سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

فان اسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة كبرى مثل حمزة ، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الإسلام ، وحرية العمل والتحرك الّتي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض الحبشة ، كل ذلك زاد من حيرة ، واضطراب الزعامة الجاهلية في مكة ، الّتي زادها حيرة ، وانزعاجاً ، فشل جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام والمسلمين ، وعدم حصولها على أية نتائج تذكر!!

من هنا فكرت في خطة جديدة ، وهي ان تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ والمسلمين تقطع به كل الشرايين الحيوية للمسلمين ، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار الإسلام وتقف دون نفوذه ، وبالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة التوحيدية ، وأنصاره.

ولهذا اجتمع زعماء قريش في « دار الندوة » ووقّعوا ميثاقاً كتبه « منصور بن عكرمة » وعلّقوه في جوف الكعبة ، وتحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت.

ونصَ هذا العقد على الاُمور التالية :

١ ـ أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يبيعوهم شيئاً.

٢ ـ ان لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم.

٣ ـ أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم.

٤ ـ ان يكونوا يداً واحدة على « محمَّد » وانصاره.

وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كلُ الشخصيات البارزة في قريش إلاّ « مطعم بن عدي » وأعلنت عن سريان مفعوله بكل قوة وإصرار.

فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالب عليه‌السلام بذلك جمع بني هاشم وبني المطلب وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحفاظ على حياته وسلامته ، وأمرهم بالخروج من مكة وبدخول شعب كائن بين جبال مكة كان يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية ، والسقائف البسيطة جداً ، والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن المجتمع المكّي المشرك.

وعمد إلى بث رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسباً لأي

٥٠١

هجوم مباغت تقومُ به قريش (١).

وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة ، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع والضر ، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الاّ انها لم تؤثر فيهم قط.

كان الشباب والرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة طوال اليوم ، وربما تناصف اثنان تمرة واحدة ، ولم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الاّ في الاشهر الحرم حيث يسود الأمنُ كل انحاء الجزيرة العربية.

فاذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه ، والدعوة إلى ما أتى به.

وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتّى في هذه المواسم ، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء فاذا وجدوا مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!

وكان « أبو لهب » أكثر الناس اصراراً على هذا العمل ، فقد كان ينادي في الأسواق : يا معشر التجار ، غالوا على أصحاب محمَّد حتّى لا يدركوا معكم شيئاً فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فانا ضامن أن لا خسار عليكم ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتّى يرجع الرجل المسلم إلى اطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به ، ويغدو التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٠ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧٨ ، وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاُولى من السنة السابعة للبعثة وعندما عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها :

ألم تعلموا أنا وجدنا محمَّدا

نبياً كموسى خُطَّ في أول الكُتب

٥٠٢

اشتروا من الطعام واللباس!! (١).

وكان « الوليد بن المغيرة » ينادي : أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه فكانت قريش تباكرُهم إلى الأسواق فيشترونها فيغلونها عليهم.

وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب

لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه ايديهم من الخبط وورق السمر حتّى أن « سعد بن أبي وقاص » يقول : لقد جعت حتّى أني وطئتُ ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته ، وما أدري ما هو إلى الآن (٢).

هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه فلا يصل إليهم شيء إلاّ سراً ومستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.

فقد روي أن « حكيم بن حزام » ( ابن اخ خديجة ) و « أبو العاص بن الربيع » و « هشام بن عمرو » كانوا يسرّبون إلى « بني هاشم » في الشعب سرّاً وفي أواسط الليل تحت جنح الظلام ، فكان الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها فتدخلُ الشعب ويأكله بنو هاشم.

وربما صادفهم بعض جواسيس قريش ، فهمُّوا بقتله ، أو سبّبوا له بعض المتاعب.

فقد روي أن « حكيم بن حزام » خرج يوماً ومعه انسان يحمل طعاماً إلى عمته خديجة بنت خويلد ( زوجة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت معه في الشعب طيلة أعوام الحصار ) إذ لقيه « أبو جهل » فقال له : تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت ولا طعامَك حتّى أفضحَك عند قريش بمكة.

__________________

١ و ٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٣٧ الهوامش.

٥٠٣

فقال له أبو البختريّ ـ وكانَ من أعداء الإسلام هو أيضاً ـ : تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟

فأبى « ابو جهل » أن يدعَه إلا أن يأخذه إلى قريش ، فقام إليه « ابوالبختري » بساق بعير فضربه ووطأه وطئاً شديداً » (١).

وخلاصة القول ؛ أن قريشاً بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تبعه حتّى أن من كان يدخل « مكة » من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني هاشم شيئاً ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان « أبو جهل » ، و « العاص بن وائل » و « النضر بن الحارث بن كلدة » ، و « عقبة بن أبي معيط » يخرجون إلى الطرقات الّتي تدخل « مكة » فمن رأوه معه ميرة وطعام نهوه ان يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذرون إن باع شيئاً منهم نهبوا ماله.

كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم ، وأبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء.

ولكن لم يستطع كلُ ذلك أن يفتَّ في عضد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقلل من إصراره وثباته على الطريق ، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم.

وأخيراً تركت صرخاتُ أطفالُ بني هاشم في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر ، وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة ، وذلك الميثاق المشؤوم ، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في نفضها بشكل من الأشكال.

فمشى « هشام بن عمرو » إلى « زهير بن أبي اُمية » ( وكان من أحفاد عبد المطلب من جانب بناته ) وقال له وهو يحثه على نقض الصحيفة : يا زهير أقد رضيت أن تأكلّ الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء ، وأخوالك حيث قد علمت لا يُباعون ولا يُبتاع منهم ، ولا يُنكحون ولا يُنكحُ إليهم؟

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٤ ، هذا ويشكّك أحد المحققين في نوايا حكيم بن حزام في هذا العمل ، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى ، بل كان بدافع الربح الاكثر لما ثبت ـ حسب قوله ـ من انه كان يحتكر الطعام على عهد رسول الّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥٠٤

أمّا إني أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا أخوال أبي الحكم ( أي أبي جهل ) ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً؟

فقال زهير : ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحدٌ واللّه لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نقضها حتّى أنقضَها. قال : قد وجدتَ رجلا.

قال فمن هو؟ قال : أنا.

قال له زهير : أبغنا رجلا ثالثاً. فذهب إلى « المطعم بن عدي » فقال له يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف ، وأنت شاهدٌ على ذلك ، موافقٌ لقريش فيه! أما واللّه لئن أمكنتُموُهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً؟

قال : ويحك! فماذا أصنع؟ انما أنا رجلٌ واحدٌ.

قال : قد وجدتَ ثانياً.

قال : من هو؟ قال : أنا.

قال : أبغِنا ثالثاً.

قال : قد فعلتُ.

قال : مَن هوَ؟

قال : زهير بن أبي اُمية.

قال : ابغِنا رابعاً.

فذهب إلى « البَختري بن هشام » فقال له نحواً مما قال للمطعم بن عدي ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟

قال : نعم.

قال : من هُوَ؟

قال : « زهير بن أبي اُمية » و « المطعم بن عديّ » وأنا معك.

فقال : ابغنا خامساً.

فذهب إلى « زمعة بن الأسود بن المطلب » فكلَّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له : وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني إليه من أحد؟

٥٠٥

قال : نعم ... ثم سمّى له القوم الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة.

فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد ويُعلِنُوا مخالفَتهم لتلك الصحيفة.

فلمّا أصبحوا غَدوا إلى مجلس قريش في المسجد الحرام فأقبل « زهير بن أبي اُميّة » على الناس وقال :

يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبسُ الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاعُ منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد : كذبتَ واللّه لا تُشقّ.

فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل قائلا : أنت واللّه أكذبُ ، ما رضينا كتابَها حيث كتبت.

وقال أبوالبختري من ناحية مؤيّداً موقف زميله : صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقرّ به.

وقال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى اللّه منها ، وممّا كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.

فأحسّ أبو جهل بأنَّ ذلك كان أمراً مبيَّتاً مدبَّراً من قبل فقال :

هذا أمرٌ قُضِيَ بليل ، تُشُوور فيه بغير هذا المكان.

وكان أبو طالب ـ حسب بعض الروايات التاريخية ـ جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد ، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقَّها فوجد ( الإرضة ) (١) قد أكلتها ، إلاّ « باسمك اللَّهمَ » الّتي صُدرَت بها تلك الصحيفة وهي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودَها ورسائلها.

فلما رأى « أبو طالب » ذلك رجع إلى الشعب وأخبر رسول اللّه ( صلى الله عليه

__________________

١ ـ وهي دودة بيضاء شبه النملة وهي آفة كل شيء من خشب أو نبات راجع لسان العرب مادة : ارض.

٥٠٦

وآله ) بما جرى ، وعاد المحاصَرون في الشعب إلى منازلهم مرة اُخرى بعد المشورة مع « أبي طالب ».

ويروي طائفةٌ من المؤرخين أنّ « خديجة » و « أبا طالب » أنفقا أموالَهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة.

وفجأة نزل ملك الوحي « جبرئيل » على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشعب ، وأخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض فلحست ( أو اكلت ) جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت جملة « باسمك اللّهمّ » فأخبر رسولُ اللّه أبا طالب بذلك قائلا يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط « الإرضة » على صحيفة قريش فلم تَدع فيها إسماً هوللّه إلاّ أثبتتهُ فيها ، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال أبو طالب : إذن لا يدخلُ عليك أحَدٌ (١).

ثم قامَ ولبسَ ثيابَه ، ومشى هو ورسولُ اللّه وشخصٌ آخر حتّى دخلوا المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلما دَنا أبو طالب منهم قامُوا إليه وعظَّموه ، وتباشروا وظنّوا أن الحصَر والبلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه ، فقالوا له : قد آن لك أن تطيب نفسُك عن قتل رجل في قتله صلاحُكم وجماعتكم ( أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك ).

فقال أبو طالب : واللّه ما جئت لهذا ، ولكنَّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبَرهُ أنه بعث على صحيفتكُم القاطعة دابَّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم اللّه ، فهلم صحيفتكم فان كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعُوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرَّحم.

وإن كان باطلا دفعتُه إليكم فان شئتم قتلتمُوهُ ، وإن شئتم استحييتموه.

فقالوا : رضينا ، وتعاقدوا على ذلك.

__________________

١ ـ وإنّما اتخذ مثلَ هذا الاجراء حتّى لا يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالُوا للصحيفة ويكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥٠٧

ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة ، وعليها أربعون خاتماً.

فلما أتَوابها نَظر كلُ رجل منهم إلى خاتمه ، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرفٌ واحدٌ إلاّ « باسمك اللّهمَّ » ، كما اخبرهم بذلك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

غير أنَّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شراً وعناداً ورجع بنو هاشم مرّة اُخرى الى الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن ولم يمكنهم الرجوعُ إلى منازلهم بمكة إلاّ بعد أن نقضها هشام.

وقد قال « أبو طالب » في مدح هذا ( أي نقض الصحيفة القاطعة والنَفر الذين قاموا بنقضها ) قصيدة مطوَّلة جاء في مطلعها.

ألا هل أتى بَحريُّنا (١) صنعُ ربّنا

على نأيهم واللّه بالناس أرودُ (٢)

فيخبرهم أنَّ الصحيفة مُزّقَت

وان كلُّ ما لم يَرضه اللّه مُفسدُ (٣)

هذه أمثلةٌ ونماذجُ من رُدود الفعل الظالمة والمواقف المناوئة الّتي اتخذتها قريشٌ تجاه الدعوة المحمدية.

على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الّذي ذكرناه تماماً ، ولكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة أن مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.

كما أنَّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كانت هناك أساليب اُخرى سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأبتر.

فقد كان « العاصُ بن وائل السهمي » إذا ذكر رسول اللّه قال : دعوهُ ، فانَّما هو رجلٌ أبترٌ لا عقب له ، لومات لا نقطع ذكره واسترحتم منه.

__________________

١ ـ يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.

٢ ـ أي أرفقُ.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٧ ـ ٣٨٠ وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها ، فراجع.

٥٠٨

فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر الّتي يقول فيها : « بسم اللّه الرحمن الرَّحيم إنّا أعْطَيْناكَ الكوثَر فَصَلِّ لِربِّك وَانْحَرْ * إنَّ شانئكَ هُوَ الأَبْتر ».

وقد أخبر بها اللّه نبيَّه بأنه سيهبُه ذريّة كثيرة (١).

ولقد كتبَ العلاّمة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة (٢) : المعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني اُميّة في الدنيا أحدٌ يُعبأبه.

ووجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده وقال : ان محمَّداً ابتر فان مات مات ذكره ، فانزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول : ان كان ابنك قد مات فانا اعطيناك فاطمة ، وهي وإن كانت واحدة وقليلة ، ولكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيراً.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ص ٣٩٣ وجميع التفاسير.

٢ ـ مفاتيح الغيب : الجزء الثلاثون ، سورة الكوثر.

٥٠٩
٥١٠

٢١

وَفاة أَبي طالب

وخديجة الكبرى

في الوَقت الّذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن « القطيف » يضمُّ بين جدرانه شاباً حر الضمير شجاعاً مقداماً له يكن له من ذنب إلاّ أنه الّف كتاباً باسم « أبو طالب مؤمن قريش » يتناول إسلام « أبي طالب » وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كل ذلك من مصادر أهل السنّة (١).

فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز ـ وفي عصر يتسمُ بحرّية التفكير والبيانِ والإعتقادِ ـ بأن يتراجع عن كلامه ، وحيث إنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة ويقين ، حكمت عليه تلك السلطات بالاعدام.

وقد نجا هذا الفتى الشجاع والكاتب الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة وخُفِضت عقوبته إلى الحبس المؤبّد ، الّذي خفّض اثر جهود اسلامية مرّة اُخرى إلى عقوبة الجَلد ثمانين جلدة!!.

وهو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار المصير ، المجهول إذ على المسلمين إما أن يهتمّوا بالأمر ويطلبوا من السلطات القضائية السعودية صرف النظر عن

__________________

١ ـ والكتاب يقع في ٣٤٠ صفحة طبع بحجم الوزيري وطُبع في بيروت مراراً وقدّم عليه الأديبُ اللبناني المعروف « بولس سلامة » صاحب ملحمة الغدير وملاحم اُخرى.

٥١١

عقوبته ، بل والافراج عنه نهائياً.

وإما أن يفقد هذا الشاب المجاهد الشجاع البريء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة الحاكمة زوراً وقهراً على أرض الحجاز (١) (٢).

لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعل إقدام ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من « شِعب أبي طالب » بعد ثلاث سنوات من النفي والعذاب وعادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس.

وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين إلى ما كان عليه قبل الحصار ، وكانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج شيئاً فشيئاً ، وإذا برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصية كبرى أحدث فقدانها أثراً سيّئاً في نفوس المسلمين وبخاصة المستضعفين منهم.

ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث لا يمكن قياسه بشيء بالنظر إلى تلك الظروف الحساسة ، وذلك لأن نمو أية عقيدة وفكرة إنما يكون في ظل عاملين أساسيّين : أحدهما : حرية التعبير ، والآخر : القوة الدفاعية الّتي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ حملات الخصوم الّتي لا ترحم.

ولقد كان المسلمون ـ آنذاك ـ يتمتعون بحرية البيان والتعبير ، ولكنهم افتقدوا بسبب الحادث المفاجئ المذكور العاملَ الجوهري والمصيري الثاني يعني : حامي الإسلام والمدافع الوحيد عنه الّذي وافته المنية في تلك الايام الحساسة

__________________

١ ـ لقد سمّيت أراضي « الحجاز » و « نجد » و « تهامة » باسم عائلة واحدة هي آل سعود ، واخيراً حملت هذه المنطقة الّتي كانت تُعرف وحتّى إلى ما يقرب من قرنين بارض الحجاز اسم المملكة العربية السعودية ، ياله من استئثار وجرأة على المقدسات!!

٢ ـ واخيراً نجا هذا الشاب المؤمن والمجاهد الحرّ بفضل جهود علماء الشيعة ومفكّريهم المتضافرة والواسعة النطاق واُخلي سبيله وقد زار ـ للاعراب عن شكره ـ مدينة قم المقدّسة وقد التقينا به أيضاً كما زار اماكن أُخرى لنفس الغرض.

٥١٢

وحُرم المسلمون بوفاته من حمايته ودفاعه ، ووقايته.

* * *

أجل لقد فَقَد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاميه العظيم الّذي تولى مهمة كفالته والدفاع عنه ، والمحافظة على حياته بصدق واخلاص وجدّ ورغبة وكان يقيه بنفسه وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من ماله حتّى كَبُرَ وصار له مال وطول منذ أن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة من عمره وحتّى يوم وفاة ذلك الحامي العظيم ، ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمسين من عمره.

لقد فَقَد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيةً خاطبها عبدُالمطلب عند وفاته بالشعر قائلا :

اُوصِيكَ يا عَبدَ مناف بعدي

بموحد بَعدَ أبيهِ فَردِ

 فأجابه أبو طالب قائلا : يا أبَه لا توصِيَّنِ بمحمّد فانه إبني وابن أخي (١).

ولعلّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تذكر في اللحظة الّتي ظهر فيها على جبين ابي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث الحلوة والمرة وقال في نفسه :

١ ـ إن هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرؤوف الّذي ظلَّ يحرسه بالليل والنهار طيلة سنوات الحصار في الشعب ، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطرٌ من الليل ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه ولده « علي بن أبي طالب » حتّى لا تغتاله قريش بعد أن رَصَدوا مكانه ، وكمنوا له ، وكان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده « علي » ويقيني به حتّى إذا قال له « عليٌ » ليلة :

« يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ».

فأجابه أبو طالب بنبرة المتحمّس الصبور :

__________________

١ ـ عمدة الطالب : ص ٦ وفيه : بواحد ، المناقب : ج ١ ، ص ٢١.

٥١٣

إصبِرَن يا بُنَيَّ فَالصبِرُ أحجى

كُلُّ حَىٍّ مَصِيرُه لِشُعُوبِ

قَد بَلَوناك وَالبَلاءُ شَديدٌ

لِفِداءِ النَجِيبِ وَابنِ النَجيبِ

فأجابه « عليّ » بكلام اكثر حلاوةً وعمقاً قائلاً :

أَتَامُرُني بالصَّبرِ في نَصر أحمَدٍ؟

وَوَاللّهِ ما قُلتُ الّذي قُلتُ جازعاً

وَلكِنَّني أَحبَبتُ أن تَرَ نُصرَتي

وَتعلَمَ أَنّي لَم أَزَل لَكَ طائِعاً (١)

٢ ـ إن هذا الجثمان الّذي فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الّذي شُرّدَ هو وذووه ، وعرَّض نفسَه وأهلَه للبَلاء والمحنَة بسبب الحصار لأجلي ، وأمر بأن يحرسونني ليلَ نهار ، تاركاً زعامته وسيادته ، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليَّ والإبقاء على رسالتي وأرسل إلى قريش رسالةً قويةً أعلنَ فيها عن وُقُوفه إلى جانبي وانه لن يسلمني ويخذلني مادام حيّاً إذ قال :

فَلا تَحسبُونا خاذِلين مُحمَّداً

لذي غُربة مِنّا وَلا مُتَقرّب

سَتَمنعُه مِنّا يَدٌ هاشِميّةٌ

وَمَركَبُها في الناسِ أخشن مركب (٢)

بعد أن تحقق موت « ابي طالب » ارتفع الصراخ والنحيب من منازله وبيوته ، واجتمع حول بيته العدوُّ والصديقُ ، والقريبُ والبعيد ، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به ، وقرّحها الحزنُ عليه.

وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل « ابي طالب » الّذي كان زعيم قريش ، وسيد عشيرته بمثل هذه السرعة ، والبساطة؟

كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلا.

نماذج من مشاعر أبي طالب

ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادَلها

__________________

١ ـ مناقب ابن شهر آشوب : ج ١ ، ص ٦٤ ، الحجّة : ص ٧٠ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ١ ـ ١٩.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٤.

٥١٤

الأشخاصُ وعواطف وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدورُ اكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي تدور حول معيار الجمال أو المال ، ولهذا سرعان ما يذهب الحماسُ وتنطفىءُ شعلةُ الحبّ ، ويتضاءل لهيبُ العاطفةُ في كيانهم حتّى تزول بالمرَّة ولا يبقى منها شيء أبداً لعدم ثبات هذه الدوافع.

ولكنَّ المشاعرَ والعواطفَ الّتي تنبعُ من أواصر الايمان بفضائل شخص ما وكمالاتِه الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا تتلاشى بسرعة.

وقد كانت مودة « أبي طالب » لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعّين.

فقد كان « أبو طالب » يؤمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرى فيه من جانب الإنسان الكاملَ ، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني ، ومن جانب آخر كان « محمّد » ابن أخيه ، وقد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ.

لقد كانت لصفات « محمّد » وخصاله المعنوية والأخلاقية ، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه « أبي طالب » إلى درجة أنه كان يصطحبه معه إلى المصلّى ، ويستسقي به اي انه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفعَ عن الناس القحط والجدب وينزّلَ عليهم الغيث ، فكانت دعوتُه تستجاب من دون تأخير.

فقد نقل كثيرٌ من المؤرخين الحادثة التالية :

قحط الناسُ في « مكة » وحواليها سنةً من السنين ، ومَنعتِ السماء والأرض بركاتها عنهم بشكل عجيب ، فمشت قريش بعيون باكية إلى « أبي طالب » تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم ، وان يذهب إلى المصلى ويدعو ربّه لينزِّلَ عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة.

فخرج « أبو طالب » وقد أخذ بيد غلام كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى الكعبة ورفع وجهه نحو السماء وقال : يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً ، دائماً هاطلا.

ويكتب المؤرخون ان السماء كانت صافية لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى « أبو طالب » برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن ما ان فرغ « أبو طالب » من دعائه

٥١٥

إلاّ وأقبلت السحاب في الحال ، وغطّت سماء « مكة » وما حولها من المناطق القريبة اليها ، وارعدت السماء وأبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية ، وروّت القريب والبعيد ، وَسُرّ به الجميع ورضوا (١).

وقد اشار « أبو طالب » في لاميّته المعروفة إلى هذه الحادثة.

وقد أنشأ « أبو طالب » تلك القصيدة في أحلك الظروف واشدّها ، يوم زادت قريشٌ من ضغوطها على حامي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسلِّمَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها.

وقد ذكَّر فيها « أبو طالب » قريشاً بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الإسلام وكيف أنها اُمطِرَت ببركته ، بعد قحط طويل ، وجدب مهلِك ، كاد يبيد الحرث والضرع ، وذلك عندما يقول :

وابيض يُستسقى الغمامُ بوجهه

ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذُ به الهُلاك مِن آل هاشم

فهم عندَهُ في نعمة وفواضل

وقد نقل « ابن هشام » في سيرته (٢) أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة ، فيما أورد « ابن كثير » الشامي في تاريخه (٣) إثنين وتسعين بيتاً فقط.

وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة ، وفي غاية القوة والجمال ، وتفوق في هذه الجهات كل المعلقات السبع الّتي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها ، ويُعدونها من ارقى ما قيل في مجال الشعر والنظم.

وقد أورد « ابو هفان العبدي » الجامع لديوان « أبي طالب » مائة وواحد وعشرين بيتا من هذه القصيدة في ذلك الديوان ، ويمكن أن تكون كلُ تلك القصيدة وتمامها.

ونحن نورد هنا أبياتاً متفرقة من هذه القصيدة مما يتصل منها برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة صريحة.

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٢ و ٣ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١١١ ـ ١١٦ ، الملل والنحل المطبوع بهامش الفصل في الأهواء والملل : ج ٣ ، ص ٢٢٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٨٠.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ٣ ، ص ٥٢ ـ ٥٧.

٥١٦

كَذِبتُم وبيتِ اللّه نبزى محمّداً

ولما نطاعِن دونه ونناضل (١)

ونُسلِمُه حتّى نُصرَّعَ دونَه

ونَذهَل عن أبنائنا والحلائِل

لَعمري لقد كلّفتُ وجداً بأَحمدٍ

وإخوته دأبَ المحبِّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها

وزَيناً لمن والاه ربُّ المشاكل (٢)

فَمنَ مثلُه في الناس أيُ مؤمَّل

إذا قاسَهُ الحُكام عند التفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش

يُوالي إلاها ليس عنه بِغافِلِ

لقد علِمُوا أنَّ ابْننا لا مكذَّبٌ

لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطِل

فأصبَحَ فينا احمدٌ في اُرومة

تقصّر عنه سَورة المنظاول (٣)

حَدِبْتُ بنفسي دونَه وحميته

ودافعتُ عنه بالذُّرا والكلاكل (٤)

فَأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره

وأظهرَ ديناً حقُّه غير باطل (٥)

التغيير في برنامج السفر

لم يكن يمض اكثر من إثني عشر ربيعاً من عُمُر « محمّد » بعد ، عندما أراد « أبو طالب » التوجّه إلى الشام مع قافلة قريش التجارية.

وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكة ودق جرس الرحيل ، أخذ « محمّد » فجأة بزمام الناقة الّتي كان يركبها عمُّه وكافله « أبو طالب » بينما اغرورقت عيناه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدموع وقال :

« يا عمّ إلى مَن تكلني ، لا أب لي ولا اُم »؟.

هذا المشهد المؤثر وبخاصة عند ما رأى « أبو طالب » عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع ، فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون ، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرر من فوره ومن دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن اخيه « محمّداً » معه في هذا الرحلة ، ومع أنه لم يحسب لهذا الامر ـ من قبل ـ

__________________

١ ـ اي نُغلَبَ عليه.

٢ ـ المشاكل : العظيمات من الامور.

٣ ـ السورة : الشدة والبطش.

٤ ـ الذرا : جمع ذروة وهي اعلى ظهر البعير.

٥ ـ راجع السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٨٠.

٥١٧

أي حساب فان « أبا طالب » قبل بان يتحمّل كل ما يترتب على قراره هذا ، فحمله معه على ناقته ، وبقي يفكر في أمره ، ويدبّر شأنه ، ويحافظ عليه طوال تلك الرحلة ، وشهد منه اثناء الطريق كرامات وخوارق ، وقد أنشأ في ذلك قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب ، ومطلع هذه القصيدة هو :

إنَّ ابن آمنة النبيّ محمّداً

عندي يفوقُ منازلَ الأولاد (١)

* * *

الدِفاعُ عن حوزة العقيدة والايمان

ليست هناك قوةٌ تساعد على الثبات والمقاومة ، والصمود والاستقامة ، مثل قوة الايمان ، فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الإنسان في ميدان الحياة ، فهو الّذي يهضم في نفسه كل الالام والمتاعب ، ويدفع بالمرء إلى المضي قدماً في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة ، حتّى ولو كلفه ذلك التعرض للموت.

إنَّ الجنديّ المُسلَّح بقوةِ الإيمان منتصرٌ لا محاله.

إن الجنديّ الّذي يعتقد بأن الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لابدّ أن يحرز النصر.

إن على الجندي ـ قبل أن يسلِّحَ نفسَه بسلاح العصر ـ أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف ، ويضيء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة ، وحبِّها ، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه من أجل العقيدة والدفاع عن حوزتها ، وكيانها.

إِنَّ أفكارنا وعقائدنا نابعةٌ من روحنا ، وفي الحقيقة انَّ فكر الإنسان وليد عقله ، فكما أنَّ الإنسان يحبُ ولده الجسماني حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره الّتي هي ولائد عقله وروحه ، بل إن حبّ الإنسان لعقيدته اكثر من حبّه

__________________

١ ـ ديوان أبي طالب : ص ٣٣ ـ ٣٥ ، تاريخ ابن عساكر : ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ ، الروض الآنف : ج ١ ، ص ١٢٠.

٥١٨

لأولاده الجسمانيّين ، ولهذا فهو يدافع عن عقائده حتّى الموت ، ويغضي ـ في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ عليها ـ عن كل شيء بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده.

إنّ حب المرء للمال والمنصب حبُّ محدود ، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد حياته خطرُ الموت الحقيقي ، ولكنّه مستعد لأن يمضي ـ في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة ـ إلى حدّ الموت ، ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة ، ويَرى الحياة الحقيقية والواقعية في وجود الرجال المجاهدين ، وهو يردد :

« إنما الحياة عقيدة وجهاد ». (١)

ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا ( ونعني به المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي الرسول الاوحد في بدايات عهد الرسالة ) فماذا كان دافعه إلى هذا الامر ، وما الّذي كان يحركه في هذا السبيل؟ واي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق إلى حافة العدم ، والغض عن النفس والنفيس ، والمقام ، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكل ذلك في سبيل « محمّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن من المتيقَّن أن دافعه إلى ذلك لم يكن المحرك الماديّ ، وبالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن اخيه ، وحمايته ، والحدب عليه ، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له يومئذ مالٌ ، ولا ثروة.

وكما أن مقصود « أبي طالب » لم يكن أيضاً تحصيل مقام ، وأحراز مكانة اجتماعية لأنه كان يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب واهمها ، فقد كانت له رئاسه « مكة » والبطحاء ، بل هو فقد منصبه وشخصيته الممتازة ومكانته المنقولة بسبب دفاعه عن « محمّد » ، وعدم الاستجابة لقومه في تسليمه اليهم ، والتخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استوجب سخط زعماء قريش عليه واستياءهم من موقفه ، وخروجهم عن طاعته ، ودفعهم إلى التمادي

__________________

١ ـ المراد من العقيدة المقدسة هو بطبيعة الحال ما تذوب « الأنا » فيها في التوحيد والايمان باللّه إذ هنا يصدُق قولُه :

قِف عند رأيك واجتهد

إنّ الحياة عقيدةٌ وجِهاد

                         

٥١٩

في معاداة « بني هاشم » و « أبي طالب » والثورة عليهم!!

تصَوّرٌ باطلٌ

ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة حدب « أبي طالب » على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي : علاقة القربى ، ووشيجة الرَحِم ، أو بتعبير آخر : إِن التعصب القبليّ ، والعصبية القومية هو الّذي دفع بأبي طالب إلى ان يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه.

ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل لا غير ، ويتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا تسطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحداً إلى أن يضحي بنفسه في احد أقربائه إلى هذه الدرجة من التضحية والمفاداة ، بحيث يقي مثلا ابن أخيه عليه ، ويكون مستعداً لأن يتقطّع ولده بالسيوف إرباً إرباً دون ابن أخيه.

إن العصبيات القبائلية والعائلية وان كانت تدفع بالانسان حتّى إلى حافة الموت ، ولكن لا معنى لان تختص ، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد واحد ، وشخص خاص معيّن من أفراد العائلة والقبيلة ، في حين نجد « أبا طالب » قد قام بكل هذه التضحية في سبيل شخص واحد ، وفرد معين ( أي النبيّ ) ، ولا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من أبناء « عبد المطلب » و « هاشم » وأحفادهما ومن ينتمي إليهم بوشيجة القربى ورابطة الرحم.

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب

وعلى هذا الأساس فانّ المحرّك والدافِعَ الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا الجاه والمنصب ، أو التعصب القومي ، والعائلي ، بل كان أمراً معنوياً وأن ضغوط العدوّ وقوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر « محمّداً » مظهراً كاملا للفضيلة والإنسانية ويعتبر دينه أفضل برنامج

٥٢٠