سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

هذا بنصه إذ قال :

« وَقالَ الَّذيْنَ كَفرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلةً واحِدَةً ».

ثم قال تعالى ردّاً على إعتراضهم هذا : « كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بهِ فُؤادَكَ » (١).

إن القرآن يهتم بهذا الإعتراض ، ويوضح مسألة « النزول التدريجي » للقرآن الكريم ويقطع الطريق على المستشرقين المغرضين ومن حذى حذوهم ، بمنطقه المحكم ، وبيانه القويّ.

وها نحن نعمد هنا إلى إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة ايضاً :

القُران والنُزُولُ التدريجيّ :

إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً.

فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكة ، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات الّتي تتحدثُ عن مكافحة الشرك والوثنية ودعوة الناس إلى اللّه الواحد ، والإيمان باليوم الآخر مكيّة ، بينما تكون الآيات الّتي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة ، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجَّهاً إلى المشركين عَبدة الاوثان الذين كانوا ينكرون توحيدَ اللّه ، واليوم الآخر ، فهنا تكونُ الآيات الّتي تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّها إلى المؤمنين باللّه ، وإلى جماعة اليهود والنصارى ، وكان الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة الّتي بدأها رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواصلها في هذه البيئة ، من هنا تكون الآيات الّتي تتضمن الحديث حول الاحكام والفروع والقوانين ، ويدور

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤١

الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى ومواقفهم وتتضمن الحثَّ ـ كذلك ـ على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل اعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه ، آيات مدنيّة.

إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الحوادث هي الّتي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية ، وإيضاح مفادها ، فان وقوع هذه الحوادث كان سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أن بعض الآيات الاُخرى نزلت جواباً على أسئلة الناس ، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.

والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان المعارف والأحكام الالهية.

ولهذه الاسباب يمكن القولُ بان القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدريجاً لتدرّج موجبات النزول.

وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا الامر أيضاً في بعض المواضع إذ قال : « وَقُرْاناً فَرَقْناهُ لِتَقْتَرأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْث » (١).

وهنا يطرح هذا السؤال وهو : لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كُلها على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة ، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟!

إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل طرحه أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون : « لَوْلا نُزِّلَ عَليْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة » (٢).

ويمكن تقرير وشرح هذا الاعتراض على نحوين :

١ ـ إذا كان الإسلام ديناً إلهياً ، وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلا من جانب اللّه على رسوله ، فلابدّ أن يكون ديناً كاملا ، ومثل هذا الدين الكامل

__________________

١ ـ الاسراء : ١٠٦.

٢ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤٢

يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقف في نزول الآيات ، إذا لا مبرّر ولا داعيَ لأن ينزل دينٌ كاملٌ من جميع الجهات ، مكمّل من حيث الاُصول والفروع والتشريعات والواجبات والسنن ، على نحو التدريج في ٢٣ عاماً ، ولمناسبات مختلفة.

وحيث أن القرآن نزَلَ منجّماً ، وبصورة متفرقة متناثرة ، وعقيب طائفة من الأسئلة ، أو وقوع حوادث وطروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملا من حيث الاُصول والفروع ، وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الّذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج لا يصحّ أن يوصَف بالدين الالهيّ.

٢ ـ إن آيات القرآن والتاريخ القطعي والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية اُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتبوة مدوّنة ، فلما لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار ، كأن ينزل القرآن على « محمَّد » في لوح مكتوب كما نزل التوراة في الواح مكتوبة؟!

وحيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط ، ولم يكن لهم على علم مسبق بكيفية نزولها ، لذا يمكن القولُ بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح ، والّذي يتلخص في أنه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة ، بل نزلت هذه الآيات عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فواصل زمنية متفاوتة ، وبمناسبات وحسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

الأسرارُ المنطقيّة للنُزول التدريجي للقرآن :

ولقد كشف القرآنُ القناعَ ـ في معرض الردّ على إعتراض المشركين هذا ـ عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

واليك توضيح هذا القسم الّذي اشار إليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة :

٤٤٣

١ ـ إن الرسولَ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحمَّل مسؤوليات كبرى ، وان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكلَ ومتاعَب باهضة وصعبة ، ولا ريب أن تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل ، وانخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروحُ الّتي يتمتع بها الشخصُ عظيمة ، وقويّة ، في مثل هذه الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى ، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثاً على تجدّد النشاط ، وعاملا قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية الفاعلة في نفس النبيّ وروحه ، وبالتالي فان العناية والمحبّة الالهية الممتدّة لنبيّه ورسوله إنما تتجدد بتكرّر نزول الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جانبه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى إذ قال : « كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِه فُؤادَكَ » (١).

٢ ـ ويمكن ان تكون الجملةُ المذكورة ناظرة إلى جهة اُخرى وهي : انَ المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزلَ القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى إلى الناس على هذا الشكل ايضاً وذلك لان النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلّم الاُمة ، وطبيبُها الروحيُ الّذي بُعِث إلى الناس بالوصفات الالهية لتعليمهم ، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة ، والفكرية ، وكُلِّفَ بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية ، ومثل هذا يتطلب التدرّج لينفَع الدواء ـ حينئذ ـ وتنجعَ المعالجةُ.

إن أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية ، وأن يطبق كل ما يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية ، ويعطي لما يلقيه من معلومات ، صبغة تحقيقية ، ويتجنَبَ بشدة إتصافَ أفكاره وآراءه بالطابع النظريّ البحت.

فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة والاُسس العامة من الطبّ على طلابه في الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤٤

المطلوبة من تعليم الطبّ ، بشكل كامل.

أما إذا قَرنَ الاستاذ درسَه النظري بالإرشاد العمليّ وطبَّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن ، ويساعد الطلبة على فهم افضل للمواد الّتي درسوها في هذا المجال.

فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملةً واحدة ( والحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج إلى كثير منها ) كان القرآن ـ حينئذ ـ فاقداً لهذه المزية التربوية الهامة الّتي أشرنا إليها قريباً في مثال تدريس الطب.

ان بيان الآيات الّتي يشعر الناس في انفسهم بعدم الحاجة إلى اخذها وتعلّمها ، لا يترك التأثيرَ الباهرَ في القلوب ، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس الّتي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكامَ والاُصولَ والفروعَ الّتي يحتاجون إليها فانه لا شكَّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترسّخٌ اكبر في نفوسهم ، وسيظهرُ الناس من انفسهم إستعداداً اكبر لاخذ ألفاظها ومعانيها ، وفوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم ، وعندئذ تتحقق المقولة التربوية الّتي اشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات إتخذت طابعاً عملياً ، ولم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

ولكن يبقى هنا سؤالٌ آخر وهو : إذا كان نزولُ القرآن قد تحقَّق على نحو التدريج وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة ، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط بين الآيات والسور ، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها لتبعثرها ، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها ، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيَت الروابطُ والعلاقات بين قضايا الوحي ولتضاعَفَت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟

٤٤٥

ولقد أجاب القرآن الكريم ايضاً على هذا السؤال إذ قال : صحيح أن آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات إلاّ أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابداً من ترابط مطالبه ، وارتباط مواضيعه بعضها ببعض ، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات إِنسجاماً وترابطا خاصاً يمكن الإنسان من تعلمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوعَ قليلا من الإهتمام إذ قال تعالى : « وَرتّلناه تَرتيلا » (١).

أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً.

أسرارٌ اُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً :

٣ ـ لقد واجَه رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس : كالوثنيين ، واليهود والمسيحيين الذين كان لكل فئة منهم ديناً خاصاً ، وعقائد وتصورات خاصة حول المبدأ والمعاد ، وغيرهما من المعارف العقلية.

وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات ( وإن لم يكن مطلوباً ومقترحاً من قبلهم ) ويقيم الأدلة والبراهين على بطلانها ، وزيفها ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة ، وأوقات مختلفة ، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحيُ الالهي تدريجاً ، وفي الأوقات المختلفة ، ويتصدى لبيان بطلان تلك العقائد والتصورات ويجيب على شبهات المخالفين ، اعتراضاتهم.

وربما كانت توجب هذه المواجهاتُ العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض الاسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٤٤٦

يجيب عليها ، وحيث أن هذه الاسئلة كانت تطرَح في أوقات مختلفة ، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ الالهيُ في الأوقات والأزمنة المختلفة ، وعلى نحو التدريج.

هذا مضافاً إلى أن حياة النبي نفسَها كان حياة ثورة ، ووقائع ، وكان النبيُ يواجه باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح حكمها ، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي.

وربما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادثاً واُموراً يرجعون فيها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها ويسألونه عما يجب إتخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث وما يشابهها.

وحيث أن هذه الحوادث ، وما يترتب عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات متلفة ، وبمرور الزمن ، لذلك لم يكن بد ايضاً من ان ينزل الوحيُ الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلا بأوّل.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه النقاط ، وإلى نقاط اُخرى غيرها في قوله تعالى : « ولا يَأْتُونَكَ بمَثَل إلا جِئناكَ بِالحَقِّ وَأَحسَنَ تَفْسيراً » (١).

٤ ـ إن للنزول التدريجيّ للقرآن الكريم وراء كل ذلك سراً آخر ، وعلة اُخرى غفلوا عنها ، ألا وهي : هداية الناس وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب ، وأن القرآن ليس الاّ كتاباً سماوياً ، ووحياً الهياً لا غير ، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ ، لأن القرآن نزل خلال ( ٢٣ عاماً ) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرة والمحزنة ، المقرونة بالنصر والهزيمة ، والنجاح والإخفاق ، ولا شكَّ أن هذه الحالات المختلفة ، والاحاسيس والمشاعر المتنوعة المتباينة ، تترك أثراً عميقاً في نفس الإنسان ، وروحه وعقله ، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد ، وبنبرة واحدة ، في حالتين

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٣.

٤٤٧

نفسيّتين متضادتين ، فالكلام الصادر في حال الفرح والابتهاج والمسرة من اللسان أو القلم ، يختلف من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب ، والاخفاق ، والهزيمة.

بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يمر بحالات مختلفة من الحزن والسرور والاخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء ، والعسر والرخاء والجهد والنشاط ، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحد من القوة والفصاحة والبلاغة ، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلَغَ ما بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره ، وكأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الاُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أىُ شيء من التفاوت والاختلاف ، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها وآخرها كأولها.

ولعلّ الآية التالية الّتي تنفي أيّ نوع من أنواع الاختلاف في القرآن إذ تقول : « وَلَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْر الله لَوَجَدُوا فيه إخْتِلافاً كثيراً » (١) اشارة إلى هذا السرّ.

إنَّ المفسرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها ، ومقاصدها ، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد وتنزهه من جميع انواع الاختلاف والتناقض الّذي هو من لوازم العمل والانتاج البشري.

__________________

١ ـ النساء : ٨٢.

٤٤٨

١٧

إلى الحبشة

الهجرة الاولى

تُعتَبر هجرة فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة دليلا بارزاً على إيمانهم واخلاصهم العميق لدينهم ، ولربهم وذلك لأن فريقاً من الرجال والنساء يقررون ـ وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلص من أذى قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه الواحد ـ مغادرة ( مكة ) ، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية ، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أية نقطة من نقاطها ، ولا يمكنهم اقامة احكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل ، وبعيداً عن الارهاب ، ويفكرون ، ويفكرون ، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المسألة ، ويطلبوا في ذلك رأي النبي الّذي يقوم دينه على مبدأ : « إنَّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبُدُون » (١).

لقد كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً ، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم ، وكان الفتيان الهاشميون يحمونه ويحفظونه

__________________

١ ـ العنكبوت : ٥٦.

٤٤٩

من كل اذى ، ولكن الذين آمنوا به من الإماء والعبيد ، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الّذين كانوا يشكلون عدداً كبيراً من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب والايذاء والمضايقة من قريش الّتي لم تأل جهداً ، ولم تدخر وسعاً ، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً لالحاق العنت والأذى بالمؤمنين برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يستطيع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منعهم من ذلك.

وقد كان زعماء كل قبيلة يعمدون ـ للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل ـ إلى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم ، وايذائه والتنكيل به ، وقد مرت عليك نماذج وامثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي للمسلمين.

لهذه الأسباب عند ما طلب أصحابُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم :

« لَوْ خَرجْتُمْ إلى أرض الحَبَشة فانَّ بِها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أحَدٌ وهي أرضُ صِدْق حَتى يَجعَلَ اللّهُ لكُم فَرَجاً ممّا أنتُم فيهِ » (١).

أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلَّم زمامَ الأمر فيه رجلٌ صالحٌ عادلٌ نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة إلى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم ، وهو ما كان يريده ويتمناه أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والامن.

ولقد كان لكلام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثر قوىٌ في نفوسهم تلك الثلة المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد فيها اللّه في أمان ، بحيث لم يمض زمان إلاّ وقد شدّت رحالها وغادرت مكة ليلا في غفلة من الاجانب ( المشركين ) مشاة وركباناً ، متجهةً نحو جدّة ، للسفر عبر مينائها إلى ارض الحبشة.

وكان هذا الفريق يتألف من عشر أو خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٢١ ، تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٧٠ ، وبحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٤١٢ نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

٤٥٠

النسوة المسلمات (١).

والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين مناطقَ اُخرى للهجرة اليها ، وانما ذكر الحبشة فقط.

ان سر هذا الاختيار هذا يتضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك.

ان الهجرة إلى المناطق العربية الّتي كان سكانها من المشركين والوثنيين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر ، فان المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً لدين الآباء ( الوثنيّة ).

وكذلك المناطق الّتي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود ، من الجزيرة العربية لم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الاُخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي ، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرفٌ ثالث في حلبة الصراع ، هذا مضافاً إلى أن ذينك الفريقين ( اليهود والنصارى ) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً ، فكيفَ يمكن الهجرة إلى مناطقهم والتعايش معهم؟!

أما « اليمن » فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة المسلمين في ربوع « اليمن » ، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الإسلامية إلى درجة انه لما وصلت رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى « خسرو برويز » كتب إلى عامله على اليمن فوراً « احمل إليّ هذا الّذي يذكر أنه نبيٌّ ، وبدأ اسمَه قبل اسمي ، ودعاني إلى غير ديني » (٢)!!.

وكذلك كانت « الحيرة » تحت الاستعمار والنفوذ الايرانيّ كاليمن.

وأمّا « الشام » فقد كانت بعيدة عن « مكة المكرمة » ، هذا مضافاً إلى ان « اليمن » و « الشام » كانتا سوقين لقريش ، وكانت تربُط قريش بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة ، فاذا كان المسلمون يلجأون إليها اُخرجوا منهما

____________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧٠.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٢٠ ، ص ٣٨٢.

٤٥١

بطلبٍ من قريش ، تماماً كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب ، ولكنه رفض طلبهم.

وقد كانت الرحلة البحرية ـ في تلك الآونة ـ وبخاصة برفقة النساء والاطفال رحلة شاقة جداً ، من هنا كانت هذه الهجرة ، وترك الحياة والمعيشة في الوطن دليلا قوياً على إخلاص اُولئك المهاجرين لدينهم وعمق ايمانهم به ، وصدقه.

ولقد كان ميناء « جدة » آنذاك ميناء تجارياً عامراً كما هو عليه الآن ، ومن حسن التوفيق أن هذه الثلة المهاجرة قد وصلت إلى هذا الميناء في الوقت الّذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اُهبة الاقلاع ، والتوجه نحو الحبشة ، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم ، لقاء نصف دينار عن كل راكب.

وكان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه (١).

ولما عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين واعادتهم إلى مكة فوراً ، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ « جدة » قبل أن يدركهم الطلب (٢).

ومن الواضح أن ملاحقة مثل هذه الثلة الّتي لم تلجأ إلى أرض الغير إلاّ لأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها.

فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل والوطن ، واغمضوا الطرف عن المال ، والتجارة ، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية ، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة وجبابرتها وطغاتها!!

اجل ان رؤساء « دارالندوة » بمكة واقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٤١٢ نقلا عن مجمع البيان للطبرسي.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٤٥٢

الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن ، والمؤشرات ولذلك كانوا يرددون فيما بينهم اُموراً سنذكرها في ما بعد.

هذا والجدير بالذكر أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء العشرة ينتمي إلى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية إلى الحبشة :

ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة اُخرى ، وكان في مقدمة المهاجرين هذه المرة « جعفر بن أبي طالب ». ابن عم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولقد تمت الهجرة الثانية في منتهى الحريّة ، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم ، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (٨٣).

هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض الحبشة لهُم ، والاّ كان العددُ اكثر من هذا الرقم.

ولقد وَجَدَ المسلمون المهاجرون ارضَ الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم : منطقة عامرة ، وبيئة آمنة حرّة ، تصلح لأَن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية وأمان.

تقول « اُم سلمة » الّتي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما بعد ، عن تلك الارض : لما نزلنا أرضَ الحبشة جاوَرنا بها خير جار النجاشي ، أمنّا على ديننا ، وعبدنا اللّه تعالى ، لا نؤذى ، ولا نسمع شيئاً نكرهه.

كما أنه يُستفاد ممّا قاله بعض اولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة ، انهم أمنوا بأرض الحبشة ، وحمدوا جوار النجاشي ، وعَبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً.

ونحن نكتفي هنا بادراج بعض الأبيات من قصيدة مطوَّلة أنشأها « عبد اللّه بن الحارث » في هذا الصدد :

٤٥٣

يا راكباً بَلِّغن عَنّي مُغلْغَلة (١)

مَن كانَ يرجُو بلاغَ اللّه والدّينِ

كلَّ امرئ مِن عِباد اللّه مضطَهدٍ

ببَطنِ مكّة مقهور ومفتونِ

أنّا وجَدنا بِلادَ اللّه واسعةً

تُنجِي مِنَ الذُلِّ والمخزاة والهون

فَلا تُقيموا عَلى ذُلِّ الحَياة وَخز

ي في المَماتِ وَعَيب غير مأمون (٢)

ويقول ابن الاثير : وكان مسيرهم ( إلى الحبشة ) في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان وشهر رمضان وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة ، وكان سبب قدومهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه بلغهم ان قريشاً اسلمت فعاد منهم قومٌ وتخلّف قومٌ (٣).

هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام (٤).

قريش توفد رجالا لاسترداد المسلمين :

عندما بلغ قريشاً وزعماء « مكة » ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية ، وما حصلوا عليه من حسن الجوار والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم ، وتوجسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين ، وكانت الزعامةُ المكيةُ تتخوفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام واتباعُه منفذاً إلى بلاط النجاشي زعيم الاحباش وملِكهم ، ويُميلّوا قلبَه نحو الإسلام ، ويكسبوا تاييده للمسلمين ، فيؤول الامر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية ، وعندها تكون الكارثة.

فاجتمع أقطابُ « دار الندوة » مرة اُخرى للتشاور في الأمر ، فأستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ ووزرائه وقواده هدايا

__________________

١ ـ المُغلغلَة : الرسالة ترسَل من بلد إلى بلد.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥١ ـ ٣٥٣.

٣ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٥٢ و ٥٣.

٤ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٤ ـ ٣٦٢.

٤٥٤

مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتهمونهم عنده بالسفاهة والجهل ، وابتداع دين جديد منكر ، والإرتداد عن دين الآباء والاجداد!!

ولكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه ويصلوا عن طريقها إلى افضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدُهما في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما : « عمروُ بن العاص » ، و « عبد اللّه بن ابي ربيعة » وقال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار : إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم ، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه ، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرج موفَدا قريش حتّى قدما على النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات.

وهناك في الحبشة دَفعا إلى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة جيشه ووزرائه هديته ، وقالا لكل بطريق منهم :

إنه قد ضوى (١) إلى بلد الملك منّا غُلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ، ولم يَدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا انتم ، وقد بعثنا إلى المِلِك لنكلّمه في أمرهم أشرافُ قومهم ليردَّهم اليهم فاذا كلَّمنا الملكُ فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا ، ولا يكلّمهم ، فان قومَهم أبصر بهم ، واعلم بما عابوا عليهم.

فابدى اُولئك البطارقة والقادة والوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم.

ولما كان من غد دخلا على النجاشي وقدما هداياهما إليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له :

أيها الملك إنه قد ضَوى إلى بلدك منا غِلمان سفهاء ، فارقوا دينَ قومهم ولم

__________________

١ ـ ضوى أيّ لجأ وأتى ليلا.

٤٥٥

يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بَعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم اليهم ، فهم أبصر بهم واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

وما أن انتهى موفدا قريش من الكلام إلاّ وقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومُهم أبصرُ بهم ، وأعلمُ بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

فغضبَ النجاشيّ وكان رجلا حكيما عادلا وقال : لاها اللّه ، إذن لا اُسلمهم إليهما ، ولا يُكادُ قوم جاوَرُوني ، ونَزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتّى أدعوَهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتُهُم اليهما ، ورددتُهم إلى قومهم ، وان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما واحسنتُ جِوارَهم ما جاوروني.

ثم ارسل إلى أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المهاجرين إلى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم ، فحضروا عنده ، وكانوا قد قرّروا أن يكون متكلِّمُهم وخطيبهم : « جعفر بن أبي طالب » وقد قلِقَ بعضُ المسلمين لما قد سيقوله « جعفر » عند الملك ، وبماذا سيكلّمهُ ويجيبُه ، فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر : أقول واللّه ما علّمنا ، وما امرنا به نبيُنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.

فالتفت النجاشيُ إلى « جعفر » وسأله قائلا :

ما هذا الدين الّذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا ( به ) في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

فقال جعفر بن ابي طالب :

« أيُّها الملك ، كنّا قوماً أهلَ جاهلية نعبُدُ الأَصنامَ ، ونأكلُ الميتةَ ، ونأتي الفواحش ، ونقطعُ الارحام ، ونسيءُ الجوار ، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتّى بعث اللّه الينا رسولا منا ، نعرف نسبَه وصدقه ، وأمانته وعَفافه ، فدعانا إلى اللّه لنوحِّدَه ونعبُدَه ، ونخلَعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من

٤٥٦

الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الامانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبدَ اللّه وحدَه ، لا نشركُ به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدّقناه وآمنّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرَّمنا ما حرَّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا ، فعدا علينا قومُنا ، فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردُّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالى ، وان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث ، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلَم عندكَ ايها الملك ».

فأثّرت كلمات جعفر البليغة ، وحديثه العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدُموع ، وقال : لجعفر هل معَك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟

فقال جعفر : نعم فقال له النجاشيّ : فاقرأهُ عليَّ ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم ، واستمرَّ في قراءته ، وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى « مريم » عليها‌السلام وطهارة جيبها ، وإلى مكانة المسيح عليه‌السلام ، وعظمة شأنه ، وجليل مقامه ، فبكى النجاشيُ حتّى اخضلّت لحيتُه بالدموع وبكت اسقافتُه (١) حتّى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم والمسيح عليهما‌السلام.

وبعد صمت قصير ساد ذلك المجلس قال النجاشي :

« إن هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة » وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلامُ اللّه وأنهما شيء واحدٌ.

ثم التفت إلى موفَدي قريش وقال لهما بنبرة قوية : انطلقا فلا واللّه لا اُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون ، فخرجا من عنده.

__________________

١ ـ الاساقفة ؛ جمع اسقف : علماء النصارى.

٤٥٧

وعند المساء تكلَم « عمرو بن العاص » ـ وكان إمرء خدّاعاً ما كرا ـ مع رفيقه « عبد اللّه بن ربيعة » في الامر ، وقال له : واللّه لآتيَنّ غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم ( وهو يعني أنه سيأتي بحيلة تقضي على جذور المهاجرين بالمرة ) ولاُخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. ( أي على خلاف ما يعتقد النصارى في المسيح ).

فنهاه « عبد اللّه » عن ذلك وقال : لا تفعل ، فانّ لهم أرحاماً ، وان كانوا خالفونا ، ولم ينفع نهي عبد اللّه له.

ولمّا كان من الغد دخلا على النجاشي مرة اُخرى فقال له « عمرو » متظاهراً هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى وهي دين الملك واهله ، ومنتقداً رأي المسلمين.

أيها الملك ، إنهم يقولون في « عيسى بن مريم » قولا عظيماً. فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فارسل النجاشيُ اليهم ليسألهم عنه ، وهو الملك المحنَّك الّذي لا يأخذ الأمور على ظواهرها ، ومن غير تحقيق ودراسة ، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه‌السلام فاتفقوا أن يكون « جعفر » متكلمهم وخطيبهم وعندما سألوه عما سيجيب به الملك قال : أقول واللّه ما قال اللّه ، وماجاءنا به نبيُنا.

فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر بن ابي طالب : ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال جعفر : نقول فيه الّذي جاءنا به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها إلى مريم العذراء البتول.

فسرّ النجاشي لكلام جعفر ورضي به وقال : هذا واللّه هو الحق ، واللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ.

ولكنَّ حاشيته لم تَرضَ بهذا الكلام ولم تقبل بما قاله الملكُ ، ولكنّه لم يعبأ بهم ، وأيّد مقالة المسلمين ، ومنحهم الحرية الكاملة ، والأمان الكامل قائلاً لهم :

٤٥٨

اذهبوا فانتم آمنون في أرضي من سبّكم غُرمَ ، من سبّكم غرمَ ، ما اُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلا منكم.

وردّ على موفَدي قريش هداياهما قائلا لهما : « ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها ، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فاُطيعهم فيه ».

فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردوداً عليهما ما جاء به يجرّان اذيال الخيبة (١).

* * *

وينبغي ان نسجّل هنا موقفا آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين ، ونصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل « ابو طالب » أبياتاً للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الابيات هي :

ألا لَيتَ شِعري كيفَ في النأي جعفرٌ

وعمروٌ واعداء العدو : الأقاربُ؟

وهل نالتَ افعال (٢) النجاشيّ جعفراً

وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ؟

تَعلّم ، ابيتَ اللعنَ ، انك ماجِدٌ

كريمٌ فلا يشقى لَديك المجانبُ

تعلّم بانَ اللّه زادك بسطةً

وأسبابَ خير كلّها بك لازب

وأنك فَيضٌ ذو سجال غزيرة

يَنالُ الاُعادي نفعهُا والاقارب (٣)

العَودةُ من الحبشة :

قلنا في ما مضى أنَّ المجموعة الاُولى من المهاجرين رجَعت من الحبشة إلى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة وانضوائها تحت راية الإسلام. حتّى إذا دنوا من « مكة » بلغهم أنما كانوا تحدّثوا به من إسلام اهل مكة كان باطلاً ،

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٣٨ ، إمتاع الاسماع : ص ٢١ ، بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٤١٤ و ٤١٥.

٢ ـ إحسان.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٣٣ و ٣٣٤.

٤٥٩

فلم يدخل منهم إلى « مكة » إلاّ قليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاؤوا.

وكان ممن دخل « مكة » بجوار ، « عثمان بن مظعون » الّذي دخلها بجوار « الوليد بن المغيرة » (١) ولكنه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البلاء ، والعذاب وهو يغدو ويروح في امان فتألّم لذلك ولم تطِق نفسه تحمُّلَ هذا الفَرق وقال : واللّه إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي فمشى إلى « الوليد بن المغيرة » وردَّ عليه جواره ليواسي المسلمين ويشاركهم في آلامهم ومتاعبهم وقال : يا أبا عبد شمس وفَت ذِمّتُك ، قد رَددْتُ إليك جوارَك.

قال : لِمَ يابن أخي؟ لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي؟

قال : لا ولكني أرضى بجوار اللّه ولا اُريد أن أستجير بغيره.

فقال الوليد له : إذن فاردُد عليّ جوارى علانية كما أجرتُك علانيةً.

فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجدَ ، فقال « الوليدُ » مخاطباً من حضر مِن قريش : هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.

قال : صدق ، قد وجدتُه وفيّاً كريمَ الجوار ولكنّي قد احببتُ أن لا استجيرَ بغير اللّه ، فقد رردتُ عليه جواره (٢).

ثم لم يمض شيء مِنَ الوقت حتّى دخَلَ المسجدَ « لبيد » وكان شاعراً متكلِّما بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف في مجلس من قريش ينشدهم و « عثمان بن مظعون » جالس معهم فقال مِن جملة ما قال شعراً :

ألا كلُ شيء ما خلا اللّه باطلُ

فقال عثمان بن مظعون : صدقتَ فقال : لبيد :

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٦٩.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠.

٤٦٠