شرح شافية ابن الحاجب

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٥

فى الفعل كجلبب ؛ لأن الغرض بالالحاق الوزن ؛ فلا يكسر ذلك الوزن بالإدغام ، وأما سقوط الألف فى نحو أرطى فإنه غير لازم ، بل هو للتنوين العارض الذى يزول باللام أو الإضافة ، وإن لم يكن التضعيف أحد المذكورين : فإن كان الأول حرف علة نحو حيى وقوى فقد مضى حكمه ، وإن لم يكن : فإما أن يكون فى الفعل ، أو فى الاسم ، فإن كان فى الفعل وجب الإدغام ؛ لكونه فى الفعل الثقيل ، وفى الآخر الذى هو محل التغيير ، وقد شذ نحو قوله :

١٨٤ ـ مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقى

أنّى أجود لأقوام وإن ضننوا (١)

وهو ضرورة ، وإن كان فى الاسم : فإما أن يكون فى ثلاثى مجرد من الزيادة ، أو فى ثلاثى مزيد فيه ، ولا يدغم فى القسمين إلا إذا شابها الفعل ؛ لما ذكرنا فى باب الإعلال (٢) من ثقل الفعل ؛ فالتخفيف به أليق ، فالثلاثى المجرد إنما يدغم إذا وازن الفعل نحو رجل صبّ (٣) ، قال الخليل : هو فعل ـ بكسر العين ـ ؛ لأن صببت صبابة فأنا صبّ كقنعت قناعة فأنا قنع ، وكذا طبّ (٤) طبب ، وشذ رجل ضفف (٥) والوجه ضفّ ، ولو بنيت مثل

__________________

(١) هذا بيت من البسيط ، وقائله قعنب بن أم صاحب. ومهلا : مصدر يراد به الأمر ، والهمزة فى أعاذل للنداء ، وعاذل : مرخم عاذلة ، وهو فى الأصل اسم فاعل من العذل ، وهو اللوم فى تسخط ، وضننوا : بخلوا. والاستشهاد بالبيت فى قوله «ضننوا» حيث فك ما يجب إدغامه وهو شاذ لا يجوز ارتكابه فى الكلام

(٢) انظر (ص ٨٨ من هذا الجزء)

(٣) الصبابة : رقة الشوق ، تقول : رجل صب ، وهى صبة ، وصب إليه صبابة : أى كلف واشتاق

(٤) الطب ـ بتثليث الطاء ـ : الرجل الحاذق الماهر فى عمله ، والطبيب مثله ، تقول : طب يطب ـ كظل يظل ـ فهو طب ومتطبب وطبيب ، وطبه يطبه ـ كمده يمده ـ أى : داواه ، وفلان طب بهذا الأمر : أى عالم به

(٥) تقول : هذا رجل صف الحال ، إذا كان رقيقه ، والضفف ـ بفتحتين

٢٤١

ندس (١) من ردّ قلت : ردّ بالإدغام ، وكان القياس أن يدغم ما هو على فعل كشرر وقصص وعدد ؛ لموازنته الفعل ؛ لكنه لما كان الإدغام لمشابهة الفعل الثقيل ، وكان مثل هذا الاسم فى غاية الخفة ؛ لكونه مفتوح الفاء والعين ، ألا ترى إلى تخفيفهم نحو كبد وعضد دون نحو جمل؟ تركوا الإدغام فيه ، وأيضا لو أدغم فعل مع خفته لالتبس بفعل ـ ساكن العين ـ ؛ فيكثر الالتباس ، بخلاف فعل وفعل ـ بكسر العين وضمها ـ فإنهما قليلان فى المضاعف ؛ فلم يكترث بالالتباس القليل ، وإنما اطرد قلب العين فى فعل نحو دار وباب ونار وناب ، ولم يجز فيه الإدغام مع أن الخفة حاصلة قبل القلب كما هى حاصلة قبل الإدغام ؛ لأن القلب لا يوجب التباس فعل بفعل ؛ إذ بالألف يعرف أنه كان متحرك العين لا ساكنها ، بخلاف الإدغام وقد جاء لأجل الخفة كثير من المعتل على فعل غير معل نحو قود (٢) وميل (٣) وغيب (٤) وصيد (٥) وخونة وحوكة (٦) ، ولم يدغم نحو سرر (٧) وسرر (٨)

__________________

كثرة العيال ، أو كثرة الأيدى على الطعام ، أو أن تكون الأكلة أكثر من الطعام ، أو الضيق والشدة ، وقد راجعنا كتب اللغة فوجدنا المستعمل هو ما ذكرنا بالادغام ، فلعل الفك الذى حكاه المؤلف لغة قليلة

(١) الندس ـ كعضد ، وفى لغة أخرى ـ ككنف ـ : هو الفهم الفطن

(٢) القود : هو أن تقتل القاتل بمن قتله

(٣) الميل ـ بالتحريك ـ : ما كان خلقة فى إنسان أو بناء ، والفعل كفرح ، تقول : ميل يميل فهو أميل

(٤) الغيب ـ بفتحتين ـ : القوم الغائبون

(٥) الصيد ـ بفتحتين ـ : ميل العنق ، وقد صيد يصيد فهو أصيد

(٦) الحوكة ـ بفتحات ـ : جمع حائك ، وتقول : حاك الثوب حوكا وحياكا وحياكة : فهو حائك من قوم حاكة وحوكة ، الأولى على القياس ، والثانية شاذة فى القياس كثيرة فى السماع

(٧) السرر ـ بضمتين ـ : جمع سرير ، وهو معروف

(٨) السرر ـ بضم ففتح ـ : جمع سرة

٢٤٢

وقدد (١) وكذا ردد على وزن إبل من ردّ ؛ لعدم موازنة الفعل ، وأما قولهم : عميمة وعمّ (٢) فمخفف كما يخفف غير المضاعف نحو عنق ورسل وبون فى جمع بوان (٣) ، والقياس بون كعيان وعين (٤) ، فإذا اتصل بآخر الاسم الثلاثى الموازن للفعل حرف لازم كألف التأنيث أو الألف والنون لم يمنع ذلك من الإدغام كما منع من الإعلال فى نحو الطّيران والحيدى (٥) ؛ لأن ثقل إظهار المثلين أكثر من ثقل ترك قلب الواو والياء ألفا ؛ فصار الحرف اللازم مع لزومه كالعدم ، فنقول : من ردّ على فعلان : رددان ، كشرر ، وعلى فعلان وفعلان بكسر العين وضمها : ردّان ، بالادغام ، وعلى فعلان ـ بضمتين ـ وفعلان ـ بكسرتين ـ : رددان ورددان ، وعلى فعلان ـ بضم الفاء وفتح العين ـ : رددان ، كله بالاظهار ، وكذا الاسم الثلاثى المزيد فيه يدغم أيضا إذا وازن الفعل ، نحو مستعدّ ومستعدّ ومردّ ، وهو على وزن يفعل ، ومدقّ ، وهو على وزن انصر ، ورادّ ، وهو كيضرب ، ولا يشترط فى الإدغام مع الموازنة المخالفة بحركة أو حرف فى الأول ليس فى الفعل ، كما اشترط ذلك فى الاعلال ، فيدغم نحو أدقّ وأشدّ ، وإن لم يخالف

__________________

(١) القدد ـ بكسر ففتح ـ : جمع قدة ، وهى الفرقة من الناس يكون هوى كل واحد على حدة ، ومنه قوله تعالى (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) : أى فرقا مختلفة الأهواء

(٢) تقول : نخلة عميمة : أى طويلة ، ونخل عمم ـ بضمتين ـ وقد يقال : عم ـ بالادغام.

(٣) البوان ـ ككتاب ، وكغراب ـ : أحد أعمدة الخباء ، انظر (ح ٢ ص ١٢٧ ، ٢٠٨)

(٤) العيان ـ بكسر أوله ـ : حديدة الفدان ، وجمعه عين ـ بضمتين ـ

(٥) الحيدى ـ بفتحات ـ : مشية المختال ، وتقول : حمار حيدى ؛ إذا كان يحيد عن ظله نشاطا ، ولم يوصف مذكر بما على فعلى سوى ذلك

٢٤٣

الفعل ، ولا يعل نحو أقول وأطول ، وذلك لما ذكرنا من أن ثقل إظهار التضعيف أكثر من ثقل ترك الإعلال ، وقوله

١٨٥ ـ *تشكو الوجى من أظلل وأظلل (١)*

شاذ ضرورة

وإن كان الساكن هو الأول فقد مرحكمه

وإن كان الساكن هو الثانى فهو على ضربين : أحدهما أن تحذف الحركة لموجب ، ولا يجوز أن يحرك بحركة أخرى ، ما دام ذلك الموجب باقيا ، وذلك هو الفعل إذا اتصل به تاء الضمير أو نونه ، نحو رددت ورددنا ورددن ويرددن وارددن ، والثانى : أن تحذف الحركة لموجب ، ثم قد تعرض ضرورة يحرّك الحرف لأجلها بغير الحركة المحذوفة ، مع وجود ذلك الموجب ، وذلك الفعل المجزوم أو الموقوف ، نحو لم يردد واردد ؛ فإنه حذف منه الحركة الاعرابية ، ثم إنه قد يتحرك ثانى المثلين فيهما لالتقاء الساكنين ، نحو اردد القوم ، ولم يردد القوم

فالقسم الأول ـ أعنى رددت ورددنا ويرددن وارددن ـ المشهور فيه إثبات الحرفين بلا إدغام ، وجاء فى لغة بكر بن وائل وغيرهم الإدغام أيضا ، نحو

__________________

(١) هذا بيت من الرجز المشطور من أرجوزة لأبى النجم العجلى أولها :

*الحمد لله العلىّ الأجلل*

وبعد البيت الشاهد قوله :

*من طول إملال وظهر مملل*

والوجى : الحفى ، يزيد أنه حمل على إله فى السير حتى اشتكت الحفى ، والأظلل : باطن خف البعير ، والاملال : مصدر قولك : أمله ، وأمل عليه ؛ إذا أسأمه. والاستشهاد بالبيت فى قوله : أظلل حيث فك الادغام ضرورة

٢٤٤

ردّن ويردّن ، بفتح الثانى ، وهو شاذ قليل ، وبعضهم يزيد ألفا بعد الإدغام ، نحو ردّات وردّان ؛ ليبقى ما قبل هذه الضمائر ساكنا كما فى غير المدغم ، نحو ضربت وضربن ، وجاء فى لغة سليم قليلا ـ وربما استعمله غيرهم ـ حذف العين أيضا فى مثله ، وذلك لكراهتهم اجتماع المثلين ، فحذفوا ما حقه الإدغام : أعنى أول المثلين ، لما تعذر الإدغام ، فإن كان ما قبل الأول ساكنا أوجبوا نقل حركة الأول إليه ، نحو أحسن ويحسن ، ومنه قوله تعالى : (وَقَرْنَ (١) فِي بُيُوتِكُنَّ) على أحد الوجوه ، وإن كان ما قبل الأول متحركا جاز حذف حركة الأول ونقلها إلى ما قبله إن كانت كسرة أو ضمة ، قالوا : ظلت ـ بفتح الفاء وكسرها ـ وكذا فى لببت لبت ولبت ـ بفتح الفاء وضمها ـ وذلك لبيان وزن الفعل كما بينا فى ضمة قلت وكسرة بعت ، وهذا الحذف عندهم فى الماضى أكثر منه فى المضارع والأمر ، وقد جاء الحذف فى مثله والحرفان فى كلمتين إذا كان الثانى لام التعريف ، نحو علماء : أى على الماء ، وأما قولهم علّرض فقياس ؛ لأنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، ثم اعتد بالحركة المنقولة

__________________

(١) اعلم أن قولنا : قر الرجل فى مكانه ، قد ورد من باب علم يعلم ، ومن باب ضرب يضرب. ثم اعلم أن هذه الآية الكريمة قد قرىء فيها بالاتمام ، وبالحذف مع كسر القاف ، وبالحذف مع فتح القاف : أما الاتمام فلا شىء فيه ، وأما الحذف مع كسر القاف فتخريجه على أن الفعل من باب ضرب يضرب ، ولا شىء فيه من جهة القواعد ، ولكن فيه استعمال أقل اللغتين ، وذلك لأن مجىء الفعل من باب علم أكثر من مجيئه من باب ضرب ، وزعم بعضهم أن الفعل فى هذه الآية ـ على قراءة الكسر ـ من المثال المحذوف الفاء ، وأصله وقريقر ، وأما قراءة الفتح فالفعل عليها من باب علم ألبتة ؛ لأن هذه الفتحة التى على القاف منقولة من أول المثلين ، وقد اختلف العلماء فى تخريجها فذهب قوم إلى أن الفعل من المضعف وأنه قد حذفت عينه أو لامه مع أن العين مفتوحة ، وذهب قوم إلى أن الفعل أمر من الأجوف ، وأصله قار يقار مثل خاف يخاف

٢٤٥

فأدغم لام على فيها ، وكذا قالوا فى جلا الأمر وسلا الإقامة : جلّمر وسلّقامة ، وفيه اعتداد بحركة اللام من حيث الادغام ، وترك الاعتداد بها من حيث حذف ألف على وجلا. وجاء الحذف فى المتقاربين فى كلمتين إذا كان الثانى لام التعريف نحو بلعنبر ، وبلحارث وبلكعب ، وليس بقياس

والقسم الثانى : أعنى نحو ردّ ولم يردّ ، لغة أهل الحجاز فيه ترك الإدغام ، وأجاز غيرهم الإدغام أيضا ؛ لأن أصل الحرف الثانى الحركة ، وهى وإن انتفت بالعارض : أعنى الجزم والوقف ، لكن لا يمتنع دخول الحركة الأخرى عليه : أعنى الحركة ؛ لالتقاء الساكنين ، فجوز الإدغام فيما لم يعرض فيه تلك الحركة أيضا ، نحو ردّ زيدا ، ولم يردّ زيدا ، فإذا أدغم حرك الثانى بما ذكرناه فى باب التقاء الساكنين (١) ، وقد جاء فى التنزيل أيضا ذلك ، قال تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) ، وإن سكن الحرف المدغم فيه للوقف فبقاء الإدغام فيه أكثر وأشهر ؛ لعروض السكون ، وعدم لزومه ؛ إذ قد تثبت تلك الحركة المحذوفة فيه بعينها ، وذلك فى الوصل ؛ فيكون جمعا بين الساكنين ، وهو مغتفر فى الوقف ، وقد يجوز حذف أحد المثلين أيضا نحو هويفر ، وقفا ـ بالتشديد والتخفيفف ـ فهذه أحكام اجتماع المثلين فى كلمة واحدة

فان كان ما قبل أول المثلين فيما قصد الإدغام فيه ساكنا : سواء تحرك المثلان كيردد ، أوسكن ثانيهما كلم يردد ؛ فان كان الساكن حرف مد : أى الألف والواو والياء الساكنين اللذين ما قبلهما من الحركة من جنسهما ؛ وجب حذف الحركة ، نحو مادّ وتمودّ الثوب ، وكذا ياء التصغير ؛ إذ هو لازم السكون ، فلا يحتمل الحركة نحو أصيم (٢) ومديق (٣) وجاز التقاء الساكنين فى جميع ذلك

__________________

(١) انظر (ح ٢ ص ٢٤٣)

(٢) أصيم : تصغير أصم ، وهو وصف من الصمم

(٣) مديق : تصغير مدق ـ بضمتين ـ وهو آلة يدق بها

٢٤٦

كله ؛ لأنه على حده كما مر فى بابه (١) ، وإن كان الساكن غير ذلك نقل حركة أول المثلين إليه سواء كان حرف لين كإوزّة (٢) وأودّ (٣) وأيلّ (٤) ، أولا ، نحو مستعدّ ومستعدّ

هذا. وإن كان المثلان فى كلمتين : فإن كان أولهما ساكنا فقط وليس بمد وجب الإدغام كما ذكرنا ، سواء كان همزا نحو اقرأ آية ، إذا لم تخفف ، أو غير همز ، نحو قل لزيد ، وإن كان ثانى المثلين ساكنا فقط وجب إثباتهما إلا فيما إذا كان الثانى لام التعريف فقط ؛ فإنه قد جاء فى الشذوذ حذف أولهما أيضا كما مر ، نحو علماء ، وذلك لكثرة لام التعريف فى كلامهم ؛ فطلب التخفيف بالحذف لمّا تعذر الادغام ، وكذا جاء الحذف فى بعض المتقاربين نحو بلحارث وبلعنبر ، وقال سيبويه : وكذا يفعلون بكل قبيلة يظهر فيها لام التعريف ؛ فلا يحذفون فى بنى النّجّار ؛ لادغام اللام فى نون النجار ، وإن كانا متحركين : فإن كان ما قبل أول المثلين متحركا نحو مكّننى ويمكّنني وطبع قلوبهم ، أو كان ساكنا هو حرف مد نحو قال لهم ، وقيل لهم ، وعمود داود ، وتظلموننى ، وتظلميننى ، أولين غير مد نحو ثوب بّكر ، وجيب بّكر جاز الادغام ، وإن كان ذلك فى الهمز أيضا نحو رداء أبّيك ، وقرأ أبّوك ، فيمن يحقق الهمزتين ، وإن كان الساكن حرفا صحيحا لم يجز الادغام ، وأما ما نسب إلى أبى عمرو من الادغام فى نحو (خذ العفو وأمر) و (شهر رمضان) فليس بإدغام حقيقى ، بل هو إخفاء أول المثلين إخفاء يشبه الادغام ؛ فتجوز باطلاق اسم الادغام على الاخفاء لما كان الاخفاء قريبا منه ، والدليل على أنه إخفاء لا إدغام أنه روى عنه الاشمام والروم

__________________

(١) انظر (ح ٢ ص ٢١٢ وما بعدها)

(٢) انظر (ح ١ ص ٢٧ وما بعدها)

(٣ ، ٤) انظر (ح ١ ص ٢٧)

٢٤٧

فى نحو (شهر رمضان) و (الخلد جزاء) إجراء للوصل مجرى الوقف ، والرّوم : هو الاتيان ببعض الحركة ، وتحريك الحرف المدغم محال ، فلك فى كل مثلين فى كلمتين قبلهما حرف صحيح إخفاء الأول منهما

واعلم أن أحسن ما يكون الإدغام فيما جاز لك فيه الادغام من كلمتين أن يتوالى خمسة أحرف فصاعدا متحركة مع المثلين المتحركين ، نحو جعل لك ، وذهب بمالك ، ونحو نزع عمر ، ونزع علبط ، والإظهار فيما قبل أول المثلين فيه حرف مدّ أحسن من الإظهار فيما قبل أول المثلين فيه حرف متحرك ، والاظهار فى الواو والياء اللتين ليستا بمد نحو ثوب بكر وجيب بكر أحسن منه فى الألف والواو والياء المدتين ؛ لأن المد يقوم مقام الحركة ، وإنما جاز الادغام فى نحو ثوب بكر وجيب بكر ولم يجز فى نحو (خذ العفو وأمر) لأن الواو والياء الساكنين فيهما مد على الجملة وإن لم تكن حركة ما قبلهما من جنسهما ، إلا أن مدهما أقل من مدهما إذا كان حركة ما قبلهما من جنسهما ، ولوجود المد فيهما مطلقا يمد ورش نحو سوءة وشىء ، كما يمد نحو سىء والسّوء ، وإنما لم يجز نقل حركة أول المثلين فى كلمتين إلى الساكن قبله للادغام فى نحو (العفو وأمر) ، وجاز ذلك فى كلمة واحدة نحو مدقّ ومستعدّ وأودّ وأيلّ ؛ لأن اجتماع المثلين لازم إذا كانا فى كلمة ، فجاز لذلك اللازم الثقيل تغيير بنية الكلمة ، وأما إذا كانا فى كلمتين فانه لا يجوز تغيير بنية الكلمة لشىء عارض غير لازم

قوله «مكّننى ويمكّننى من باب كلمتين» يعنى يجوز فيه إدغام الكلمة وتركه ؛ لأنه من باب كلمتين ، وإن كان الثانى كجزء الكلمة

قوله «إلا فى الهمزتين» قد ذكرنا أن الإدغام فيهما واجب عند من يحقق الهمزتين

٢٤٨

قوله «فى نحو السّئّال» قد مضى شرحه فى باب تخفيف الهمزة (١)

قوله «وفى نحو تووى ورييا» يعنى إذا كانت الأولى منقلبة من الهمز على سبيل الجواز لا الوجوب

قوله «وفى نحو قالوا وما» يعنى إذا كان الأول مدا ، وهما فى كلمتين

قوله «ولا إلحاق» احتراز عن نحو قردد وجلبب

قوله «ولا لبس» احتراز عن نحو طلل وسرر

قوله «وفى نحو حيى» أى : فيما المثلان فيه ياءان ولا علة لقلب ثانيهما ألفا وحركته لازمة

قوله «فى نحو اقتتل» أى : فيما المثلان فيه فى الوسط

قوله «تتنزل وتتباعد» أى : فيما المثلان فيه فى الأول

قوله «فتنقل حركته» أى : إذا كانا فى كلمة

قوله «غير لين» احتراز عن نحو رادّ وتمودّ وأصيمّ ، وليس له هذا الإطلاق ، بل الواجب أن يقول : غير مد ولا ياء تصغير ، لأن نحو أودّ وأيلّ نقل فيه الحركة إلى الساكن مع أنه حرف لين

قوله «وسكون الوقف» لا يريد بالوقف البناء فى نحو ردّ ، أمرا ، بل الوقف فى نحو جاءنى زيد ـ بالاسكان ـ دون الروم والاشمام

قوله «فى الهمز على الأكثر» قد ذكرنا أنه لا يمتنع عند أهل التحقيق ، بل الادغام واجب عند سكون الأول ، وجائز عند تحركهما فى كلمتين ، نحو قرأ أبّوك

قوله «تدغم فى نحو ردّ ولم يردّ» أى : تدغم إذا كان الثانى ساكنا للجزم أو لكون الكلمة مبنية على السكون

__________________

(١) انظر (ص ٥٥ من هذا الجزء)

٢٤٩

قوله «وعند الالحاق» عطف على قوله فى الهمز : أى يمتنع عند الالحاق قوله «فى كلمتين» لأن ذلك لا يمتنع فى كلمة نحو أصيمّ ومديقّ

قوله «وجائز فيما سوى ذلك» أى : سوى الواجب والممتنع ، وذلك إذا تحركا فى كلمتين وليس قبل الأول ساكن صحيح نحو «طبع على» يجوز لك فيه الادغام وتركه

قال : «المتقاربان ، ونعنى بهما ما تقاربا فى المخرح أو فى صفة تقوم مقامه ، ومخارج الحروف ستّة عشر تقريبا ، وإلّا فلكلّ مخرج ؛ فللهمزة والهاء والألف أقصى الحلق ، وللعين والحاء وسطه ، وللغين والخاء أدناه ، وللقاف أقصى الّلسان وما فوقه من الحنك ، وللكاف منهما ما يليهما ، وللجيم والشّين والياء وسط اللّسان ومافوقه من الحنك ، وللضّاد أوّل إحدى حافتيه ومايليهما من الأضراس ، وللّام مادون طرف اللّسان إلى منتهاه وما فوق ذلك ، وللرّاء منهما ما يليهما ، وللنّون منهما ما يليهما ، وللطّاء والدّال والتّاء طرف اللّسان وأصول الثّنايا ، وللصّاد والزّاى والسيّن طرف اللّسان والثّنايا ، وللظّاء والذّال والثّاء طرف اللّسان وطرف الثّنايا ، وللفاء باطن الشّفة السّفلى وطرف الثّنايا العليا ، وللباء والميم والواو ما بين الشفتين»

أقول : قوله «أو فى صفة تقوم مقامه» يعنى بها نحو الشدة والرخاوة والجهر والهمس والاطباق والاستعلاء وغير ذلك مما يذكره بعد

قوله «وإلّا فلكل مخرج» لأن الصوت السّاذج الذى هو محل الحروف ـ والحروف هيئة عارضة له ـ غير مخالف بعضه بعضا فى الحقيقة ، بل إنما تختلف بالجهارة واللين والغلظ والرقة ، ولا أثر لمثلها فى اختلاف الحروف ؛ لأن الحرف الواحد قد يكون مجهورا وخفيا ، فإذا كان ساذج الصوت الذى هو مادة الحرف ليس

٢٥٠

بأنواع مختلفة ، فلولا اختلاف أوضاع آلة الحروف ـ وأعنى بآلتها مواضع تكونها فى اللسان والحلق والسن والنّطع (١) والشفة ، وهى المسماة بالمخارج ـ لم تختلف الحروف ؛ إذ لا شىء هناك يمكن اختلاف الحروف بسببه إلا مادتها وآلتها ، ويمكن أن يقال : إن اختلافها قد يحصل مع اتحاد المخرج بسبب اختلاف وضع الآلة من شدة الاعتماد وسهولته وغير ذلك ؛ فلا يلزم أن يكون لكل حرف مخرج

قوله «فللهمزة والهاء والألف أقصى الحلق ، وللعين والحاء وسطه ، وللغين والخاء أدناه» أى : أدناه إلى الفم ، وهو رأس الحلق ، هذا ترتيب سيبويه : ابتدأ من حروف المعجم بما يكون من أقصى الحلق ، وتدرّج إلى أن ختم بما مخرجه الشفة ، والظاهر من ترتيبه أن الهاء فى أقصى الحلق أرفع من الهمزة ، والألف أرفع من الهاء ، ومذهب الأخفش أن الألف مع الهاء ، لاقدّامها ولا خلفها ؛ قال ابن جنى : لو كانا من مخرج لكان ينقلب الألف هاء لا همزة إذا حركتها. ولمانع أن يمنع من انقلاب الألف همزة بالتحريك ، والحاء فى وسط الحلق أرفع من العين ، والخاء فى أدنى الحلق أعلى من الغين ، وكان الخليل يقول : الألف اللينة والواو والياء والهمزة هوائية : أى أنها من هواء الفم لا تقع على مدرجة من مدارج الحلق ولا مدارج اللسان ، قال : وأقصى الحروف كلها فى الحلق العين ، وأرفع منها الحاء ، وبعدها الهاء ، ثم بعدهما إلى الفم الغين والخاء ، والخاء أرفع من الغين

__________________

(١) قال فى اللسان : «النطع (بكسر أوله وسكون ثانيه) والنطع (بكسر أوله وفتح ثانيه) والنطع (بفتحتين) والنطعة (بكسر ففتح) : ما ظهر من غار الفم الأعلى ، وهى الجلدة الملتزقة بعظم الخليفاء فيها آثار كالتخريز ، وهناك موقع اللسان فى الحنك» ا ه.

٢٥١

قوله «وللكاف منهما» أى : من أقصى اللسان وما فوقه «ما يليهما» أى ما يقرب منهما إلى خارج الفم

قوله «وللجيم والشين والياء وسط اللسان وما فوقه من الحنك» الجيم أقرب إلى أصل اللسان ، وبعده إلى خارج الفم الشين ، وبعده إلى خارجه الياء ، قال سيبويه : بين وسط اللسان وبين وسط الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء

قوله «وللضاد أول إحدى حافتيه» الحافة : الجانب ، وللسان حافتان من أصله إلى رأسه كحافتى الوادى ، ويريد بأول الحافة ما يلى أصل اللسان ، وبآخر الحافة ما يلى رأسه

قوله «وما يليهما من الأضراس» اعلم أن الأسنان اثنتان وثلاثون سنا : ست عشرة فى الفك الأعلى ، ومثلها فى الفك الأسفل ؛ فمنها الثنايا ؛ وهى أربع من قدام : ثنتان من فوق ، ومثلهما من أسفل ، ثم الرّباعيات ، وهى أربع أيضا : رباعيتان من فوق يمنة ويسرة ، ومثلهما من أسفل ، وخلفهما الأنياب الأربع : نابان من فوق يمنة ويسرة ، ومثلهما من أسفل ، وخلف الأنياب الضواحك ، وهى أربع : ضاحكتان من فوق يمنة ويسرة ، ومثلهما من أسفل ، وخلف الضواحك الأضراس ، وهى ست عشرة : ثمان من فوق : أربع يمنة وأربع يسرة ، ومثلها من أسفل. ومن الناس من ينبت له خلف الأضراس النواجذ ، وهى أربع من كل جانب : ثنتان فوق ، وثنتان أسفل ؛ فيصير ستا وثلاثين سنا ، فأنت تخرج الضاد من أقصى إحدى حافتى اللسان إلى قريب من رأس اللسان ، ومنتهاه أول مخرج اللام ، هذا الذى ذكرناه مخرج الضاد من اللسان إلى قريب من رأس اللسان ، وموضعها من الأسنان نفس الأضراس العليا ، فيكون مخرجها بين الأضراس وبين أقصى إحدى حافتى اللسان ، وأكثر ما تخرج من الجانب الأيمن ، على ما يؤذن به كلام سيبويه وصرح به السيرافى ، ويقال للضاد : طويل ؛

٢٥٢

لأنه من أقصى الحافة إلى أدنى الحافة : أى إلى أول مخرج اللام ، فاستغرق أكثر الحافة

قوله «وللام ما دون طرف اللسان» يريد بما دون طرفه ما يقرب رأس اللسان من جانب ظهره إلى منتهاه : أى إلى رأس اللسان

قوله «وما فوق ذلك» أى : ما فوق ما دون طرف اللسان إلى رأسه ، وهو من الحنك ما فوق الثنية ، وعبارة سيبويه (١) «من بين أدنى حافة اللسان إلى منتهى طرفه ، وبين ما يليها من الحنك الأعلى مما فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية» ، واللام ابتداؤه ـ على ما قال سيبويه ـ من الضاحك إلى الثنية ؛ لأن الضاد يخرج من بين الأضراس وحافة اللسان ، واللام يخرج من فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية ، لا من نفس الأسنان وحافة اللسان ، وجميع علماء هذا الفن على ما ذكر سيبويه ، والمصنف خالفهم كما ترى ، وليس بصواب

قوله «وللراء منهما» أى : ما دون طرف اللسان إلى منتهاه وما فوق ذلك

قوله «ما يليهما» أى : ما يقرب الموضعين إلى جانب ظهر اللسان ، فالنون أقرب إلى رأس اللسان من الراء ، وقال سيبويه : مخرج النون بين طرف اللسان إلى رأسه ، وبين فويق الثنايا ، ومخرج الراء هو مخرج النون ، غير أنه أدخل فى ظهر اللسان قليلا ؛ لانحرافه إلى اللام : أى الراء مائل إلى اللام

قوله «وللصاد والزاى والسين طرف اللسان والثنايا» كذا قال ابن جنى والزمخشرى ، يعنون أنها تخرج من بين رأس اللسان والثنايا من غير أن يتصل طرف اللسان بالثنايا كما اتصل بأصولها لإخراج الطاء والدال ، بل يحاذيها

__________________

(١) عبارة سيبويه (ح ٢ ص ٤٠٥) هكذا : «ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان ما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى وما فويق الضاحك والباب والرباعية والثنية مخرج اللام» ا ه

٢٥٣

ويسامتها ، وعبارة سيبويه «مما بين طرف اللسان وطرف الثنايا مخرج الزاى والسين والصاد» فعلى ما قال مخرج هذه الحروف هو مخرج النون

قوله «طرف اللسان وطرف الثنايا» أى : رءوس الثنايا العليا ، وقال الخليل : العين والحاء والهاء والغين والخاء حلقية ؛ لأن مبتدأ هامن الحلق ، والقاف والكاف لهويّتان ؛ إذ هما من اللهاة ، والجيم والشين والضاد شجرية ، لأن مبدأها من شجر الفم : أى مفرجه ، والصاد والزاى والسين أسلية ، وأسلة اللسان : مستدقّ طرفه ، والطاء والدال والتاء نطعيّة : لأن مبدأها من نطع الغار الأعلى ، والظاء والذال والثاء لثويّة ، والراء واللام والنون ذلقيّة ، وذلق كل شىء : تحديد طرفه ، والفاء والباء والميم شفوية ، أو شفهية ، والواو والياء والألف والهمزة هوائية ؛ إذ هى من الهواء لا يتعلق بها شىء ، وخالف الفراء سيبويه فى موضعين : أحدهما أنه جعل مخرج الياء والواو واحدا ، والآخر أنه جعل الفاء والميم بين الشفتين ، وأحسن الأقوال ما ذكره سيبويه ، وعليه العلماء بعده.

قال : «ومخرج المتفرّع واضح ، والفصيح ثمانية : همزة بين بين [وهى] ثلاثة ، والنّون الخفيّة نحو عنك ، وألف الإمالة ، ولام التّفخيم ، والصّاد كالزّاى والشّين كالجيم. وأمّا الصّاد كالسّين والطّاء كالتّاء والفاء كالباء والضّاد الضّعيفة والكاف كالجيم فمستهجنة. وأمّا الجيم كالكاف والجيم كالشّين فلا يتحقّق»

أقول : يعنى بالمتفرع حرفا يتفرع عن هذه الحروف المذكورة قبل بإشرابها صوتا من غيرها ؛ فهمزة بين بين ثلاثة ذكرناها فى تخفيف الهمزة (١) : ما بين الهمزة والألف ، وما بينها وبين الواو ، وما بينها وبين الياء.

قوله «النون الخفية» قيل : إن الرواية عن سيبويه «الخفيفة» قال السيرافى يجب أن يقال «الخفية» لأن التفسير يدل عليه ، إذ هى نون ساكنة غير

__________________

(١) انظر (ص ٣٠ وما بعدها من هذا الجزء)

٢٥٤

ظاهرة مخرجها من الخيشوم فقط ، وإنما تجىء قبل الحروف الخمسة عشر التى تذكر عند ذكر أحوال النون ، قال السيرافى : ولو تكلف متكلف إخراجها من الفم مع هذه الخمسة عشر لأمكن بعلاج وعسر.

قوله : «وألف الإمالة» يسميها سيبويه ألف الترخيم ؛ لأن الترخيم تليين الصوت ، قال :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشى لا هراء ولا نزر (١)

قوله «ولام التفخيم» يعنى بها اللام التى تلى الصاد أو الضاد أو الطاء ، إذا كانت هذه الحروف مفتوحة أو ساكنة ، كالصّلوة ويصلون ؛ فان بعضهم يفخمها ، وكذا لام «الله» إذا كان قبلها ضمة أو فتحة.

ولم يذكر المصنف ألف التفخيم ، وذكرها سيبويه فى الحروف المستحسنة ، وهى الألف التى ينحى بها نحو الواو ، كالصّلوة والزّكوة والحيوة ، وهى لغة أهل الحجاز ، وزعموا أن كتبهم لهذه الكلمات بالواو على هذه اللغة.

قوله «الصاد كالزاى» قد ذكرنا ذلك فى نحو يصدق وصدق.

قوله «والشين كالجيم» ذكرها سيبويه فى الحروف المستحسنة ، وذكر الجيم التى كالشين فى المستهجنة ، وكلتاهما شىء واحد ، لكنه إنما استحسن الشين المشربة صوت الجيم لأنه إنما يفعل ذلك بها إذا كانت الشين ساكنة قبل الدّال ، والدّال مجهورة شديدة والشين ومهموسة رخوة تنافى جوهر الدال ، ولا سيما إذا كانت

__________________

(١) هذا بيت من بحر الطويل من قصيدة لذى الرمة ، والبشر : اسم جنس جمعى واحده بشرة ، وبشرة الانسان : ظاهر بدنه ، والمنطق مصدر ميمى بمعنى النطق ، والرخيم : الناعم اللين ، والهراء ـ كغراب ـ : المنطق الفاسد ، ويقال : هو الكثير ، وهو أنسب لمقابلته بالنزر وهو القليل. والاستشهاد بالبيت على أن الرخيم معناه الصوت اللين ، فالترخيم بمعنى تليين الصوت

٢٥٥

ساكنة ؛ لأن الحركة تخرج الحرف عن جوهره فتشرب الشين صوت الجيم التى هى مجهورة شديدة كالدال لتناسب الصوت ؛ فلا جرم استحسن ، وإنما استهجن الجيم التى كالشين لأنها إنما يفعل ذلك بها إذا سكنت وبعدها دال أو تاء ، نحو اجتمعوا وأجدر ، وليس بين الجيم والدال ، ولا بينها وبين التاء تباين ، بل هما شديدتان ، لكن الطبع ربما يميل لاجتماع الشديدين إلى السلاسة واللين فيشرب الجيم ما يقاربه فى المخرج ، وهو الشين ؛ فالفرار من المتنافيين مستحسن ، والفرار من المثلين مستهجن ، فصار الحرف الواحد مستحسنا فى موضع ، ومستهجنا فى موضع آخر ، بحسب موقعه

قوله «وأما الصاد كالسين» قربها بعضهم من السين لكونهما من مخرج واحد ، والطاء التى كالتاء تكون فى كلام عجم أهل المشرق كثيرا ؛ لأن الطاء فى أصل لغتهم معدومة فاذا نطقوا بها تكلفوا ما ليس فى لغتهم ، فنطقوا بشىء بين الطاء والتاء

قوله «والفاء كالباء» قال السيرافى : هى كثيرة فى لغة العجم وهى على ضربين : أحدهما لفظ الباء أغلب عليه من الفاء ، والآخر لفظ الفاء أغلب عليه من الباء ، وقد جعلا حرفين من حروفهم سوى الباء والفاء المخلصين ، قال : وأظن أن العرب إنما أخذوا ذلك من العجم لمخالطتهم إياهم

قوله «الضاد الضعيفة» قال السيرافى : إنها لغة قوم ليس فى لغتهم ضاد ، فإذا احتاجوا إلى التكلم بها فى العربية اعتضلت عليهم ، فربما أخرجوها ظاء ، لإخراجهم إياها من طرف اللسان وأطراف الثنايا ، وربما تكلفوا إخراجها من مخرج الضاد فلم يتأتّ لهم فخرجت بين الضاد والظاء ، وفى حاشية كتاب ابن مبرمان : الضاد الضعيفة كما يقال فى أثرد له : أضرد له ، يقربون التاء من الضاد ، قال سيبويه : تكلف الضاد الضعيفة من الجانب الأيسر أخف ، قال

٢٥٦

السيرافى : لأن الجانب الأيمن قد اعتاد الضاد الصحيحة ، وإخراج الضعيفة من موضع اعتاد الصحيحة أصعب من إخراجها من موضع لم يعتد الصحيحة

قوله «والكاف كالجيم» نحو جافر فى كافر ، وكذا الجيم التى كالكاف ، يقولون فى جمل : كمل ، وفى رجل : ركل ، وهى فاشية فى أهل البحرين ، وهما جميعا شىء واحد ، إلا أن أصل أحدهما الجيم وأصل الآخر الكاف ، كما ذكرنا فى الجيم كالشين والشين كالجيم ، إلا أن الشين كالجيم مستحسنة وعكسه مستهجن ، والكاف كالجيم وعكسه مستهجنان ، فقوله «لا يتحقق» فيه نظر ، وكأنه ظن أن مرادهم بالجيم كالشين حرف آخر غير الشين كالجيم ، وكذا ظن أن مرادهم بالجيم كالكاف غير مرادهم بالكاف كالجيم ، وهو وهم

ومن المتفرعة القاف بين القاف والكاف ، قال السيرافى : هو مثل الكاف التى كالجيم والجيم التى كالكاف

ومنها أيضا الجيم التى كالزاى والشين التى كالزاى ، على ما ذكرنا فى أجدر وأشدق

ومنها أيضا الياء كالواو فى قيل وبيع ـ بالإشمام ، والواو كالياء فى مذعور وابن نور ، كما ذكرنا فى باب الإمالة

قال : «ومنها المجهورة والمهموسة ، ومنها الشّديدة والرّخوة وما بينهما ، ومنها المطبقة والمنفتحة ، ومنها المستعلية والمنخفضة ، ومنها حروف الذّلاقة والمصمتة ، ومنها حروف القلقلة والضّفير والليّنة والمنحرف والمكرّر والهاوى والمهتوت.

فالمجهورة ما ينحصر جرى النّفس مع تحرّكه وهى ما عدا حروف (ستشحثك خصفه) ، والمهموسة بخلافها ، ومثلا بققق وككك ، وخالف بعضهم فجعل الضّاد والظّاء والذّال والزّاى والعين والغين والياء من المهموسة ، والكاف

٢٥٧

والتّاء من المجهورة ، ورأى أنّ الشّدّة تؤكّد الجهر ، والشّديدة : ما ينحصر جرى صوته عند إسكانه فى مخرجه فلا يجرى ، ويجمعها (أجدك قطبت) والرّخوة بخلافها ، وما بينهما ما لا يتمّ له الانحصار ولا الجرى ، ويجمعها (لم يروعنا) ، ومثّلت بالحجّ والطّشّ والخلّ ، والمطبقة ما ينطبق على مخرجه الحنك ، وهى الصّاد والضّاد والطّاء والظّاء ، والمنفتحة بخلافها ، والمستعلية ما يرتفع اللّسان بها إلي الحنك وهى المطبقة والخاء والغين والقاف ، والمنخفضة بخلافها ، وحروف الذّلاقة ما لا ينفكّ رباعىّ أو خماسىّ عن شىء منها لسهولتها ، ويجمعها (مر بنفل) والمصمتة بخلافها لأنّه صمت عنها فى بناء رباعىّ أو خماسىّ منها ، وحروف القلقلة ما ينضمّ إلى الشّدّة فيها ضغط فى الوقف ، (ويجمعها قد طبج) ، وحروف الصّفير ما يصفر بها ، وهى الصّاد والزّاى والسّين ، والليّنة حروف اللّين ، والمنحرف اللام ؛ لأنّ اللّسان ينحرف به ، والمكرّر الرّاء ؛ لتعثر اللّسان به ، والهاوى الألف ؛ لاتّساع هواء الصّوت به ، والمهتوت التّاء ، لخفائها»

أقول : إنما سميت الحروف المذكورة مجهورة لأنه لا بد فى بيانها وإخراجها من جهر ما ، ولا يتهيأ النطق بها إلا كذلك ، كالقاف والعين ، بخلاف المهموس ، فإنه يتهيألك أن تنطق به ويسمع منك خفيا كما يمكنك أن تجهر به ، والجهر : رفع الصوت ، والهمس : إخفاؤه ، وإنما يكون مجهورا لأنك تشبع الاعتماد فى موضعه ، فمن إشباع الاعتماد يحصل إرتفاع الصوت ، ومن ضعف الاعتماد يحصل الهمس والإخفاء ، فإذا أشبعت الاعتماد فإن جرى الصوت كما فى الضاد والظاء والزاى والعين والغين والياء فهى مجهورة رخوة ، وإن أشبعته ولم يجر الصوت كالقاف والجيم والطاء والدال فهى مجهورة شديدة ، قيل : والمجهورة تخرج أصواتها من الصدر ، والمهموسة تخرج أصواتها من مخارجها فى الفم ، وذلك مما

٢٥٨

يرخى الصوت فيخرج الصوت من الفم ضعيفا ، ثم إن أردت الجهر بها وإسماعها أتبعت صوتها بصوت من الصدر ليفهم ، وتمتحن المجهورة بأن تكررها مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة : رفعت صوتك بها أو أخفيته : سواء أشبعت الحركات حتى تتولّد الحروف ، نحو قا قا قا ، وقو قو قو ، وقى قى قى ، أو لم تشبعها نحو ققق ، فإنك ترى الصوت يجرى ولا ينقطع ، ولا يجرى النفس إلا بعد انقضاء الاعتماد وسكون الصوت ، وأما مع الصوت فلا يجرى ذلك ؛ لأن النفس الخارج من الصدر ـ وهو مركب الصوت ـ يحتبس إذا اشتدّ اعتماد الناطق على مخرج الحرف ؛ إذ الاعتماد على موضع من الحلق والفم يحبس النفس وإن لم يكن هناك صوت ، وإنما يجرى النفس إذا ضعف الاعتماد ، وإنما كررت الحرف فى الامتحان لأنك لو نطقت بواحد من المجهورة غير مكرر فعقيب فراغك منه يجرى النفس بلا فصل ، فيظن أن النفس إنما خرج مع المجهورة لا بعده ، فاذا تكرر وطال زمان الحرف ولم يخرج مع تلك الحروف المكررة نفس عرفت أن النطق بالحروف هو الحابس للنفس ، وإنما حرّكت الحروف لأن التكرير من دون الحركة محال ، وإنما جاز إشباع الحركات لأن الواو والألف والياء أيضا مجهورة فلا يجرى مع صوتها النفس ، وأما المهموسة فإنك إذا كررتها مع إشباع الحركة أو بدونه فإن جوهرها لضعف الاعتماد على مخارجها لا يحبس النفس ، فيخرج النفس ويجرى كما يجرى الصوت بها ، نحو ككك ، فالقاف والكاف قريبا المخرج ، ورأيت كيف كان أحدهما مجهورا والآخر مهموسا ، وقس على القاف والكاف سائر المجهورة والمهموسة

فنقول : جميع حروف الهجاء على ضربين : مهموسة وهى حروف (ستشحثك خصفه) بالهاء فى خصفه للوقف ، ومعنى الكلام ستشحذ عليك : أى تتكدّى ، والشحاذ والشحاث : المتكدّى ، وخصفة : اسم امرأة ، وما بقى من الحروف مجهورة ، وهى قولك : ظلّ قوّ ربض إذ غزا جند مطيع

٢٥٩

ثم تنقسم جميع حروف التهجى قسمة مستأنفة ثلاثة أقسام : شديدة ، ورخوة ، وما بينهما ، والحروف الشديدة (أجدك قطبت) ونعنى بالشديدة ما إذا أسكنته ونطقت به لم يجر الصوت ، والرخوة : ما يجرى الصوت عند النطق بها ، والفرق بين الشديدة والمجهورة أن الشديدة لا يجرى الصوت عند النطق بها ، بل إنك تسمع به فى آن ثم ينقطع ، والمجهورة لا اعتبار فيها بعدم جرى الصوت ، بل الاعتبار فيها بعدم جرى النفس عند التصويت بها ، وبعضهم أخرج من المجهورة : أى من حروف (ظلّ قوّ) السّبعة الأحرف التى من الرخوة : أى الضاد والظاء والذال والزاى والعين والغين والياء ، فيبقى منها الحروف الشديدة : (أى أجدك قطبت) وأربعة أحرف مما بين الشديدة والرخوة : أى من حروف (لم يروعنا) وهى اللام والميم والواو والنون ، فيكون مجموع المجهورة عنده اثنى عشر ، وهى حروف (ولمن أجدك قطبت) ، وهذا القائل ظن أن الرخاوة تنافى الجهر ، وليس بشىء ؛ لأن الرخاوة أن يجرى الصوت بالحرف عند إسكانه كالنّبر ، والجهر : رفع الصوت بالحرف : سواء جرى الصوت ، أو لم يجر ، وعلامته عدم حرى النّفس.

وإنما اعتبر فى امتحان الشديدة والرخوة إسكان الحروف لأنك لو حركتها والحركات أبعاض الواو والألف والياء وفيها رخاوة ما لجرت الحركات لشدة اتصالها بالحروف الشديدة إلى شىء من الرخاوة ، فلم تتبين شدتها.

وقوله فى الشديدة «ما ينحصر جرى صوته عند إسكانه فى مخرجه» متعلق بينحصر : أى ينحصر فى مخرجه عند إسكانه ، وإنما جعل حروف (لم يروعنا) بين الشديدة والرخوة لأن الشديدة هى التى ينحصر الصوت فى مواضعها عند الوقف ، وهذه الأحرف الثمانية ينحصر الصوت فى مواضعها عند الوقف ، لكن تعرض لها أعراض توجب خروج الصوت من غير مواضعها ، أما العين فينحصر الصوت عند مخرجه ، لكن لقربه من الحاء التى هى مهموسة ينسلّ

٢٦٠