شرح شافية ابن الحاجب

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٥

تكرر الضم والفتح خلاف الإمالة ، فتقول : هذا راشد ، وهذا فراش ، وهذا حمار ، ورأيت حمارا ؛ فيغلب غير المكسورة سبب الإمالة : أى الكسره المتقدمة والمتأخرة ، وكسرة الراء فى اقتضاء الإمالة أقوى من كسرة غيرها ؛ لأنها ككسرتين ؛ فتمنع المستعلى المتقدم فى نحو طارد وغارم ، ولا تمنعه كسرة نحو طالب وغالب ، وتمنع الراء غير المكسورة أيضا كما فى «من قرارك» لكونها أضعف من المستعلى ، كما يجىء ، ولا تمنع الراء المكسورة المستعلى المتأخر عنها فى نحو فارق ؛ لما ذكرنا من صعوبة الإصعاد بعد الاستفال الظاهر ، فقول المصنف إذن «وتغلب المكسورة بعدها المستعلية» ليس على إطلاقه ؛ والراء غير المكسورة أضعف سببا من المستعلية ، فلهذا كان الإمالة فى «لن يضربها راشد» أقوى من الإمالة فى «لن يضربها قاسم» وكان إمالة «عفرا (١)» تشبيها بحبلى أولى من إمالة «علقا (٢)» ومن ثم أجاز بعضهم إمالة «عمران» دون «برقان (٣)»

واعلم أن إمالة «فى الدار» أقوى من إمالة «فى دار قاسم» وإمالة «جارم (٤)» أولى من إمالة «جارم قاسم» لوجود المستعلى فى الموضعين ،

__________________

(١) يقال : رجل عفر ـ بكسر العين المهملة وسكون الفاء ـ إذا كان خبيثا منكرا ، وأسد عفر ، إذا كان شديدا

(٢) العلق ـ بالكسر ـ : النفيس من كل شيء ، فهو صفة مشبهة ، ويكون مصدر علقه وبه كفرح علوقا وعلقا إذا أحبه

(٣) برقان ـ بكسر أوله وسكون ثانيه ـ : قرية بخوارزم ، وقرية بجرجان ، ويكون البرقان جمع برق ـ كحمل ـ وزنا ومعنى ، ويكون البرقان ـ بالكسر أيضا ـ الفزع ، والدهش ، والحيرة

(٤) الجارم : اسم فاعل من جرم النخل والثمر يجرمه ـ كضرب يضرب ـ إذا قطعه ، وتقول : فلان جارم إذا كان قدجنى جناية ، قال الشاعر

*كما النّاس مجروم عليه وجارم*

٢١

وإن كان منفصلا ، وإمالة «فى دار قاسم» أقوى من إمالة «فى مال قاسم» ؛ لما ذكرنا من أن كسرة الراء أقوى من كسرة غيرها ، وإمالة «جارم قاسم» أقوى من إمالة «فى دار قاسم» للزوم كسرة الراء فى الأول مع تباعد المستعلى كما كان إمالة «عابد قاسم» أولى بسبب لزوم الكسر وبعد المستعلى من إمالة «فى مال قاسم» وكسرة راء نحو «حضار (١)» ككسرة راء نحو «فى الدار» وإن كانت الأولى بنائية ؛ لأنها تزول بجعله علما لمذكر ، وكسرة راء نحو «بفارّ قبل (٢)» ككسرة راء نحو «فى الدار قبل» لأن الحرف المشدد كحرف واحد ، ومن أمال نحو جادّ وجوادّ اعتبارا بكسر الدال المقدرة لم يمل نحو «هذا جار» و «جوار» لما ذكرنا من قوة ضمة الراء وفتحتها فتمنعان الكسرة المقدرة لضعفها.

قوله : «قبلها» كراشد وفراش ، ولا تكون إلا مفتوحة.

قوله : «أو بعدها» قد تكون مفتوحة ومضمومة ، نحو : هذا حمار ، ورأيت حمارا.

قوله «فإذا تباعدت» قد مضى حكم الراء التى تلى الألف قبلها أو بعدها ، وهذا حكم الراء المتباعدة عن الألف ؛ فنقول : إن كانت الراء بعد الألف وبينها وبين الألف حرف كانت كالعدم فى المنع ، وإن كانت غير مكسورة ، نحو : هذا كافر ، ورأيت كافرا : أى لا تمنع منع المستعلى فى نحو نافق ودافق ؛ لأنها ملحقة بالمستعلى ، كما ذكرنا ، فلا يكون لها قوة المستعلى ، ومن ثم كان إمالة «لن

__________________

(١) حضار ـ كقطام ـ : نجم ، قال ابن سيده : «هو نجم يطلع قبل سهيل ، فتظن الناس به أنه سهيل» ا ه. ويكون «حضار» اسم فعل أمر بمعنى احضر

(٢) فى بعض الأصول نحو «مغار» بالميم والغين المعجمة والصواب «بفار قبل» كما فى سيبويه

٢٢

يضربها راشد» أقوى من إمالة «لن يضربها قاسم» وبعضهم عكس وجعلها مانعة مع بعدها من الإمالة فى نحو «هذا كافر» كما منع المستعلى البعيد فى نحو نافق ، وكذا إذا تباعدت المكسورة بعدها ؛ فالأولى أنها كالعدم فى الغلبة على المستعلى ؛ فلا تغلب الراء المكسورة القاف فى «بقادر» بل القاف تعمل عملها فى منع كسرة الدال من اقتضاء الإمالة ، وذلك لأن الراء المكسورة بعدت عن الألف ، بخلاف نحو «الغارب (١)» فان الراء غلبت المستعلى لقربها من الألف ، وبعضهم عكس ههنا أيضا ، وجعلها غالبة للمستعلى : أى مجوزة للإمالة ، فيكون كأن بعد الألف ثلاث كسرات وقبلها مستعل واحد ، وإن كانت الراء قبل الألف متباعدة مفتوحة أو مضمومة ، نحو رواقد وبرقات (٢) ، فيجوز أن تجعل كالمستعلى ؛ فلا تمال كما فى «قوافل» ، ويجوز أن لا تجعل مثله ، لكونها أضعف منه ، فيمال نحو «رواقد» ، وأما إن كانت مكسورة فإنها لا تغلب المستعلى قبل الألف كان المستعلى كرقاب أو بعدها كرواق ؛ أما فى الأول فلأن المستعلى أقرب إلى الألف ، وأما فى الثانى فلما ذكرنا من أن المستعلى بعد الألف فى غاية القوة ، حتى غلب على الراء المكسورة التى هى أقرب إلى الألف منه فى نحو فارض ، فكيف بالمكسورة التى هى أبعد منه؟ فإمالة نحو عفرا وعشرا (٣) أولى من إمالة نحو عمران ؛ لأن الآخر محل التغيير.

__________________

(١) الغارب : الكاهل ، أو ما بين السنام والعنق ، والجمع غوارب ، ومنه ما فى حديث الزبير : «مازال يفتل فى الذروة والغارب حتى أجابته عائشة إلى الخروج» ، الغارب : مقدم السنام

(٢) البرقات : ـ بضمتين ـ : جمع برقة ـ بضم فسكون ـ وهى أرض ذات حجارة بيض وحمر وسود ، وفى بلاد العرب برق كثيرة تنيف على المائة ذكرها صاحب القاموس (ب ر ق) ، والبرقة أيضا : قلة الدسم فى الطعام.

(٣) العشر ـ بكسر أوله وسكون ثانيه ـ : ورد الابل اليوم العاشر ، قال فى اللسان : «قال الأصمعى : إذا وردت الابل كل يوم قيل : قد وردت رفها (بكسر

٢٣

قال : «وقد يمال ما قبل هاء التّأنيث فى الوقف ، وتحسن فى نحو رحمة ، وتقبح فى الرّاء نحو كدرة ، وتتوسّط فى الاستعلاء نحو حقّة»

أقول : لما كان هاء التأنيث يشابه الألف فى المخرج والخفاء ومن حيث المعنى لكون الألف أيضا كثيرا للتأنيث أميل ما قبل هاء التأنيث ، كما يمال ما قبل الألف ؛ لأن ما قبل ألف التأنيث مطرد جواز إمالته لا يمنعه شىء : لا المستعلى كما فى الوسطى ، ولا الراء المفتوحة كالذّكرى ، والألف فى الوقف أقبل للإمالة لقصد البيان ، كما قلنا فى باب الوقف على نحو أفعى ؛ فأميل ما قبل هاء التأنيث ؛ إذ لا يكون إلا فى الوقف ، تشبيها للهاء بالألف الموقوف عليها ، وأيضا الهاء خفية ، فكأن الفتحة فى الآخر ، والآخر محل التغيير ؛ فباجتماع هذه الأشياء حسن إمالة ما قبل هاء التأنيث ، قال سيبويه : إمالة ما قبل هاء التأنيث لغة فاشية بالبصرة والكوفة وما قرب منهما

قوله «وتحسن فى نحو رحمة» أى : إذا لم يكن ما قبل الهاء لا راء ولا حرف استعلاء ، وتقبح فى الراء لأن إمالة فتحتها كإمالة فتحتين ، لتكرر الراء ، فالعمل فى إمالتها أكثر

قوله «وتتوسط فى الاستعلاء» لأنه لما أجرى الهاء مجرى الألف لم يكن كالمشبه به مطلقا ، فلم يمنع المستعلى الإمالة ههنا بالكلية كما منعها هناك ، بل

__________________

فسكون) فأذا وردت يوما ويوما لا قيل : وردت غبا ، فأذا ارتفعت عن الغب فالظمء الربع ، وليس فى الورد ثلث ، ثم الخمس إلى العشر ، فأذا زادت فليس لها تسمية ورد ، ولكن يقال : هى ترد عشرا وغبا ، وعشرا وربعا ، إلى العشرين ؛ فيقال حينئذ : ظمؤها عشران ، فأذا جاوزت العشرين فهى جوازىء» ا ه ، وأسماء الأظماء المذكورة كلها بكسر فسكون كما ضبطنا فى «رفه»

٢٤

توسطت الإمالة معه فى الحسن والقبح ، ولم تقبح قبح إمالة فتحة الراء ؛ لأن سلب قبحها ـ كما قلنا ـ كون إمالة فتحتها كإمالة فتحتين ، وليست إمالة فتحة المستعلى كذلك ، وليس استقباح إمالة فتحة الراء وتوسط إمالة فتحة المستعلى لكون الراء أقوى فى الاستعلاء من المستعلى ؛ لأنا قد ذكرنا أن المستعلى أقوى منها ، وهى ملحقة بالمستعلى ومشبهة به ، فلا تبلغ درجته ، والمروى عن الكسائى إمالة ما قبل هاء التأنيث مطلقا ، سواء كان من حروف الاستعلاء أو لا ، إلا إذا كان ألفا كالصلاة ، واختار له أهل الأداء طريقا آخر ، وهو إمالة ما قبل الهاء ، إلا إذا كان أحد الحروف العشرة ، وهى قولك «حق ضغاط عص خظا» كالنطيحة والحاقة وقبضة وبالغة والصلاة وبسطة والقارعة وخصاصة والصاخة (١) والموعظة ، وذلك لأن «قظ خص ضغط» من هذه العشرة حروف الاستعلاء ، والحاء والعين شبهتا بالخاء والغين ؛ لكونهما حلقيين مثلهما ، وأما الألف فلو أميلت لأميل ما قبلها ، فكان يظن أن الإمالة للألف لا للهاء ، أو كان أحد حروف أكهر (٢) ؛ فإنه إذا جاءت قبل الهاء وقبلها إما ياء ساكنة أو كسرة كالأيكة (٣) والخاطئة والآلهة والحافرة ؛ أميلت فتحتها ، وكذا إن كان

__________________

(١) الصاخة : في الأصل اسم فاعل من صخ يصخ ـ كشديشد ـ إذا ضرب بشىء صلب على مصمت ، ثم قيل للصيحة : صاخة ؛ لكونها تصم الآذان بشدتها ، وسميت القيامة صاخة بما يتقدمها من صيحة الملك ، ويقال للداهية أيضا : صاخة

(٢) أكهر : قد جمع فى هذه الكلمة حروفا تمنع من إمالة الفتحة ، ومع هذا فلهذه الكلمة معنى لغوى ؛ فقد تكون فعلا مضارعا ماضيه كهره ـ كمنع ـ إذا قهره أو انتهره ، وقرىء قوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) بالكاف بدل القاف ، وقد تكون أفضل تفضيل من هذا

(٣) الأيكة : واحدة الأيك ، وهو الشجر الكثير الملتف ، والأيكة أيضا الغيضة تنبت السدر والأراك ، وقوله تعالى (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ)

٢٥

بين الكسرة وحروف أكهر حرف ساكن كعبرة ووجهة ، أما إذا كان قبل حروف أكهر ضمة أو فتحة كالتّهلكة والميسرة لم تمل (١) ، وكذا إن جاء قبلها ألف كالسفاهة ، وإنما ألحقوا حروف أكهر بحروف الاستعلاء لمشابهة الهمزة والهاء للغين والخاء المستعليين فى كونها حلقية وكون الكاف قريبة من مخرج القاف الذى هو مستعل ، وكذا الراء ؛ لأن فتحتها كفتحتين كما ذكرنا ، وإنما ألحقوها بالمستعلية إذا لم يكن قبلها ياء ولا كسرة لأن ذلك ينقص من مشابهتها للمستعلية ، وأما الألف قبل أكهر فإنما منعت لكونها ضد الإمالة

قال «والحروف لا تمال ؛ فإن سمّى بها فكالأسماء ، وأميل بلى ويا ولا فى إمّا لا لتضمّنها الجملة ، وغير المتمكّن كالحرف ، وذا وأنّى ومتى كبلى ، وأميل عسى لمجىء عسيت»

أقول : يعنى لا تمال الحروف لعدم تصرفها ، والإمالة تصرف ، فنحو إمّا وإلّا وإن كان فيه كسرة لا يمال ، كما لا يمال حتّى وألّا وهلّا ؛ فإن سميت بمثل هذه الحروف كانت كالأسماء : إن كان فيها سبب الإمالة أميلت ، كألف حتّى وألا وهلّا ، لأنها طرف رابعة كألف حبلى ، فتثنيتها على حتّيان وألّيان وهلّيان ، وكذا إن سميت بإلى ؛ لأن الكسرة سبب الإمالة ، مع أن الألف طرف ، ويثنى بالواو نحو إلوان ، كما ذكرنا فى باب المثنى ، وعلى ما ذكره المصنف ـ وهو أن الكسرة لا تأثير لها مع الألف التى عن الواو ـ ينبغى أن لا تمال ، ولو سميت بعلى وعدا وخلا الحرفيتين وبأما وألا لم تمل ؛ إذ لا سبب للامالة ، وإنما أميل بلى لجواز السكوت

__________________

قال القاضى البيضاوى : «الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر ، يريد غيضة بقرب. مدين تسكنها طائفة بعث الله إليهم شعيبا وكان أجنبيا منهم» ا ه

(١) كذا فى. الأصول كلها ، والواجب أن يقول «فأنها لا تمال» لأنه يجب اقتران الفاء بما بعد تالى أما

٢٦

عليها وتضمنها معنى الجملة ، إذ تقول فى جواب من قال أما قام زيد «بلى» أى : بلى قام ، فصار كالفعل المضمر فاعله نحو غزا ورمى فى الاستعلاء ، فأميل لمشابهته الفعل ، وكذا أميل يالتضمنها معنى الفعل ، وهو دعوت وناديت ، فصارت كالفعل ؛ مع أنه يحذف المنادى ويقدر فى نحو (ياليت) و (ألا يا اسجدوا) فيصير كالفعل المضمر فاعله ، وكذا «لا» أى فى «إمّالا» إذ يحذف الشرط بعدها ، تقول لشخص : افعل كذا ، فيأبى ، فتقول له : افعل هذا إمالا : أى إمالا تفعل ذاك ، وإذا انفردت لا عن إما لم تمل وإن كانت كبلى فى الإغناء عن الجملة ، لكونها على حرفين ، وأمايا فلأن معها الياء وهو سبب الإمالة ، وحكى قطرب إمالة لا من دون إمّا نحو لا أفعل ؛ لإفادتها معنى الجملة فى بعض الأحوال كبلى.

قوله : «وغير المتمكن كالحرف» لأن غير المتمكنة لعدم تصرفها تكون كالحرف ، فان سميت بها كانت كالحروف المسمى بها : إن كان فيها سبب الامالة أميلت ، كإذا ، للكسرة ، وإنما أميل «ذا» فى الإشارة لتصرفها ؛ إذ توصف وتصغر ويوصف بها ، بخلاف ما الاستفهامية فانها لا تصغر ، وأما أنّى ومتى فإنما تمالان ـ وإن لم يسم بهما أيضا ـ لاغنائهما عن الجملة ، وذلك لأنك تحذف معهما الفعل ، كما تقول : متى؟ لمن قال سار القوم ، وكذا قوله :

١٢٦ ـ *أنّى ومن أين آبك الطّرب (١)*

__________________

(١) هذا صدر بيت من المنسرح ، وعجزه :

*من حيث لا صبوة ولا ريب*

وهو مطلع قصيدة طويلة للكميت بن زيد الأسدى مدح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : مدح بها على بن أبى طالب فورى عنه بذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوفا من بنى أمية. والاستشهاد بالبيت على أن «أنى» قد يستغنى بها عن الجملة ، فيكون التقدير فى البيت أنى آبك الطرب ؛ فحذف الفعل

٢٧

فلا تمالان إذن ، إلا فى الاستفهام ، لأنه إنما يحذف الفعل بعدهما فيه بخلاف ما إذا كانتا للشرط.

قوله : «وأميل عسى» إنما ذكر ذلك وإن كان فعلا لئلا يظن به أن عدم تصرفه ألحقه بالأسماء غير المتمكنة فى عدم جواز الامالة ، فقال : الفعل وإن كان غير متصرف فتصرفه أقوى من تصرف الاسم غير المتمكن والحرف ؛ لأنه ينقلب ألفه ياء أو واوا إذا كان يائيا أو واويا عند لحوق الضمائر بها ، وإنما أميل أسماء حروف التهجى ـ نحو با ، تا ، ثا ـ لأنها وإن كانت أسماء مبنية كاذا وما لكن وضعها على أن تكون موقوفا عليها ، بخلاف إذا وما ، فأميلت لبيان ألفاتها ، كما قلبت ألف نحو أفعى فى الوقف ياء ، كما مر فى باب الوقف ، والدليل عليه أنها لا تمال إذا كملت بالمد نحو باء وتاء ، وذلك لأنها لا تكون إذن موقوفا عليها ، ولقوة الداعى إلى إمالتها أميلت مع حرف الاستعلاء ، نحو طا ، ظا ، بخلاف طالب وظالم.

قال : «وقد تمال الفتحة منفردة نحو من الضرر ومن الكبر ومن المحاذر»

أقول : «الراء المكسورة قد تمال لها الفتحة التى قبلها بلا فصل ، سواء كانت على الراء كالضّرر أو على حرف الاستعلاء كالمطر أو على غيرهما كالكبر والمحاذر ، وتمال أيضا الضمة التى قبلها نحو من السمر ومن المنقر ، وهو الركية الكثيرة الماء ، ومن السرر (١) ، وإذا أملت فتحة الذال فى المحاذر لم تمل الألف التى قبلها ؛ لأن الراء لا قوة لها على إمالة فتحة ما قبلها مع إمالة الألف

__________________

من الأول لدلالة الثانى عليه. والطرب : خفة تعترى الانسان من حزن أو فرح ، والصبوة : الصبا ، والريب : جمع ريبة ، وهى الشبهة ، ومعنى البيت : كيف طربت مع كبر سنك ومع عدم وجود داعى الطرب

(١) السرر ـ بضمتين ـ : ما تقطعه القابلة من سرة الصبى

٢٨

التى قبل تلك الفتحة ، بل لا تقوى إلا على إمالة حركة قبلها : متصلة بها كما ذكرنا ، أو منفصلة عنها بحرف ساكن ، كما تميل فتحة من عمر وضمة من عمر وكذا إذا كان الساكن واوا نحو ابن أم مذعور وابن نور ، قال سيبويه : «تميل الضمة وتشمها شيئا من الكسرة ؛ فتصير الواو مشمة شيئا من الياء وتتبع الواو حركة ما قبلها فى الإشمام كما تبعت الألف ما قبلها فى الإمالة ؛ فإن هذا الإشمام هو الإمالة» وقال الأخفش : «الألف لا بدلها من كونها تابعة لما قبلها ، وليس الواو كذا ؛ فإنها قد لا يكون ما قبلها مضموما» فعلى قوله تجىء بالواو صريحة غير مشمة شيئا من الياء بعد الضمة المشمة كسرة ، وما ارتكبه الأخفش يتعذر اللفظ به ولا يتحقق ، وأما قوله «قد لا يكون ما قبلها مضموما» فنقول : أما الفتح فمسلم أنه يجىء الواو الصريح بعده ، كقول ، وأما الكسر والضم المشمّ كسرا فلا يجىء بعدهما الواو الساكنة إلا مشمّة ياء ، وعليك بالاختبار ، وإن كان قبل الراء المكسورة ياء ساكنة قبلها فتحة نحو بغير وبخير فلا يجوز إشمام الفتح شيئا من الكسر ؛ لأن إشمام الفتح الكسر لا يبين إذا كان بعده ياء كما يبين إشمام الضم الكسر إذا كان بعده واو ، نحو من نور ، وقد يمال أيضا لكسرة الراء فتحة ما قبلها وضمته ـ وإن كانتا منفصلتين فى كلمة أخرى ـ نحو إن خبط رياح (١) وهذا خبط رياح ، كالمطر والمنقر ، فهو كإمالة الألف والفتحة فى قفا رياح ، ونحو خبط الرّيح أبعد ؛ لكون ساكن بين فتحة الطاء وكسرة الراء ، ونحو خبط فريد أبعد ؛ لكون حرف متحرك بينهما.

واعلم أن المستعلى بعد الراء المكسورة يمنع إمالة ما قبل الراء ، فلا يمال سين السّرق (٢) للقاف كما منع فى نحو فارض وفارط ، على ما تقدم ، وأما قبل

__________________

(١) الخبط ـ بفتحتين ـ : ورق العضاه من الطلح ونحوه يضرب بالعصا فيتناثر ثم يعلف الابل

(٢) السرق ـ بفتح فكسر ـ : مصدر سرق الشىء يسرقه سرقا ؛ إذا أخذه خفية

٢٩

الراء المكسورة فلا يمنع ، ألا ترى إلى إمالة بالمطر ومن المنقر؟ وذلك لما تكرر من كون الاستفال بعد الإصعاد أسهل من العكس ، وأما غلبة المستعلى قبل الألف الراء المكسورة بعدها ، نحو طارد وقارب وغارب ، فلأن أسباب الامالة إنما تميل الحركة أولا ، ثم إن كان بعدها ألف أو واو ، كما فى عالم ومن نور ، يتبعها فى الامالة ، ففى نحو طارد الفتحة الى المستعلى أقرب منها إلى الراء المكسورة ، فلا جرم استولى عليها المستعلى ولم يخلّها تؤثر فيها الراء ، وأما نحو بالمطر وطرب ، ومن المنقر ؛ فالراء قريبة من الحركة المراد إمالتها ؛ لأن الألف ليست بفاصلة بينهما فاستولت عليها وغلبت المستعلى لقوتها ؛ لأن كسرتها ككسرتين.

واعلم أن الفتحة من دون الألف لا تمال إلا لهاء التأنيث كما مر ، أو للراء المكسورة من بين أسباب الامالة ، لقوتها من بينها بتكررها ، كما مر غير مرة.

قال : «تخفيف الهمزة ؛ يجمعه الابدال والحذف وبين بين : أى بينها وبين حرف حركتها ، وقيل : أو حرف حركة ما قبلها ، وشرطه أن لا تكون مبتدأ بها ، وهى ساكنة ومتحرّكة ؛ فالسّاكنة تبدل بحرف حركة ما قبلها : كراس ، وبير ، وسوت ، وإلى الهداتنا ، والّذيتمن ، ويقولو ذن لى»

أقول : قوله «يجمعه الإبدال والحذف وبين بين» أى : لا يخرج من هذه الثلاثة ؛ لأن المجموع لا يخرج عن جامعه ، ولو قال يجمع الإبدال والحذف وبين بين لم يفهم منه أنه لا ينقسم إلى غير هذه الثلاثة ؛ لأن الشىء ربما يجمع الشىء ويجمع غيره ، كما أن الاسم يجمع المنصرف وغير المنصرف ويجمع أيضا المبنى

قوله «بينها وبين حرف حركتها» أى : بين الهمزة والواو إن كانت مضمومة ،

٣٠

وبينها وبين الألف إن كانت مفتوحة ، وبينها وبين الياء إن كانت مكسورة

قوله «أو حرف حركة ما قبلها» يعنى قال بعضهم : بين بين على ضربين : أحدهما ما ذكر ، والثانى أن يكون بينها وبين حرف حركة ما قبلها ، وهذا الثانى على قول هذا القائل أيضا لا يكون فى كل موضع ، بل فى المواضع المعينة ، كما فى سئل ومستهزئون ، على ما يجىء

قوله «وشرطه أن لا تكون مبتدأ بها» أى : شرط تخفيف الهمزة ، ولا يريد بكونها مبتدأ بها أن تكون فى ابتداء الكلمة ؛ لأنها تخفف أيضا فى ابتداء الكلمة بالحذف فى نحو (قَدْ أَفْلَحَ) والقلب فى (الهدى اتنا) ونحوه ، بل المراد أن تكون فى ابتداء الكلام ، وإنما لم تخفف إذن لأن إبدالها بتدبير حركة ما قبلها كما يجىء ، وكذا حذفها بعد نقل حركتها إلى ما قبلها ، وكذا المجعولة بين بين البعيد تدبّر بحركة ما قبلها ، وإذا كانت فى ابتداء الكلام لم يكن قبلها شىء ، وأما بين بين المشهور فيقربها من الساكن ، كما يجىء ، والمبتدأ به لا يكون ساكنا ولا قريبا منه ، ولم تخفّف فى الابتداء نوعا آخر من التخفيف غير الثلاثة الأنواع المذكورة ؛ لأن المبتدأ به خفيف ؛ إذ الثقل يكون فى الأواخر ، على أنه قد قلبت الهمزة فى بعض المواضع فى الابتداء هاء ، كهرحت وهرقت وهيّاك ، ولكن ذلك قلب شاذ

ثم اعلم أن الهمزة لما كانت أدخل الحروف فى الحلق ولها نبرة (١) كريهة تجرى مجرى التهوع (٢) ثقلت بذلك على لسان المتلفظ بها ؛ فخففها قوم ، وهم أكثر

__________________

(١) النبرة : ارتفاع الصوت ، يقال : نبر الرجل نبرة ، إذا تكلم بكلمة فيها علو ، قال الشاعر

إنّى لأسمع نبرة من قولها

فأكاد أن يغشى علىّ سرورا

(٢) التهوع : تكلف القىء ، وفى الحديث : كان إذا تسوك قال : أع أع ، كأنه يتهوع

٣١

أهل الحجاز ، ولا سيما قريش ، روى عن أمير المؤمنين على رضى الله تعالى عنه : نزل القرآن بلسان قريش ، وليسوا بأصحاب نبر (١) ، ولو لا أن جبرائيل عليه‌السلام نزل بالهمزة على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما همزنا ، وحققها غيرهم ، والتحقيق هو الأصل كسائر الحروف ، والتخفيف استحسان.

فنقول : إذا خففت فإما أن تكون ساكنة أو متحركة ، وهذه قسمة حاصرة ، فالساكنة تبدل بحرف جركة ما قبلها ، إذ حرف العلة أخف منها ، وخاصة حرف علة ما قبل الهمزة من جنسه ، وحركة ما قبلها إما أن تكون فى كلمة الهمزة أولا ، وفى الأول إما أن تكون الهمزة فى الوسط كرأس وبئر ومؤمن ، أو فى الآخر كلم يقرأ ولم يردؤ ولم يقرىء ، وفى الثانى فى نحو (الْهُدَى ائْتِنا) و (الَّذِي اؤْتُمِنَ) و (يَقُولُ ائْذَنْ) وإنما لم تجعل بين بين إذ لا حركة لها حتى تجعل بينها وبين حرف حركتها ، ولم تحذف لأنها إنما تحذف بعد إلقاء حركتها على ما قبلها لتكون دليلا عليها ، والحركة إنما تلقى على الساكن ، لا على المتحرك.

قال : «والمتحرّكة إن كان قبلها ساكن وهو واو أو ياء زائدتان لغير الإلحاق قلبت إليها وأدغمت فيها ، كخطيّة ومقروّة وأفيّس ، وقولهم التزم فى نبىّ وبريّة ، غير صحيح ، ولكنّه كثير ، وإن كان ألفا فبين بين المشهور ، وإن كان حرفا صحيحا أو معتلّا غير ذلك نقلت حركتها إليه وحذفت ، نحو مسلة ، وخب ، وشى ، وسو ، وجيل ، وحوبة ، وأبو يّوب ، وذو مرهمّ ، واتّبعى مره ، وقاضوبيك ؛ وقد جاء باب شىء وسوء مدغما أيضا ،

__________________

(١) النبر : الهمز ، ومصدر نبر الحرف ينبره نبرا إذا همزه ، وفى الحديث : قال رجل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا نبىء الله ، فقال : لا تنبر باسمى : أى لا تهمز ، وفى رواية فقال : أنا معشر قريش لا ننبر

٣٢

والتزم ذلك فى باب يرى ، وأرى يرى ؛ للكثرة ، بخلاف ينأى ، وأنأى ينئى. وكثر فى سل ، للهمزتين ، وإذا وقف على المتطرّفة وقف بمقتضى الوقف بعد التّخفيف ؛ فيجىء فى هذا الخب وبرىّ ومقروّ السّكون والرّوم والإشمام ، وكذلك شىّ وسوّ ، نقلت أو أدغمت إلّا أن يكون ما قبلها ألفا إذا وقف بالسّكون وجب قلبها ألفا ؛ إذ لا نقل ، وتعذّر التّسهيل ؛ فيحوز القصر والتّطويل وإن وقف بالرّوم فالتّسهيل كالوصل»

أقول : قد مضى حكم الهمزة الساكنة ، وهى قسم واحد ؛ إذ لا يكون ما قبلها إلا متحركا ؛ لأنه لا يلتقى ساكنان ؛ بلى إن سكّنت للوقف وقبلها ساكن ـ وذلك مما يجوز كما مضى فى باب التقاء الساكنين ـ فقد يجىء حكمها ،

وأما المتحركة فعلى قسمين ، وذلك لأن ما قبلها : إما ساكن ، أو متحرك ، فإن سكن ما قبلها فلا يخلو ذلك الساكن من أن يكون مما يجوز تحريكه ، أو لا يجوز ؛ فما لا يجوز تحريكه الألف والواو والياء الزائدتان فى بنية الكلمة إذا كانتا مدتين : أى يكون ما قبلهما من الحركة من جنسهما ، وكذا ياء التصغير ، نحو سائل ومقروء وخطيئة وأفيئس ، وإنما قلنا «الزائدتان فى بنية الكلمة» لأنهما إن كانتا أصليتين كالسّوء (١) والسّىء (٢) قبلتا الحركة ؛ لأن فاء الكلمة وعينها ولامها مما لا يمتنع من قبول الحركة وكذا يقبلان الحركة إذا لم يكونا من بنية الكلمة ، نحو اتبعوا أمرهم ، واتبعى أمرهم ؛ إذا الواو والياء كلمتان مستقلتان تحتملان الحركة نحو اخشونّ واخشينّ ، وأجرى مجراهما واو نحو : مسلمو أبيك وياء مسلمى أبيك ؛ لأنهما فى الحقيقة ليستا زائدتين فى بنية الكلمة ؛ لكونهما لمعنى كالتنوين ،

__________________

(١) السوء ـ بالضم ـ : البرص ، وكل آفة

(٢) السىء ـ بالكسر ـ : اللبن يكون فى أطراف الأخلاف

٣٣

فيحتملان الحركة نحو مصطفو القوم ، ومصطفى القوم ، وكذا إذا لم يكونا مدتين مع كونهما فى بنية الكلمة ، نحو حوأبة (١) وجيأل (٢) ؛ فإنهما للالحاق فى مقابلة حرف أصلى ، وأما ياء التصغير فإنها وإن لم تكن مدة لكنها موضوعة على السكون ، ولهذا جاز نحو أصيمّ كما مضى فى باب التقاء الساكنين ، والذى يجوز تحريكه ما عدا ما ذكرناه : صحيحا كان كمسألة ، أو حرف علة كالواو والياء للالحاق نحو حوأبة ، وجيأل ، أو الواو والياء للضمير نحو اتّبعوا أمره ، واتبعى أمره ، وكذا إن كانتا علامتى المثنى والمجموع ، كقاتلو أبيك ، وكقاتلى أبيك ، أو كانتا من أصل الكلمة سواء كان حركة ما قبلهما من جنسهما كالسوء والسىء وذو إبل ، وبذى إبل ، وضرب هو أمّه ، وتضرب هى أباه ، وفى أبيه ، وفى أمه ، أو لم تكن كسوأة (٣) وجيئة ، فالواو والياء اللتان لا تقبلان الحركة إذا وليهما الهمزة وقصد التخفيف قلبت الهمزة إلى الحرف الذى قبلها وأدغم فيها ، نحو مقروّ ونبىّ وأفيّس وهو تصغير أفؤس جمع فأس

وقول المصنف «زائدتان لغير الإلحاق» يعنى زائدتين فى بنية الكلمة حتى يخرج قاضو أبيك ، واتبعوا أمره ، وإنما لم تحذف إذا كان قبلها حرف علة لا يقبل الحركة ؛ لأن قياس حذفها ـ كما مر ـ أن تنقل أولا حركتها إلى ما قبلها لتدل عليها ، وكذا لم تجعل بين بين ، لئلا يلزم شبه ساكنين ، فلما

__________________

(١) الحوأبة : الضخم من الدلاء والعلاب

(٢) الجيأل : الضع ، والضخم من كل شىء ؛ قال فى اللسان : «قال أبو على النحوى : وربما قالوا جيل ـ بالتخفيف ـ ويتركون الياء مصححة ؛ لأن الهمزة وإن كانت ملقاة من اللفظ فهى مبقاة فى النية معاملة معاملة المثبتة غير المحذوفة ، ألا ترى أنهم لم يقلبوا الياء ألفا كما قلبوها فى ناب ونحوه ؛ لأن الياء فى نية السكون؟ قال : والجيأل الضخم من كل شىء» ا ه

(٣) السوءة : الفرج ، والفاحشة ، والخلة القبيحة

٣٤

امتنعا قصد التخفيف بالإدغام وإن لم يقرب مخرج الهمزة من مخرج الواو والياء ، لكنهم اقتنعوا فى الادغام بأدنى مناسبة ، وهو اشتراك الجميع فى صفة الجهر ؛ لاستكراههم الهمزة وانسداد سائر أبواب التخفيف كما مر ، ولهذا قلبوا الثانية للادغام إلى الأولى ، مع أن القياس فى إدغام المتماثلين ـ كما يجىء فى بابه ـ قلب الأولى إلى الثانية ؛ لأن حاملهم على الادغام مع تباعد المخرجين قصد تخفيف الهمزة المستكرهة والفرار منها ، فلو قلبوا الأولى إلى الثانية لوقعوا فى أكثر مما فروا منه.

قوله «فى نبى وبرية» قال سيبويه : «ألزمهما أهل التحقيق البدل ، قال : وقد بلغنا أن قوما من أهل التحقيق يقولون : نبىء ، وبريئة ؛ وذلك قليل ردىء» يعنى قليل فى كلام العرب ردىء فيه ، لا أنه ردىء فى القياس ، وهى ثابتة فى القراءات السبع ، ومذهب سيبويه أن النبىء مهموز اللام ، وهو الحق ، خلافا لمن قال : إنه من النباوة : أى الرفعة ، وذلك لأن جمعه نبآء ، وإنما جمع على أنبياء – وإن كان أفعلاء جمع فعيل المعتل اللام كصفى وأصفياء وفعلاء جمع الصحيح اللام ككرماء وظرفاء ـ لأنهم لما ألزموا واحده التخفيف صار كالمعتل اللام ، نحو سخىّ ، وكذا ألزم التخفيف فى مصدره كالنبوّة ، وجاء فى السبع النبوءة ـ بالهمز ، ولما رأى المصنف ثبوت النبىء والبريئة مهموزين فى السبع حكم بأن تخفيفهما ليس بلازم ، وكذا ورد فى السبع النبوءة بالهمز ، ومذهب سيبويه ـ كما ذكرناه ـ أن ذلك ردىء مع أنه قرىء به ، ولعل القراءات السبع عنده ليست متواترة ، وإلا لم يحكم برداءة ما ثبت أنه من القرآن الكريم ، تعالى عنها

وأما القسم الثانى : أى الواو والياء القابلتان للحركة ؛ فالقياس فيه نقل حركة الهمزة إليهما وحذفها ، وإنما لم تستثقل الضمة والكسرة على الواو والياء فى قاتلو

٣٥

امّك ، وجازرو ابلك ، وبقاتلى امّك ، وأحلبنى ابلك ؛ لأن الحركتين ليستا فى الأصل لحرفى العلة ، بخلاف نحو قاضى وقاضى ؛ فإن حركات الإعراب وإن كانت عارضة على الحرف لكنها حركاتها ، وليست بمنقولة إليها فهى ألزم من الحركات المنقولة ، قال سيبويه : بعض العرب يدغم آخر الكلمة فى الواو والياء المبدلتين عن الهمزة المفتوحة الكائنة فى صدر كلمة بعدها ، نحو أوّنت وأبوّ يّوب وأرمىّ باك ، فى : أو أنت ، وأبو أيّوب ، وأرمى أباك ، وكذا جميع المنفصلة بشرط كونها مفتوحة ، قال : وإن كانت فى كلمة واحدة حذفوا ، نحو سوة وحوب ، قال : وقد قال بعض هؤلاء فى المتصلة أيضا سوّة وضوّ ، وجيّل ومسوّة ، ومسىّ ؛ جعلوا الواوات والياءات كحروف المد الزائدة فى مقروّ ونبىّ ، وإنما لزم الادغام فى مشيّة لكثرة استعمالها ، وأما الهمزة المكسورة والمضمومة ضمة وكسرة لازمتين أو كلازمتين فلا يدغم فيها فى هذا الباب ؛ لثقله ؛ فلا يقال فى أبو أمك وأبى أمك : أبوّمّك وأبىّ امّك ، ولا فى ذو إبل وذى إبل : ذوّ بل وذىّ بل ولا فى سوءوا ، وأسيئي : سوّوا ، وأسيّى ، لأن الضمة والكسرة كاللازمتين ، وأما مسوء وبمسىء فإن الضمة والكسرة للإعراب ، وهو غير ثابت ، قال : وبعض العرب ينقل فتحة الهمزة أخيرا على الواو والياء قبلها ويحذف ، كما هو القياس ، نحو لن يجيك ، ولن يسوك ، وإذا كانت مضمومة أو مكسورة حذفت الهمزة لاستثقال الضمة والكسرة على الياء والواو ؛ فيقول : هو يجيك ويسوك ، وقد يحذف الهمزة المفتوحة نحو لن يجيك ولن يسوك ، قال : وكذا يحذف الهمزة مطلقا بأى حركة كانت إذا كانت قبلها ألف ؛ لامتناع نقل الحركة إليها ، فيقول : هو يشا ؛ فعلى هذا يقول فى الجزم والوقف : لم يج ، ولم يس ، ولم يش ، وجه وسه وشه ؛ فيقع الجزم والوقف على العين ، وعلى هذا يقول فى المنفصلة : يرم اخوانه ، بحذف الهمزة المكسورة مع كسرتها ؛ لاستثقال الكسرة على الياء قبلها ، ثم يحذف ياء برمى للساكنين ، قال السيرافى : ومما جاء

٣٦

من الشاذ نقل بعضهم حركة الهمزة المنفصلة إلى آخر الكلمة المتحركة بحركة بنائية ، نحو قال اسحق ، وقال اسامة ، وإن كانت الحركة إعرابية لم ينقل ، فلا يقول : يقول اسحق ، ولن يقول اسامة ؛ احتراما لحركة الاعراب ، قال : وبعضهم يحذف الهمزة من غير نقل الحركة إلى آخر الكلمة ؛ فيقول : قال اسحق ، وقال اسامة ، والأول أجود ، وقال بعضهم : تحذف الهمزة المنفصلة : أى التى فى أول الكلمة إذا وقعت بعد الألف فى آخر الكلمة ، فإن كان بعد الهمزة ساكن سقطت الألف للساكنين ، نحو ما احسن زيدا ، وما امرك ، وإن كان بعدها متحرك بقى الألف نحو ما شدّ : أى ما أشد ، قال :

١٢٧ ـ ما شدّ أنفسهم وأعلمهم بما

يحمى الذّمار به الكريم المسلم (١)

وربما حذف بلا علة ولا ضابط ، نحو ناس ، فى «أناس» ، ومع ألف الأستفهام فى رأيت ، فيقال فى أرأيت : أريت ، وهو قراءة الكسائى فى جميع ما أوله همزة الاستفهام من رأى المتصل به التاء والنون ، وقال أبو الأسود :

١٢٨ ـ أريت امرأ كنت لم أبله

أتانى فقال أتّخذنى خليلا (٢)

__________________

(١) هذا بيت من الكامل لم نقف له على نسبة إلى قائل معين ، ولا على سابقه أو لاحقه ، وقوله «ما شد أنفسهم» تعجب ، والدمار ـ ككتاب ـ : ما وراء الرجل مما يجب عليه أن يحميه ويدفع عنه ، وسمى بذلك لما يجب على أهله من التذمر له ، ويقال : فلان حامى الذمار ، وفلان أمنع ذمارا من فلان ، والاستشهاد بالبيت فى قوله «ماشد أنفسهم» على أن أصله ما أشد أنفسهم ، فحذف الهمزة ، وذلك ضرورة من ضرائر الشعر

(٢) هذا بيت من المتقارب ، وقائله أبو الأسود الدؤلى ، وكان من حديثه أنه كان يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة وكان يتحدث إليها ، وكانت جميلة ، فقالت له يوما : يا أبا الأسود ، هل لك فى أن أتزوجك ؛ فإنى صناع الكف ، حسنة التدبير ،

٣٧

وإنما كثر ذلك فى رأيت وأخواته لكثرة الاستعمال ، ألا ترى إلى وجوب الحذف فى يرى ، وأرى يرى ـ كما يجىء ـ وعدم وجوبه فى أخواته من يسأل وينأى؟ فإذا دخلت على رأيت همزة الاستفهام شبهت بهمزة الإفعال ، فتحذف الهمزة جوازا ، وربما حذفت مع هل أيضا تشبيها لها بهمزة الاستفهام ، قال :

١٢٩ ـ صاح هل ريت أو سمعت براع

ردّ فى الضّرع ما قرى فى العلاب (١)

__________________

قانعة بالميسور؟ قال : نعم ، فلما تزوجها أسرعت فى ماله وأفشت سره ، فجمع أهلها فقال لهم :

أريت امرأ كنت لم أبله

...... البيت

فخاللته ثمّ أكرمته

فلم أستفد من لديه فتيلا

وألفيته حين جرّبته

كذوب الحديث سروقا بخيلا

ثم أشهدهم أنها طلقها

وأ رأيت : بمعنى أخبرنى ، وهو معنى مجازى من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب ، وقوله «لم أبله» معناه : لم أجربه ولم أختبره ، وفعله من باب نصر ، و «الخليل» فى الأصل الصديق الخالص المودة ، وأراد به امرأته ، والفتيل : الشىء الحقير. والاستشهاد بالبيت فى قوله «أريت» على أن أصله أرأيت ، فحذفت الهمزة التى هى عين الفعل ، وقرأ الكسائى «أريت الذى يكذب بالدين»

(١) هذا البيت لأسماعيل بن يسار مولى بنى تيم بن مرة تيم قريش من كلمة له أولها :

ما على رسم منزل بالجناب

لو أبان الغداة رجع الجواب

والرسم : ما بقى من آثار الديار لاصقا بالأرض ، والجناب : موضع بعينه ، وقرى : جمع ، والعلاب : جمع علبة ـ بضم العين وسكون اللام ـ وهى وعاء من

٣٨

وربما قدمت الهمزة التى لو بقيت بحالها لكان تخفيفها بالحذف ؛ استكراها للحذف ؛ فيقال فى يسألون : يأسلون ؛ لأن تخفيفها إذن بالقلب لا بالحذف ، قال :

١٣٠ ـ إذا قام قوم يأسلون مليكهم

عطاء فدهماء الّذى أنا سائله (١)

ومثله فى ييأس ياءس.

رجعنا إلى ما أصّلنا ؛ فنقول : وإن كانت الهمزة بعد الألف وقصدت التخفيف لم يجز الحذف إلا على اللغة القليلة التى ذكرنا ، نحو يشا فى يشاء ؛ لأن

__________________

جلد. ، وقيل : من خشب ، ويجمع على علب أيضا ، وعليه قول جرير :

لم تتلفّع بفضل مئزرها

دعد ولم تسق دعد فى العلب

والاستشهاد بالبيت فى قوله «هل ريت» على أن أصله هل رأيت ؛ فحذف الهمزة التى هى عين الفعل تشبيها لهل الاستفهامية بالهمزة لاشتراكهما فى المعنى ، ورواه فى اللسان

«*صاح يا صاح هل سمعت براع*»

ورواه صاحب الأغانى

«*صاح أبصرت أو سمعت براع*»

ولا شاهد فى البيت على الروايتين لما نحن بصدده ، ولكن فى رواية الأغانى حذف همزة الاستفهام ، وأصله «صاح أأبصرت» كما حذفها الكميت بن زيد الأسدى فى قوله :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا منّى وذو الشّيب يلعب

أراد «أو ذو الشيب يلعب» فحذف الهمزة ؛ بدليل أنه يروى «أذو الشيب يلعب».

(١) هذا بيت من الطويل ، ولم نقف له على خبر ، ولا على نسبة ، ولا على سابق أو لاحق ، ودهماء : علم ، يجوز أن يكون لأنسان ، أو لفرس ، وهو خبر مقدم ، والاسم الموصول بعده مبتدأ مؤخر ، وجملة «أنا سائله» لا محل لها صلة ، والاستشهاد بالبيت فى قوله «يأسلون» على أن أصله يسألون فقدم الهمزة التى هى عين الفعل على فاء الفعل استكراها لتخفيفها بالحذف

٣٩

الحذف حقه أن يكون بعد نقل حركة الهمزة إلى ما قبلها ، ونقل الحركة إلى ما قبلها محال ، وكذا لا يجوز قلبها واوا أو ياء ساكنة ؛ للساكنين [ولا متحركة](١) والإدغام ؛ لأن الألف لا يدغم كما يجىء فى بابه ، فلم يبق إلا جعله بين بين المشهور ؛ لأنه وإن كان قريبا من الساكن إلا أنه على كل حال متحرك ، وهذا أمر مضطر إليه عند قصد التخفيف ؛ لانسداد سائر أبواب وجوه التخفيف ، ولم يكن بين بين البعيد ؛ إذ لا حركة لما قبلها.

قوله «وإن كان صحيحا أو معتلا غير ذلك» أى : غير حروف العلة التى تقدم أنها لا تحتمل الحركة ؛ نقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها وحذفت ، وإنما لم تجعل بين بين لئلا يلزم شبه الساكنين ، فلا تجعل الهمزة بين بين إلا فى موضع لو كان مكانها فيه ساكن لجاز ، إلا مع الألف وحدها ، نحو قائل وكساء كما ذكرنا ؛ للضرورة ، ولم يبدلوها حرف علة بلا نقل حركة ولا بعد نقلها ، قال سيبويه : لأنهم كرهوا أن يدخلوها فى بنات الواو والياء ، وجوز الكوفيون وبعض البصريين ـ كأنى زيد ـ قلب الهمزة حرف علة من دون نقل الحركة على وجوه مختلفة من غير قياس وضبط ، فقالوا فى رفء مصدر (٢) رفأت : رفو ،

__________________

(١) فى الأصول التى بين أيدينا «وكذا لا يجوز قلبها واوا أو ياء ساكنة للساكنين والادغام ـ الخ» والصواب ما أثبتناه وذلك لأن الاستدلال على امتناع جميع الفروض التى تحتملها الهمزة ، وقد أبطل إمكان تخفيفها بنقل حركتها إلى ما قبلها بسبب أن ما قبلها غير قابل للحركة ، وبقى الكلام فى تخفيفها بالقلب واوا أو ياء ، وهذا يحتمل وجهين : أولهما أن تكون الواو أو الياء ساكنة ، وثانيهما أن تكون الواو أو الياء متحركة مع إدغام ما قبلها فيها ، وعدم جواز الأول لما يلزم عليه من التقاء الساكنين غير المغتفر ، وعدم جواز الثانى لما ذكره من أن الألف لا يدغم فيها

(٢) يقال : رفأ السفينة يرفؤها رفئا ـ من باب منع ؛ إذا أدناها من الشاطىء ، ورفأ الثوب يرفؤه رفئا ، إذا لأم خرقه وضم بعضه إلى بعض ، وأصلح ما وهى

٤٠