شرح شافية ابن الحاجب - ج ٢

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨

الإعراب ، وهذا منه عجيب ، كيف يكون الاسم معربا بلا مقتض للإعراب؟

__________________

صحيح ، لأن معنى قول جار الله «إنها معربة» هو أنها ليست مبنية بل هى مهيأة للاعراب ومعدة له وتقبله لعدم وجود مقتضى البناء ، ومعنى قوله «لكنها لم تعرب لعريها عن سبب الأعراب» هو أنها فى حال عدم تركيبها لم تعرب بالفعل ، وذلك لا غبار عليه ؛ لأن كل الاسماء قبل تركيبها لا يجرى عليها الاعراب بالفعل وإن كانت بعرضة أن يجرى عليها ، واستمع لأبى حيان حيث يقول : «الأسماء المتمكنة قبل التركيب كحروف الهجاء المسرودة : ا ب ت ث ، وأسماء العدد ، نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة ، فيها للنحاة ثلاثة أقوال : فاختار ابن مالك رحمه‌الله أنها مبنية على السكون لشبهها بالحروف فى كونها غير عاملة ولا معمولة ، وهذا عنده يسمى بالشبه الاهمالى. وذهب غيره إلى أنها ليست معربة لعدم تركبها مع العامل ، ولا مبنية لسكون آخرها فى حالة الوصل وما قبله ساكن ، وليس فى المبنيات ما هو كذلك. وذهب بعضهم إلى أنها معربة ، يعنى حكما لا لفظا ، والمراد به قابلية الاعراب وأنه بالقوة كذلك ، ولولاه لم يعل فتى لتحركه وانفتاح ما قبله. وهذا الخلاف مبنى على اختلافهم فى تفسير المعرب والمبني ؛ فان فسر المعرب بالمركب الذى لم يشبه مبني الأصل شبها تاما والمبنى بخلافه ؛ فهي مبنية ، وإن فسر بما شابهه وخلافه ولم نقل بالشبه الاهمالى فهى معربة ، تنزيلا لما هو بالقوة منزلة ما هو بالفعل ، وإن قلنا : المعرب ما سلم من الشبه وتركب مع العامل والمبنى ما شابهه ، فهي واسطة ، وللناس فيما يعشقون مذاهب ، فالخلاف لفظي ، والأمر فيه سهل ، وكلام الكشاف مبنى على الثانى (من تفسيرات المعرب والمبنى) وكلام البيضاوى محتمل له ولما بعده وإن كان الأول أظهر ، ثم إنه قيل : إن المحققين حصروا سبب بناء الأسماء فى مناسبة ما لا تمكن له أصلا (يريد شبه الحرف) ، وسموا الاسماء الخالية عنها معربة ، وجعلوا سكون أعجازها قبل التركيب وقفا لا بناء ، واستدلوا على ذلك بأن العرب جوزت فى الأسماء قبل التركيب التقاء الساكنين كما فى الوقف فقالوا زيد ، عمرو ، ص ، ق ، ولو كان سكونها بناء لما جمعوا بينهما كما فى سائر الأسماء المبنية نحو كيف وأخواتها. لا يقال : ربما عددت الاسماء ساكنة الاعجاز متصلا بعضها ببعض فلا يكون سكونها وقفا بل بناء ؛ لأنا نقول :

٢٢١

وإنما قلنا إنها لم تكن متحركة بحركة لأن الحركة إما إعرابية وكيف تثبت الحركة الإعرابية من دون سبب الإعراب الذى هو التركيب مع العامل؟ وإما بنائية ، ولا يجوز ؛ لأن بناء ما لم يثبت فيه سبب الإعراب أقوى من بناء ما عرض فيه مانع من الإعراب ، فينبغى أن يكون أقوى وجهى البناء على أصل البناء ، وهو السكون ؛ لأن أصل الإعراب الحركة ، وأصل البناء السكون ، ثم نقول : إن [مثل] هذه الكلمات سواء كانت من أسماء حروف الهجاء أو من أسماء العدد كواحد اثنان ثلاثة ، أو من غيرهما كزيد عمرو بكر ، وإن اتصل بعضها ببعض فى اللفظ ؛ إلا أن آخر كل واحد منها فى حكم الموقوف عليه ، وإنما وجب ذلك فيها لأن كل كلمة منها مقطوعة عما بعدها من حيث المعنى ، وإن كانت فى اللفظ متصلة به ، والدليل على كون كل واحدة فى حكم الموقوف عليه إثبات ألف الوصل فى اثنان إذا عددت ألفاظ العدد ، وقلب تاء أربعة وثلاثة هاء ، نحو واحد إثنان ثلاثة أربعة ، اتفاقا منهم ، وألف الوصل تسقط فى الدرج ولا ينقلب التاء هاء إلا فى الوقف ؛ فهذه أسماء مبنية على السكون أجريت عليها حكم الوقف ، كما يوقف على كم ومن وسائر الكلم المبنية على السكون ؛ فيجرى فى آخر كل واحدة منها حكم الوقف ؛ لعدم تعلق شىء منها بما بعده ، كما أنه لما لم يتعلق نحو قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بما بعده من أول السورة كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقفت على الرحيم ، لكن لا تسكت على كل واحدة كما هو حق الوقف فى آخر الكلام التام ؛ لأن ذلك إنما هو للاستراحة بعد التعب ، ولا تعب ههنا بالتلفظ بكل كلمة ، فمن حيث تجرى أواخرها مجرى

__________________

هى قبل التركيب فى حكم الوقف سواء كانت متفاصلة أو متواصلة ؛ إذ ليس فيها قبل ما يوجب الوصلة ؛ فالمتواصلة منها فى نية الوقف فتكون ساكنة ، بخلاف كيف وأين ، وحيث ، وجير ، إذا عددت وصلا ، فان حركتها لكونها لازمة لا تزول إلا بوجود الوقف حقيقة» اه

٢٢٢

الموقوف عليه قلبت التاء فى ثلاثة أربعة هاء ، ومن حيث وصلتها بما بعدها ولم تقف عليها نقلت حركة همزة أربعة إلى الهاء ، على ما حكى سيبويه ، كما ينقل فى نحو مسألة ، وقد أفلح ، ومثله قول الشاعر :

٧٠ ـ أقبلت من عند زياد كالخرف

تخطّ رجلاى بحطّ مختلف

* تكتّبان فى الطّريق لام ألف (١)

بنقل حركة همزة ألف إلى ميم لام ، ونقل المبرد عن المازنى منع نقل حركة الهمزة فى ثلاثه أربعه إلى الهاء ، وسيبويه أوثق من أن تردّ روايته (٢) عن العرب ، ولا سيما إذا لم يمنعها القياس ، وفرق سيبويه بين ما سكونه بنظر الواضع كأسماء حروف التهجى وبين ما سكونه يعرض عند قصد التعديد نحو واحد اثنان ثلاثة ، وزيد عمرو بكر ، فقال : ما أصله الإعراب جاز أن يشمّ فيه الرفع ؛ فيقال واحد اثنان ، بإشمام الرفع [وإنما أشم الرفع] دون غيره لأنه أقوى الإعراب

__________________

(١) هذه الأبيات لأبي النجم العجلى الفضل بن قدامة ، وكان لأبى النجم صديق يسقيه الشراب فاذا انصرف من عنده انصرف ثملا. وزياد : هو صديق أبى النجم الذي كان يسقيه. والخرف : الذى فسد عقله لكبر أو نحوه ، وهو صفة مشبهة ، وبابه فرح. وتخط : تعلم ، ومعنى الابيات أنه خرج من عند صديقه يترنح فتخط رجلاه خطا كالألف تارة وكاللام تارة أخرى ، يريد أنه لا يمشى على استقامة. والاستشهاد بالبيت على أنه نقل حركة همزة ألف إلى ميم لام كما نقلت حركة همزة أربعة إلى الهاء فى قولك ثلاثه اربعه حين تصل الثلاثة بما بعدها. وهذا البيت من شواهد سيبويه (ح ٢ ص ٣٤)

(٢) قال سيبويه رحمه‌الله (ح ٢ ص ٣٤): «وزعم من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول : ثلاثة اربعة ، طرح همزة أربعة على الهاء ففتحها ولم يحولها تاء ؛ لأنه جعلها ساكنة والساكن لا يتغير فى الادراج ، تقول : اضرب ، ثم تقول : اضرب زيدا» اه ، وبعد أن ذكر سيبويه أنه ينقل ذلك عن من يوثق به عن العرب لا محل لانكار المبرد الذى ذكره المؤلف عنه

٢٢٣

وأسبقه ، وأما ألف لام ميم فلا يشمّ شىء منها حركة لكونها أعرق فى السكون من الأول ، إذ سكون مثلها بنظر الواضع ، ومنع الأخفش من الإشمام ، ولا وجه لمنعه مع وجه الاستحسان المذكور ، وعلى ما قاله سيبويه لا بأس باشمام الرفع فى المضاف فى نحو غلام زيد إذا لم تركبه مع عامله

قوله «وفى نحو آلحسن عندك ، وآيمن الله يمينك ؛ للالتباس» يعنى إذا دخلت همزة الاستفهام على ما أوله همزة وصل مفتوحة لم يجز حذف همزة الوصل ، وإن وقعت فى الدرج ؛ لئلا يلتبس الاستخبار بالخبر ؛ لأن حركتى الهمزتين متفقتان ؛ إذ هما مفتوحتان ، وللعرب فى ذلك طريقان : أكثرهما قلب الثانية ألفا محضا ، والثانى تسهيل الثانية بين الهمزة والألف ، والأول أولى ؛ لأن حق الهمزة الثانية كان هو الحذف ؛ لوقوعها فى الدرج ، والقلب أقرب إلى الحذف من التسهيل ؛ لأنه إذهاب للهمزة بالكلية كالحذف ، وقرىء فى الكتاب العزيز بالوجهين ، فاذا قلبت الثانية ألفا التقى ساكنان لا على حدهما ؛ لأن الثانى ليس بمدغم فى نحو آلحسن ولا موقوف عليه كما شرطنا ، وفى قولك «آلله» وإن كان مدغما إلا أن المدغم ليس من كلمة حرف المد ، ولا المدغم فيه ، وإنما لم يحذف الألف المنقلبة من الهمزة لئلا يلزمهم ما فروا منه من التباس الاستخبار بالخبر ، وهوّن ذلك كون الألف أمكن فى المد من أخويه

قوله «وحلقتا البطان» يقال فى المثل : التقت حلقتا البطان ؛ (١) إذا

__________________

(١) هذا مثل تقوله العرب إذا اشتد الكرب ، ومنه قول أوس بن حجر من قصيدته التى يمدح فيها فضالة بن كلدة ويرثيه بعد وفاته

ليبكك الشّرب والمدامة والفتيان

طرّا وطامع طمعا

وذات هدم عار نواشرها

تصمت بالماء تولبا جدعا

والحىّ إذ حاذروا الصّباح وإذ

خافوا مغيرا وسائرا تلعا

وازدحمت حلقتا البطان بأق

وام وجاشت نفوسهم جزعا

٢٢٤

تفاقم الشر ، وذلك لأنهما لا يلتقيان إلا عند غاية هزال البعير أو فرط شد البطان

قال : «فإن كان غير ذلك وأوّلهما مدّة حذفت ، نحو خف وقل وبع وتخشين واغزوا وارمى واغزنّ وارمنّ ويخشى القوم ويغزو الجيش ويرمى الغرض»

أقول : كان حق قوله «وحلقتا البطان شاذ» أن يكون بعد قوله «ويرمى الغرض» لأن حق الألف الحذف كما فى «يخشى القوم» ولم تحذف

قوله «فإن كان غير ذلك» أى : إن كان التقاء الساكنين غير ذلك المذكور ، وذلك على ضربين : إما أن يكون أولهما مدّة ، أولا ، ونعنى بالمدة حرف لين ساكنا ، حركة ما قبله من جنسه ؛ فان كان فلا يخلو من أن يكون حذف المدة يؤدّى إلى لبس ، أولا ؛ فإن أدى إليه حرك الثانى ؛ إذ المد لا يحرك كما فى مسلمون ومسلمان ، فإن النون فى الأصل (١) ساكن ، فلو حذفت الألف والواو للساكنين لالتبسا بالمفرد المنصوب والمرفوع المنونين ، وكذا فى يسلمان

__________________

الهدم : الأخلاق من الثياب والنواشر : عروق ظاهر الكف. والجدع : السيء الغذاء. والبطان : الحزام الذى يجعل تحت بطن البعير ، وفيه حلقتان ، فاذا التقتا فقد بلغ الشد غايته

(١) وجهه أن النون فى المثنى والجمع هى التنوين الدال على تمكن الاسم ، والتنوين نون ساكنة ، فلما اجتمعت مع حرف المد وهو ساكن أيضا ، واجتماعهما ههنا ليس مما يغتفر ، وتعذر حذف حرف المد لأنه مفض إلى اللبس ، وتعذر تحريكه لأنه نقض للغرض ؛ لأن المطلوب من المد التخفيف وتحريكه نقض لهذا الغرض ؛ حركت النون ، والأصل فى تحريك الساكن إذا اضطر إليه أن يكسر وفتحت النون فى الجمع للفرق بين نون المثنى ونون الجمع ، ولم يعكس ليحصل التعادل فى المثنى نخفة الألف وثقل الكسرة ، وفى الجمع بثقل الواو وخفة الفتحة

٢٢٥

ويسلمون وتسلمين لو حذفت المدّات لالتبس الفعل بالمؤكد بالنون الخفيفة فى بدء النظر ، وإن لم يؤدّ الحذف إلى اللبس حذف المدّ ، سواء كان الساكن الثانى من كلمة الأول كما فى خف وقل وبع ، أو كان كالجزء منها ، وذلك بكونه ضميرا مرفوعا متصلا ، نحو تخشين وتغزون وترمين ، كان أصلها تخشى وتغزو وترمى ، (١) فلما اتصلت الضمائر الساكنة بها سقطت اللامات للساكنين ، أو بكونه أول نونى التأكيد المدغم أحدهما فى الآخر ، نحو اغزنّ وارمنّ ؛ فإنه سقط فيهما الضميران لاتصال النون الساكنة بهما ، أو كان الساكن الثانى أول كلمة منفصلة كما فى يخشى القوم ، ويغزو الجيش ، ويرمى الغرض (٢)

وإنما حذف الأول إذا كان مدة مع عدم اللبس ، وحرك هو إذا كان غيرها نحو اضرب اضرب إلا مع مانع كما فى لم يلده (٣) على ما يجىء ، ولم

__________________

(١) هذا الذى ذكره مبنى على ما ذهب إليه المؤلف وقرره مرارا من أن الضمائر إنما تلحق الأفعال بعد إعلالها على ما تقتضيه أسباب الاعلال (أنظر ح ١ ص ٧٩) وسيقرر ذلك قريبا. وأما بناء على ما ذهب إليه غيره من أن الضمائر تلحق الأفعال قبل الاعلال فأصل تخشين تخشيين ـ كتعلمين ـ تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصار تخشاين ، فحذفت الألف للتخلص من التقاء الساكنين ، وأوثرت هى بالحذف لأمرين : الأول أنها جزء كلمة ، والثانى أنها لام ، واللام محل التغيير والحذف. وأصل تغزون تغزوون ـ كتنصرون ـ استثقلت الضمة على الواو فحذفت الضمة فالتقى ساكنان ، فحذفت الواو الأولى للتخلص من التقائهما. وأصل ترمين ترميين كتضربين ، استثقلت الكسرة على الياء فحذفت الكسرة فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء الأولى للتخلص من التقائهما

(٢) الغرض : الهدف الذى ينصب فيرمى بالسهام

(٣) وردت هذه الكلمة فى بيت من الشعر لرجل من أزد السراة وهو :

عجبت لمولود وليس له أب

وذى ولد لم يلده أبوان

وقد مضى ذكر البيت ووجه التخفيف فيه (أنظر ح ١ ص ٤٥) وانظر (ص ٢٣٨ من هذا الجزء)

٢٢٦

يحذف الثانى ولم يحرك هو فى جميع المواضع لأن الثانى من الساكنين هو الذى يمتنع التلفظ به إذا كان الأول صحيحا ، والذى يستثقل فيه ذلك إذا كان الأول حرف لين ، وسبب الامتناع أو الاستثقال هو سكون الأول فيزال ذلك المانع : إما بحذف الأول إذا استثقل عليه الحركة ، وذلك إذا كان مدا ؛ أو بتحريكه إذا لم يكن كذلك ، وأما أول الساكنين فانك تبتدىء به قبل مجىء الثانى فلا يمتنع سكونه ولا يستثقل ، وإنما استثقل تحريك المد الذى هو الواو والياء لأن المطلوب من المد التخفيف وذلك بأن سكن حرف اللين وجعل ما قبله من جنسه ليسهل النطق به ، وتحريكه نقض لهذا الغرض ، وأما الألف فلا يجىء فيه ذلك ؛ لأن تحريكه مستحيل ؛ إذ لا يبقى إذن ألفا ، وإنما حذف الواو من اغزنّ والياء من ارمنّ وإن كان نون التأكيد كجزء الكلمة الأولى فيكون لو خلّى مثل الضالّين وتمودّ الثوب لأنها كلمة أخرى على كل حال ، وليست بلازمة ، فتعطى من جهة اللزوم حكم بعض الكلمة

فان قيل : فلم عد فى نحو اضربانّ كجزء الكلمة فلم يحذف الألف؟

قلت : الغرض الفرق بين الواحد والمثنى ، كما مر فى شرح الكافية

فنقول : النون من حيث لا يستثقل يمكن أن يكون له حكم جزء الكلمة ، ومن حيث هو على حرفين وليس بلازم للكلمة ليس كجزئها ، فحيث كان لهم غرض فى إعطائه حكم الجزء أعطوه ذلك ، أعنى فى نحو اضربانّ ، وحيث لم يكن لهم غرض لم يعطوه ذلك كما فى اغزنّ وارمنّ ، وفى تمثيل المصنف باغزوا وارمى ـ نظرا إلى أن أصلهما اغزووا وارميى فسكنت اللام استثقالا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ـ نظر ؛ لأن الواو والياء فاعلان يتصلان بالفعل بعد الإعلال ، كما ذكرنا أول الكتاب (١) فى تعليل ضمة قلت وكسرة بعت ، فالحق أن يقال : الواو

__________________

(١) أنظر (ح ١ ص ٧٩)

٢٢٧

والياء فى اغزوا وارمى إنما اتصلا باغز وارم محذوفى اللام للوقف ؛ لا أنهما ثابتا اللام

اعلم أن الضمائر المرفوعة المتصلة بالمجزوم والموقوف (١) نحو اغزوا ولم يغزوا واغزوا ولم تغزوا واغزى ولم تغزى وارميا ولم ترميا وارموا ولم ترموا وارمى ولم ترمى وارضيا ولم ترضيا وارضوا ولم ترضوا وارضى ولم ترضى ؛ إنما تلحق الفعل بعد حذف اللام للجزم أو الوقف ، كما لحقت فى اضربا وقولوا ولم يضربا ولم يقولوا بعد الجزم والوقف ، ثم تعود اللامات لحقوقها ، لأن الجزم والوقف معها ليسا على اللام ، ثم تسقط اللامات مع الواو والياء لاجتماع الساكنين بعد حذف حركاتها ، ولا تسقط مع الألف نحو اغزوا وارميا وارضيا ولم تغزوا ولم ترميا ولم ترضيا ؛ لعدم الساكنين ، ولم يقلب اللام ألفا فى ارضيا واخشيا حملا على ترضيان وتخشيان ، على ما يجىء فى باب الإعلال

قال : «والحركة فى نحو خف الله واخشوا الله واخشى الله واخشونّ واخشين غير معتدّ بها ، بخلاف نحو خافا وخافنّ»

أقول : يعنى أن حركة الواو فى اخشوا الله وحركة اللام فى خف الله عرضتا لأجل كلمة منفصلة ، وهى الله ، فلم يعتد بها ، فلم ترجع الألف المحذوفة لأجل سكون الواو واللام ، وكذلك حركة واو اخشونّ وياء اخشينّ لأن النون المتصلة بالضمير كالكلمة المنفصلة ، على ما قرر المصنف فى آخر الكافية

فان قيل : هب أن النون كالكلمة المنفصلة عن الفعل بسبب توسط الضمير بينهما ، أليست كالمتصلة بالضمير اتصالها باللام فى خافنّ؟ فلما كان حركة اللام فى خافنّ كالأصلية بسبب ما اتصل به : أى النون ، فلذا رجع الألف المحذوفة فى خف ، فكذا كان ينبغى أن يكون حركة الواو والياء فى اخشونّ واخشينّ ، فكان ينبغى أن ترجع اللام المحذوفة فيهما لسكون الواو والياء المتصلين بهما

__________________

(١) المراد بالموقوف المبنى وهو تعبير شائع فى عبارات المتقدمين من النحاة

٢٢٨

قلنا : بين اتصال النون بلام الكلمة وبين اتصالها بالضمير فرق ، وذلك لأن النون إذا اتصلت لفظا بالضمير فهى غير متصلة به معنى ؛ لأنها لتأكيد الفعل لا لتأكيد الضمير ، وأيضا فإن لام الكلمة عريق فى الحركة فاعتذّ بحركته العارضة ، بخلاف واو الضمير ويائه ؛ فانهما عريقان فى السكون

فان قلت : أليس النون فى نحو اضربانّ بعد الضمير؟ فهلا حذفت الألف كما فى اضربا الرّجل؟

قلت : خوفا من التباس المثنى بالمفرد كما مر ، وأما حركة اللام فى خافا وخافوا وخافى وخافنّ فإنها مع عروضها صارت كالأصلية ، بسبب اتصال الضمير المرفوع المتصل الذى هو كجزء الفعل ، واتصال نون التأكيد بنفس الفعل ، وكذا فى ليخافا وليخافوا وليخافنّ ، مع أن حركات اللام فى الكلمات المذكورة وإن كانت عارضة بسبب إلحاق الضمائر والنون ، لكنها ثابتة الأقدام لأجل خروج اللام عن كونه فى تقدير السكون ، كما كان فى قم الليل ولم يقم الليل ؛ إذ الجزم والوقف مع نون التأكيد المتصلة بلام الكلمة زالا بالكلية لصيرورتها معها مبنية على الحركة على (١) الأصح ، كما مر فى شرح الكافية ، ومع اتصال

__________________

(١) هذا أحد أقوال ثلاثة فى الفعل المضارع الذى اتصلت به نون التوكيد ، وحاصله أن الفعل المضارع يبي على الفتح إذا باشرته نون التوكيد ولم يفصل بينهما فاصل ظاهر أو مقدر ، وذلك فى الفعل المضارع المسند إلى اسم ظاهر أو إلى ضمير الواحد المذكر ، وعلة بنائه حينئذ تركبه مع النون كتركب خمسة عشر ، والفاصل الظاهر ألف الاثنين ، والمقدر واو الجماعة وياء المخاطبة ، والقول الثانى أن المضارع مع نون التوكيد مبنى مطلقا سواء أباشرته النون أم لم تباشره ، وهو مبنى على فتح ظاهر مع المباشرة ، وعلى فتح مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة المناسبة مع غير المباشرة. والقول الثالث أن الفعل المضارع مع نون التوكيد معرب مطلقا ، وعلامة إعرابه النون المحذوفة لتوالى الأمثال إذا كانت النون غير مباشرة للفعل بأن فصل بينهما فاصل ملفوظ

٢٢٩

الضمائر البارزة فى نحو قولا ولم يقولا وقولوا ولم يقولوا وقولى ولم تقولى بلا نون تأكيد ينتقل الجزم والوقف عن اللام إلى النون التى بعد اللام ؛ ففى الحالتين لم يبق اللام فى تقدير السكون ، فلا جرم رجعت العينات ؛ ولزوال الجزم والوقف تثبت اللامات فى اغزون وليغزونّ واغزوا

هذا ، وإنما لم يحذف أول الساكنين ، أعنى الألف فى رمى وغزا ، عند اتصال ألف المثنى فى غزوا ورميا وأعليان وحبليان ، بل قلبت واوا أو ياء كما رأيت ، وحرك ؛ خوفا من التباس المثنى بالمفرد ، أعنى رمى وغزا وأعلى زيد وحبلى عمرو

وإنما لم ترد اللام المحذوفة فى مثل رمت وغزت وإن تحركت التاء فى غزتا ورمتا لأن حركتها وإن كانت لأجل الألف التى هى كالجزء ، لكن تاء التأنيث الفعلية عريقة السكون ، بخلاف لام قوما ، كما مر ، وأيضا حق التاء أن تكون بعد الفاعل ، لأنها علامة تأنيثه لا علامة تأنيث الفعل ، فهى مانعة للألف من الاتصال التام كما قلنا فى اخشونّ واخشينّ ، على أن بعضهم جوز ردّ الألف فى مثله ، مستشهدا بقوله

٧١ ـ لها متنتان خظاتا كما

أكبّ على ساعديه النّمر (١)

__________________

به أو مقدر ، أما مع النون المباشرة فعلامة إعرابه حركة مقدرة منع من ظهورها حركة التمييز بين المسند إلى الواحد والمسند إلى الجماعة والمسند إلى الواحدة.

(١) هذا بيت من قصيدة تنسب لامريء القيس بن حجر الكندى ، وهو فى وصف فرس ، وقبله قوله.

لها حافر مثل قعب الوليد

ركّب فيه وظيف عجر

لها ثنن كخوافى العقا

ب سود يفين إذا تزبئرّ

لها ذنب مثل ذيل العروس

تسدّ به فرجها من دبر

٢٣٠

قال : «فإن لمّ يكن مدّة حرّك ، نحو اذهب اذهب ولم أبله وألم الله واخشوا الله واخشى الله ، ومن ثمّ قيل اخشونّ واخشينّ لأنّه كالمنفصل»

أقول : اعلم أن أول الساكنين إن لم يكن مدة وجب تحريكه ، إلا إذا أدّى تحريكه إلى نقض الغرض كما فى لم يلده وانطلق ، كما يجىء ، وإنما وجب تحريك الأول من دون هذا المانع لأن سكونه كما ذكرنا هو المانع

__________________

القعب : قدح مقعر من خشب ، والوليد : الصبى ؛ يريد أن جوف حافرها واسع. والوظيف : مقدم الساق ، وهو من الحيوان ما فوق الرسغ إلى الساق. وعجر : غليظ ، والثنن : جمع ثنة (كعرفة) ، وهي الشعرات التى فى مؤخر رسغ الدابة ، ويفين : أصله يفئن ، وتزبئر : تنتفش ، والمتنتان : تثنية متنة ، وهي بمعنى المتن ؛ وأراد جانبى ظهرها. وخظاتا : اكتنزتا وارتفعتا ، وقوله «كما أكب على ساعديه النمر» قال ثعلب : أى فى صلابة ساعد النمر إذا اعتمد على يديه ، فكأنه قال لها جانبا ظهر مكتنزان شديدان. والاستشهاد بالبيت فى قوله «خظاتا» وهو فعل ماض أصله خظي ـ كرمي ـ ومعناه اكتنز ، فأذا ألحقت به تاء التأنيث قلت خظت كما تقول رمت ، فان جئت بألف المثنى مع تاء التأنيث فالقياس أن تقول : خظتا ، كما تقول : رمتا ، كما قال المؤلف ، ولكن هذا الشاعر أعاد الألف التى هى لام الفعل نظرا إلى تحرك التاء ، ولم يبال بعراقة التاء فى السكون ، وهذا تخريج جماعة من العلماء منهم الكسائي ، وذهب الفراء إلى أن خظاتا مثنى خظاة ، حذفت نون الرفع كما حذفت فى نحو قول الراجز :

* يا حبّذا عينا سليمى والفما*

أراد «والفمان» ، وكما حذفت فى قول الشاعر :

لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها

لأولادها ثنتا وما بيننا عنز

أراد «ثنتان» ؛ وذهب أبو العباس المبرد إلى أن النون حذفت للاضافة ، وعنده أن خظاتا مضاف إلى «كما أكب على ساعديه النمر» وهو كلام لا معنى له ؛ إذ لا يمكن تخريجه على وجه صحيح

٢٣١

من التلفظ بالساكن الثانى ، فيزال ذلك المانع بتحريكه ، إذ لا يؤدى التحريك إلى استثقال كما أدى إليه تحريك حرف المد على ما ذكرنا

ويستثنى من هذا الباب نون التأكيد الخفيفة فى نحو قوله :

٧٢ ـ لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه (١)

فإنه يحذف كما ذكرنا فى شرح الكافية فرقا بينها وبين التنوين (٢)

__________________

(١) هذا البيت من بحر المنسرح ، وآخر النصف الأول منه قوله : «علك أن» وقد حذف من أوله سبب خفيف. وهو من قصيدة للأضبط بن قريع أولها :

لكلّ همّ من الهموم سعه

والصّبح والمسى لا فلاح معه

ما بال من سرّه مصابك لا

يملك شيئا من أمره وزعه

وقبل البيت الشاهد قوله :

قد يجمع المال غير آكله

ويأكل المال غير من جمعه

فاقبل من الدّهر ما أتاك به

من قرّ عينا بعيشه نفعه

وصل حبال البعيد إن وصل الحبل

وأقص القريب إن قطعه

والأضبط بن قريع جاهلى قديم ، وهو الذى أساء قومه مجاورته فانتقل عنهم إلى آخرين ففعلوا مثل ذلك فقال : أينما أوجّه ألق سعدا ، وقال : بكلّ واد بنو سعد (فذهبتا مثلين) ، والفلاح : البقاء والعيش ، وهو أيضا الفوز ، وعليه يحمل قول المؤذن «حى على الفلاح» والاستشهاد بالبيت على أن أصله «لا تهينن» بنون التوكيد الخفيفة الساكنة بعد النون التى هى لام الكلمة ، فلما وقع بعدها ساكن آخر وهو لام التعريف حذفت نون التوكيد للتخلص من التقاء الساكنين

(٢) يريد أنهم قصدوا عدم تسويتها بالتنوين ، وذلك لأن التنوين لازم للاسم المتمكن فى الوصل إذا خلا عن المانع ، وهو الاضافة واللام ، بخلاف النون الخفيفة ، فانها قد تترك من الفعل بلا مانع ، فلما اضطروا إلى تحريكهما أو حذفهما ـ وذلك عند التقائهما مع ساكن آخر ـ أجروا التنوين على الأصل فى التخلص من التقاء

٢٣٢

ويستثنى أيضا نون لدن ، وحذفه شاذ ، ووجهه مع الشذوذ أنه كان فى معرض السقوط من دون التقاء الساكنين ، نحو :

٧٣ ـ من لد لحييه إلى منحوره

يستوعب البوعين من جريره (١)

فيجوز حذفه إذا وقع موقعا يحسن حذف حرف المد فيه ، وذلك لأجل مشابهته للواو ، ولا يقاس عليه نون لم يكن ، وإن شاركه فيما قلنا : من مشابهة

__________________

الساكنين ، وهو تحريك أولهما إذا لم يكن مدة ، وأجروا النون على خلاف الأصل ، وهو حذف أول الساكنين ، مع أنها ليست مدة ، فرقا بينها وبين التنوين ، ولم يعكسوا ؛ لأن التنوين لازم للاسم المتمكن بخلاف النون ، والخلاصة أن التنوين إذا التقى مع ساكن آخر فلا يحذف قياسا إلا فى ابن وابنة إذا كانا نعتين لعلم وكانا مضافين لعلم آخر ، وإنما حذف التنوين من الموصوف بهما لأنه قد كثر استعمالهما نعتين على هذا الوجه ، واللفظ إذا كثر استعماله طلب التخفيف فيه ، فلما اضطروا بسبب التقاء الساكنين إلى تحريك التنوين أو حذفه اختاروا حذفه طلبا للخفة ، والنون الخفيفة إذا التقت مع ساكن آخر حذفت قياسا ؛ قصد اللفرق بينها وبين التنوين

(١) هذا البيت من شواهد سيبويه ، وقد وقع فى نسخ الأصل كلها على ما ترى ، والذى فى سيبويه وفى شرح الشواهد للبغدادى

يستوعب البوعين من جريره

من لد لحييه إلى منحوره

وصف بعيرا ، أو فرسا ، بطول العنق فجعله يستوعب من حبله الذى يربط به مقدار باعين فيما بين لحييه ونحره. والبوعان : مثنى بوع ، وهو مصدر بعت الشىء أبوعه بوعا إذا ذرعته بباعك ، والجرير : الحبل والاستشهاد بالبيت فى قوله : «لد لحييه» على أن أصله لدن فحذفت النون قال سيبويه. «فأما لدن فالموضع الذى هو أول الغاية ، وهو اسم يكون ظرفا ، يدلك على أنه اسم قولهم : من لدن ، وقد يحذف بعض العرب النون حتى يصير على حرفين ، قال الراجز : «يستوعب البوعين ... البيت» اه

٢٣٣

الواو ، وجواز حذفه لغير الساكنين ؛ لأن حذف نون لدن للساكنين شاذ ، وما ذكرناه وجه استحسانه ، وليس بعلة موجبة

ويستثنى أيضا تنوين العلم الموصوف بابن مضافا إلى علم كما مر فى موضعه (١)

وأما حذف التنوين للساكنين فى قوله :

٧٤ ـ وحاتم الطّائىّ وهّاب المئى (٢)

__________________

(١) المعروف من مذاهب النحاة أن كلمة «ابن» إذا وقعت بين علمين ثانيهما أبو الأول وكانت وصفا لأولهما وجب أمران : أحدهما حذف ألف ابن فى الخط ، وثانيهما حذف تنوين العلم الأول إن كان منونا ؛ لكن حكى التبريزي فى شرح الحماسة فى هذا لغتين : الأولى حذف التنوين كالمشهور عن النحاة ، وثانيتهما جواز التنوين. قال (ح ٤ ص ٣٤ طبعة المكتبة التجارية) فى شرح قول قرواش بن حوط الضبى

نبّئت أنّ عقالا بن خويلد

بنعاف ذى عزم وأنّ الأعلما

ينمى وعيدهما إلىّ وبيننا

شمّ فوارع من هضاب يرمرما

ما نصه : «والأجود فى العلم وقد وصف بالابن أو الابنة مضافين إلى علم أو ما يجرى مجراه ترك التنوين فيه ، وقد نون هذا الشاعر «عقالا» ؛ وإذ قد فعل ذلك فالأجود فى ابن خويلد أن يجعل بدلا ، ويجوز أن يجعل صفة على اللغة الثانية» اه ، وعلى ذلك يحمل قول الراجز :

* جارية من قيس بن ثعلبه*

على أنه لغة ، وليس ضرورة كما ذكره بعض النحاة

(٢) هذا بيت من الرجز المشطور لامرأة تفتخر بأخوالها ، وقبله :

* حيدة خالى ولقيط وعلى*

وحيدة ولقيط وعلى وحاتم : أعلام ، والطائى : نسبة إلى طييء على خلاف القياس. والاستشهاد بالبيت فى قوله «وحاتم الطائى» حيث حذف التنوين من حاتم

٢٣٤

وفيما قرىء من قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) فشاذ

والأصل فى تحريك الساكن الأول الكسر ، لما ذكرنا أنه من سجية النفس إذا لم تستكره على حركة أخرى ، وقيل : إنما كان أصل كل ساكن احتيج إلى تحريكه من هذا الذى نحن فيه ومن همزة الوصل الكسر لأن السكون فى الفعل : أى الجزم ؛ أقيم مقام الكسر فى الاسم : أى الجر ، فلما احتيج إلى حركة قائمة مقام السكون مزيلة له أقيم الكسر مقامه على سبيل التقاصّ ، وقيل : إنما كسر أول الساكنين وقت الاحتياج إلى تحريكه لأنه لم يقع إلا فى آخر الكلمة فاستحب أن يحرك بحركة لا تلتبس بالحركة الإعرابية ، فكان الكسر أولى ؛ لأنه لا يكون إعرابا إلا مع تنوين بعده أو ما يقوم مقامها من لام وإضافة ، فاذا لم يوجد بعده تنوين ، ولا قائم مقامها علم أنه ليس باعراب ، وأما الضم والفتح فقد يكونان إعرابا بلا تنوين ، ولا شىء قائم مقامه ، نحو جاءنى أحمد ، ورأيت أحمد ، ويضرب ولن يضرب ، فلو حرك باحدى الحركتين لالتبست بالحركة الإعرابية

قوله «ولم أبله» أصله أبالى ، سقطت الياء بدخول الجازم ، فكثر استعمال «لم أبال» فطلب التخفيف ؛ فجوّز جزم الكلمة بالجازم مرة أخرى ، تشبيها لها بما لم يحذف منه شىء كيقول ويخاف ، لتحرك آخرها ، فأسقط حركة اللام ، فسقط الألف للساكنين ، فألحق هاء السكت لأن اللام فى تقدير الحركة ، إذ هى إنما حذفت على خلاف القياس ، فكأنها ثابتة كما فى «لم يره» و «لم يخشه» فالتقى ساكنان فكسر الأول كما هو القياس ، وأيضا فان الكسر حركته الأصلية

وأما قوله (ألم الله) فمن وقف على (ألم) وعدها آية وابتدأ بالله محركا لهمزته

__________________

ضرورة ، وفيه شاهد آخر فى قوله «المئي» حيث حذف النون ضرورة ، وأصله المئين وليس هذا الاستشهاد الثانى مرادا هنا

٢٣٥

بالقتح فلا كلام فيه ، وأما من وصل ألم بالله فانه يحرك ميم ميم بالفتح لا غير ، وهو مذهب سيبويه ، والمسموع من كلامهم ، واختلف فى هذه الفتحة ، والأقرب كما قال جار الله أنها فتحة همزة الله نقلت إلى ميم ، كما قلنا فى ثلاثهربعة. وقال بعضهم : هى لإزالة الساكنين ، وإنما كان الأول هو المختار لما تقدم أن أسماء حروف الهجاء إذا ركبت غير تركيب الإعراب جرى كل واحد منها مجرى الكلمة الموقوف عليها ، لعدم اتصال بعضها ببعض من حيث المعنى ، وإن اتصلت من حيث اللفظ ؛ ومن ثم قلبت تاآت نحو ثلاثة أربعة هاء ، فلما كانت ميم كالموقوف عليها ثبتت همزة الوصل فى الله ؛ لأنها كالمبتدأ بها ، وإن كانت متصلة فى اللفظ بميم ، فلما نقلت حركة همزة القطع إلى ما قبلها وحذفت فى ثلاثهربعة وفى قوله «لام الف» كذلك حذفت همزة الوصل بعد نقل حركتها إلى ما قبلها لأنها صارت كهمزة القطع من حيث بقاؤها مع الوصل ؛ إلا أن حذفها مع نقل الحركة فى (ألم الله) أولى من إثباتها ، كراهة لبقاء همزة الوصل فى الدرج ، بخلاف الهمزة فى ثلاثهربعة ولام ألف ؛ فان حذفها لا يترجح على إثباتها لكونها همزة قطع ، واختار المصنف جعل حركة ميم للساكنين ، بناء على أن الكلمات المعدودة ليست أواخرها كأواخر الكلم الموقوف عليها ، فيسقط إذن همزة الوصل لكونها فى الدرج ، فيلتقى ساكنان : الميم ، واللام الأولى ، فلم يكسر الميم كأخواته لأن قبله ياء وكسرة ، فلو كسرت لتوالت الأمثال ، وأيضا فيما فعلوا حصول التفخيم فى لام الله ، إذ هى تفخم بعد الفتح والضم وترقق بعد الكسر ، والذى حمله على هذا بناؤه كما مر على أن سكون أواخر الكلمات المعدودة ليس للوقف ؛ لأنه إنما يسكن المتحرك ، ولا حركة أصلا لهذه الكلمات ، وذهب عنه أنه يوقف على الساكن أيضا ، والحق أنها مبنية على السكون ، فجرى آخر كل واحدة منها مجرى الموقوف عليه ، كما يوقف على من وكم ونحوهما ، وقلب التاء هاء وثبوت همزة الوصل فى نحو واحد اثنان دليل الوقف ، وأجاز الأخفش الكسر أيضا فى (ألم الله) قياسا

٢٣٦

لا سماعا ، كما هو عادته فى التجرد بقياساته على كلام العرب الذى أكثره مبنى على السماع [وهذا من الأخفش] بناء على أن الحركة للساكنين وليست للنقل ، وبه قرأ عمرو بن عبيد

قوله «واخشوا الله ، وأخشى الله» إنما لم يحذف الواو والياء لأن الأصل أن يتوصل إلى النطق بالساكن الثانى بتحريك الساكن الأول لا بحذفه ، لأن سكونه هو المانع من النطق به ، فيرفع ذلك المانع فقط ، وذلك بالتحريك ، وإنما ينتقل إلى حذفه إذا كان مدة كما ذكرنا ، والواو والياء إذا انفتح ما قبلهما ليستا بمدتين فلا يستثقل تحريكهما ، مع أنه لو حذف الواو والياء ههنا ـ وهما كلمتان برأسهما ـ لم يكن عليهما دليل ؛ لأن قبلهما فتحة ، بخلاف «اغزوا القوم» و «اغزى الجيش» فان الضمة قبل الواو والكسرة قبل الياء دليلان عليهما بعد حذفهما

قوله «ومن ثم قيل اخشونّ واخشينّ لأنه كالمنفصل» لا وجه لا يراد هذا الكلام ههنا أصلا ؛ لأن الساكن الأول يحرك إذا لم يكن مدة ، وإن كان الثانى متصلا مثل الهاء فى «لم أبله» أو منفصلا كاخشوا الله واخشى الله أو كالمنفصل كاخشونّ واخشينّ ؛ فأى فائدة لقوله «لأنه كالمنفصل» وحكم المتصل أيضا كذلك؟

وهذا مثل ما قال فى آخر الكافية «وهما فى غيرهما مع الضمير البارز كالمنفصل» كأنه توهم ههنا أن حق الواو والياء فى مثله الحذف كما فى اغزنّ ، لكن لما كان النون المؤكدة التى بعد الضمة كالكلمة المنفصلة لم يحذفا ، كما لم يحذفا فى نحو اخشوا الله واخشى الله ، وقد ذكرنا الكلام عليه هناك ، وتحريك لام التعريف الداخلة على همزة الوصل ، نحو الابن والاسم والانطلاق والاستخراج ، من باب تحريك أول الساكنين بالكسر ليمكن النطق بالثانى فى نحو قد استخرج وهل احتقر ؛ لأن همزة الوصل حركتها تسقط فى الدرج فيلتقى ساكنان : لام التعريف ،

٢٣٧

والساكن الذى كان بعد همزة الوصل ، وروى الكسائى عن بعض العرب جواز نقل حركة الهمزة إذا أردت حذفه فى الدرج إلى ما قبله ، فروى (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله) بفتح ميم الرحيم إذا وصلته بأول الحمد ، وكذا قرىء فى الشواذ (قم اللّيل) بفتح الميم ، فعلى هذا يجوز أن يكون كسرة اللام فى الابن والانطلاق منقولة عن همزة الوصل ، وكذا الضم فى نحو (قد استهزىء) و (قالت اخرج) وهو ضعيف ، ولو جاز هذا لجاز (لم يكن الّذين) وعن الّذين ؛ بفتح النونين

قال «إلّا فى نحو انطلق ولم يلده ، وفى نحو ردّ ولم يردّ فى تميم ممّا فرّ من تحريكه للتّخفيف فحرّك الثّانى ؛ وقراءة حفص ويتّقه ليست منه على الأصحّ»

أقول : يعنى إذا لم يكن الأول مدة حرك الأول ؛ إلا إذا حصل من تحريك الأول نقض الغرض ، وهذا فى الفعل فقط ، نحو انطلق ، وأصله انطلق أمر من الانطلاق ، فشبه طلق بكتف فى لغة تميم ، فسكن اللام ، فالتقى ساكنان ، فلو حرك الأول على ما هو حق التقاء الساكنين لكان نقضا للغرض وكذا الكلام فى لم يلده ، قال :

عجبت لمولود وليس له أب

وذى ولد لم يلده أبوان (١)

واختير فتح ثانى الساكنين على الكسر الذى هو الأصل فى تحريك الساكنين لتنزيه الفعل عنه ، ومن ثم توقى منه بنون العماد ، وأما الضم فلا يصار إليه فى دفع الساكنين لثقله ، إلا للاتباع كما فى منذ ، أو لكونه واو الجمع كما فى اخشونّ ، وقيل : إنما فتح إتباعا لحركة ما قبل الساكن الأول مع كون الفتح أخف

قوله «وفى نحو ردّ ولم يردّ فى تميم» اعلم أن أهل الحجاز لا يدغمون فى

__________________

(١) قد سبق القول فى هذا البيت (ج ١ ص ٤٥) فارجع إليه هنالك ، وانظر (ص ٢٢٦ من هذا الجزء)

٢٣٨

المضاعف الساكن لامه للجزم أو للوقف ، نحو اردد ولم يردد ؛ لأن شرط الإدغام تحريك الثانى ، وبنو تميم وكثير من غيرهم لما رأوا أن هذا الاسكان عارض للوقف أو للجزم وقد يتحرك وإن كانت الحركة عارضة فى نحو «اردد القوم» لم يعتدوا بهذا الاسكان ، وجعلوا الثانى كالمتحرك ، فسكنوا الأول ليدغم ، فتخف الكلمة بالادغام ، فالتقى ساكنان ، فلو حرك الأول لكان نقضا للغرض ، وقد جاء به الكتاب العزيز أيضا ، قال تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) وإذا ثبت أن بعض العرب يدغم الأول فى الثانى فى نحو يرددن مع أن تحريك الثانى مع وجود النون ممتنع فما ظنك بجواز إدغام نحو اردد ولم يردد مع جوز تحريك الثانى للساكنين؟ واتفق الجميع على ترك إدغام أفعل تعجبا نحو أحبب به ، لكونه غير متصرف ، وقد يحرك الثانى أيضا إذا كان آخر الكلمة المبنية ؛ إذ لو حرك الأول والساكنان متلازمان على هذا التقدير لالتبس وزن بوزن ، كما فى أمس ومنذ ، فكان يشتبه فعل وفعل الساكنا العين بالمتحركيها ، ويجوز أن يعلل أين وكيف وحيث بمثله ، وباستثقال الحركة على حرف العلة إن لم يقلب ، ولو قلب لكان تصرفا فى غير متمكن

قوله : «وقراءة حفص ـ الخ» رد على الزمخشرى (١) ، فانه قال : أصله

__________________

(١) لم ينفرد الزمخشرى بما ذكره المؤلف ، بل هو تابع فيما ذهب إليه لجمهرة النحاة ، ونحن نلخص لك ما ذهبوا إليه فى توجيه قراءة حفص ؛ فنقول :

ذهب النحاة فى توجيه هذه القراءة أربعة مذاهب : أولها ـ وهو ما ذهب إليه الجمهور وعزاه المؤلف للزمخشرى ـ وثانيها مذهب ذهب إليه عبد القاهر وحكاه عنه الجاربردى واختاره المصنف وذكر المؤلف أنه الحق ؛ وقد تكفل المؤلف ببيان هذين المذهبين ، فلا داعى للاطالة فى شرحهما ، والثالث ـ وهو مذهب ذهب إليه أبو على الفارسي ـ وحاصله أن الهاء هاء الضمير

٢٣٩

يتّق ألحقت به هاء السكت فصار تقه ككتف فخفف بحذف حركة القاف كما هو لغة تميم ، فالتقى ساكنان ، فحرك الثانى : أى هاء السكت ؛ لئلا يلزم نقض الغرض لو حرك الأول ، وفيما قال ارتكاب تحريك هاء السكت ، وهو بعيد ، وقال المصنف ـ وهو الحق ـ : بل الهاء فيه ضمير راجع إليه تعالى فى قوله (وَيَخْشَ اللهَ) وكان تقه ككتف ، فخفف بحذف كسر القاف ، ثم حذف الصلة التى بعد هاء الضمير : أى الياء ؛ لأنها تحذف إذا كان الهاء بعد الساكن نحو منه وعنه وعليه ، كما مر فى باب المضمرات

قال : «والكسر الأصل فإن خولف فلعارض : كوجوب الضّمّ فى ميم الجمع ومد ، وكاختيار الفتح فى ألم الله»

أقول : قد ذكرنا لم كان الكسر أصلا فى هذا الباب

قوله : «كوجوب الضم فى ميم الجمع» ليس على الإطلاق ، وذلك أن ميم

__________________

المفرد المذكر ، وأنها قد سكنت على لغة بنى عقيل وكلاب ، وذلك أنهم يجوزون تسكين هاء ضمير المفرد المذكر إذا تحرك ما قبلها ، ثم سكنت القاف من يتقه على لغة بنى تميم ، تشبيها بنحو كتف ، فالتقى ساكنان أولهما ليس مدة ، فلو حرك الأول منهما على القاعدة لكان نقضا للغرض ؛ فلذلك حرك الثانى ؛ فعلى هذا جاز أن تكون قراءة حفص منه ، والرابع أن الهاء هاء الضمير وأن القاف سكنت لا للتشبيه بنحو كتف فى لغة بنى تميم ، بل لتسليط الجازم عليها ، كما سكنت اللام فى «لم أبله» ، وكما سكنت القاف فى قول من قال :

ومن يتّق فإنّ الله معه

ورزق الله مؤتاب وغادى

وعلى هذا لا تكون قراءة حفص من باب التقاء الساكنين ، كما أنها ليست كذلك على الوجه الذي ذهب إليه المصنف تبعا لعبد القاهر ، والفرق بين هذا المذهب الأخير وبين ما ذهب إليه المصنف أن القاف سكنت على ما ذهب إليه المصنف تخفيفا تشبيها له بنحو كتف ، وعلى المذهب الأخير سكنت القاف للجازم ، والخلاصة أن قراءة حفص تكون من هذا الباب على المذهب الأول والثالث ولا تكون منه على المذهب الثانى والرابع

٢٤٠