شرح شافية ابن الحاجب - ج ٢

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨

قوله «فى الابتداء خاصة» لأن مجيئها لتعذر الابتداء بالساكن ، فإذا لم يبتدأ به لوقوع شىء قبله لم يحتج إلى الهمزة ، بل إن كان آخر الشيء ـ إن كان أكثر من حرف كغلام الرجل ، أو ذلك الشىء إن كان على حرف واحد ـ متحركا ، نحو والله ؛ اكتفى به ، وإن كان ساكنا حرك ، نحو قل الله والاستغفار

قوله «مكسورة» الكوفيون على أن أصل الهمزة السكون ؛ لأن زيادتها ساكنة أقرب إلى الأصل ؛ لما فيها من تقليل الزيادة ، ثم حركت بالكسر كما هو حكم أول الساكنين إذا لم يكن مدّا المحتاج إلى حركته ، وظاهر كلام سيبويه

__________________

وبلا مال فلجعلهم «لا» خاصة من جميع ما هو على حرفين كجزء الكلمة ؛ فلذا يقولون : اللافرس واللانسان ، وأما نحو «بهذا» و (فَبِما رَحْمَةٍ) فأن الفاصل بين العامل والمعمول ما لم يغير معنى ما قبله ولا معنى ما بعده عد الفصل به كلا فصل ، وللامتزاج التام بين اللام وما دخلته كان نحو الرجل مغايرا لرجل حتى جاز تواليهما فى قافيتين ولم يكن إيطاء ، وإنما وضعت اللام ساكنة ليستحكم الامتزاج ، وأيضا دليل التنكير : أى التنوين ؛ على حرف ، فالاولى كون دليل التعريف مثله ، وقال الخليل : أل بكمالها آلة التعريف ، نحو هل وقد استدل بفتح الهمزة ، وقد سبق العذر عنه ، وبأنه يوقف عليها فى التذكر ، نحو قولك أل إذا تذكرت ما فيه اللام كالكتاب وغيره ، وبفصلها عن الكلمة والوقف عليها عند الاضطرار ، كالوقف على قد فى نحو قوله :

أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد

وذلك قوله :

يا خليلىّ اربعا واستخبرا

المنزل الدّارس من أهل الحلال

وإنما حذف عنده همزة القطع في الدرج لكثرة الاستعمال ، وذكر المبرد فى كتاب الشافى أن حرف التعريف الهمزة المفتوحة وحدها ، وإنما ضم اللام إليها لئلا يشتبه التعريف بالاستفهام ، وفى لغة حمير ونفر من طىء إبدال الميم من لام التعريف كما روى النمر بن تولب عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس من امبر امصيام فى امسفر» اه

٢٦١

يدل على تحركها فى الأصل ؛ لقوله : فقدّمت الزيادة متحركة لتصل إلى التكلم بها ، وهو الأولى ؛ لأنك إنما تجلبها لاحتياجك إلى متحرك ؛ فالأولى أن تجلبها متصفة بما يحتاج إليه : أى الحركة ، وأيضا فقد تقدم أن التوصل إلى الابتداء بالساكن بهمزة خفية مكسورة من طبيعة النفس

قوله : «ضمة أصلية» ليدخل نحو اغزى ، ويخرج نحو ارموا وامرؤ وابنم وإنما ضموا ذلك لكراهية الانتقال من الكسرة إلى الضمة وبينهما حرف ساكن ، وليس فى الكلام مثله ، كما ليس فيه فعل ، فاذا كرهوا مثله والضمة عارضة للاعراب كما قالوا فى أجيئك : أجوءك ، فما ظنك بالكسر والضم اللازمين؟ وكذا قالوا فى أنبئك ، وهو منحدر من الجبل : أنبؤك ، ومنحدر ، على ما حكى الخليل ، قال :

٧٩ ـ وقد أضرب السّاقين إمّك هابل (١) *

__________________

(١) هذا شطر بيت من الطويل ، وهكذا وجدناه فى جميع النسخ المطبوعة والمخطوطة ، ولم نقف له على قائل ولا تتمة ، وقد رواه البغدادى من غير أن ينسبه أيضا إلى قائله ولم يذكر له تتمة ، إلا أنه رواه هكذا :

* وقال اضرب السّاقين إمّك هابل*

فجعل «قال» بدل قد ، وجعل «اضرب» فعل أمر ، مع أنها فى رواية المؤلف فعل مضارع. وقد استشهد المؤلف بالبيت على أنهم أتبعوا الثانى للاول فكسروا همزة «إمك» إتباعا للكسرة قبلها كما أتبعوا الأول للثانى فى الأمثلة التى ذكرها ، وهو على رواية المؤلف يكون من قبيل إتباع البناء للبناء ، ولكن ابن جنى قد استشهد بالبيت على أنهم قد يتبعون حركة الاعراب لحركة البناء حيث قال فى المحتسب عند الكلام على قراءة من قرأ (الحمد لله) بكسر الدال اتباعا لكسرة اللام : «ومثل هذا فى إتباع الاعراب البناء ما حكاه صاحب الكتاب في قول بعضهم

* وقال : اضرب السّاقين إمّك هابل*

٢٦٢

بكسر ضم الهمزة إتباعا لكسر نون الساقين ، كما أنبعوا الأول الثانى فى أنبؤك ، ومثله قوله تعالى (فِي أُمِّها) (١) بكسر الهمزة فى بعض القراءات ، وقولهم : ويلمّها (٢) بكسر اللام ، أصله : وى لأمّها ، حذفت الهمزة شاذا :

__________________

كسر الميم لكسرة الهمزة» اه كلام ابن جنى ، وقد رجعنا إلى كتاب سيبويه فوجدنا فيه (ح ٢ ص ٢٧٢) ما نصه : «واعلم أن الألف الموصولة فيما ذكر فى الابتداء مكسورة أبدا إلا أن يكون الحرف الثالث مضموما فتضمها ، وذلك قولك : اقتل ، استضعف ، احتقر ، احرنجم ، وذلك أنك قربت الألف من المضموم إذ لم يكن بينهما إلا ساكن فكرهوا كسرة بعدها ضمة وأرادوا أن يكون العمل من وجه واحد كما فعلوا ذلك فى مذ اليوم يافتي ، وهو فى هذا أجدر ؛ لأنه ليس فى الكلام حرف أوله مكسور والثانى مضموم ، وفعل هذا به كما فعل بالمدغم إذا أردت أن ترفع لسانك من موضع واحد ، وكذلك أرادوا أن يكون العمل من وجه واحد ، ودعاهم ذلك إلى أن قالوا : أنا أجوءك ، وأنبؤك ، وهو منحدر من الجبل ، أنبأنا بذلك الخليل ، وقالوا أيضا : لأمك ، وقالوا : اضرب الساقين إمك هابل ، فكسرهما جميعا كما ضم فى ذلك» اه ومن هذا تعلم أمرين :

الاول : أنه لم يجعل قوله : وقالوا اضرب ... الخ بيتا من الشعر بخلاف ما صنع المؤلف وابن جنى

والثانى : أنه قد جعل الميم من «إمك» مكسورة كما فعل ابن جنى ، بخلاف ما يظهر من كلام المؤلف ، حيث جعل الاستشهاد بالبيت على كسر الهمزة إتباعا لكسر نون الساقين ، ولم يتعرض لحركة الميم ، وذلك الصنيع منه يدل على أن حركة الميم باقية على أصلها وهو الضم

(١) هذا بعض آية من سورة القصص وهي (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ)

(٢) قال فى اللسان : «ورجل ويلمه وويلمه (بكسر اللام فى الأولى وضمها فى الثانية) كقولهم فى المستجاد : ويلمه ، يريدون ويل أمه ، كما يقولون : لاب لك يريدون لا أب لك ، فركبوه وجعلوه كالشيء الواحد ... ثم قال : وفى الحديث

٢٦٣

إما بعد إتباع حركتها حركة اللام ، أو قبله ، وأما قولهم : ويلمّها ـ بضم اللام ؛

__________________

فى قوله لأبى بصير «ويلمّه مسعر حرب» تعجبا من شجاعته وجرأته وإقدامه ومنه حديث على «ويلمّه كيلا بغير ثمن لو أنّ له وعى» أى يكيل العلوم الجمة بلا عوض إلا أنه لا يصادف واعيا ، وقيل : وى ، كلمة مفردة ، ولامه مفردة ، وهى كلمة تفجع وتعجب ، وحذفت الهمزة من أمه تخفيفا وألقيت حركتها على اللام ، وينصب ما بعدها على التمييز ، والله أعلم» اه ، وقال الشهاب الخفاجي فى شفاء الغليل (ص ٢٣٨ الطبعة الوهبية): «ويلمه : أصله للدعاء عليه ، ثم استعمل فى التعجب مثل قاتله الله ، وكذا وقع فى الحديث كما فى الكرمانى ، وفى المقتضب لابن السيد (يريد الاقتضاب شرح أدب الكتاب : انظره «ص ٣٦٥») يروى بكسر اللام وضمها ، فمن كسر اللام ففيه ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون ويل أمه ، بنصب ويل وإضافته إلى الأم ثم حذف الهمزة لكثرة الاستعمال ، وكسرت لامه إتباعا لكسرة ميمه ، والثانى أن يكونوا أرادوا ويل لامه ، برفع ويل على الابتداء ، ولأمه خبر ، وحذفت لام ويل وهمزة أم كما قالوا : أيش لك يريدون أى شىء لك ، واللام المكسورة لام الجر ؛ والثالث أن يريدوا «وى» التى فى قول عنترة :

ولقد شفى نفسى وأبرأ سقمها

قول الفوارس ويك عنتر أقدم

فيكون على هذا قد حذفت همزة أم لا غير واللام جارة ، وهذا أحسن الوجوه ؛ لأنه أقل للحذف والتغيير ، وأجاز ابن جنى أن تكون اللام المسموعة لام ويل ، على أن تكون حذفت همزة أم ولام الجر ، وكسر لام ويل إتباعا لكسرة الميم ، وهو بعيد جدا ، وأما من رواه بضم اللام فأن ابن جنى أجاز فيه وجهين :

أحدهما أنه حذفت الهمزة واللام ، وألقيت ضمة الهمزة علي لام الجر ، كما حكى عنهم (الحمد لله) بضم لام الجر ، وهي قراءة إبراهيم بن أبى عبلة الشامى ، والثانى : أن يكون حذف الهمزة ولام الجر ، وتكون اللام المسموعة هي لام ويل لا لام الجر ، وقال الامام المرزوقي : الاختيار فى ويل إذا أضيف باللام الرفع ، وإذا أضيف بغير اللام النصب ، يقولون. ويل لزيد ، وويل زيد ، فأما قولهم : ويلمه فقد حذفت الهمزة من أمه فيه حذفا لكثرته على ألسنتهم ، ولا

٢٦٤

فيجوز أن يكون أصله وى لأمّها ؛ فحذفت الهمزة بعد نقل ضمتها على لام الجر ، وهو شاذ على شاذ ، ويجوز أن يكون الأصل ويل أمّها ؛ فحذفت الهمزة شاذا. ويدخل فى قوله «إلا فيما بعد ساكنه ضمة أصلية» كل ماض لم يسم فاعله ، من الأفعال المذكورة ، نحو اقتدر عليه وانطلق به ، قيل : وقد تكسر همزة الوصل قبل الضمة ، نحو انصر ، واقتدر عليه ، وليس بمشهور ، وإذا جاءت همزة مضمومة قبل ضمة مشمة كما فى اختير ، وانقيد ، أشمّت ضمتها أيضا كسرة ، وإنما فتحت مع لام التعريف وميمه لكثرة استعمالها ؛ فطلب التخفيف بفتحها ، وفتحت فى أيمن لمناسبة التخفيف ؛ لأن الجملة القسميّة يناسبها التخفيف إذ هى مع جوابها فى حكم جملة واحدة ، ألا ترى إلى حذف الخبر فى «أيمن» ، و «لعمرك» وجوبا ، وحذف النون من ايمن؟ وحكى يونس عن بعض العرب كسر همزة ايمن وايم

قال : «وإثباتها وصلا لحن ، وشذّ فى الضّرورة ، والتزموا جعلها ألفا لا بين بين على الأفصح فى نحو آلحسن وآيمن الله يمينك؟ للّبس»

أقول : قوله «شذ فى الضرورة» كقوله :

٨٠ ـ إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه

بنثّ وتكثير الوشاة قمين (١)

__________________

يجوز أن تكون الضمة فى اللام منقولة إليها من الهمزة ؛ لأن ذلك يفعل إذا كان ما قبلها ساكنا ، كقولك من بوه (بحذف همزة أبوه بعد نقل حركتها إلى نون من) وإذا كان كذلك فقد ثبت أنها غيرها ، والشىء إذا خفف على غير القياس يجرى على المألوف فيه» اه

(١) البيت من قصيدة لقيس بن الخطيم ، وقبل البيت المستشهد به :

أجود بمضنون التّلاد وإنّنى

بسرّك عمّن سالنى لضنين

٢٦٥

فإذا كان قبلها مالا يحسن الوقف عليه وجب فى السعة حذفها ، إلا أن تقطع كلامك الأول وإن لم تقف مراعيا حكم الوقف ؛ بل لعذر من انقطاع النفس وشبهه ؛ وقد فعل الشعراء ذلك فى أنصاف الأبيات ؛ لأنها مواضع الفصل ، وإنما يبتدؤن بعد قطع ، نحو قوله :

٨١ ـ ولا تبادر فى الشّتاء وليدنا

القدر تنزلها بغير جعال (١)

__________________

وبعده :

وإن ضيّع الإخوان سرّا فإنّنى

كتوم لأسرار العشير أمين

والتلاد : المال القديم ، والنث ـ بنون فمثلثة ـ : مصدر نث الحديث ينثه إذا أفشاه ، ويروى بدله «ببث» بباء موحدة فمثلثة ، وهو مصدر بث الخبر يبثه إذا نشره ، والوشاة : جمع واش وهو النمام الذى يزين الكلام ويحسنه عند نقله للافساد بين المتحابين ، وقمين : معناه جدير وخليق وحرى ، والباء فى بنث أو ببث متعلقة بقمين ، والاستشهاد بالبيت على أن إثبات همزة الوصل فى الدرج شاذ فى الضرورة ، ونظير البيت المستشهد به قول جميل :

ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة

على حدثان الدّهر منّى ومن جمل

وقول حسان رضى الله تعالى عنه :

لتسمعنّ وشيكا فى دياركم

ألله أكبر يا ثارات عثمانا

وقول الآخر :

لا نسب اليوم ولا خلّة

إتّسع الخرق على الرّاقع

وقد روى بيت الشاهد «إذا جاوز الخلّين ... الخ» وكذلك روى بيت جميل «ألا لا أرى خلّين ... الخ» وعلى هذه الرواية لا شاهد فيهما

(١) قد نسب ابن عصفور هذا البيت للبيد العامرى الصحابي رضي‌الله‌عنه ، وقبله :

يا كنّة ما كنّت غير لئيمة

للضّيف مثل الرّوضة المحلال

٢٦٦

قوله «وقد التزموا جعلها ألفا لابين بين» قد مر فى باب التقاء الساكنين

__________________

ما إن تبيّتنا بصوت صلّب

فيبيت منه القوم فى بلبال

والكنة ـ بفتح الكاف وتشديد النون ـ : زوج الابن ، و «ما» يحتمل أن تكون زائدة إبهامية تفيد الفخامة أو الحقارة ويكون ما بعدها خبر مبتدأ محذوف ، ويحتمل أن تكون استفهامية مبتدأ ، ويكون كنة التى بعدها خبرا وغير لئيمة صفته ، والروضة : البستان الحسن ، والمحلال : التى تحمل الماربها على الحلول حولها للنظر إلى حسنها ، والصلب ـ بصم الصاد وتشديد اللام مفتوحة ـ : الشديد ، والبلبال : الحزن ، والمراد بالشتاء زمن الشدة والقحط ، والوليد : يطلق على الصبي وعلى الخادم أيضا ، والجعال ـ بكسر الجيم ـ : الخرقة التى تنزل بها القدر ، والضمير فى تبادر يعود إلى الكنة ووليدنا مفعول لتبادر ، ويجوز فى القدر الرفع على الابتداء وما بعده خبر ، والنصب على الاشتغال ، والمراد من البيت مدح الكنة بعدم الشره للطعام فهى لا تسبق الوليد إلى الطعام ولا تسرع فى إنزال القدر حتى تنزلها بغير خرقة. والاستشهاد بالبيت فى قوله «ألقدر» حيث قطع الشاعر همزة الوصل لضرورة الشعر ، وقد أنشد سيبويه البيت على غير الوجه الذي أنشده عليه المؤلف ، قال في الكتاب (ح ٢ ص ٢٧٤): «واعلم أن هذه الألفات ألفات الوصل تحذف جميعا إذا كان قبلها كلام ، الا ما ذكرنا من الألف واللام فى الاستفهام ، وفى أيمن فى باب القسم ؛ لعلة قد ذكرناها ، فعل ذلك بها فى باب القسم حيث كانت مفتوحة قبل الاستفهام ، فخافوا أن تلتبس الألف بألف الاستفهام ، وتذهب في غير ذلك إذا كان قبلها كلام ، إلا أن تقطع كلامك وتستأنف كما قالت الشعراء فى الأنصاف ؛ لأنها مواضع فصول ، فأنما ابتداؤها بعد قطع ؛ قال الشاعر :

ولا يبادر فى الشّتاء وليدنا

ألقدر ينزلها بغير جعال» اه

وقال الاعلم الشنتمرى فى شرحه للبيت : «الشاهد فيه قطع ألف الوصل من قوله «القدر» ضرورة ، وسوغ ذلك أن الشطر الأول من البيت يوقف عليه ثم يبتدأ ما بعده ، فقطع على هذه النية ، وهذا من أقرب الضرورة ، يقول : إذا اشتد الزمان فوليدنا لا يبادر القدر حسن أدب ، والجعال : خرقة تنزل بها القدر» اه

٢٦٧

أن للعرب فى مثله مذهبين : الأفصح جعل همزة الوصل ألفا ، والثانى جعلها بين بين ، كقوله :

٨٢ ـ أالخير الّذى أنا أبتغيه

أم الشّرّ الّذى هو يبتغينى (١)

قوله «للبس» يعنى التزموا أحد الشيئين ولم يحذفوا للبس ؛ إذ لو حذفوا التبس الاستخبار بالخبر ؛ إذ همزة الوصل فى الموضعين مفتوحة كهمزة الاستفهام ، بخلاف نحو (أصطفى البنات)؟ وقوله :

٨٣ ـ أستحدث الرّكب من أشياعهم خبرا (٢)

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة طويلة للمثقب العبدى أوردها المفضل فى المفضليات وقبله :

وما أدرى إذا يمّمت أمرا

أريد الخير أيّهما يلينى

ويممت : قصدت ، وجملة «أريد الخير» حال من فاعل يممت ، وجملة «أيهما يلينى» سدت مسد مفعولى أدرى ، وقوله «أالخير» بدل من «أى» فى قوله «أيهما يلينى» ولذلك قرن بهمزة الاستفهام ؛ لأن البدل من اسم الاستفهام يقترن بالهمزة. والاستشهاد بالبيت على أنهم إذا أدخلوا همزة الاستفهام على همزة الوصل المفتوحة فقد يجعلونها بين بين : أى بين الهمزة وبين حرف حركتها ، وحركتها هنا فتحة فتجعل بين الهمزة والألف

والمثقب : اسم فاعل من ثقب ـ بالثاء المثلثة وتشديد القاف : لقب الشاعر ، واسمه محصن (كمنبر) بن ثعلبة ، ولقب بالمثقب لقوله فى هذه القصيدة :

رددن تحيّة وكننّ أخرى

وثقّبن الوصاوص للعيون

والوصاوص : البراقع الصغار ، يريد أنهن حديثات الأسنان قبر اقعهن صغار ، وقد قال فى هذه القصيدة أبو عمرو بن العلاء : «لو كان الشعر كله على هذه القصيدة لوجب على الناس أن يتعلموه»

(٢) هذا الشاهد صدر بيت من قصيدة طويلة لذي الرمة ، وعجزه :

* أو راجع القلب من أطرابه طرب*

٢٦٨

فإن اختلاف حركتى الهمزتين رافع للبس بعد حذف همزة الوصل

قال : «وأمّا سكون هاء وهو ووهى وفهو وفهى [ولهو ولهى] فعارض فصيح ، وكذلك لام الأمر ، نحو وليوفوا ، وشبّه به أهو وأهى وثمّ ليقضوا. ونحو أن يملّ هو قليل»

أقول : قد ذكرنا جميع هذا الفصل فى فصل رد الأبنية بعضها إلى بعض فى أول الكتاب (١) ، يعنى المصنف أن أوائل هو وهى مع واو العطف وفائه وهمزة الاستفهام ، وكذا لام الأمر التى قبلها واو أو فاء ؛ تسكن ؛ فكان القياس أن يجتلب لها همزة الوصل ، لكنها إنما لم تجتلب لعروض السكون ، وليس هذا بجواب مرضىّ ؛ لأن هذا الإسكان بناء على تشبيه أوائل هذه الكلم بالأوساط ، فنحو وهو وفهو مشبه بعضد ، ونحو وهى وفهى مشبه بكتف ، وكذا القول فى (وليوفوا) فلم يسكنوها إلا لجعلهم إياها كوسط الكلمة ، فكيف تجتلب لما هو كوسط الكلمة همزة وصل؟ وهب أنه ليس كالوسط أليس غير مبتدأ به؟ وأليس السكون العارض أيضا فى أول الكلمة يجتلب له همزة الوصل إذ ابتدئ بها؟

ألا ترى أنك تقول : اسم ، مع أنه جاء سم ، وكذا است وست؟ فكان عليه أن يقول : لم تجتلب الهمزة لأنها إنما تجتلب إذا ابتدىء بتلك الكلمة كما ذكرنا ، وهذا السكون فى هذه الكلمات إنما يكون إذا تقدمها شىء ، ووجه تشبيههم

__________________

وقبل البيت المذكور مطلع القصدة وهو :

ما بال عينك منها الماء ينسكب

كأنّه من كلى مفريّة سرب

والركب : أصحاب الأبل ، والأشياع : الأصحاب ، والطرب : استخفاف القلب فى فرح أو فى حزن ، يريد أبكاؤك وحزنك لخبر حدث أم راجع قلبك طرب؟ والاستشهاد بالبيت على أن همزة الاستفهام إذا دخلت على همزة وصل غير مفتوحة فأن همزة الوصل تحذف حينئذ ، لعدم اللبس ؛ لأن اختلاف حركتى الهمزتين رافع للبس بعد حذف همزة الوصل

(١) انظر (ج ١ ص ٤٥)

٢٦٩

لأوائلها بالوسط عدم استقلال ما قبلها ، واستحالة الوقف عليه ، وقولك أهو وأهى؟ أقل استعمالا من وهو وفهو ووهى وفهى ؛ فلهذا كان التخفيف فيه أقل ، وقولك : لهو ولهى مثل فهو وفهى يجوز تخفيف الهاء فيه ؛ على ما قرىء به فى الكتاب العزيز ، وأما نحو ليفعل ـ بلام كى ـ فلم يجز فيه التخفيف ؛ لقلة استعمالها ، وتحريك هاء هو وهى بعد اللام وبعد الواو والفاء ، وكذا تحريك لام الأمر بعدهما ؛ هو الأصل ؛ قال سيبويه : وهو جيد بالغ ، وقرأ الكسائى وغيره (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) بإسكان لام الأمر على تشبيه ثم بالواو والفاء ؛ لكونها حرف عطف مثلهما ، واستقبح ذلك البصريون ؛ لأن ثم مستقلة يوقف عليها ، وقرىء فى الشواذ (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) بإسكان الهاء ، يجعل «لهو» كعضد ، وهو قبيح ؛ لأن يمل كلمة مستقلة ، ولا يمكن تشبيهها بحرف العطف كما شبه به ثم ، وقوله :

* فبات منتصبا وما تكردسا (١) *

أولى من مثله ؛ لكونه فى كلمة واحدة.

قوله «فصيح» أى : يستعمله الفصحاء ، بخلاف (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) ونحو قوله «بات منتصبا» وذلك لكثرة الاستعمال فى الأول

قوله «وشبه به أهو» لكون الهمزة على حرف وإن لم يكثر استعمالها مع هو وهى ، كاستعمال الواو والفاء معهما ، فلهذا كان التخفيف فى أهو وأهى أقلّ

__________________

(١) قد تقدم الكلام فى شرح هذا البيت (ح ١ ص ٤٥). وقد استشهد به هنا على أن التخفيف بالأسكان فى «منتصبا» أولى من التخفيف بالأسكان فى «أن يملّ هو» ، لأن الأول فى كلمة واحدة والثانى فى كلمتين ، مع أن الكل شاذ

٢٧٠

قال : «الوقف : قطع الكلمة عمّا بعدها ، وفيه وجوه مختلفة فى الحسن والمحلّ ؛ فالإسكان المجرّد فى المتحرّك ، والرّوم فى المتحرّك ، وهو أن تأتى بالحركة خفيّة ، وهو فى المفتوح قليل ، والإشمام فى المضموم ، وهو أن تضمّ الشّفتين بعد الإسكان»

أقول : قوله «قطع الكلمة عما بعدها» أى : أن تسكت على آخرها قاصدا لذلك مختارا ؛ لجعلها آخر الكلام ، سواء كان بعدها كلمة أو كانت آخر الكلام ؛ فيدخل فيه الرّوم والإشمام والتضعيف وغير ذلك من وجوه الوقف ، ولو وقفت عليها ولم تراع أحكام الوقف التى نذكرها كما تقف على آخر زيد مثلا بالتنوين لكنت واقفا ، لكنك مخطىء فى ترك حكم الوقف ، فالوقف ليس مجرد إسكان الحرف الأخير وإلا لم يكن الرّوم وقفا ، وكان لفظ من فى من زيد موقوفا عليه مع وصلك إياه بزيد

قوله «عما بعدها» يوهم أنه لا يكون الوقف على كلمة إلا وبعدها شىء ، ولو قال : السكوت على آخر الكلمة اختيارا لجعلها آخر الكلام ـ لكان أعم

قوله «وفيه وجوه مختلفة فى الحسن» أى : فى الوقف وجوه ، يعنى بها أنواع أحكام الوقف ، وهى : الإسكان ، والرّوم ، والإشمام ، والتضعيف ، وقلب التنوين ألفا أو واوا أو ياء ، وقلب الألف واوا أو ياء أو همزة ، وقلب التاء هاء ، وإلحاق هاء السكت ، وحذف الواو والياء ، وإبدال الهمزة حرف حركتها ، ونقل الحركة ؛ فإن هذه المذكورات أحكام الوقف : أى السكوت على آخر الكلمة مختارا ؛ لتمام الكلام ، ونعنى بالحكم ما يوجبه الشىء ؛ فان الوقف فى لغة العرب يوجب أحد هذه الأشياء

قوله «وجوه مختلفة فى الحسن» أى : هذه الوجوه متفاوتة فى الحسن ، فبعضها أحسن من بعض ؛ كما يجىء من أن قلب الألف واوا أو ياء أو همزة ضعيف ، وكذا نقل الحركة والتضعيف ، وقد يتفق وجهان أو أكثر فى الحسن ؛ كالإسكان وقلب تاء التأنيث هاء

٢٧١

قوله «والمحل» يعنى به محالّ الوجوه المذكورة ، وهى ما يذكره المصنف بعد ذكر كل وجه مصدّرا بفى ، كقوله : الإسكان المجرد فى المتحرك والرّوم فى المتحرك ، فقوله «الإسكان المجرد والروم» وجهان للوقف ، وقوله «المتحرك» محل هذين الوجهين ؛ إذ يكونان فيه دون الساكن ، وكذا قوله «إبدال الألف فى المنصوب المنون» إبدال الألف وجه ، والمنصوب المنون محله ، وهلم جرّا إلى آخر الباب ، فهذه الوجوه مختلفة فى المحل : أى لكل وجه منها محل آخر ثبت فيه ، وقد يشترك الوجهان أو أكثر فى محل واحد ، كاشتراك الإسكان والرّوم فى المتحرك

قوله «فالإسكان المجرد» أى : الإسكان المحض بلا روم ولا إشمام ولا تضعيف ، والإسكان فى الوقف أكثر فى كلامهم من الرّوم والإشمام والتضعيف والنقل ، ويجوز فى كل متحرك إلا فى المنصوب المنون ؛ فإن اللغة الفاشية فيه قلب التنوين ألفا ، وربيعة يجيزون إجراءه مجرى المرفوع والمجرور ؛ قال

٨٤ ـ وآخذ من كلّ حىّ عصم (١)

وإن كان آخر الكلمة ساكنا فقد كفيت مؤونة الإسكان ، نحو كم

__________________

(١) هذا عجز بيت من قصيدة للأعشى ميمون ، مدح بها قيس بن معدى كرب ، وصدره :

* إلى المرء قيس أطيل السّرى*

والسرى : السير ليلا ، والحى : القبيلة ، والعصم : مفعول آخذ ، وهو بضمتين جمع عصام ، والعصام يطلق فى الأصل على وكاء القربة ، وعلى عروتها أيضا ، والمراد به هنا العهد ، يعنى أنه يأخذ من كل قبيلة يمر بها عهدا ألا يؤذوه ؛ لان له فى كل قبيلة أعداء ممن هجاهم أو ممن يكره ممدوحه ، فيخشى الأذى منهم ، فيأخذ العهد ليصل سالما إلى ممدوحه. والاستشهاد بالبيت على أن «عصما» وقف عليه بالسكون فى لغة ربيعة ؛ لأنهم يجيزون تسكين المنصوب المنون فى الوقف

٢٧٢

ومن ؛ فلا يكون معه وجه من وجوه الوقف ، بل تقف بالسكون فقط ، ولو قيل إن سكون الوقف غير سكون الوصل لم يبعد ، كما قيل فى نحو هجان (١) وفلك (٢) ، وإذا كان آخر الكلمة تنوينا لم يعتد بسكونه ، ولم يكتف به فى

__________________

(١) قال ابن سيده : «والهجان من الأبل البيضاء الخالصة اللون والعتق ، من نوق هجن وهجائن وهجان. فمنهم من يجعله من باب جنب ورضا (يريد أنه مما يستوى فيه الواحد وغيره) ، ومنهم من يجعله تكسيرا ، وهو مذهب سيبويه ؛ وذلك أن الألف فى هجان الواحد بمنزلة ألف ناقة كناز ، وامرأة ضناك ، والألف فى هجان الجمع بمنزلة ألف ظراف وشراف ، وذلك لأن العرب كسرت فعالا على فعال كما كسرت فعيلا على فعال ، وعذرها فى ذلك أن فعيلا أخت فعال ، ألا ترى أن كل واحد منهما ثلاثى الأصل وثالثه حرف لين؟ وقد اعتقبا أيضا على المعنى الواحد نحو كليب وكلاب وعبيد وعباد؟ فلما كانا كذلك ، وإنما بينهما اختلاف فى حرف اللين لا غير ، ومعلوم مع ذلك قرب الياء من الألف ، وأنها إلى الياء أقرب منها إلى الواو ـ كسر أحدهما على ما كسر عليه صاحبه ، فقيل : ناقة هجان ، وأنيق هجان ، كما قيل : ظريف وظراف ، وشريف وشراف» اه

(٢) قال فى اللسان : «الفلك ـ بالضم ـ : السفينة ، تذكر وتؤنث ، وتقع على الواحد والاثنين والجميع ، فأن شئت جعلته من باب جنب ، وإن شئت من باب دلاص وهجان ، وهذا الوجه الأخير هو مذهب سيبويه ، أعنى أن تكون ضمة الفاء من الواحد بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج ، وضمة الفاء فى الجمع بمنزلة ضمة حاء حمر وصاد صفر جمع أحمر وأصفر ، قال الله تعالى فى التوحيد والتذكير (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) فذكر الفلك ، وجاء به موحدا ، ويجوز أن يؤنث واحده ، كقول الله تعالى : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) فقال «جاءتها» فأنث ، وقال (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) فجمع ، وقال الله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) فأنث ، ويحتمل أن يكون واحدا وجمعا ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فجمع وأنث ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى

٢٧٣

الوقف ؛ بل يحذف فى الرفع والجر حتى يصير الحرف الذى قبله آخر الكلمة ، فيحذف حركته ، وإنما حذف التنوين فى الرفع والجر لأنك قصدت كون الكلمة فى الوقف أخف منها فى الوصل ؛ لأن الوقف للاستراحة ، ومحل التخفيف الأواخر ؛ لأن الكلمة تتثاقل إذا وصلت إلى آخرها ، والتنوين كحرف الكلمة الأخير من حيث كونها على حرف ساكن مفيد للمعنى فى الكلمة المتلوة ، وإن كانت فى الأصل كلمة برأسها ، فهى : أى التنوين : إما أن تخفف بالقلب كما هو لغة أزد السّراة ، وهو قلبهم المضموم ما قبلها واوا والمكسور ما قبلها ياء ، وهو مكروه ؛ لأن الواو ثقيل على الجملة ، ولا سيما المضموم ما قبلها فى الآخر ، وكذا الياء ، وإما أن تحذف ، فاختير الحذف على القلب ، وسهله كون التنوين فضلة على جوهر الكلمة فى الحقيقة ، وإذا كان يحذف الياء المكسور ما قبلها فى نحو القاضى للوقف وهى من جوهر الكلمة فما ظنك بالتنوين؟ فلما خففت الكلمة بحذف حرف كجزئها كان تخفيفها بحذف ما هو أشد اتصالا بها منه ـ أعنى الضم والكسر اللذين هما جزءا الحرفين ، أعنى الواو والياء ـ أولى ، وأما فى المنصوب المنون فتخفيف الكلمة غاية التخفيف يحصل من دون حذف التنوين ، وذلك بقلبها ألفا ؛ إذ الألف أخف الحروف ، وكذلك فى المثنى وجمع سلامة المذكر يحصل التخفيف فيهما بحذف حركة النون فقط

__________________

السفينة فيؤنث. قال الجوهرى. وليس هو مثل الجنب الذى هو واحد وجمع ، والطفل ، وما أشبههما من الأسماء ؛ لأن فعلا وفعلا يشتركان فى الشىء الواحد مثل العرب والعرب ، والعجم والعجم ، والرهب والرهب ، ثم جاز أن يجمع فعل على فعل ـ مثل أسد وأسد ـ ولم يمتنع أن يجمع فعل على فعل (بضم فسكون فيهما). قال ابن برى : إذا جعلت الفلك واحدا فهو مذكر لا غير ، وإن جعلته جمعا فهو مؤنث لا غير ، وقد قيل : إن الفلك يؤنث وإن كان واحدا ، قال الله تعالى (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) اه

٢٧٤

واعلم أن علامة الإسكان فى الخط الخاء فوق الحرف الموقوف عليه ، وهى حرف أول لفظ الخفيف ؛ لأن الإسكان تخفيف

قوله «والرّوم فى المتحرك» الرّوم الاتيان بالحركة خفية حرصا على بيان الحركة التى تحرك بها آخر الكلمة فى الوصل ، وذلك : إما حركات الإعراب ، وهم بشأنها أعنى ؛ لدلالتها على المعانى فى الأصل ، وإما حركات البناء كأين ، وأمس ، وقبل ؛ وعلامة الرّوم خط بين يدى الحرف هكذا : زيد ـ ، وسمى روما لأنك تروم الحركة وتريدها حين لم تسقطها بالكلية ، ويدرك الروم الأعمى الصحيح السمع ؛ إذا استمع ؛ لأن فى آخر الكلمة صويتا خفيفا ، وإن كان آخر الكلمة حرفا ساكنا قد يحذف فى الوصل ويبقى ما قبله على حركته نحو يسرى والقاضى فاذا وقفت على مثله جاز لك رومه تلك الحركة ، وإن كان لا يبقى ما قبله على حركته فى الوصل بعد حذفه نحو عليكمو وعليهمى لم يجز الروم على ما يجىء

قوله «وهو فى المفتوح قليل» إذا كان المفتوح منونا نحو زيدا ورجلا فلا خلاف أنه لا يجوز فيه الرّوم إلا على لغة ربيعة القليلة ، أعنى حذف التنوين نحو قوله :

* وآخذ من كلّ حىّ عصم* (١)

وإذا لم يكن منونا ، نحو رأيت الرجل وأحمد ، فمذهب الفراء من النحاة أنه لا يجوز روم الفتح فيه ؛ لأن الفتح لا جزء له لخفته. وجزؤه كله ، وعند سيبويه وغيره من النحاة يجوز فيه الروم كما فى المرفوع والمجرور

قوله «والإشمام» الاشمام : تصوير الفم عند حذف الحركة بالصورة التى تعرض عند التلفظ بتلك الحركة بلا حركة ظاهرة ولا خفية ، وعلامته نقطة بين يدى الحرف ؛ لأنه أضعف من الرّوم ؛ إذ لا ينطق فيه بشىء من الحركة ، بخلاف الروم ، والنقطة أقل من الخط ، وعزا بعضهم إلى الكوفيين تجويز الاشمام فى

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد (انظر ص ٢٧٢ من هذا الجزء)

٢٧٥

المجرور والمكسور أيضا ، والظاهر أنه وهم ؛ لم يجوزه أحد من النحاة إلا فى المرفوع والمضموم ؛ لأن آلة الضمة الشفة ، وقصدك بالاشمام تصوير مخرج الحركة للناظر بالصورة التى يتصور ذلك المخرج بها عند النطق بتلك الحركة ؛ ليستدل بذلك على أن تلك الحركة هى الساقطة دون غيرها ، والشفتان بارزتان لعينه ، فيدرك نظره ضمهما ، وأما الكسرة فهى جزء الياء التى مخرجها وسط اللسان والفتحة جزء الألف التى مخرجها الحلق ، وهما محجوبان بالشفتين والسّنّ ، فلا يمكن المخاطب إدراك تهيئة المخرجين للحركتين

قال : «والأكثر على أن لا روم ولا إشمام فى هاء التّأنيث وميم الجمع والحركة العارضة»

أقول : لم أر أحدا : لا من القراء ولا من النحاة ، ذكر أنه يجوز الروم والإشمام فى أحد الثلاثة المذكورة ؛ بل كلهم منعوهما فيها مطلقا ، وأرى أن الذى أوهم المصنف أنه يجوز الرّوم والإشمام فيها قول الشاطبى ـ رحمه‌الله تعالى ـ بعد قوله :

٨٥ ـ وفى هاء تأنيث وميم الجميع قل

وعارض شكل لم يكونا ليدخلا

وفى الهاء للاضمار قوم أبوهما

ومن قبله ضمّ أو الكسر مثّلا

أو امّاهما واو وياء وبعضهم

يرى لهما فى كلّ حال محلّلا (١)

__________________

(١) أورد المؤلف هذه الأبيات الثلاثة من كلام الشاطبى فى لاميته المشهورة ب (الشاطبية) ليبين منشأ وهم ابن الحاجب فى أن بعض النحاة أو القراء جوز الروم والاشمام في هاء التأنيث ، وميم الجمع ، والحركة العارضة ، وذلك أنه فهم فى قول الشاطبى «وبعضهم يرى لهما فى كل حال محللا» أن بعض القراء يجيز الروم والاشمام فى كل حال من أحوال الحرف الموقوف عليه من الحروف

٢٧٦

فظن أنه أراد بقوله «فى كل حال» فى هاء التأنيث وميم الجمع وعارض الشكل وهاء المذكر ، كما وهم بعض شرّاح كلامه أيضا ، وإنما عنى الشاطبى فى كل حال من أحوال هاء المذكر فقط ، كما يجىء

فنقول : إنما لم يجز فى هاء التأنيث الروم والإشمام لأنه لم يكن على الهاء حركة فينبّه عليها بالروم أو بالإشمام ، وإنما كانت على التاء التى هى بدل منها ، فمن ثم جازا عند من يقف على التاء بلا قلب ، كقوله :

٨٦ ـ * بل جوز تيهاء كظهر الحجفت (١) *

__________________

المذكورة ، ثم ذكر أن الشاطبي إنما عنى بقوله : «... وبعضهم يرى لهما فى كل حال محللا» أن بعضهم جوز الروم والاشمام فى هاء الاضمار للمذكر فقط فى كل حال من أحوالها المذكورة فى قوله «ومن قبله ضم ... الخ» لكن يؤيد ما ذهب إليه ابن الحاجب ما ذكره البغدادى فى شرح شواهد الشافية نقلا عن السمين فى شرحه للشاطبية حيث قال : «وممن ذهب إلى جواز الروم والاشمام مطلقا أبو جعفر النحاس ، وليس هو مذهب القراء ، وقد تحصل مما تقدم أن أمر الروم والاشمام دائر بين ثلاثة أشياء : استثناء هاء التأنيث وميم الجمع والحركة العارضة ، وهذا أشهر المذهب ؛ الثانى : استثناء هذه الثلاثة مع هاء الكناية عند بعض أهل الآراء ؛ الثالث : عدم استثناء شىء من ذلك ، وهو الذى عبر عنه بقوله «(وبعضهم يرى لهما في كل حال محللا)» اه كلام السمين. قال البغدادى : «فقوله : وهذا أشهر المذاهب» يؤيد ما حكاه ابن الحاجب من جوازهما (يريد الروم والاشمام) فى الثلاثة أيضا ، وقول الشارح المحقق لم أر أحدا من القراء ولا من النحاة ذكر أنهما يجوزان فى أحد الثلاثة ـ وهم ؛ فان بعض القراء صرح بجوازهما فى ميم الجمع» اه والبعض الذى عناه البغدادى هو «مكى» كما صرح به أبو شامة والسمين فى شرحيهما على الشاطبية

(١) هذا البيت من الرجز المشطور ، وقد نسبه ابن برى فى أماليه على الصحاح لسؤر الذئب ضمن أبيات كثيرة ، وقبله :

ما ضرّها أمّا عليها لو شفت

متيّما بنظرة وأسعفت

٢٧٧

وأما ميم الجمع فالأكثر على إسكانه فى الوصل ، نحو عليكم وعليهم ، والروم والاشمام لا يكونان فى الساكن ، وأما من حركها فى الوصل ووصلها بواو أو ياء فإنما لم يرم ولم يشمّ أيضا بعد حذف الواو والياء كما رام الكسرة فى القاضى بعد حذف يائه ، لأن تلك الكسرة قد تكون فى آخر الكلمة فى الوصل ، كقوله تعالى (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ولم يأت عليكم وإليهم إذا وصلتهما بمتحرك بعدهما متحركى الميمين محذوفى الصلة ، فكيف ترام أو تشم حركة لم تكن آخرا قط ؛ وأما نحو (عليكم الكتاب) و (إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) فان آخر الكلمة فيها الواو والياء المحذوفتان للساكنين ، وما حذف للساكنين فهو فى حكم الثابت ، هذا إن قلنا : إنهما كانا قبل اتصالهما بالساكن عليكمو وإليهمى على ما هو قراءة ابن كثير ، وإن قلنا : إنهما كانا قبل ذلك عليكم وإليهم ـ بسكون الميم فيهما ـ فالكسر والضم إذن عارضان لأجل الساكنين والعارض لا يرام ولا يشم كما فى قوله تعالى (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) لأن الروم والإشمام إنما يكونان

__________________

وبعده :

قطعتها إذا المها تجوّفت

مآزقا إلى ذراها أهدفت

والجوز ـ بفتح الجيم وآخره زاى معجمة : الوسط ، والتيهاء ـ بتاء مثناة مفتوحة : المفازة التى يتيه فيها السالك ، والحجفة ـ بفتح الحاء المهملة والجيم والفاء : الترس ، وقوله «قطعتها» جواب رب المقدرة بعد بل ، والمها : اسم جنس جمعى واحده مهاة ، وهى البقرة الوحشية ، وتجوفت : دخلت ، والمآزق : جمع مأزق ، وهو المضيق ، وذراها ـ بفتح الذال المعجمة : ناحيتها ، وأهدفت : من الاهداف وهو الدنو من الشىء والاستقبال له ـ يصف نفسه بالقوة والجلادة فيقول : رب مفازة يضل فيها السالك ملساء كظهر المجن قطعتها فى الوقت الذى تهرب فيه أبقار الوحش إلى مخابئها

٢٧٨

للحركة المقدرة فى الوقف ، والحركة العارضة للساكنين لا تكون إلا فى الوصل ، فاذا لم تقدر فى الوقف فكيف ينبه عليها؟

قال : «وإبدال الألف فى المنصوب المنوّن وفى إذن وفى نحو اضربن ، بخلاف المرفوع والمجرور فى الواو والياء ، على الأفصح»

أقول : المنصوب المنون تقلب نونه ألفا ؛ لأنه لا يستثقل الألف ، بل تخف به الكلمة ، بخلاف الواو والياء لو قلبت النون إليهما فى الرفع والجر ، والخفة مطلوبة فى الوقف كما تقدم ، وقد ذكرنا أن ربيعة يحذفون التنوين فى النصب مع الفتحة فيقفون على المنصوب كما يقفون على المرفوع والمجرور ، قال شاعرهم :

* وآخذ من كلّ حىّ عصم*

وذلك لأن حذفها مع حذف الفتحة قبلها أخف من بقائها مقلوبة ألفا معها ، وأما «إذن» فالأكثر قلب نونها ألفا فى الوقف ؛ لأنها تنوين فى الأصل ، كما ذكرنا فى بابه (١) ، ومنع المازنى ذلك ، وقال : لا يوقف عليه إلا بالنون ، لكونه كلن

__________________

(١) قال المؤلف فى شرح الكافية (ح ٢ ص ٢١٩): (الذى يلوح لى فى إذن ويغلب فى ظنى أن أصله إذ ؛ حذفت الجملة المضاف إليها وعوض منها التنوين لما قصد جعله صالحا لجميع الأزمنة الثلاثة بعد ما كان مختصا بالماضى ، وذلك أنهم أرادوا الاشارة إلى زمان فعل مذكور فقصدوا إلى لفظ إذ الذى هو بمعنى مطلق الوقت ، لخفة لفظه ، وجردوه عن معنى الماضى وجعلوه صالحا للأزمنة الثلاثة ، وحذفوا منه الجملة المضاف هو إليها ؛ لأنهم لما قصدوا أن يشيروا به إلى زمان الفعل المذكور دل ذلك الفعل السابق على الجملة المضاف إليها ، كما يقول لك شخص مثلا : أنا أزورك ، فتقول : إذن أكرمك : أى إذ تزورنى أكرمك : أى وقت زيارتك لى أكرمك : وعوض التنوين من المضاف إليه ، لأنه وضع فى الأصل لازم الاضافة فهو ككل وبعض ؛ إلا أنهما معربان وإذ مبنى ، فاذن على ما تقرر صالح للماضى. كقوله :

«إذن لقام بنصرى ...»

٢٧٩

وأن من نفس الكلمة ، وأجاز المبرد الوجهين ، فمن قلبها ألفا كتبها به ، وإلا فبالنون ، وذلك لأن مبنى الخط على الابتداء والوقف ، كما يجىء

قوله «وفى نحو اضربن» يعنى به نون التأكيد المخففة المفتوح ما قبلها ، وعلة قلبها ألفا إذا انفتح ما قبلها وحذفها إذا انضم أو انكسر ما قلنا فى التنوين سواء

قوله «بخلاف المرفوع والمجرور فى الواو والياء» عبارة ركيكة ، ولو قال بخلاف الواو والياء فى المرفوع والمجرور لكان أوضح ، يعنى لا يقلب تنوين المرفوع واوا وتنوين المجرور ياء ، كما قلبت تنوين المنصوب ألفا ، لأداء ذلك إلى الثقل فى موضع الاستخفاف ، وإذا كانوا لا يجيزون مثل الأدلو مطلقا ، ويجيزون حذف ياء مثل القاضى فى الوصل ، والواو والياء فيهما أصلان ، فكيف يفعلون فى الوقف الذى هو موضع التخفيف شيئا يؤدى إلى حدوث واو وياء قبلهما ضمة وكسرة؟ وزعم أبو الخطاب أن أزد السراة يقولون : هذا زيدو ، ومررت بزيدى ، كما يقال : رأيت زيدا ، حرصا على بيان الإعراب

قال : «ويوقف على الألف فى باب عصا ورحى باتّفاق»

أقول : اختلف النحاة فى هذا الألف فى الوقف ، فنسب إلى سيبويه أنها فى حال الرفع والجر لام الكلمة ، وفى حال النصب ألف التنوين ، قياسا على الصحيح ، وليس ما عزى إليه مفهوما من كلامه ؛ لأنه قال (١) : «وأما الألفات التى

__________________

وللمستقبل نحو جئتنى إذن أكرمك ، وللحال نحو إذن أظنك كاذبا ، وإذن ههنا هى إذ فى نحو قولك حينئذ ويومئذ. إلا أنه كسر ذلك فى نحو حينئذ ليكون فى صورة ما أضيف إليه الظرف المقدم ، وإذا لم يكن قبله ظرف فى صورة المضاف فكسره نادر ، كقوله :

نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعاقبة وأنت إذ صحيح

والوجه فتحه ليكون فى صورة ظرف منصوب ؛ لأن معناه الظرف» اه

(١) لم يذكر المولف عبارة سيبويه بنصها ، وإنما ذكر مفادها ، وإليك

٢٨٠