه حّاتما (٢) ، والبيان أحسن ؛ لأن حروف الحلق ليست بأصل فى التضعيف فى كلمة كما ذكرنا ، وقل ذلك فى كلمتين أيضا ، والإدغام عربى حسن ؛ لقرب المخرجين ، ولأنهما مهموسان رخوان ، ولا تدغم الهاء فى الغين وإن كانت الغين أقرب مخرجا إلى الهاء من الحاء ؛ لأن الهاء مهموسة رخوة كالحاء ، والغين مجهورة بين الشديدة والرخوة

وأما العين فتدغم فى الحاء ، وذلك لقرب المخرج نحو ارفع حّاتما ، قال

__________________

(١) تقول : جبهه ـ مثل منع ـ أى ضرب جبهته

٢٧٦

سيبويه : الإدغام والبيان حسنان ؛ لأنهما من مخرج واحد ، وتدغم العين فى الهاء أيضا ولكن بعد قلبهما حاءين نحو محّم ومحّاؤلاء ، والبيان أكثر ، ولا يجوز ههنا ـ كما ذكرنا قبل ـ قلب الأول إلى الثانى ولا قلب الثانى إلى الأول ؛ فقلبا حاء لما مر ، ولم يفعلوا مثل ذلك إذا تقدم الهاء على العين نحو اجبه عليّا ، فلم يقولوا : اجبه هّليّا ، لأن قياس إدغام الأنزل فى الأعلى بقلب الأول إلى الثانى قياس مطرد غير منكسر ، وقد تعذر عليهم ذلك لثقل تضعيف العين فتركوا الإدغام رأسا

وأما الحاء فلا تدغم فيما فوقها لأن الغين التى هى أقرب مخرجا إليها من الخاء مجهورة ، والحاء مهموسة والخاء المعجمة ـ وإن كانت مثلها مهموسة ـ لكن مخرجها بعيد من مخرج الحاء فالحاء المهملة تدغم فى أدخل منها ، وهو شيئان الهاء والعين بأن تقلبا حاءين كاذبحّتودا واذبحّاذه كما مر

قوله «وجاء فمن زحزح عنّ النّار» قرأ أبو عمرو بالإدغام بقلب الحاء عينا

وأما الغين فانه يدغم فى الخاء ، لأن الخاء أعلى منه نحو ادمغ خلفا ، (١) قال سيبويه : البيان أحسن والإدغام حسن

وأما الخاء فتدغم فى الغين نحو اسلخ غّنمك ، والبيان أحسن والادغام حسن ولكن لا كحسن إدغام الغين فى الخاء معجمتين ، وذلك لأن الخاء أعلى من الغين ولأن تضعيف الخاء كثير وتضعيف الغين لم يأت إلا مع الفصل كما ذكرنا ، وإنما جاز إدغام الخاء فى الغين معجمتين بقلب الأول إلى الثانى مع أن الأول أعلى من الثانى لأن مخرجهما أدنى مخارج الحلق إلى اللسان ، ألا ترى إلى قول بعض

__________________

(١) تقول : دمغ الرجل الرجل ـ من باب منع ونصر ـ إذا ضرب دماغه ، أو إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ ، وتقول : دمغت الشمس فلانا ؛ إذا آلمت دماغه

٢٧٧

العرب منخل ومنغل (١) باخفاء النون قبلهما كما تخفى قبل حروف الفم ، ولم يجز مثل ذلك الإدغام فى الحاء والعين فلم يقولوا اذبعّتودا لبعدهما من الفم

قال : «والقاف فى الكاف والكاف فى القاف والجيم فى الشّين»

أقول : أما القاف فيدغم فى الكاف بقلب الأول إلى الثانى نحو الحق كّلدة (٢) ، قال سيبويه : البيان أحسن والإدغام حسن ؛ لقرب المخرجين وتقاربهما فى الشدة

وأما الكاف فإنما يدغم فى القاف نحو انهك قطنا (٣) بقلب الأول إلى الثانى ، والإدغام حسن والبيان أحسن ؛ لأن القاف أدخل ، قال سيبويه : إنما كان البيان أحسن لأن مخرجها أقرب مخارج اللسان إلى الحلق فشبهت بالخاء مع الغين كما شبه أقرب مخارج الحلق إلى اللسان بحروف اللسان فيما ذكرنا من البيان والإدغام

وأما الجيم فإنما يدغم فى الشين نحو ابعج شبّثا ، فالإدغام والبيان حسنان لأنهما من مخرج واحد ، وقد أدغمها أبو عمرو فى التاء فى قوله تعالى (ذِي الْمَعارِجِ تَعْرُجُ) ، وهو نادر ، والشين لا يدغم فى شىء مما يقاربه كما ذكرنا ، وقد روى عن أبى عمرو إدغامها فى السين فى قوله تعالى (ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) ، وكذا يدغم أبو عمرو السين فيها فى قوله تعالى (الرَّأْسُ شَيْباً) مع أنها من حروف الصفير ؛ لكونهما من حروف التفشى والصوت ؛ فكأنهما من مخرج واحد ـ وإن تباعد مخرجاهما ـ كما ذكرنا فى إدغام الواو والياء أحدهما فى الآخر ونحاة البصرة يمنعون إدغام الشين فى السين والعكس

__________________

(١) نغل الأديم ـ من باب علم ـ أى : فسد فى الدباغ ، وأنغله الدابغ فهو منغل

(٢) كلدة ـ بفتحات ـ : علم رجل ، وممن سمى به كلدة بن حنبل الصحابى ، وأبو الحارث بن كلدة الصحابى ، وأحد أطباء العرب ، وأبو كلدة : كنية الضبعان

(٣) القطن ـ بفتحتين ـ : ما بين الوركين ، وهر أصل ذنب الطائر

٢٧٨

قال : «واللام المعرّفة تدغم وجوبا فى مثلها وفى ثلاثة عشر حرفا ، وغير المعرّفة لازم فى نحو (بل رّان ، وجائز فى البواقى)»

أقول : يريد بالثلاثة عشر النون والراء والدال والتاء والصاد والزاى والسين والطاء والظاء والثاء والذال والضاد والشين ، وإنما أدغمت فى هذه الحروف وجوبا لكثرة لام المعرفة فى الكلام وفرط موافقتها لهذه الحروف ؛ لأن جميع هذه الحروف من طرف اللسان كاللام إلا الضاد والشين ، وهما يخالطان حروف طرف اللسان أيضا

أما الضاد فلأنها استطالت لرخاوتها حتى اتصلت بمخرج اللام كما مر ، وكذا الشين حتى اتصلت بمخرج الطاء ، وإذا كانت اللام الساكنة غير المعرفة نحو لام هل وبل وقل فهى فى إدغامها فى الحروف المذكورة على أقسام :

أحدها : أن يكون الإدغام أحسن من الإظهار ، وذلك مع الراء لقرب مخرجيهما ، ولك أن لا تدغم نحو هل رأيت ، قال سيبويه : ترك الإدغام هو لغة أهل الحجاز ، وهى عربية جائزة ، ففى قول المصنف «لازم فى نحو (بل رّان)» نظر ؛ بلى لزم ذلك فى لام هل وبل وقل خاصة مع الراء فى القرآن ، والقرآن أثر يتبع

ويليه فى الحسن إدغام اللام الساكنة فى الطاء والدال والتاء والصاد والزاى والسين ، وذلك لأنهن تراخين عن اللام إلى الثنايا وليس فيهن انحراف نحو اللام كما كان فى الراء ، ووجه جواز الإدغام فيها أن آخر مخرج اللام قريب من مخرجها ، واللام معها من حروف طرف اللسان

ويليه فى الحسن إدغامها فى الظاء والثاء والذال ؛ لأنهن من أطراف الثنايا وقاربن مخرج الفاء ، وإنما كان الإدغام مع الطاء والدال والتاء والزاى والسين أقوى منه مع هذه الثلاثة لأن اللام لم تنزل إلى أطراف الثنايا كما لم تنزل الطاء وأخواتها إليها ، بخلاف الثلاثة

٢٧٩

ويليه إدغامهاّ فى الضاد والشين ؛ لأنهما ليسا من طرف اللسان كالمذكورة ، لكنه جاز الإدغام فيهما لاتصال مخرجهما بطرف اللسان كما مر ، وإدغام اللام الساكنة فى النون أقبح من جميع ما مر ، قال سيبويه : لأن النون تدغم فى الواو والياء والراء والميم كما تدغم فى اللام ، فكما لا تدغم هذه الحروف فى النون كان ينبغى أن لا تدغم اللام فيها أيضا

قال : «والنّون السّاكنة تدغم وجوبا فى حروف (يرملون) والأفصح إبقاء غنّتها فى الواو والياء وإذهابها فى اللّام والرّاء ، وتقلب ميما قبل الباء ، وتخفى فى غير حروف الحلق ، فيكون لها خمس أحوال ، والمتحرّكة تدغم جوازا»

أقول : قد مر بيان هذه كلها

قوله «والمتحركة تدغم جوازا» يعنى تدعم جوازا فى حروف يرملون بعد إسكانها ، قال سيبويه : لم نسمعهم أسكنوا النون المتحركة مع الحروف التى تخفى النون الساكنة قبلها ، كالسين والقاف والكاف وسائر حروف الفم ، نحو ختن سليمان ، قال : وان قيل ذلك لم يستنكر

واعلم أن مجاورة الساكن للحرف بعده أشد من مجاورة المتحرك ، لأن الحركة بعد المتحرك ، وهى جزء من حروف اللين ، فهى فاصلة بين المتحرك وبين ما يليه

قال : «والتّاء والدّال والذّال والظّاء والطّاء والثّاء يدغم بعضها فى بعض ، وفى الصّاد والزّاى والسّين ، والإطباق فى نحو فرّطت إن كان مع إدغام فهو إتيان بطاء أخرى ، وجمع بين ساكنين ، بخلاف غنّة النّون فى من يّقول ، والصّاد والزّاى والسّين يدغم بعضها فى بعض ، والباء فى الميم والفاء»

٢٨٠