شرح شافية ابن الحاجب - ج ٢

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨

قوله «إنقحل» هو الشيخ القحل : أى اليابس ، وهو إنفعل ، ولولا الاشتقاق لكان كجردحل ؛ لأن النون فيه ليس من الغوالب ، والهمزة فى أول الرباعى أصل كإصطبل

قوله «وأفعوان أفعلان» (١) إنما ذلك لمجىء فعوة السم ، وأرض مفعاة ، ولولا

__________________

قلبا شاذا ، وقال الكوفيون : هو فوعل من «وأل» فقلبت الهمزة إلى موضع الفاء ، وقال بعضهم : فوعل من تركيب «وول» فقلبت الواو الأولى همزة. وتصريفه كتصريف أفعل التفضيل واستعماله بمن مبطلان لكونه فوعلا ، وأما قولهم : أولة ، وأولتان ؛ فمن كلام العوام وليس بصحيح ، وإنما لزم قلب واو «أولى» همزة على مذهب جمهور البصريين كما لزم فى نحو أواصل على ما يجىء فى التصريف ، وعند من قال هو من «وأل» أصل أولى وؤلى ، قلبت الواو همزة كما فى أجوه ، ثم قلبت الهمزة الثانية الساكنة واوا كما فى أومن ، ولهذا رجع إلى أصل الهمزة فى قراءة قالون (عاد لؤلى) لأنه حذفت الأولى وحركت لام التعريف بحركتها فزال اجتماع الهمزتين ، فأول كأسبق معنى وتصريفا واستعمالا ، تقول فى تصريفه : الأول ، الأولان ، الأولون ، الأوائل ، الأولى ، الأوليان ، الأوليات ، الأول. وتقول فى الاستعمال : زيد أول من غيره ، وهو أولهم ، وهو الأول ، ولما لم يكن لفظ أول مشتقا من شىء مستعمل على القول الصحيح لا مما استعمل منه فعل كأحسن ، ولا مما استعمل منه اسم كأحنك ـ خفى فيه معى الوصفية ؛ إذ هى إنما تظهر باعتبار المشتق منه واتصاف ذلك المشتق به ، كأعلم : أى ذو علم أكثر من علم غيره ، وأحنك : أى ذو حنك أشد من حنك غيره ، وإنما تظهر وصفية أول بسبب تأويله بالمشتق وهو أسبق ، فصار مثل مررت برجل أسد : أى جرىء ، فلا جرم لم تعتبر وصفيته إلا مع ذكر الموصوف قبله ظاهرا ، نحو يوما أول ، أو ذكر من التفضيلية بعده ظاهرة ؛ إذ هى دليل على أن أفعل ليس اسما صريحا كأفكل وأيدع ، فان خلا منهما معا ولم يكن مع اللام والاضافة دخل فيه التنوين مع الجر ؛ لخفاء وصفيته كما مر ، وذلك كقول على رضى الله عنه : أحمده أولا بادئا ، ويقال : ما تركت له أولا ولا آخرا» اه

(١) الذى ذكره المؤلف من مجىء «فعوة» بتقديم العين على الواو غير صحيح

٣٤١

ذلك لجاز أن يكون فعلوان كعنفوان ؛ لأن فيه ثلاثة غوالب غير الألف ، فانه لا كلام فى زيادته إذا أمكن ثلاثة أصول غيره : النون مع ثلاثة أصول ، وكذا الواو ، والهمزة ، فإن حكمت بزيادة الهمزة مع الواو فهو أفعوال ، ولم يأت فى الأوزان ، وإن حكمت بزيادة الهمزة مع النون فهو أفعلان كأستقان (١) وأقحوان (٢) وأسحوان (٣) وإن حكمت بزيادة الواو والنون فهو فعلوان كعنفوان ، فقد تردد بين الأفعلان والفعلوان فحكمنا بأنه أفعلان ؛ لشهادة الفعوة

__________________

والذى جاء هو «فوعة» بتقديم الواو ، وأفعى مما حدث فيه قلب مكانى. وكذا الأفعوان ، وأصل أفعى أفوع ، وأصل أفعوان أفوعان ، قال أبو العلاء : زعم سيبويه أن أكثر ما يستعمل أفعى اسما ؛ فيجب على هذا أن تنون أفعى ، والناس يقولونه بغير تنوين ، وكلا الوجهين حسن ، ويدل على أنه عندهم كالاسم لا الوصف قولهم فى الجمع : الأفاعى ، ولو كان الوصف غالبا عليه لقالوا : فعو ، فى الجمع ، كما قالوا : أقنى وقنو ، وإنما هو مقلوب كأنه أفوع من فوعة السم ، وهو حدته وسورته فقلب كما قالوا : عاث وعثا ، وتفعى الرجل إذا تنكر للقوم كأنه صار كالأفعى ، قال :

رأته على فوت الشّباب وإنّه

تفعّى لها إخوانها ونصيرها» اه

وقال فى اللسان : «وفوعة السم : حدته وحرارته. قال ابن سيده : وقد قيل : الأفعوان منه ، فوزنه على هذا أفلعان» اه والذى غر ابن الحاجب والرضى أن سيبويه قال : إن وزن أفعى أفعل ، وإن وزن أفعوان أفعلان (انظر الكتاب ح ٢ ص ٣١٧ ، ٣٤٥) وقد ذكر مثل ذلك الجوهرى فى الصحاح

(١) الاستقان بضم الهمزة والتاء بينهما سين مهملة ساكنة ـ كذا وقع فى جميع الأصول ، وقد بحثنا عن هذه الكلمة فى كتب اللغة والصرف التى بأيدينا فلم نعثر عليها ، ولعلها محرفة عن الأثعبان ، وهو الوجه الفخم فى حسن وبياض ووزنه أفعلان

(٢) الأقحوان : نبت طيب الريح حواليه ورق أبيض ووسطه أصفر ، وجمعه أقاح ، وتصغيره أقيحيان

(٣) الأسحوان : الجميل الطويل ، والكثير الأكل

٣٤٢

والمفعاة ، ولا دليل فى أفعى سواء صرفته أولا على أنه أفعل ؛ إذ يجوز أن يكون المنون ملحقا بجعفر كعلقى وغير المنون بنحو سلمى ، فقوله «لمجىء أفعى» فيه نظر

قوله «إضحيان» يقال : يوم إضحيان : أى مضىء ، وليلة إضحيانة ، من «ضحى» أى : ظهر وبرز ، ولو لا الاشتقاق هنا أيضا لعرفنا بعدم النظير أنه إفعلان كإسحمان لجبل ، وإربيان لنوع من السمك معروف بالروبيان ؛ لأن فعليان وإفعيالا لم يثبتا

قوله «خنفقيق» هو الداهية ، من الخفق ، وهو الاضطراب ؛ لأن فيها اضطرابا وقلقا لمن وقع فيها ، وهى أيضا مضطربة متزلزلة ، ولو لا الاشتقاق لجاز أن يكون التضعيف هو الزائد فقط ؛ لكونه غالبا فى الزيادة ، وتكون النون أصلية ؛ لأنها ليست من الغوالب ؛ فيكون خنفقيق ملحقا بسلسبيل بزيادة النون والتضعيف

قوله «عفرنى» هو الأسد القوى المعفّر لفريسته ، والعفر [بالتحريك] التراب ، ولو لا الاشتقاق لم نحكم إلا بزيادة الألف ؛ لأن النون ليست من الغوالب فى موضعها ، وهو ملحق بسفرجل ، ويقال للناقة : عفرناة

قال : «فإن رجع إلى اشتقاقين واضحين كأرطى وأولق حيث قيل : بعير آرط وراط ، وأديم مأروط ومرطىّ ، ورجل مألوق ومولوق جاز الأمران ، وكحسّان وحمار قبّان حيث صرف ومنع»

أقول : يجوز أن يكون أرطى فعلى ؛ لاشتقاق آرط ومأروط منه ، والألف للالحاق ؛ لقولهم أرطاة ، وأن يكون أفعل ، بدليل راط ومرطىّ ، والأرطى : من شجر البرّ يدبغ بورقه ، والأولق : الجنون ، يجوز أن يكون فوعلا ، بدليل مألوق ، وأن يكون أفعل بدليل مولوق

وقوله «جاز الأمران» أى : زيادة أول الحرفين وأصالة الأخير ، والعكس

٣٤٣

قوله «وكحسان وحمار قبّان (١)» فإن الأول يرجع إلى الحسن أو إلى الحسّ ، وهما اشتقاقان واضحان ، لجواز صرفه ومنع صرفه ، وكذا الثانى يرجع إلى القبب ، وهو الضّمور ، أو إلى القبن ، وهو الذهاب فى الأرض ، وهما أيضا فيه واضحان ؛ لجواز صرفه ومنع صرفه ؛ فجواز صرف الكلمتين وترك صرفهما دليل على رجوعهما إلى اشتقاقين واضحين

قال : «وإلا فالأكثر التّرجيح كملأك ، قيل : مفعل من الألوكة ، ابن كيسان : فعأل من الملك ، أبو عبيدة : مفعل من لأك : أى أرسل ، وموسى مفعل من أوسيت : أى حلقت ، والكوفيّون فعلى من ماس ، وإنسان فعلان من الأنس ، وقيل : إفعان من نسي ؛ لمجىء أنيسيان ، وتربوت فعلوت من التّراب عند سيبويه ؛ لأنّه الذّلول ، وقال فى سبروت : فعلول ، وقيل : من السّبر ، وقال فى تنبالة : فعلالة ، وقيل : من النّبل للصّغار ؛ لأنه القصير ، وسرّيّة قيل : من السّرّ ، وقيل : من السّراة ؛ ومئونة قيل : من مان يمون ، وقيل : من الأون ؛ لأنّها ثقل ، وقال الفرّاء : من الأين ، وأمّا منجنيق فإن اعتدّ بجنقونا فمنفعيل ، وإلّا فإن اعتدّ بمجانيق ففنعليل ، وإلّا فإن اعتدّ بسلسبيل على الأكثر ففعلليل ، وإلّا ففعلنيل ، ومجانيق يحتمل الثّلاثة ، ومنجنون مثله ، لمجىء منجنين ، إلّا فى منفعيل ، ولولا منجنين لكان فعللولا كعضر فوط ، وخندريس كمنجنين»

أقول : قوله «وإلا» أى : إن لم يكن فى الكلمة اشتقاق واضح ، بل فيها اشتقاق غير واضح ، كما فى تنبالة وتربوت وسبروت ، أو فيها اشتقاقان

__________________

(١) انظر (ص ٢٤٨ من هذا الجزء)

٣٤٤

أحدهما أوضح من الآخر ، كما فى ملك وموسي وسرّية ، فالأكثر أن فى كلا الموضعين الترجيح

ففى الأول : أى الذى فيه اشتقاق واحد غير واضح ، يرجّح بعضهم غلبة الزيادة أو عدم النظير على ذلك الاشتقاق إن عارضه واحد منهما ، وبعضهم يعكس ، ولا منع من تجويز الأمرين ، وإن لم يعارضه أحدهما فاعتباره أولى ؛ فمثال تعارض الاشتقاق البعيد وقلة النظير تنبالة ، قال سيبويه : هو فعلالة ، فان فعلالا كثير كسرداح (١) ، وتفعال قليل كتلقاء وتهواء ، كما ذكرنا فى المصادر ، ورجح بعضهم الاشتقاق البعيد فقال : هو تفعالة من النّبل ، وهو الصغار ؛ لأن القصير صغير ، وكذا فى سبروت (٢) ، رجّح سيبويه عدم النظير على الاشتقاق ، فقال هو فعلول كعصفور ، وليس بفعلوت لندرته ، والأولى ههنا كما ذهب إليه بعضهم ترجيح الاشتقاق والحكم بكونه فعلوتا ملحقا بعصفور ـ وإن ندر ـ بشهادة الاشتقاق الظاهر ، لأن السبروت الدليل الحاذق الذى سبر الطرق وخبرها ، وهذا اشتقاق واضح غير بعيد حتى يرجح عليه غيره ، ولم يحضرنى مثال تعارض الاشتقاق البعيد وغلبة الزيادة ، ومثال مالا تعارض لشىء منهما لا لعدم

__________________

(١) وقع فى جميع أصول الكتاب «كسرواح» بالواو قبل الألف ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه. والسرداح ومثله السرتاح : الناقة الكريمة

(٢) قال فى اللسان (س ب ر ت): «السبروت : الشىء القليل ، مال سبروت قليل ، والسبروت أيضا : المفلس ، وقال أبو زيد : رجل سبروت وسبريت ، وامرأة سبروتة وسبريتة ، إذا كانا فقيرين. والسبروت : الأرض الصفصف ، وفى الصحاح الأرض القفر ، والسبروت الطويل» اه بتصرف. وقال أيضا. فى مادة (س ب ر) : «والسبرور : الفقير كالسبروت ، حكاه أبو على وأنشد

تطعم المعتفين ممّا لديها

من جناها والعائل السّبرورا

قال ابن سيده : فأذا صح هذا فتاء سبروت زائدة» اه ، ولم نعثر فيما بين يدينا من كتب اللغة على أن السبروت بمعنى الدليل الحاذق كما قال المؤلف

٣٤٥

النظير ولا للغلبة تربوت ، فسيبويه اعتبر الغلبة والاشتقاق البعيد ، وقال : هو من التراب ، لأن التّربوت الذّلول ، وفى التراب معنى الذلة ، قال تعالى (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) وقال بعضهم : التاء بدل من الدال ، وهو من الدربة ، وهو قريب لو ثبت الإبدال ، ولو ترك اعتبار الاشتقاق أيضا لم يكن فعلولا كقربوس (١) ؛ لأن التاء من الغوالب

وفى الثانى : أى الذى فيه اشتقاقان أحدهما أوضح من الآخر. الأكثر ترجيح الأوضح ، وجوز بعضهم الأمرين ، وذلك نحو ملك وأصله ملأك بدليل قوله :

١٢١ ـ فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزل من جوّ السّماء يصوب (٢)

__________________

(١) القربوس : مقدم السرج المنحنى

(٢) نسب البغدادى هذا البيت لعلقمة بن عبدة المعروف بعلقمة الفحل ، ولعلقمة قصيدة على هذا الوزن والروى ، ومطلعها قوله :

طحابك قلب فى الحسان طروب

بعيد الشّباب عصر حان مشيب

يكلّفنى ليلى وقد شطّ وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

ولم يرو بيت الشاهد فى هذه القصيدة أحد ممن جمع ديوان علقمة ولا ممن شرحه ، ولكن بعض الناشرين لديوان علقمة مع شرح الاعلم زعم أن المفضل زاد فى هذه القصيدة أبياتا منها بيت الشاهد ، وقد رجعنا إلى المفضليات وإلى شرحها لابن الأنبارى فلم نعثر على هذا البيت فيما رواه أحدهما ، وقال ابن برى ـ كما فى اللسان ـ : البيت لرجل من عبد القيس يمدح النعمان ، وقيل : هو لأبى وجزة يمدح عبد الله بن الزبير ، وقيل : هو لعلقمة. والانسى : واحد الانس ، ويروى فى مكانه «لجنى» وهو واحد الجن ، وقوله «ولكن لملأك» روى فى مكانه صاحب اللسان «ولكن ملأكا» وخبر لكن على هذا محذوف : أى ولكن ملأكا أنت ، وقد يكون ملأكا على هذه الرواية معمول خبر لكن وقد حذف اسمها وخبرها جميعا ، والأصل ولكنك تشبه ملأكا ، أو نحو ذلك ، وجو السماء : هو الهواء الذى بينها وبين الأرض ، وبصوب : ينزل ، يريد إن أفعالك لا تشبه أفعال الأنس

٣٤٦

وأيضا بدليل قولهم فى الجمع ملائكة ألزموا الواحد التخفيف لكثرة استعماله ، كما ألزموا يرى وأرى ، فقال الكسائى : هو مفعل من الألوكة ، وهى الرسالة ، فالملك رسول من قبله تعالى إلى العباد ، وكذا ينبغى أن يقول فى قولهم «ألكنى إليه» أى كن رسولى إليه : إن أصله أألكنى ثم الئكنى ثم خفف بالنقل والحذف لزوما ، وقال أبو عبيدة : ملأك مفعل من لأكه أى أرسله ، فكأنه مفعل بمعنى المصدر جعل بمعنى المفعول ؛ لأن المصادر كثيرا ما تجعل بمعنى المفعول ؛ قال

١٢٢ ـ * دار لسعدى إذه من هواكا (١) *

أى : مهويّك ، و «ألكنى» عنده ليس بمقلوب ، وملأك عند الكسائى بمعنى الصفة المشبهة ، ومذهب أبى عبيدة أولى ؛ لسلامته من ارتكاب القلب ، وقال ابن كيسان : هو فعأل من الملك ؛ لأنه مالك للأمور التى جعلها الله إليه ، وهو اشتقاق بعيد ، وفعأل قليل لا يرتكب مثله إلا لظهور الاشتقاق ، كما فى شمأل

قوله : «موسى» موسى التى هى موسى الحديد عند البصريين من «أوسيت» أى حلقت ، وهذا اشتقاق ظاهر ، وهو مؤنث سماعى كالقدر والنار والدار ، قال :

__________________

فلست بولد إنسان إنما أنت ملأك ، أفعاله عظيمة لا يقدر عليها أحد. والاستشهاد بالبيت فى قوله «لملأك» حيث يدل على أن أصل الملك ملأك نقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ثم حذفت الهمزة ، وذلك كما يقولون فى مسألة مسلة ، ولكنهم التزموا هذا التخفيف فى ملك كما التزموه فى ذرية ونبى على المشهور من كلام النحاة ، وسيأتى فى باب تخفيف الهمزة

(١) هذا بيت من مشطو الرجز ، وقبله :

* هل تعرف الدّار على تبراكا*

وتبراك : موضع ببلاد بنى فقعس ، والاستشهاد بالبيت هنا فى قوله «هواكا» حيث استعمل المصدر بمعنى اسم المفعول كما استعمل الخلق بمعنى المخلوق فى قوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)

٣٤٧

١٢٣ ـ فإن تكن الموسى جرت فوق بظرها

فما ختنت إلّا ومصّان قاعد (١)

وهى منصرفة قبل العلمية غير منصرفة معها كعقرب ، ثم تنصرف بعد التنكير ، وقال أبو سعيد الأموى : هو مذكر لكونه مفعلا ، قال أبو عبيدة : لم يسمع التذكير فيه إلا من الأموى ، وجوز السيرافى اشتقاقه من «أسوت الجرح» أى أصلحته ، فأصله ، مؤسي بهمز الفاء ، وقال الفراء : هى فعلى ؛ فلا تنصرف فى كل حال ؛ لكونه كالبشرى ، وهو عنده من الميس ، لأن المزين يتبختر ، وهو اشتقاق بعيد ، قلبت عنده الياء واوا لانضمام ما قبلها ، على ما هو مذهب الأخفش (٢) فى مثله ، كما يجىء فى باب الاعلال

وأما موسى اسم رجل فقال أبو عمرو بن العلاء : هو أيضا مفعل ؛ بدليل إنصرافه بعد التنكير ، وفعلى لا ينصرف على كل حال ، وقال أيضا : إن مفعلا أكثر من فعلى ؛ فحمل الأعجمى على الأكثر أولى وهو ممنوع ؛ لأن فعلى يجىء مؤنثا لكل أفعل تفضيل ، ومفعل لا يجىء إلا من باب أفعل يفعل ، فهو عنده لا ينصرف [علما ؛ للعجمة والعلمية ، وينصرف (٣)] بعد التنكير كعيسى ، وقال الكسائى :

__________________

(١) هذا البيت لأعشى همدان من كلمة له أولها :

لعمرك ما أدرى وإنّى لسائل

أبظراء أم مختونة أمّ خالد

وبعده بيت الشاهد ، وبعده قوله :

ترى سوأة من حيث أطلع رأسه

تمرّ عليها مرهفات الحدائد

وفى بيت الشاهد الأقواء ، وهو اختلاف حركة الحرف الذى عليه روى القصيدة. والبيت فى هجاء خالد القسرى. والمصان : الحجام ، لأنه يمص الدماء ، ويقال : المراد بالمصان ابنها خالد ، من قولهم : ياماص بظر أمه ، وعلى الأول يهجوه بأن أمه متبذلة قليلة الحياء فكنى عن ذلك بأنه قد ختنها رجل ، وعلى الثانى يهجوه بأنها لم تخنتن حتى كبر ابنها

(٢) ليس هذا مذهب الأخفش وحده ، بل مذهب جميع النحاة

(٣) هذه الزيادة ـ قطة من جمع النسخ المطبوعة وقد أثبتناها وفاقا للخطيات

٣٤٨

هو فعلى فينبغى أن يكون ألفه للالحاق بجخدب ، وإلا وجب منع صرفه بعد التنكير

قوله «إنسان» الأولى أن يقال : فعلان ، وأنيسيان شاذ كعشيشيان ، على ما مر فى التصغير ، فهو مشتق من الأنس ؛ لأنه يأنس ، بخلاف الوحش ، وقيل : هو من الإيناس : أى الإبصار ، كقوله تعالى : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) لأنه يؤنس : أى يبصر ولا يجتن ، بخلاف الجن ، وقيل : إنسيان كإضحيان ، من النسيان ، إذ أصل الإنسان آدم ، وقد قال تعالى فيه : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ويقويه تصغيره على أنيسيان ، والاشتقاق من النسيان فى غاية البعد ، وارتكاب شذوذ التصغير كما فى لييلية أهون من ادعاء مثل ذلك الاشتقاق

قوله «وسرّيّة» الظاهر أنها مشتقة من السّر ، وضم السين من تغييرات النسب الشاذة ، كدهرىّ وسهلىّ ، وهو إما من السّر بمعنى الخفية ، لأنها أمة تخفى من الحرة ، وهذا قول أبى بكر بن السرىّ ، وإما من السّرّ بمعنى الجماع ؛ لأنها لذلك ، لا للخدمة ، وهذا قول السيرافى ، يقال : تسرّرت جارية ، وتسرّيت كتظنيت ، وقال الأخفش : هى من السرور ؛ لأنه يسربها ، وقيل : هو من السّرىّ : أى المختار ؛ لأنها مختارة على سائر الجوارى ، وقيل : من السّراة ، وهى أعلى الشىء ؛ لأنها تركب سراتها ، فهى على هذين القولين فعّيلة كمرّيق ، وهو العصفر ، وهذا وزن نادر ، وأيضا قولهم : «تسرّرت» براءين ـ يمنعهما ، وإن كان تسرّيت يوافقهما

قوله «ومئونة» يقال : هو [من] «مانه يمونه» إذا احتمل مئونته وقام بكفايته ، وهذا اشتقاق ظاهر ، وأصله موونة بالواو ، قلبت الواو المضمومة همزة ، وقيل : هو من الأون ، وهو أحد العدلين ؛ لأن المئونة ثقل ؛ فهمزته أصلية ؛ وأصله مأونة

٣٤٩

كمكرمة ، وهو أبعد من الاشتقاق الأول ؛ لأن الثقل لازم المئونة فى الأغلب ، وقال الفراء : هو من الأين ، وهو الإعياء ، وهو أبعد من الاشتقاق الثانى ، وأصله مأينة ، نقلت الضمة إلى ما قبلها ، وقلبت الياء واوا ، على ما هو أصل الأخفش

قوله «فإن اعتد بجنقونا» حكى الفراء «جنقناهم» وزعم أن المنجنيق مولّدة : أى أعجمية ، وهم إذا اشتقوا من الأعجمى خلّطوا فيه ؛ لأنه ليس من كلامهم ، فقولهم «جنقونا» وقول الأعرابى «كانت بيننا حروب عون ، تفقأ فيها العيون ، مرة نجنق ، وأخرى نرشق» (١) من معنى منجنيق ، لا من لفظه ، كدمث ودمثر (٢) ، وثرّة وثرثار ، وإنما تجنبوا من كونه من تركيب جنق لأن زيادة حرفين فى أول اسم غير جار على الفعل كمنطلق قليل نادر عندهم ، وذلك كإنقحل ، وكون منجنيق منفعيلا لشبهة جنقونا مذهب المتقدمين

قوله «وإلا» أى : وإن لم يعتد نجنقونا كما ذكرنا ، فإن اعتد بمجانيق فهو فنعليل ؛ لأن سقوط النون فى الجمع دليل زيادته ، فإذا ثبت زيادة النون فالميم أصل ؛ لئلا يلزم زيادة حرفين فى أول اسم غير جار على الفعل

قوله «وإلا» أى : وإن لم يعتد بمجانيق ، فيه نظر ، وذلك لأنه جمع منجنيق عند عامة العرب ، فكيف لا يعتد به؟ وفى الجمع لا يحذف من حروف

__________________

(١) هذا من كلام أعرابى وقد سئل : كيف كانت حروبكم؟ فقاله ، والعون : جمع عوان ، وهى الحرب التى تقدمتها حرب أخرى ، ونجنق : نرمى بالمجانيق ، ونرشق : ترمى بالسهام ، والمجانيق : جمع منجنيق ـ بفتح الميم وكسرها ـ ومثله المنجنون ، وهى القذافة التى ترمى بها الحجارة ، وهو أعجمى معرب. وهى مؤنثة ؛ قال زفر بن الحرث :

لقد تركتنى منجنيق ابن بحدل

أحيد عن العصفور حين يطير

(٢) الدمث : السهل الخلق ، وبابه فرح ، ودماثه أيضا ، وأصل ذلك من الدمث بمعنى الأرض السهلة اللينة التى لا يشق السير عليها ، والدمثر ـ كسبطر ، وعليط وجعفر ـ بمعناه

٣٥٠

مفرده الأصول إلا الخامس منها ، فحذفهم النون بعد الميم دليل على زيادتها ، وليس مجانيق كجنقونا حتى لا يعتدّ به ؛ لأن ذلك حكاية عن بعض الأعراب ، ومجانيق متفق عليه ، وكونه فنعليلا مذهب سيبويه ، وإنما حكم بذلك لأنه ثبت له بجمعه على مجانيق زيادة النون وأصالة الميم كما ذرنا ، ولم يحكم بزيادة النون الثانية أيضا لوجهين : أحدهما ندور فنعنيل ، بخلاف فنعليل كعنتريس ، وهى الناقة الشديدة ، من العترسة وهى الشدة ، والثانى أن الأصل أصالة الحروف ، إلا أن يقوم على زيادتها دليل قاهر

قوله «فان اعتدّ بسلسبيل على الأكثر» يعنى إن ثبت فى كلامهم فعلليل بزيادة الياء فقط ، وذلك أن أكثر النحاة على أن سلسبيلا فعلليل ، وقال الفراء : بل هو فعفليل ، وكذا قال فى درد بيس ، وذلك لتجويزه تكرير حرف أصلى مع توسط حرف [أصلى] بينهما ، كما مر ، وفى قول المصنف هذا أيضا نظر ، وذلك لأن فعلليلا ثابت ، وإن لم يثبت أن سلسبيلا فعلليل ، وذلك بنحو برقعيد لقصبة فى ديار ربيعة ، وعلطميس (١) للشابة. ولو لم يجمع منجنيق على مجانيق لكان فعلليلا ، سواء ثبت بنحو برقعيد فعلليل أولا ، وذلك لأن جنقونا كما قلنا غير معتد به ، والأصل أن لا نحكم بزيادة حرف إلا إذا اضطررنا إليه : إما بالاشتقاق ، أو بعدم النظير ، أو بغلبة الزيادة

فان قيل : إذا لزم من الحكم بزيادة حرف وزن غريب ، ومن الحكم بأصالته وزن [آخر] غريب ، فالحكم بزيادته أولى ، لأن ذوات الزوائد أكثر من أبنية الأصول

قلت : ذاك إن لم يكن فى اللفظ زائد متفق عليه ، والياء فى نحو منجنيق

__________________

(١) فى القاموس : العلطميس ـ كزنجبيل ـ : من النوق الشديدة الغالية ، والهامة الضخمة الصلعاء ، والجارية التارة الحسنة القوام ، والكثير الأكل الشديد البلع

٣٥١

مقطوع بزيادته ، فمثل هذا البناء على أىّ تقدير كان من ذوات الزوائد ، فلو لم يثبت مجانيق لكنا نجمع منجنيقا على مناجن بحذف الحرف الأخير كسفارج

قوله «وإلا ففعلنيل» يعنى إن لم يثبت أن سلسبيلا فعلليل ، بل كان فعفليلا كما قال الفراء فمنجنيق فعلنيل ، وفى هذا كما تقدم نظر ؛ لأنه وإن لم يثبت كون سلسبيل فعلليلا بنحو برقعيد وعلطميس فهو وزن ثابت على كل حال

قوله «ففعلنيل» لأن الوجوه العقلية المحتملة سبعة ، وذلك لأن الميم إما أصلية أو زائدة ، فان كانت أصلية فان كان النونان أيضا كذلك فهو فعلليل ، وإن كانا زائدين فهو فنعنيل من مجق ، وإن كان الأول أصلا دون الثانى فهو فعلنيل من منجق ، وإن كان العكس فهو فنعليل من مجنق ، وإن كان الميم زائدا فان كان النونان أصليين فهو مفعليل من نجنق ، وإن كان الأول أصلا دون الثانى فهو مفعنيل من نجق ، وإن كان العكس فهو منفعيل من جنق ، ومع زيادة الميم لا يجوز أن يكون النونان أيضا زائدين لبقاء الكلمة على أصلين وهما الجيم والقاف ، والياء زائدة على كل تقدير ؛ إذ أمكن اعتبار ثلاثة أصول دونها ، فمن هذه السبعة الأوجه لا يثبت فعلليل إن لم يثبت سلسبيل على الأكثر على ما ادعى المصنف ، وقد ذكرنا ما عليه ، ومنفعيل بعيد لاجتماع الزيادتين فى أول الاسم غير الجارى ، وكذا مفعليل ؛ إذ لا يزاد الميم فى الأول مع أربعة أصول بعدها كما يجىء إلا فى الجارى على الفعل ، مع غرابة الوزنين ، أعنى منفعيلا ومفعليلا ، فيبقى بعد الثلاثة : فنعنيل ، وفعلنيل ، ومفعنيل ، وفنعليل ، والكل نادر ، إلا فنعليلا كعنتريس

قوله «ومجانيق يحتمل الثلاثة» لأنه إن كانت الميم زائدة فهو مفاعيل لا غير ، وإن كانت أصلية فهو إما فعاليل أو فعانيل (١) ، والثانى لم يثبت ، فهو إما مفاعيل

__________________

(١) أنت تعلم أن ابن الحاجب رحمه‌الله قد بنى كلامه فى منجنيق على وجهين : الأول أن يعتد بقولهم : جنقونا ، والثانى أن لا يعتد به ، وأنه حكم على منجنيق على الوجه الأول

٣٥٢

على ما اختاره بعضهم فى منجنيق أنه من جنق ، وإما فعاليل على ما اختار سيبويه فى منجنيق ، وأظن أن هذا اللفظ ـ أعنى «ومجانيق يحتمل الثلاثة» ـ ليس من المتن ، إذ لا فائدة فيه لأن الجمع يعتبر وزنه بوزن واحده ويتبعه فى أصالة الحروف وعدم أصالتها ، ولا يكون له حكم برأسه ، ولم يتعرض المصنف فى الشرح لهذا اللفظ ، ولو كان من المتن لشرحه

قوله «ومنجنون مثله» [أى مثل] منجنيق فى احتمال الأوجه المذكورة ، وذلك لكون منجنين ، وهو لغة فى منجنون ، يحتمل الأوجه المذكورة ؛ لكونه كمنجنيق ، إلا أن إحدى اللامين فيه لا بد من الحكم بزيادتها إذا حكمت بأصالة الميم والنون الأولى معا أو بأصالة إحداهما ؛ لأن التضعيف لا يكون أصلا مع ثلاثة أصول دونه أو أربعة ، كما مر فى أول الكتاب ، ويسقط من الأوجه السبعة فنعنيل وفعلنيل ومفعنيل ، ويجىء فعلليل وفنعليل ومفعليل ومنفعيل ، ويستبعد منفعيل كما ذكرنا فى منجنيق ، ولم يجىء جن فى منجنين كما جاء جنق فى منجنيق حتى يرتكب هذا الوزن المستبعد ، ومفعليل غريب ، وفعلليل ثابت

__________________

بأنه على زنة «منفعيل» فأصوله الجيم والنون التى بعدها والقاف ، والميم والنون الواقعتان فى أول الكلمة زائدتان ، وعلى الوجه الثانى بأنه يحتمل «فنعليلا» فالميم والجيم والنون الثانية والقاف أصول ، والنون الأولى والياء زائدتان ، ويحتمل «فعلليلا» فالزائد الياء ويحتمل «فعلنيلا» فالنون الثانية والياء زائدتان ، وعلى هذا يكون قوله «ومجانيق يحتمل الثلاثة» إشارة إلى الأوزان المذكورة بعد عدم الاعتداد بجنقونا ، وعلى هذا يكون «مجانيق» إما على زنة «فعاليل» إن كان مفرده «فنعليلا» أو «فلاليل» إن كان مفرده «فعلليلا» ، أو يكون على زنة «فلانيل» إن كان مفرده «فعلنيلا» ومن هذا كله يتبين لك أن قول الرضى «أو فعانيل» خطأ ، والصواب أن يقول «إما فعاليل أو فلاليل أو فلانيل» ، وقوله «لأنه إن كانت الميم زائدة فهو مفاعيل لا غير» لا يدخل فى شرح هذه العبارة من كلام المصنف ولكنه من تتمة الفروض فى هذه الكلمة

٣٥٣

كبرقعيد ، فمنجنين إما فعلليل ملحق ببرقعيد بتكرير اللام والنون الأولى أصلية فيكون كعرطليل ، والعرطل والعرطليل : الطويل ، وإما فنعليل ملحق به أيضا بزيادة النون وتكرير اللام ، فهو كخنشليل (١) وقد ذكر سيبويه فى منجنون أيضا مثل هذين الوجهين ، فقال مرة : هو ملحق بعضرفوط (٢) بتكرير النون ، فيكون رباعيا ملحقا بالخماسى ، وقال مرة : إنه ملحق بعضرفوط بزيادة النون الأولى وإحدى النونين الأخيرين ، فهو إذن ثلاثى ملحق بخماسى ، والأولى الحكم عليه بفعللول وعلى منجنين بفعلليل ؛ لعدم الدليل على زيادة النون الأولى ، والأولى الحكم بأصالة الحرف ما لم يمنع منه مانع ، وأما إحدى النونين الأخيرين فالغلبة دالة على زيادتها ، وجمع منجنون ومنجنين على مناجين ، كذا يجمعهما عامة العرب ، سواء كان فنعلولا أو فعللولا ؛ لأن حذف إحدى النونين الأخيرين لكونها طرفا أو قريبة من الطرف أولى من حذف النون التى بعد الميم ، والظاهر أن الزائد من المكرر هو الثانى كما يجىء ، إذ لو كان الأول لجاز مناجن ومناجين ، بالتعويض من المحذوف وترك التعويض (٣) ، كما فى سفارج وسفاريج ،

__________________

(١) الخنشليل : المسن ، ويقال : عجوز خنشليل ، إذا كانت مسنة وفيها بقية

(٢) العضر فوط : دويبة (انظر ج ١ ص ٩ ، ٥١)

(٣) اعلم أن منجنونا إما أن يكون «فنعلولا» وإما أن يكون «فعللولا» ومعنى هذا أن الميم فى أولها أصل والواو بين النونين الأخيرتين زائدة ، والنون التى بعد الميم زائدة على الأول أصلية على الثانى ، وإحدى النونين الأخريين زائدة على الخلاف الآنى ذكره فى كلام المؤلف ، ثم اعلم أن مناجين الذى سمع فى جمعه لا يقطع بالدلالة على زيادة أولى النونين الأخريين ، كما لا يقطع بزيادة ثانيتهما ، وبيان ذلك أنك إن فرضت زيادة أولاهما وأردت جمعه وجب أن تقول : مناجين ، بحذف هذه النون الزائدة وقلب الواو ياء لأنها مد قبل الآخر الأصلى ، وإن فرضت ، زيادة الثانية جاز لك أن تقول فى الجمع : مناجين ، فتحذف النون الأخيرة والواو التى قبلها ثم تعوض عن المحذوف ياء قبل الآخر ، فالفرق بين الحالين أن الياء على الأول واجبة ، وهى منقلبة عن الواو ، وعلى الثانى جائزة ، وهى زائدة للعوض ، ومن هنا تعلم أن كلام المؤلف فاسد ؛ لأنه علل الحكم بزيادة الثانية بالتزامهم مناجين ، ووجه فساده أن هذا الالتزام لا يقطع بأحد الوجهين وإنما يكون مرجحا ، ثم هو يرجح الذى نفاه المؤلف وهو أن الأولى هى الزائدة ، وهذا بعينه يجرى فى منجنين

٣٥٤

قوله «ولو لا منجنين لكان فعللولا» يعنى منجنين كمنجنيق فيحتمل جميع ما احتمله منجنيق من الأوزان ؛ فلذلك يحتمل منجنون ما احتمله منجنين ، ولو لا منجنين لكان منجنون كعضر فوط ، وهذا قول فيه ما فيه ؛ وذلك أنابينا أن منجنينا لا يحتمل إلا فعلليلا على الصحيح ، وفنعليلا على زيادة النون الأولى كما أجاز سيبويه ، وقد ضعفناه ، وكذ منجنون فعللول على الصحيح ، وفنعلول على ما أجازه سيبويه ، وعلى كلا التقديرين هو ملحق بعضرفوط ؛ فما معنى قوله «ولو لا منجنين لكان فعللولا» وهو مع وجوده فعللول أيضا؟

قوله «وخندريس (١) كمنجنين» لا شك فى زيادة إحدى النونين الأخيرين فى منجنين ، وليس ذلك فى خندريس ، ونون خندريس أصل على الصحيح ؛ لعدم قيام الدليل على زيادتها ؛ ومن قال فى منجنين إنه فنعليل كعنتريس لم يمتنع أن يقوله فى خندريس أيضا

هذا آخر ما ذكره المصنف من حكم الاشتقاق

وتقسيمه أن يقال : إن كان فى الاسم اشتقاق فهو إما واحد أولا ، والواحد إما ظاهر أولا ، والذى فوق الواحد إما أن يكون الجميع ظاهرا ، أو الجميع غير ظاهر ، أو بعضه ظاهرا دون الآخر

فالواحد الظاهر يحكم به كما فى رعشن (٢) وبلغن

__________________

(١) الخندريس : القديم من الحنطة ومن الخمر ؛ قال ابن دريد : «أحسبه معربا»

(٢) انظر (ح ١ ص ٥٩) وانظر أيضا (ص ٣٣٣ من هذا الجزء)

٣٥٥

والواحد غير الظاهر إن عارضه مرجح آخر من الغلبة أو خروج الكلمة عن الأصول اختلف فيه : هل يحكم به أو بالمرجح [الآخر]؟ وإن لم يعارضه فهل يحكم بالاشتقاق أو بكون الأصل أصالة الحروف؟ فيه تردد

وما فوق الواحد إن كانا ظاهرين احتملهما كأولق ، وإن كان أحدهما ظاهرا دون الآخر فالأولى ترجيح الظاهر كما فى مؤونة وسرّيّة ، وإن كانا خفيين وفيه مرجح آخر فهل يحكم بأحدهما أو بالمرجح الآخر؟ فيه التردد المذكور ؛ فإن حكم بهما : فان استويا احتملهما ، وإن كان أحدهما أظهر حكم به ، وإن لم يكن فيه مرجح آخر حكم بهما على الوجه المذكور

وإنما قدم الاشتقاق المحقق على الغلبة وعدم النظير وكون الأصل أصالة الحروف لأن المراد بالاشتقاق كما ذكرنا اتصال إحدى الكلمتين بالأخرى كضارب بالضرب ، أو اتصالهما بأصل كضارب ومضروب بالضرب ، وهذا الاتصال أمر معنوى محقق لا محيد عنه ، بخلاف الخروج عن الأوزان ؛ فإنه ربما تخرج الكلمة عن الأوزان بنظر جماعة من المستقرئين ، ولا تخرج فى نفس الأمر ؛ إذ ربما لم يصل إليهم بعض الأوزان ، وبتقدير الخروج عن جميع الأوزان يجوز أن تكون الكلمة شاذة الوزن ، وكذا مخالفة غلبة الزيادة لا تؤدى إلى مستحيل ، بل غاية أمرها الشذوذ ومخالفة الأكثر ، وكذا مخالفة كون أصل الحروف الأصالة

ثم إن فقدنا الاشتقاق ظاهرا أو خفيا نظرنا : فإن كان حرف الكلمة الذى هو من حروف «سألتمونيها» من الغوالب فى الزيادة كما سيجىء ، أو كان الحكم بأصالة ذلك الحرف يزيد بناء فى أبنية الرباعى أو الخماسى الأصول ، أعنى المجردة عن الزائد ؛ أىّ الأمرين كان حكمنا بزيادة ذلك الحرف ، ولا نقول : إن الأصل أصالة الحرف ؛ لأن الأمرين المذكورين مانعان من ذلك الأصل

٣٥٦

ولو تعارض الغلبة وعدم النظير رجّحنا الغلبة ، كما لو كان الحكم بزيادة الغالب يؤدى إلى وزن مجهول والحكم بأصالته لا يؤدى إلى ذلك ، حكمنا بزيادة الغالب ، كما نقول فى سلحفية (١) فعلّية ، وهو وزن غريب ، وفعلّلة كقذعملة غير (٢) غريب ، وذلك لأنا نقول إذن : هذا الغريب ملحق بسبب هذه الزيادة بذلك الذى هو غير غريب

فنقول : إن كان الحكم بأصالة الغالب يؤدى إلى وزن غريب فى الرباعى أو الخماسى المجردين عن الزائد ، والحكم بزيادته يؤدى إلى غريب آخر فى ذى الزيادة كتتفل (٣) ؛ فإن فعللا بضم اللام وتفعلا نادران ، وكذا قنفخر (٤) فإن فعللّا وفنعلّا غريبان ، حكمنا بزيادة الغالب ؛ لأن الأوزان المزيد فيها أكثر من المجرد ، إلا المزيد فيه من الخماسى ؛ فإنه لا يزيد زيادة بينة على المجرد من أبنية الخماسى ، كما تبين قبل ، لكن المزيد فيه منه لا يلتبس بالمجرد من الزيادة ؛ إذ الاسم المجرد لم يأت فوق الخماسى

وإن كان الحكمان لا يزيد واحد منهما بناء غريبا ، فالحكم بزيادة الغالب واجب ؛ لبقاء مرجح الغلبة سليما من المعارض

__________________

(١) انظر (ح ١ ص ٢٦١ ه‍ ٣)

(٢) انظر (ح ١ ص ٥١)

(٣) التنفل ـ بفتح التاء الأولى وسكون الثانية وضم الفاء ، أو بضمتين بينهما سكون ، أو بكسر أوله وفتح ثالثه ، أو بفتح الأول والثالث ، أو بكسرهما ـ : الثعلب ، وقيل : ولده

(٤) القنفخر ـ بضم القاف وسكون النون وفتح الفاء وسكون الخاء ، ويكسر أوله أيضا ـ : الفائق فى نوعه ، والتار الناعم ، وأصل البردى ؛ ولم يحك فى القاموس إلا مكسور الأول ـ كجردحل ؛ ومثله القفاخر ـ كعلابط ، والقفاخرى بزيادة ياء مشددة

٣٥٧

وإن كان الحكم بأصالته يزيد بناء نادرا دون الحكم بزيادته تعين الحكم بالزيادة أيضا ؛ لتطابق المرجحين على شىء واحد

وإن كان الأمر بالعكس : أى الحكم بزيادته يؤدى إلى زيادة بناء غريب دون الحكم بأصالته ؛ حكم بزيادة الغالب للإلحاق ، كما ذكرنا فى سلحفية ، لأنه كأنه فعلّلة ؛ لكونه ملحقا به

وإن كان الحكم بأصالة الغالب والحكم بزيادته يزيد كل واحد منهما وزنا نادرا فى ذى الزيادة لا فى المجرد عنها حكمنا بزيادة الغالب أيضا ، لثبوت المرجح بلا معارض

فإن كان الحكمان لا يزيد شىء منهما بناء غريبا فى المزيد فيه ، أو يزيد فيه أحدهما دون الآخر ؛ حكمنا بزيادة الغالب ؛ لما ذكرنا الآن سواء

وأمثلة التقديرات المذكورة لم تحضرنى فى حال التحرير

فعلى ما ذكرنا إذا تعارض الغلبة وعدم النظير يرجح الغلبة ، كما يجىء فى سلحفية ، ففى تقديم المصنف عدم النظير كما يجىء من كلامه على الغلبة نظر

هذا ، وإن كان الحرف من حروف «سألتمونيها» ليس من الغوالب ، ولا يؤدى أصالته إلى عدم النظير ؛ فلا بد من الحكم بأصالته ، بلا خلاف ، كما حكمت بأصالة الهاء والميم من درهم ولام سفرجل وميم علطميس وسينه ، وهذا الذى ذكرنا كله إذا لم يتعدد الغالب ؛ فإن تعدد فيجىء حكمه

قال : «فإن فقد فبخروجها عن الأصول ، كتاء تتفل وترتب ونون كنتأل وكنهبل ، بخلاف كنهور ونون خنفساء وقنفخر ، أو بخروج زنة أخرى لها : كتاء تتفل وترتب مع تتفل وترتب ، ونون قنفخر وخنفساء مع قنفخر وخنفساء ، وهمزة ألنجج مع ألنجوج»

أقول : التتفل ولد انثعلب ، يقال : أمر ترتب : أى راتب ثابت من رتب

٣٥٨

مرتوبا : أى ثبت ، وما كان له أن يعده فى المفقود اشتقاقه ؛ إذ اشتقاقه ظاهر كما قلنا ، الكنتأل بالهمز : القصير ، الكنهبل : من أشجار البادية ، الكنهور : العظيم من السحاب ، القنفخر : الفائق فى نوعه ، الألنجج والألنجوج (١) واليلنجوج : العود

قوله «فإن فقد» أى : الاشتقاق الظاهر والخفى

قوله «فبخروجها عن الأصول» أى : يعرف زيادة الحرف بخروج زنة الكلمة بتقدير أصالة الحرف ، لا بتقدير زيادته عن الأصول : أى الأوزان المشهورة المعروفة ، هذا ، وليس مراده بالأصول أوزان الرباعى والخماسى المجردة عن الزوائد ، بدليل عده ألنجوجا وخنفساء ـ بفتح الفاء ـ فى الأوزان الأصول ، وهذه الكلمات التى ذكرها لم يعارض عدم النظير فيها بالغلبة ، لأن الحروف المذكورة ليس شىء منها من الغوالب ، إلا همزة ألنجوج ، ولا تعارض فى ألنجوج بين الغلبة وعدم النظير ؛ لأن عدم النظير لا يرجح إذا كان يلزم بكلا التقديرين زيادة وزن فى المزيد فيه ؛ إذ لا يمكن الخلاص من عدم النظير أيضا فى المزيد فيه : حكمت بزيادة الحرف أو بأصالته ؛ فالترجيح فى هذه الكلمات بعدم النظير على كون الأصل أصالة الحرف

__________________

(١) قال فى اللسان : «والألنجج ، واليلنجج : عود الطيب ، وقيل : هو شجر غيره يتبخر به ، قال ابن جنى : إن قيل لك إذا كان الزائد إذا وقع أولا لم يكن للألحاق فكيف ألحقوا بالهمزة فى «ألنجج» وبالياء فى «يلنجج» والدليل على صحة الألحاق ظهور التضعيف ، قيل : قد علم أنهم لا يلحقون بالزائد من أول الكلمة إلا أن يكون معه زائد آخر فلذلك جاز الألحاق بالهمزة والياء فى «ألنجج» و «يلنجج» لما انضم إلى الهمزة والياء النون ، والألنجوج واليلنجوج كالألنجج واليلنجج : عود بتبخر به به ، وهو يفنعل وأفنعل ، وقال اللحيانى : عود يلنجوج وألنجوج وألنجج ، فوصف بجميع ذلك ، وهو عود طيب الريح» اه

٣٥٩

وكان ينبغى أن لا يذكر المصنف ههنا إلا ما يخرج عن الأصول بأحد التقديرين دون الآخر ؛ لأنه يذكر بعد هذا ما يخرج عن الأصول بالتقديرين معا ، وهو قوله «فإن خرجتا معا» ، وتتفل وترتب ، يخرج عن الأصول بكلا التقديرين ؛ إذ ليس فى الأوزان الاسمية تفعل وفعلل ، وكذا كنتأل ؛ لأن فعللّا وفعلألا وفنعلّا نوادر ، وكذا كنهبل ؛ لأن فعلّلا وفنعللا نادران ، وكذا خنفساء ؛ لأن فعللاء وفنعلاء غريبان ، وكذا ألنجوج ؛ لأن فعنلولا وأفنعولا شاذان

قوله «بخلاف كنهور» يعنى لو جعلنا نون كنتأل أصلا لكان فعللّا وهو نادر بخلاف نون كنهور ، فإنا إذا جعلناه أصلا كان فعلولا ملحقا ـ بزيادة الواو ـ بسفرجل فلا يكون نادرا ، فلذا جعلنا نونه أصلا دون نون كنتأل

قوله «أو بخروج زنة أخرى لها» أى : إذا كان فى كلمة لغتان وبتقدير أصالة حرف من حروف سألتمونيها فى إحدى الزنتين لا تخرج تلك الزنة عن الأصول لكن الزنة الأخرى التى لتلك الزنة تخرج عن الأصول بأصالة ذلك الحرف حكمنا بزيادة ذلك الحرف فى الزنتين معا ، فإن تتفلا بضم التاء الأولى كان يجوز أن يكون كبرثن فلا يخرج عن الأصول بتقدير أصالة التاء ، لكن لما خرجت تتفل بفتح التاء عن الأصول بتقدير أصالتها حكمنا بزيادة التاء فى تتفل ـ بضم التاء أيضا تبعا للحكم بزيادتها فى تتفل ـ بفتحها ، وكذا تاء ترتب ، وكذا نون قنفخر ـ بكسر القاف ، وإن كان يجوز أن يكون فعللّا كجردحل ، وكذا نون خنفساء ـ بضم الفاء ، وإن لم يمتنع لو لا اللغة الأخرى أن يكون كقرفصاء ، وكذا همزة ألنجج وإن جاز أن يكون فعنللا ؛ حكمنا بزيادة الحروف المذكورة لثبوت زيادتها فى اللغات الأخر ، والحق الحكم بأصالة نون خنفساء فى اللغتين ؛ لأن وزن الكلمة على التقديرين من أبنية المزيد فيه ؛ إذ الألف

٣٦٠