سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

فيهم المثلُ المعروفُ : « وانما امّهات الناس اوعية ».

كما أنهم غالباً ما كانوا يقتلون بناتهم في اليوم الاول من ميلادهن خشية الفقر تارة ، ودفعاً للعار والشنآن تارة اُخرى.

وقد كان هذا القتل يَتُمُّ إما بذبحهن أو إلقاءهنّ من شاهق ، أو إغراقهنّ في الماء أو الدفن وهن أحياء كما سبق.

وقد تعرض القرآنُ الكريم ـ الّذي يعدّ من وجهة نظر المستشرقين الكتابَ والمصدرَ التاريخي العلمي الوحيد الّذي لم تنله يدُ التحريف ـ تعرَّض لذكر قصة من هذا النوع ضمن آيات من سورة النحل حيث قال : « واذا بُشِّرَ أحدُهم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسَوّداً وهو كظيم يتوارى مِن القوم مِنْ سُوءِ ما بُشِّر بِه أيمسِكُهُ عَلى هُون اَمْ يَدسُّهُ في التُرابَ ألا ساء ما يحكمونَ » (١).

هذا والمؤسف أكثر هو ما كان عليه وضع الزواج في الجاهلية ، حيث لم يكن يستند إلى أي قانون ، ولم يخضع لأيّ واحد من النظم المعقولة ، بل كان وضعاً عديم النظير في ذلك الزمان ، فلم يكن لعدد الزوجات ـ مثلا ـ حد معلوم ، أو قاعدة ثابتة.

كما انه كلما أرادوا التخلص من مهر الزوجة عمدوا إلى ايذاءها بقسوة ، حتّى تتخلى هي بنفسها عن حقها ، وكان اقترافها لأيّ عَمل مناف للعفة هو الآخر سبباً لسقوط حقها في المهر بالمرة.

ولطالما استغلَّ بعض الاشخاص هذا القانون الجائر للتخلص مِن مهور زوجاتهم فاتهموهن بالخيانة الزوجية!!

ومن قبيح ما كانوا يفعلون ان يتزوج الرجل بزوجة أبيه بعد تطليقها ، أو وفاته وربما تناوب الأبناء على امرأة أبيهم واحداً بعد واحد ، فقد كانَ الرجل من العرب الجاهلية إذا مات عن المرأة أو طلّقها قام أكبر بنيه ، فان كان يحبُّ أن يتزوجها طرح ثوبه عليها ، وإن لم يكن يريد التزوج بها تزوَّج بها بعضُ اخوته بمهر

____________

١ ـ النحل : ٥٨ و ٥٩.

٦١

جديد (١).

وقد ابطل الإسلامُ هذه العادة الفاسدة حيث قال اللّه تعالى : « ولا تنكحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساء إلاّ ما قد سَلَف إنَّهُ كانَ فاحِشَة ومقتاً وساء سَبيلا » (٢).

وقد ذكرت كتبُ التاريخ والسيرة طائفة ممن فعلوا هذا نعرض عن ذكر أسماءهم.

كما ذكرت تلك الكتب انواعاً اُخرى من المناكح الفاسدة الشنيعة الّتي أبطلها الإسلام (٣).

ثم إن المطلَّقة لم يكن لها الحق ـ في زمن الجاهلية ـ في ان تتزوج برجل آخر بعد انقضاء عدّتها إلا إذا اذنَ لها الزوجُ الأول الّذي كان غالباً مّا يأخذ مهرها في الزواج الثاني في قبال الاذن.

وربما مَنَع اولياؤُها من أن تتزوج بزوجها الاول الّذي طلَّقها ، ثم خطبها بعد انقضاء العدة إذا رضيَتْ به ورغبت فيه ، أو أنْ تتزوج بمن أرادَت واحبَّت ـ بعد انقضاء العِدّة ـ أصلا ، حميّة جاهلية.

وكان الرجُل يرث امرأة ذي قرابته إذا مات عنها ، تماماً كما يرث ما خَلف من أمتِعةِ المنزل ، زاعماً بانه أحقُ بها من غيره ، فيعظلها ( يمنعها من الزواج ) أو ترّدُ إليه صداقها ، وفي رواية ؛ إن كانت جميلة تزوجها ، وان كانت دميمة حبسها حتّى تموتَ فيرثها ، وقد نهى اللّه تعالى عن ذلك ، وأبطلَ تلك العادات إذ قال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبلغنَ أَجَلَهُنَّ فلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنكِحْنَ أزواجَهُنَّ إذا تَراضَوا بَيْنَهُمْ بِالْمَعرُوفِ ذلِكَ يُوعَظ بِه مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمنُ باللّه واليَوْمَ الآخِر ذلِكُمْ اَزكى لَكُمْ وَأطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (٤).

__________________

١ ـ المحبر : ص ٣٢٦ و ٣٢٧.

٢ ـ النساء : ٢٢ ، وكانوا يُسمّون من يتزوج زوجة أبيه الضيزن ، وكان هذا الزواج يسمّى في الجاهلية « نكاح المقت » ويُسمى الولد منه : مقتّي. ( راجع بلوغ الارب : ج ٢ ، ص ٥٣ ومجمع البيان للطبرسي : ج ٣ ، ص ٢٦ ).

٣ ـ المحبر : ٣٣٧ ـ ٣٤٠.

٤ ـ البقرة : ٢٣٢.

٦٢

وقال سبحانه : « يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أن تَرثُوا النِّساء كَرْهاً وَلا تَعضلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْض ما آتيتُموهُنَّ » (١).

وقال تعالى : « وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه » (٢).

وخلاصة القول ؛ إن المرأة كانت في العَهد الجاهِليِّ بشرّ حال ، ويكفي لتلخيص ما قلناهُ انه لما خطب احدهم إلى رجل ابنَتَه ، وذكَرَ لَهُ المهر والصداق قال : إنّي وإن سِيْقَ إليّ المهْر ألْف وعَبْدانِ ( اي عَبيدَ ومماليك ) وذَوْد ( وهو من الابل مِنَ الثلاث إلى العشر ) عَشْرُ ، أَحَبُّ أصْهاري إليّ القَبْرُ وقال شاعرهم ، في ذلك.

لِكُلِّ أبي بِنت يُراعي شُؤْونَها

ثلاثةُ أصهار إذا حمد الصهرُ

فَبَعَلٌ يراعيها وخدريكنها

وَقبرٌ يُواريها وأفضَلُها القبر (٣)

كما ان العرب كانت مصفقة ومتفقة على توريث البنين دون البنات (٤).

مقارنة بسيطة :

ولو لاحظتَ أيها القارئ الحقوق الّتي قررها الإسلام في مجال ( المرأة ) لاذعنتَ ـ حقاً ـ بأن هذه الاحكام والمقررات وهذه الخطوات المؤثرة الّتي خطاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبيل اصلاح حقوق المرأة ، وتحسين اوضاعها ، هي بذاتها شاهدُ حق ، ودليل صدق على حقانيّته ، وصدق ارتباطه بعالم الوحي.

فاية رعاية ولطف بالمرأة وحقوقها وأي اهتمام بشأنها وكرامتها أعلى واكثر من ان يوصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافاً إلى ما جاء في آيات واحاديث كثيرة تؤكّد على حقوق المرأة وتوصي أتباع هذا الدين بالرحمة بهن واحترامهن في

__________________

١ ـ النساء : ١٩.

٢ ـ البقرة : ٢٣١.

٣ ـ بلوغ الارب : ج ٢ ، ص ٩.

٤ ـ المحبر : ص ٢٣٦.

٦٣

خطبته الشهيرة في ( حجَة الوداع ) بالمرأة ، ويؤكد على ذلك اشد تأكيد إذ يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ايها النَّاسُ إنَّ لِنساءكُمْ عَلَيكُمْ حقاً ، ولكم عليهنَّ حقاً ... فاتقوا اللّه في النِّساء واْستوصُوا بهنَّ خيراً ، فانهنَّ عندكم عبوانٌ ... أطعمُوهُنَّ ممّا تأكُلُون ، وألْبِسُوهُنَّ ممّا تَلبِسُونَ » (١).

العربُ والرُّوح القتالية :

من الناحية النفسية يمكن القول بان عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان الحريص ، الموصوف بالطمَع الشديد ، القويّ التعلق بالماديات.

لقد كانوا ينظرون الى كل شيء من زاوية منافعه ومردوداته المادية ، كما أنهم كانوا دائماً يرون لأنفسهم فضيلة وميزة على الآخرين.

كانوا يحبّون الحرية حباً شديداً ، ولذلك كانوا يكرهون كل شيء يقيّد حريتهم.

يقول ابن خلدون عنهم : « إنهم ( اي العرب الجاهلية ) بطبيعة التوحُّش الّذي فيهم اهلُ انتهاب وعيث ، ينتهبون ما قدروا عليه ... وكان ذلك عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم ، وعدم الإنقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافيةٌ للعمران ومناقضة له ».

ويضيف قائلا : « فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس ، وان رزقهم في ضلال رماحهم وليس عندهم في أخذ اموال الناس حدُّ ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو مَتاع أو ماعون انتهبوه » (٢).

لقد كانت الاغارة وكان النهب والقتال من العادات المستحكمة عند القوم ، ومن الطبائع الثانوية في نفوسهم ، وقد بلغ ولعهم وشغفهم بكل ذلك ونزوعهم

__________________

١ ـ وردت هذه العبارات في مصادر مختلفة مع شيء طفيف من الاختلاف ، راجع تحف العقول : ص ٣٣ و ٣٤.

٢ ـ مقدّمة ابن خلدون : ص ١٤٩.

٦٤

الشديد إليه أن أحدهم ـ كما يقال ـ سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن سمع منه وصف الجنة وما فيها من نعيم : وهل فيها قتال؟

ولما سمع الجواب بالنفي قال : اذن لا خير فيها!!

اجل لقد سجل التاريخ للعرب ما يقرب من (١٧٠٠) وقعة وحرباً ، امتد أمدُ بعضها إلى مائة سنة أو اكثر ، يعني أن أجيالا كثيرة كانت تتوارث الحرب ، وتستمر في قتال الخصم ، وربَّ حرب دامية طويلةُ الأمد إندَلعت بسبب قضيَة تافهة (١).

لقد كان العربي في العهد الجاهلي يعتقد بأنَ الدم لا يغسلهُ الا الدم ، وقضية « الشنفري » الّتي هي اشبه بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى « العصبية الجاهلية » الّتي كانت سائدة آنذاك.

فالشنفري يُهانُ على يد رجل من « بني سلامان » فيعزم على الانتقام منه ، وذلك بأن يقتل مائة من تلك القبيلة ، وبعد التربُّص الطويل يغتال تسعاً وتسعين ، ويبقى مشرَّداً حتّى تغتالُه جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته ـ بعد مقتله ـ فعلتها ، اذْ تتسبَّبُ بعد مرور سنين ـ في قتل رجل من قبيلة ـ « بني سلامان » وبذلك يكتمل العدد الّذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة ، وذلك عندما يمر رجل من « بني سلامان » على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي بجمجمة « شنفرة » على ذلك الرجل فتصيبُه في رجله بشدة ، فيموتُ بما لحقه من ألم وجراحة (٢).

__________________

١ ـ العرب قبل الإسلام : ص ٣١٩ و ٣٢٠ ، هذا وتعتبر حرب داحس والغبراء ، من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام ، وقد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس والغبراء ( وهو فرسين لقيس بن زهير من بني عبس ) وفرسين آخرين ( لحذيفة الغدر ) انتهى إلى التنازع في السباق وازداد التنافر بين المتسابقين وانجرّ إلى طعن أحدهما الآخر ، وأن تتهيأ على اثر ذلك مقدماتُ حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين وحلفائهما استمرت من عام ٥٦٨ م إلى عام ٦٠٨ م وموت كثيرين.

( راجع تاريخ العرب وآدابهم ص ٤٧ والكامل لابن الأثير : ج ١ ، ص ٢٠٤ ).

٢ ـ تاريخ العرب : ج ١ ، ص ١١١ ، وراجع أيضاً بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٢ ، ص ١٤٥ و ١٤٦.

٦٥

ولقد بلغ اُنس العرب الجاهلية بالقتال وسفك الدماء أن جعلوا القتل والسفك للدماء من مفاخر الرجال!!

ويبدو ذلك جلياً لمن يقرأ قصائدهم الملحمية الّتي تفوح منها رائحة الدم ، ويخيّم عليها شبح الموت ، تلك القُصائد الّتي يمدح فيها الشاعر نفسه أو قبيلته بما أراقوه من دماء!! ، وما ازهقوه من ارواح وما سبوه من نساء!! ، وأيتموه من أطفال!!

ونجد في البيت الشعريّ التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما اصابَ قبيلته مِن نكسة وذل وهزيمة في ميدان القتال ، إذ يقول :

فَلَيْتَ لي بِهمُو قَوماً إذا ركَبُوا

شَنُّوا الإغارَة رُكباناً وفُرسانا

 ويصف القرآن الكريم هذه الحالة بقوله : « وَكُنْتم عَلى شَفا حُفْرة مِنَ النّار فَأَنْقَذَكُمْ مِنها » (١).

الاخلاق العامة في المجتمع الجاهليّ العربي :

ومهما يكن من امر فان عوامل مختلفة كالجهل وضيق ذات اليد ، وجشوبة العيش ، وعدم وجود قانون صحيح يحكم الحياة الاجتماعية ، وحالة البداوة الموجبة للتوحش ، والكسل والبطالة وغير ذلك من الرذائل الاخلاقية كانت قد حَولَّتْ جوَّ الجزيرة العربية إلى جوّ فاسد قاتم ، حتّى أن اُموراً يندى لها الجبين قد اخذت طريقها إلى حياة تلك الجماعة وراحت تتخذ شيئاً فشيئاً صفة العادات المتعارفة!!

لقد كانت الغارات وعملياتُ النهب ، والقمار ، والربا ، والاسر ، والسبي من الأعمال والممارسات الرائجة في حياة العرب الجاهلية ، وكان شرب الخمر ومعاقرتها بلا حدود هو الآخر من الأعمال القبيحة الشائعة لديهم ، ولقد ترسَّخت هذه العادة القبيحة في حياتهم إلى درجة انها صارت جزء من طبيعتهم ، وحتى أن

__________________

١ ـ آل عمران : ١٠٣.

٦٦

شعراءهم خصّصوا مساحات كبيرة في قصائدهم لامتداح الخمرة ووصفها وكانت الحانات مفتوحة في وجه الناس طيلة الوقت تستقبل الزبائن ، وقد نُصِبَت عليها رايات.

فها هو شاعرُهم يقول :

إذا متُّ فادفِنيّ إلى جَنبِ كَرَمةٍ

تُرَوّي عِظامي بَعدَ مَوتى عُرُوقُها

ولا تَدفِنَنيَّ في الفَلاةِ فإنَّنِي

أخافُ إذا مامِتُّ أن لا أذوقُها (١)

لَقَدْ بَلغت معاقَرةُ الخمر من الرواج في الحياة العربية الجاهلية بحيث اصبحت لفظة « التجارة » تعادل في عرفهم بيع الخمور ، والاتجاربها.

ولقد كانت الأخلاق تفسَر عند العرب الجاهلية بنحو آخر عجيب ، فانهم مثلا كانوا يمدحون الشجاعة والمروءة والغيرة ، ولكنهم كانوا يقصدون من « الشجاعة » القدرة على الإغارة وسفك الدماء ، وكثرة عدد القتلى في الحروب!!

كما أن الغيرة كانت تعني عندهم وأد البنات حتّى أن هذا العمل الوحشيّ كان يُعدّ عندهم من أعلى مظاهر الغيرة ، وكانوا يرون الوفاء والوحدة في نصرة الحليف حقاً أو باطلا ، وهكذا فان اكثر القصص التي نُقِلَت عن شجاعتهم وشَغَفهم بالحرية كانت الشجاعة والشغف بالحرية فيها تتلخص وتتجسَّد في الاغارة والانتقام.

انهم كانوا يعشقون ـ في حياتهم ـ المرأة والخمرة والحرب ليس غير.

النزوع إلى الخرافة والاساطير في المجتمع الجاهلي :

ولقد بَيَّنَ القرآنُ الكريمُ اهدافُ البعثة المحمَّدية المقدسة بعبارات موجزة ، وممّا يلفت النظر ـ اكثر من أيّ شيء ـ ما ذكرهُ تعالى في الكتاب العزيز حول أهم هذه الاهداف والغايات العليا إذ قال : « وَيَضَعُ عنهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ » (٢).

__________________

١ ـ تفسير مفاتيح الغيب : ج ٢ ، ص ٢٦٢ ، طبعة مصر : ١٣٠٥.

٢ ـ الأعراف : ١٥٧.

٦٧

فلابدَّ أن نعرفَ ماذا كانت تلك الاَغلال والسلاسلَ الّتي كانتْ عَربُ الجاهلية ترزخُ تحتها حتّى قَبيْل بُزوغ فجر الإسلام؟

لا ريبَ أَنَّها لم تكن من جنس الأَغلال والسَلاسل الحديدية ، ولم يكن المقصودُ منها ذلك أبداً ، فماذا كانت إذَنْ يا ترى؟

أجَل إنّ المقصودَ مِنْ هذه الاغلال هي الأوهام والخرافات الّتي كانت تَقيِّد العقلَ العربي عن الحركة ، وتعيقه عن النمو والتقدم ، ولا شك أن مثل هذه السلاسل والأغلال الّتي تقيّد الفكر البشري وتمنعه من التحليق والتسامي ، اثقل بكثير من الاغلالَ والقيود الحديدية واضرّ على الإنسان منها بدَرجات ومراتب ، لأنّ الأغلالَ الحَديديَة توضَع عن الأيدي والأرجل بعد مضي زمان ، ويتحرر الإنسان منها ، بعد حين ، ليدخل معترك الحياة بعقلية سليمة مبرّاة من الأوهام والخرافات ، وقد زالَتْ عنه ما تركته تلك الحدائد من جروح وآلام.

أما السلاسل والاغلال الفكرية ( ونعنى بها الاوهام والاباطيل والخرافات ) التي قد تهيمن على عقل الإنسان وتكبّلُ شعوره فانها طالما رافقت الإنسان إلى لحظة وفاته ، واعاقته عن المسير والانطلاق ، دون ان يستطيع التحرر منها ، والتخلص من آثارها ، وتبعاتها ، اللهم إذا استعان على ذلك بالتفكير السليم ، والهداية الصحيحة.

فبالتفكير السليم وفي ضوء العقل البعيد عن أيّ وهم وخيال يمكنه التخلص مِن تلك الاغلال والقيود الثقيلة ، وأما بدون ذلك فإن أيّ سعي للإنسان في هذا السبيل سيبوء بالفشل.

إن من أكبر مفاخر نبي الإسلام أنه كافَحَ الخرافات ، وأعلن حرباً شعواء على الأَساطير ، ودعا إلى تطهير العقل من أدران الأوهام والتخيلات ، وقال : لقد جئت لاخذ بساعِد العقل البشري ، وأشدَ عضدَه ، واُحارب الخرافه مهما كان مصدرها. وكيفما كان لونها وأيّا كانت غايتها ، حتّى لو خَدَمَت أهدافي ، وساعَدَتْ على تحقيق مقاصدي المقدسة.

إنّ ساسة العالم الذين لاتهمهم إلاّ إرساء قواعد حكمهم وسلطانهم على

٦٨

الشعوب لا يتورعون عن التوسل بأية وسيلة ، والاستفادة من أية واقعة في سبيل تحقيق مآربهم حتّى أنهم لا يتأخرون عن التذرع بترويج الخرافات والأساطير القديمة بين الشعوب للوصول إلى سدة الحكم ، أو البقاء فيها ما امكنهم ذلك. ولو اتفق أن كانوا رجالا موضوعيين ومنطقيين فانهم في هذه الحالة دافعوا عن تلك الخرافات والأوهام والاساطير الّتي لا تنسجم مع اي مقياس عقلي بحجة الحفاظ على التراث القومي ، أو احترام راي اكثرية الشعب ، أوما شابه ذلك من الحجج المرفوضة.

ولكنَّ رسولَ الإسلام لم يكتف بإبطال المعتقدات الخرافية الّتي كانت تلحِق الضرر به ، وبمجتَمعه ، بل كان يكافح ويحارب بجميع قواه كل اُسطورة أو خرافة شعبية أو فكرة فاسدة باطلة ، تخدم غرضه ، وتساعد على تحقيق التقدم في دعوته ويسعى إلى أن يجعلَ الناسَ يعشقون الحقيقة لا ان يعبدوا الخرافات ، ويكونوا ضحايا الاساطير والأوهام ، واليك واحداً من هذه المواقف العظيمة على سبيل المثال لا الحصر.

لما ماتَ إبراهيم بن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابنه الوحيد ، حزن عليه النبي حزناً شديداً فكانت تنحدر الدموع منه على غير اختيار ، واتفق ان انكسفت الشمس في ذلك اليوم أيضاً ، فذهب المولعون بالخرافة في ذلك المجتمع ( العربي ) على عادتهم إلى ربط تلك الظاهرة بموت إبراهيم واعتبار ذلك دليلا على عظمة المصاب به فقالوا : انكسفت الشمسُ لموت ابن رسول اللّه ، فصعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبرَ وقال : « أيُّها الناس انَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بامره ، ومطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياتِه ، فاذا انكسفا ، أو أحدُهما صلّوا ».

ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف وهي ما تسمى بصلاة الايات (١).

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ٩١ ، ص ١٥٥.

٦٩

ان فكرة انكساف الشمس لموت ابن صاحب الرسالة وان كان من شأنها ان تقوّي من موقع النبي في قلوب الناس ، وتخدم بالتالي غرضه ، وتساعد على انتشار دعوته ، وتقدمها ، إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفض ان يحصل على المزيد من النفوذ في قلوب الناس من هذا الطريق.

على أن محاربَة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخرافات والاساطير الّتي كانت نموذجا بارزاً من محاربته للوثنية ، وتأليه المخلوقات وعبادتها ، لم تكن من سيرته في عهد الرسالة بل كان ذلك دأبه في جميع أدوار حياته ، حتّى يوم كان صبياً يدرج ، فانه كان يحارب الاوهام والخرافات ، ويعارضها في ذلك السن أيضاً.

تقول حليمةُ السعدية مرضعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما تمَّ له ( اي لمحمَّد ) ثلاث سنين قال لي يوماً : « يا أُمّاهُ ما لِيَ لا أرَى أخَوَيَّ بالنّهار »؟

قلت له : يا بنيّ إنهما يرعيان غنيمات ، قال : « فَما لي لا أخْرُج مَعَهما »؟ قلت له : تحبُّ ذلك؟ قال : نَعَمْ.

فلما أصبح دهَّنته وكَحَّلته وعلَّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية ( وهي من التمائم الباطلة كانت تعلّق على الشخص في أيام الجاهلية لدفع الآفات عنه ) ، فنزَعَها ، وقال لي : « مَهْلا يا اُماه فَإنَّ مَعِيَ مَنْ يَحْفُظنِيْ » (١).

الخرافات في عقائد العرب الجاهلية :

كانت عقائدُ جميع الامم والشعوب العالمية يوم بزوغ شمس الإسلام ممزوجة بألوان من الخرافات والأساطير.

فالاساطير اليونانية والساسانية كانت تخيّم على افكار الشعوب الّتي كانت تعدُّ في ذلك اليوم من أرقى الشعوب والمجتمعات.

على انه لا تزال خرافات كثيرة تسود وإلى الآن في المجتمعات الشرقية المتقدمة ، ولم تستطع الحضارةُ الراهنة أن تزيلها من حياة الناس ومعتقداتهم.

__________________

١ ـ بحار الانوار : ج ١٥ ، ص ٣٩٢.

٧٠

إن تنامي الخرافة « يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمستوى العلمي والثقافي في كل مجتمع ، فبقدر ما يكون المجتمع متخلفاً من الناحية الثقافية والعلمية تزداد نسبة وجود الخرافة ومقدار نفوذها في عقول الناس ونفوسهم.

لقد سجل التاريخ عن سُكّان شبه الجزيرة العربية طائفة هائلة وكبيرة من الاوهام والخرافات ، وقد جمع السيّد محمود الآلوسي اكثرها في كتابه « بلوغ الارب في معرفة احوال العرب » ، مُرفقاً كل ذلك بما حصل عليه من الشواهد الشعرية وغيرها (١).

ومن يتصفح هذا الكتاب يقف على ركام هائل من الخرافات الّتي كانت تملأ العقل العربي الجاهل آنذاك وتعشعش في نفوسهم ، وقد كانت هذه السلسلة الرهيبة من الأوهام هي السبب في تخلّف هذا الشعب عن بقية الشعوب والاُمم الاخرى.

ولقد كانت هذه الخرافات من أكبر السدود في طريق تقدم الدعوة الإسلامية ، ولهذا أجتهد النبيُّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل طاقاته في محو وازالة آثار الجاهلية الّتي لم تكن سوى تلك الأوهام والاساطير والخرافات.

فعندما وجَّه « معاذ بن جبل » إلى اليمن اوصاه بقوله :

« وامِتْ أمرَ الجاهِليَّة إلاّ ما سنَّهُ الإسلامُ وَأظهِرْ أمرَ الأسلام كلّه صغيرهُ وكبيرهُ » (٢).

لقد وقف رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام جماهير كبيرة من العرب الذين كانت عقولُهم ترزح تحت الافكار والمعتقدات الخرافية ردحاً طويلا من الزَمن يعلن عن نهاية عهد الأفكار والاوهام الجاهلية إذ قال : « كُلُّ مأثرة فيْ الجاهِليَّة تحتَ قَدَميّ » (٣).

__________________

١ ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٢ ، ص ٢٨٦ ـ ٣٦٩.

٢ ـ تحف العقول : ص ٢٥.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ٣ ، ص ٤١٢.

٧١

نماذج من الخرافات في المجتمع الجاهلي :

وللوقوف على مَدى أهمية التعاليم الإسلامية وقيمتها نلفت نظر القارئ الكريم إلى نماذج من هذه الخرافات ، ومن أراد التوسع راجع المصدر المذكور.

١ ـ الاستسقاء باشعال النيران :

كانت العرب إذا أجدبت ، وأمسكت السماء عنهم ، وأرادوا أن يستمطروا عَمَدوا إلى السلع والعشر ( وهما أشجار سريعة الاشتعال ) فحزموهما ، وعقدوهما في أذناب البقر ، وأضرموا فيها النيران وأصعَدوها في جبل وَعر ، واتبعوها يدعون اللّه تعالى ، ويستسقونه ، وانما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ... وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات الاخرى ، وكانت هذه الثيران والابقار إذا صاحت من وجع الاحتراق ظنّت العرب بان ذلك هو الرعد!!!

وقد قال شاعرهم في ذلك :

يا ( كحلُ ) قَد أثقَلتَ أذنابَ البَقَر

بسَلع يُعقَدُ فيها وعُشر

 فَهَل تَجُودينَ بِبَرق أو مَطَر؟

٢ ـ ضرب الثور إذا عافت البقر :

كانوا إذا أورَدُوا البقر فتمتنع من شرب الماء ، ضرَبوا الثورَ لِيقتحمَ الماء ، بعدَه ويقولون : إنْ الجنَّ تصدُّ البقرَ عن الماء ، وأن الشيطان يركَبُ قَرَني الثورَ ، ولا يدع البقر تشربُ الماء ، ولذلك كانوا يضربون وجه الثور.

وقد قال في هذا شاعرهم :

كَذاك الثورُ يضرَبْ بالهَراوى

إذا ما عافَت الْبَقَر الظِماءُ

 وقال آخر :

فإني إذاً كالثَور يَضرب جَنبُهُ

إذا لَم يَعْفَ شُرباً وعافت صواحبه (١)

__________________

١ ـ عافت أي كرهت شرب الماء.

٧٢

وقال ثالث :

فلا تجعلوها كالبقير وفحلُها

يُكسِّر ضرباً وهْو للورد طائْعُ

وما ذَنبُه إن لم ترد بَقَراته

وَقَدْ فاجأتْها عند ذاك الشرائعُ

٣ ـ كيّ صحيح الإبل ليبرأ السقيمُ :

إذا كان يصيب الإبل مرض أو قرح في مشافرها واطرافها عمدوا إلى بعير صحيح من تلك الإبل فكوَوْا مِشفَرَهُ وعَضُدَه وفَخذَه يرون أن ذلك إن فعلوه ذهبَ العُرُّ والقرح والمرض عن إبلهم السقيمة ، ولا يعرف سبب ذلك.

وقد احتمل البعض أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك وقاية للصحاح من الإصابة بالعُرّ الّذي أصاب غيرها ، أو أنه نوع من المعالجة العلمية ، ولكن لماذا ترى كانُوا يَعمدُونَ إلى بعير واحد من بين كل تلك الابل ، فلابد من القول بأن هذا الفعل كان ضرباً من الاعمال الخرافية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام.

وقد قال شاعرهم عن ذلك :

وَكَلّفتني ذنبَ امرئ وتركتُه

كدِى العُرّيكوى غيرُه وهو راتع

وقال آخر :

كمن يكوي الصحيح يروم بُرءاً

بِه مِن كلِ جَرباء الإهاب

وقال ثالث :

فالزمْتَنِي ذنباً وغيريَ جرَّه

حنانيل لا تكو الصَحيح بأجربا

٤ ـ حبس ناقة عند القبر اذامات كريمٌ :

إذا ماتَ منهم كريمٌ عقلوا ناقته أوبعيره عند القبر الّذي دُفِنَ فيه ذلك الكريم ، فعكَسُوا عنقها ، وأداروا رأسها إلى مؤخَّرها وتركوها في حفيرة لا تطعَم ولا تسقى حتّى تموت ، وربما اُحرقَت بعد موتها وربما سُلِخَتْ ومُلئ جِلدُها ثماماً ، وكانوا يزعمون أن مَن مات ولم يُبْلَ عليه ( اي لم تعقل ناقة عند قبره هكذا )

٧٣

حشر ماشياً ، ومن كانت له بلية ( اي ناقة عقلت هكذا ) حُشِر راكباً على بليّته.

وقد قال أحدهم في هذا الصدد :

إذا مِتُّ فادفنيَّ بحرّاء ما بها

سوى الأصرخين أو يفوِّز راكبُ

فإن أنتَ لم تُعْقرْ عَليَّ مطيَّتي

فلا قامَ في مال لك الدهر حالبُ

وقال آخر وهو يوصي ولده بان يفعلوا له ذلك :

أَبُنيَّ لا تنسَ البليّة إنها

لأبيك يومَ نُشُوره مركوبُ

٥ ـ عَقرُ الإبل عَلى القُبُور :

كانوا إذا ماتَ أحدُهم ضربوا قوائم بعير بالسَيف عند قبره ، وقيل انهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت المضياف على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للاضياف.

وقد ابطلت الشريعة المقدسة هذه العادة الباطلة في ما أبطلته فقد جاء في الحديث « لا عَقْر في الإسلام ».

وقد قال أحدُهم حولَ العَقر هذا :

قُلْ للقوافِل والغُزاة إذا غَزَوا

والباكرين وللمجدّ الرائح

إنَ الشَجاعة والسَماحة ضُمِّنا

قبراً بِمروَ عَلى الطريق الواضح

فإذا مررتَ بِقبره فاعقِرْبهِ

كُومَ الجلاد وكل طِرف سابع

وأنضحْ جَوانبَ قبره بدمائها

فَلَقدْ يكونُ اَخا دم وذبائح

٦ ـ نهيق الرجل أذا اراد دخول القرية ( التعشير ) :

ومن خرافاتهم أن الرجلَ منهم كان إذا ارادَ دخولَ قرية فخافَ وباءها أوجنّها وقف على بابها قبل ان يدخلها فنَهقَ نهيقَ الحمار ، ثم علّق عليه كعبَ أرنب كأنَّ ذلك عوذة له ، ورقية من الوباء والجن ويسمون هذا النهيق التعشير.

قال شاعرهم :

ولا يَنْفَعُ التعشير أن حُمَّ واقع

ولا زعزعٌ يُغني ولا كَعبُ ارنب

           

٧٤

وقال الآخر :

لعمريَ إن عشّرتُ من خيفة الرَدى

نِهاق حَمير أنني لجزوعُ

 ٧ ـ تصفيق الضالّ في الصحراء ليهتدي :

فقد كان الرجلُ منهم إذا ضَلّ في فلاة قَلَب قميصه وصفق بيديه ، كأنه يومئ بهما إلى انسان مهتدي.

قال أعرابي في ذلك :

قلبتُ ثيابي والظنونُ تجولُ بي

ويرمي برجلي نحو كلَ سَبيل

فلأياً بلائي ما عرفت حليلتي

وأبصرتُ قصداً لم يُصَب بدليل

 ٨ ـ الرتم :

وذلك أن الرجل منهم كان إذا سافر عَمَد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أوفي ساقها فاذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإنْ وجده بحاله علم ان زوجتَه لم تخنهُ وان لم يَجِدْه أو وَجَدَهُ محلولا قال : قد خانتني. وذلك العقد يسمى « الرتم ».

قال شاعرهم في ذلك :

خانته لما رأتْ شَيْباً بمفرقه

وغَرّه حِلفُها والعَقْدُ للرتم

وقال الآخر :

لا تحسَبنّ رتائما عقدّنَها

تنبيك عنها باليقين الصادق

وقال ثالث :

يعلل عمروٌ بالرتائم قلبه

وفي الحيّ ظبيُّ قد أحلّت محارقه

فما نَفَعَتْ تِلكَ الوصايا ولا جَنَتْ

عَليهِ سوى ما لا يحبُّ رتائمه

 ٩ ـ وطيُ المرأة القتيل الشريف لبقاء وَلَدها :

فقد كانت العرب تقول : ان المرأة المقلاة وهي الّتي لا يعيش لها وَلَدٌ ، إذا وطئت القتيلَ الشريف عاشَ وَلَدُها.

٧٥

قال احدهم :

تظلّ مقاليت النساء يَطأنه

يَقُلْنَ ألا يلقى على المرء مئزر

١٠ ـ طَرْحُ السِنّ نَحو الشَمْس إذا سَقَطَتْ :

ومن تخيّلات العرب وخرافاتهم أن الغلام منهم إذا سَقَطَتْ له سنٌ أخذها بين السبابة والابهام واستقبل الشمسَ إذا طلعت وقذف بها وقال : يا شمس ابدليني بسنّ احسن منها ولتجر في ظلمها آياتك ، أو تقول أياؤك ، وهما جميعاً شعاع الشمس.

قال احدهم وهو يصف ثغر معشوقته :

سقته أياة الشمس إلاّ لثاته

أسفَّ ولم تكرم عليه باثمدِ

أي كأن شعاع الشمس اعارته ضوءها.

هذا وقد أشار شاعرُهم إلى هذا الخيال ( أوقل الخرافة المذكورة ) إذ قال :

شادنٌ يحلو إذا ما ابتسَمَتْ

عن أقاح كاقاح الرمل غر

بدلته الشمسُ من منبته

بَرَداً أبيضَ مصقولَ الاثر

١١ ـ تعليق النجاسة على الرجل وقاية من الجنون :

ومن تخيّلات العرب أنهم كانوا إذا خافُوا على الرجل الجنونَ ، وتعرّض الارواح الخبيثة له نجَّسوه بتعليق الاقذار كخرقة الحيض وعظام الموتى قالوا : وأنفعُ من ذلك أن تعلِّقُ عليه طامتٌ عظامّ موتى ثم لا يراها يومَه ذلك. وانشدوا في ذلك :

فلو أن عِندي جارتَين وراقياً

وعَلَّقَ أنجاساً عَلّي المعلقُ

وقالت امرأة وقد نَجَّست ولَدها فلم ينفعه ذلك ومات :

نجّستُهُ لا ينفعُ التنجيسُ

والموتُ لا تفوتُه النفوسُ

١٢ ـ دم الرئيس يشفي :

فقد كانت العرب تعتقد أنّ دم الرئيس يشفي من عضة الكلْب الكَلِب.

٧٦

قال الشاعر :

بناةُ مكارم وأساة جُرح

دِماؤُهُمْ من الكَلبِ الشفاءُ

وقال آخر :

أحلامُكُمْ لسِقامِ الجهل شافيةٌ

كَما دِماؤكُمُ تشفي من الكَلَب

١٣ ـ شق البرقع والرداء يوجب الحب المتقابل :

ومن أوهامهم وتخيلاتهم أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا احب إمرأة واحبّته فشق برقعها وشقّت رداءه صلح حبُهما ودام ، فان لم يفعلا ذلك فَسَد حبُهما ، قال في ذلك احدهم :

وكم شَقَقْنا مِن رداء محبِّرٍ

وَمِنْ بُرقُع عَنْ طَفلة غير عانس

إذا شُق بُردٌ شُق بالبرد بُرقعٌ

دواليك حتّى كلُّنا غير لابسِ

نروم بهذا الفعل بُقياً على الهوى

والف الهوى يُغوى بهذي الوساوس

 ١٤ ـ معالجةُ المرضى بالاُمور العجيبة :

ومن مذاهبهم الخرافية في معالجة المرضى إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحيّ : الحلأ الحلأ ، الطعام الطعام ، فَتُلقي له النساءُ كِسَرَ الخبز ، واقطاع التمر واللحم في المنخل ثم يُلقي ذلك للكلاب فتأكله ، فيبرأ مِنَ المرض فان أكل صبيّ من الصبيان من ذلك الّذي ألقاهُ للكلابِ تمرة أو لقمة أو لحمة بثرت شفته.

فقد رويت عن إمرأة أنها انشدت :

ألا حلأ في شفة مشقوقَه

فقد قضى منخلُنا حقوقَه

ومن أعاجيبهم أنهم كانوا إذا طالت علة الواحد منهم ، وظنُّوا أنَّ به مسّاً من الجن لانه قَتَلَ حية ، أو يربوعاً ، أو قنفذاً ، عملوا جِمالا من طين وجعلوا عليها جوالق وملاؤها حنطة وشعيراً وتمراً ، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا ليلتهم تلك ، فاذا اصبحوا نظروا إلى تلك

٧٧

الجمال الطين فاذا رأوا انها بحالها قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها وان رأوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها من الميرة قالوا : قد قبلت الدية واستدلوا على شفاء المريض وفرحوا وضربوا الدفّ.

قال بعضهم :

قالُوا وقد طالَ عَنائي والسَقمْ

إحمِلْ إلى الجِن جمالات وضَمّ

فَقَد فَعَلت والسقام لم يرم

فبالذي يملَك برئي اعتصمْ

وقال آخر :

فياليتَ أن الجن جازُوا حمالَتي

وزُحزحَ عني ما عناني من السقم

اُعلّلُ قلبي بالَّذي يزعُمونه

فَيالَيتَني عُوفيت في ذلك الزعم

ومن مذاهبهم في هذا المجال أن الرجلَ منهم كان إذا ظهرت فيه القوباء ( وهو مرض جلدي ) عالجها بالريق.

قال احدهم :

يا عَجَباً لهذه الفليقة

هَل تُذهِبَّنَ القُوَباءَ الريقة

١٥ ـ خرافاتٌ في مجال الغائب :

كانوا إذا غُمَّ عليهم أمرُ الغائب ولم يعرفوا له خبراً جاؤوا إلى بئر عادية ( أي مظلمة بعيدة القعر ) أو جاؤوا إلى حصن قديم ونادوا فيه : يا فلان أو يا أبا فلان ( ثلاث مرات ) ، ويزعمون انه إن كان مَيتاً لم يسمَعوا صوتاً ، وإن كان حياً سمعُوا صوتاً ربّما توهموه وهماً ، أو سمعوه من الصدى فَبَنَوا عليه عقيدَتهم ، قال بعضهم في ذلك :

دَعوتُ ابا المِغوار في الحَفْر دعوة

فما آضَ صوتي بالذي كنت داعيا (١)

أظنُ أبا المغوار في قصر مظلم

تجرُّ عليه الذارياتُ السَوافيا

وقال آخر :

وكمْ ناديتُه والليلُ ساج

بِعاديّ البِئار فما أجابا

__________________

١ ـ آضَ أي عاد ورجع.

٧٨

ومن ذلك أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال : ( أرى من اُحبُّه ) فأن كان غائباً توقع قدومَه ، وإنْ كان بعيداً توقَّعَ قربه ، وقالَ أحدهم :

إذا اختلَجَتْ عَيني أقولُ لعَلَّها

فَتاة بني عمرو بها العينُ تَلْمعُ

وقال آخر :

إذا اختلَجَت عَيني تَيقَّنتُ إنّني

أراكَ وَإن كانَ المزارُ بَعيدا

وكانوا إذا لا يُحِبُّونَ لمسافر أنْ يعودَ إليهم أوقدُوا ناراً خَلفَهُ ويقولون في دعائهم « أبعَدهُ اللّهُ وأسحقَهُ وأوقدَ ناراً إثرهُ » قال بعضهم :

صحوتُ وأوْقدتُ لِلجَهلِ ناراً

وَرد عليك الصبا ما استعارا

١٦ ـ عقائدهُمْ العجيبة في الجنّ وتاثيرهُ :

كانت العربُ في الجاهلية تعتقد في الجن وتأثير هذا الكائن في شتى مجالات حياتهم اعتقاداتٌ عجيبة وفي غاية الغرابة.

فتارة تستعيذُ بالجن ، وقد إستعاذَ رجلٌ منهُمْ وَمَعَهُ ولدٌ فاكلهُ الأَسدُ فقال :

قَدْ استعَذْنا بعظيم الوادي

مِن شَرِّ ما فيهِ مِنْ الأعادي

 فلم يجرنا من هزبر عادي

وعن الاستعاذة بالجنّ قال اللّه سبحانَهُ في القرآن : « وَأَنَّهُ كانَ رجالٌ مِنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرجال مِنَ الجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهقاً » (١).

ومن ذلك إعْتقادُهُمْ بهتاف الجن. ولهم في هذا المجال أساطيرُ خرافيةٌ مذكورة في محلّها.

ومن هذا القبيلُ إعتقادهُم بالغول ، فقد كانت تزعم العربُ في الجاهلية أن الغيلان في الفلوات ( وهي من جنس الشياطين ) تتراءى للناس ، وتغول تغولا اي تتلوّن تلوناً فتضلّهم عن الطريق ، وتهلكهم ، ومن هذا القبيل أيضاً إعتقادُهم بالسعالي!!

__________________

١ ـ الجن : ٦.

٧٩

وقد قال أحدُهم في ذلك :

وساحرةٌ عينيّ لو أنَّ عينَها

رَأَت ما اُلاقيهِ مِنَ الهَول جَنّتِ

أبيتُ وسعلاةٌ وغولٌ بِقَفْرة

إذا الليلُ وأرى الجن فيه أرنت

١٧ ـ تشاؤمهم بالحيوانات والطيور والاشياء :

ومن مذاهبهم الخرافية تشاؤمهم بأشياء كثيرة وحالات عديدة :

فمن ذلك ؛ تشاؤمهم بالعطاس.

وتشاؤمهم بالغراب حتّى قالوا : فلانٌ أشام من غراب البَيْن ، ولهم في هذا المجال أبياتٌ شعرية كثيرةٌ منها قول أحدهم :

ليتَ الغرابُ غداة ينعَبُ دائباً

كانَ الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ

وكذا تشاؤُمُهمْ وتطيّرهم بالثور المكسور القرن والثعلب. إلى غير ذلك من التخيلات والأوهام والخرافات والاساطير ، والاعتقادات العجيبة ، والتصورات الغريبة الّتي تزخر بها كتبُ التاريخ المخصصةِ لبيان أحوال العرب قَبْلَ الإسلام وحتّى ابان قيام الحضارة الإسلامية.

مكافحةُ الإسلام لهذه الخرافات :

ولقد كافح الإسلامُ جميع هذه الخرافات بطرق مختلفة ، واساليب متنوعة.

أما بالنسبة إلى ما كانوا يفعلونَهُ بالحيوانات فمضافاً إلى أنّ أيّ شيء من هذه الأَعمال لا ينسجم مع العقل والمنطق والعلم لأن المطر والغيث لا ينزل من السماء باسعال النيران ، وضرب الثيران لا يؤثر في البقر ، كما لا ينفع كيُّ البعير الصحيح في شفاء الإبل السقيمة ، وتعتبر هذه الاعمال نوعاً من تعذيب الحيوانات وقد نهى الإسلام بشدة عن تعذيب الحيوانات وايذائها ، باي شكل كان.

فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لِلدّابةِ عَلى صاحبها ستُّ خصال :

١ ـ يَبدأ بعلفها إذا نَزَل.

٨٠