سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

ليخرجنَّ نبيُّ فَليكسرن أصنامكم (١).

وكتب ابن هشام يقول : كان اليهود يقولون للعرب : إنه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ عاد وارم.

وكتب يقول أيضاً : وكانت الاحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى والكهّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مبعثه.

هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بُعثَ ، ودعاهم اللّه ، بينما احجمت اليهودُ عن الايمان به وبرسالته وبقيت على كفرها وجحودها لنبوته الّتي طالما بشرت بها.

وقد نزل فيهم قولُه تعالى : « وَلَمّا جاءهُمْ كتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصدِّقٌ لِما مَعهمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذينَ كَفرُوا فَلمّا جَاءهُمْ ما عَرفُوا كَفرُوا به فَلعْنَةُ اللّه عَلى الكافِرين » (٢) (٣).

أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ :

ولقد شهدَ أحدُ أعياد قريش حادثاً غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب منهم بمثابة جرس إنذار اذِن باقتراب سقوط دولة الوثنيين ، وإنهيار صروح الوثنيّة وعبادة الأصنام ، وانقراضها.

فقد اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، فتنحّى أربعةٌ ممن عُرفوا بالعلم ناحية ، وأخذوا يتحدَّثون سرّاً ، وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام ، وما عليه قومهم من فساد العقيدة.

فقال بعضهم لبعض : واللّه ما قومكم على شيء ، لقد اخطأوا دين أبيهم

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٢٣١.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ص ٢٢١.

٣ ـ البقرة : ٨٩.

٢٨١

إبراهيم!! ما حَجرٌ نُطيف به لا يسمعُ ولا يبصرُ ، ولا يضرُ ولا ينفعُ ، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً ...

وكان هؤلاء الأربعة هم :

١ ـ « ورقة بن نوفل » الَّذي اختار النصرانية بعد أن طالعَ كُتُبَها ، واتصل بأهلها.

٢ ـ « عبيداللّه بن جَحش » الّذي أسلمَ عند ظهور الإسلام ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة.

٣ ـ « عثمان بن الحويرث » الّذي قدم على قيصر ملك الروم ، فتنصَّر.

٤ ـ « زيد بن عمرو بن نفيل » الّذي اعتزل الأوثان ، وقال : اعبدُ رب إبراهيم (١).

إن ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنَّ دعوة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة ، واستمراراً لها!!

كيف يمكن أنْ نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى ، واستندت إليه من معارف وأحكام لا تُحصى ، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً عن مثل هذا الاستنكار المحدود؟

إن الحنيفية وهي سُنّة إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت كليّاً في الحجاز بعد ايام بعثة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف ( وهم الذين كانوا على دين إبراهيم عليه‌السلام ) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية ، إلاّ أن ذلك لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس ، أو قيادة حركة ، أو تربية أفراد على نهجهم ، أو أن توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام « محمَّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلم يُنقَل عن هؤلاء سوى بعض الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٢٥.

٢٨٢

بالمعاد واليوم الآخر ، وشيء بسيط من البرامج الأخلاقية ، وحتّى ما نقل عنهم من ابيات توحيدية لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم ، وانْ لم يمكن نفي ذلك أيضاً (١).

فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة ، والمعارف العقلية العالية ، والقوانين والتشريعات المفصلة ، والانظمة الأَخلاقية والسياسية والإقتصادية الإسلامية ، الشاملة الكاملة ، كنتيجة لمتابعة اُولئك النفر المعدود من « الأحناف » الموحدين المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُ عقائدهم تتألف من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه ، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟!

نموذج آخر عن ضَعف قريش :

لم يكن يمض على عُمر فتى قريش اكثر من خمس وثلاثين عاماً يومَ واجه اختلافاً كبيراً بين قريش ، فأزال بحكمته ذلك التخاصم ، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى الإحترام الّذي كان فتى قريش « محمَّد » يحظى به لدى قريش ، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم بصدقه وأمانته.

واليك تفصيل هذه الحادثة :

إنحدر سيلٌ رهيب من جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظم « الكعبة المقدسة » فلم يسلم من هذا السيل بيت في مكة حتّى الكعبة المعظمة ، الّتي تصدَّعتْ جدرانُها تصدعاً كبيراً بفعل ذلك السيل.

فعزمت قريشٌ على تجديد تلك البِنية المعظمة ، ولكنها تهيّبت ذلك ، وترددت في هدم الكعبة ، فأقدم « الوليد بن المغيرة » وهدمَ ركنين منها على شيء من الخوف ، فانتظر أهلُ مكة أن يحل به أمرٌ ، ولكنهم لما رأوا « الوليد » لم يصبه

__________________

١ ـ ولقد نقل ابن هشام في كتابه : السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٢٢ ـ ٢٣٢ طائفة من الأبيات والقصائد التوحيدية هذه ؛ والّتي جاء في مطلع إحداها ما أنشده زيدُ بن عمرو بن نفيل :

أرَبّاً واحِداً أمْ أَلفُ ربٍّ

أدِينُ إذا تُقُسِمت الاُمورُ؟

عزلتُ اللات والعزّى جميعاً

كذلِكَ يفعل الجَلْد الصبُور ( البصير )

٢٨٣

غضب من الآلهة ، اطمأنوا إلى أنه لم يرتكب قبيحاً ، وأنه عمل ما فيه رضى آلهتهم ، فاقدَمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من الكعبة ، واتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من « مصر » في تجارة لروميّ عند ميناء « جدة » بفعل الرياح والعواصف ، فعلمت بذلك قريش ، وأرسلت رجالا يبتاعون أخشابها ليستخدموها في بناء الكعبة المعظمة ، وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن « مكة ».

ولما ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل ، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش ، وتنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في مكانه.

وتحالفت قبيلة « بني عبد الدار » مع « بني عَديّ » على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار غيرُهم ، وعمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تاكيداً لذلك الميثاق.

من هنا تأخرت عملية البناء وتوقّفت خمسة أيام بلياليها ، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ دامية ، وربما طويلة ، فقد اجتمعت طوائف مختلف من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر حادثة خطيرة ، فعمد ـ في الأخير ـ شيخ من شيوخ قريش يدعى « أبو اُميّة بن مغيرة المخزومي » من زعماء قريش وقال : يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول مَن يدخل من باب هذا المسجد (١) يقضي بينكم فيه » فقبلوا برايه اجمع ، فكان أول داخل عليه فتى قريش « محمَّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمَّد.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلم اليّ ثوباً ، فأخذ الحجَر ووضعه فيه ثم قال :

« لتأخذْ كلُ قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوهُ جميعاً »

ففعلوا حتّى إذا بغوا به موضعه من الركن وضعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو بيده مكانه ، وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش ، واختلافها ، وحلَّ الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُ بحكمه.

__________________

١ ـ وفي رواية : أول من يدخل باب الصفا.

٢٨٤

وإلى قضية التحكيم هذه يشير « هبيرة بن أبي وهب » في أبيات صوَّرت هذه الحادثة التاريخية الكبرى ، إذ قال :

تشاجَرَتِ الأحياء في فَصْل خطةٍ

جرت بينهم بالنَحس مِن بعد أسعد

تلاقَوابها بالبُغض بعد مَودَّة

وأوقد ناراً بينهم شرّموقد

فلما راينا الأمر قد جدَّ جدُّه

ولم يبقَ شيء غيرُ سلّ المهند

رضينا وقلنا العدل أولُ طالع

يجيء من البطحاء من غير موعد

ففا جأَنا هذا الامينُ محمَّدٌ

فقلنا رضينا بالأمين محمَّد

بخير قريش كلِها أمس شيمة

وفي اليوم مع ما يُحدثُ اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثلَه

أعمَّ وارضى في العواقب والبَدِ

وتلك يدٌ منهُ علينا عظيمةٌ

يروبُ لها هذا الزمان ويعتدي (١)

أمينُ قَريشُ يَكْفُلُ عَليّاً :

أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين ، وقل فيها الماء ، وأصابت الناس أزمة شديدة ، وكان أبو طالب عليه‌السلام كثير العيال ، فعزم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يساعد عمه أبا طالب ، ويخفف عنه عبء العيال ، فانطلق إلى عمه العباس وقال له : « إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصابَ الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه فلنخفّفْ من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنتَ رَجلا ».

فكفل العباسُ جعفراً ، وكفل رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام.

يقول أبو الفرج الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد :

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٩ وفروع الكافي : ج ٤ ، ص ٢١٧ و ٢١٨ ، والجدير بالذكر أنهم قالوا عند تجديد بناء الكعبة : « يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها مِن كسبكم إلاّ طيّبا ، لا يدخلُ فيها مهر بغيّ ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد للناس » ( البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٣٠١ ) ولا شك أنّ هذه من بقايا تعاليم الأنبياء الّتي بقيت بينهم ولم تمح بالمرة.

٢٨٥

وكان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ « علياً » من أبيه وهو صغير في سنة اصابت قريشاً وقحط نالهم ، وأخذ حمزة جعفراً وأخذ العباس طالباً ليكفوا اباهم مؤونتهم ويخففوا عنهم ثقلهم ، وأخذ هو ( أي ابو طالب ) عقيلا لميله كان إليه فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« اخترتُ مَن اختار اللّه لي عليكم : علياً » (١).

إن هذه الحادثة وإن كانت في ظاهرها تعني ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقدم على هذا الأمر ليساعِدَ عمَّه أبا طالب في تلك الازمة ، لكن الهدف الأعلى والأخير كان أمراً آخر وهو أنْ : يتربّى علي عليه‌السلام في حجر النبي ، ويغتذي من مكارم اخلاقه ويتبعه في كريم افعاله.

ولقد اشار الإمام عليُّ عليه‌السلام نفسُه إلى هذا الموضوع بقوله :

« وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقَرابَةِ القريبَة وَالمَنزِلَةِ الخَصيْصَة وضعني في حجره وَأنا ولَد يَضمُّنِي إلى صَدْرهِ وَيَكنفُني في فِراشِه ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبعُهُ اتّباعَ الفَصِيْل أَثر امِّه يَرفَعُ لِي في كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِهِ عَلَماً وَيأمُرُني بالإقتداء بِه » (٢).

ايمان النبي وآبائه وكفلائه قبل الإسلام :

تدلُ الدلائل التاريخيّة ، القوية ، فضلا عن الأدلة العقلية والمنطقية على أن النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعبُدْ غير اللّه تعالى منذ وُلِدَ من اُمّة ، والى أن رحل إلى ربه ، بل وكان كفلاؤه مثل عبد المطلب وأبي طالب مؤمنون موحِّدُونَ هم أيضاً

ايمان جده عبد المطّلب :

وأما عبد المطلب كفيل النبيّ الأوَّل فلا ننسى أنه عند ما قصد « أبرهة » هدم

____________

١ ـ مقاتل الطالبيين : ص ٢٦ ، الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٣٧ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٤٥ ـ ٢٤٧ باب ( ذكر أن عليّ بن ابي طالب رضي اللّه عنه اول ذكر أسلم ).

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢.

٢٨٦

الكعبة في جيش الفيل ، نزل في جوف الليل إلى الكعبة وأخذ بحلقة بابها يَدْعوا اللّه ويقول مناجياً اللّه سبحانه.

« اللّهم أنيسَ المُسْتَوحشِين ، ولا وحشة مَعكَ فالبيتُ بَيْتُكَ ، والحرم حرمك والدارُ دارُك ، ونحنُ جيرانُكَ ، انَك تمْنَعُ عَنْه ما تشاء ، وربّ الدّار اُولى بالدّار ».

ثم أنشأَ يقول :

يا ربّ لا أرجُو لَهُمْ سِواكا

ياربِّ فاْمنَعْ مِنْهُمُو حِماكا

إنَ عَدُوَّ الْبيْت مَنْ عاداكا

إمنَعْهُمُو إن يُخربوا فناكا (١)

وهذا يكشف بوضوح عن ايمان عبد المطلب بالله تعالى ، وتوكله عليه سبحانه ، وانه كان الرجل الموحد الّذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف اللّه ، ولا يعرف الاّ باب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فان قومه كانوا يستغيثون بالاصنام المنصوبة حول الكعبة.

وممّا يدل على ايمانه ايضاً توسله لكشف غمته باللّه سبحانه فقد تتابعت على قريش سنون جدب ذهبت بالأموال ، واشرفت الانفس واجتمعت قريش لعبد المطلب ، وعَلَوا جبل ابي قبيس ومعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمَّد وهو غلام فتقدم عبد المطلب وقال : لاهم ( اي اللّهم ) هؤلاء عبيدك واماؤك وبنو امائك ، وقد نزل بنا ما ترى ، وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر ، فاشرفت على الانفس فأذهِب عنا الجدب ، وائتنا بالحياء والخصب ، فما برحوا حتّى سالت الأودية ، وفي هذه الحالة تقول رقيقة :

بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتنا

وقد عدمنا الحيا وا جلوّذ المطر

إلى أن تقول :

مبارك الاُم يستسقى الغمام به

ما في الانام له عدل ولا خطر

__________________

١ ـ راجع القصة ومصادرها في ص ١٦١ من هذا الكتاب ، ولعبدالمطلب مواقف اُخرى مشابهة ، وعديدة ، راجع بصددها مفاهيم القرآن : ج ٥ ، ص ١٣٦ ـ ١٤٠.

٢٨٧

وإلى هذه الواقعة يشير ابو طالب في قصيدة أولها :

ابونا شفيع الناس حين سقوا به

من الغيث رجاس العشير بكور

ونحن ـ سنين المحل ـ قام شفيعنا

بمكة يدعو والمياه تغور (١)

وقد نقل الشهرستاني هذه الواقعة في كتابه « الملل والنحل » قال : وممّا يدل على معرفته ( أي عبد المطلب ) بِحال الرسالة وشرف النبوة ان اهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم ، وامسك السحاب عنهم سنتين أمر ابا طالب ابنه ، ان يُحضر المصطفى محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحضره ابو طالب ، وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ، ورماه إلى السماء ، وقال : يا رب بحق هذا الغلام ، ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول : بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا ، فلم يلبث ساعة أن السحاب وجه السماء وأمطر ، حتّى خافوا على المسجد ، وقال ايضاً : وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الاخلاق ، وينهاهم عن دنيات الاُمور.

وكان يقول في وصاياه : « انه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم اللّه منه وتصيبه عقوبة » ، إلى ان هلك رجل ظلوم حتف انفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن باحسانه ويعاقب فيها المسيء باساءته (٢).

ان توسل عبد المطلب باللّه سبحانه وتوليه عن الاصنام والاوثان ، والتجاءه إلى رب الارباب آية توحيده الخالص ، وايمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها ، فلو لم يكن له الاّ هذه الوقائع لكفت في البرهنة على ايمانه باللّه ، وتوحيده له.

وقد اعترف المؤرخون لعبد المطلب بهذا فقد قال اليعقوبي : « ورفض عبد المطلب عبادة الاوثان والاصنام ، ووحدَ اللّه عزّ وجلّ ووفى بالنذر ، وسنّ سنناً نزل القرآن باكثرها ، وجاءت السنة الشريفة من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣١ ـ ١٣٣.

٢ ـ الملل والنحل : ج ٢ ، ص ٢٤٨ و ٢٤٩.

٢٨٨

بها ، وهي الوفاء بالنذر ، ومائة من الابل في الدية ، وان لا تنكح ذاتُ محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا ، والحدّ عليه ، والقرعة ، وان لا يطوف احد بالبيت عرياناً ، واضافة الضيف وان لا ينفقوا إذا حجوا الاّ من طيب اموالهم ، وتعظيم الاشهر الحُرُم ، ونفي ذوات الرايات (١).

هذا وعن اُم أيمن « رضي اللّه عنها » قالت : كنتُ أحضن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( اي اقوم بتربيته وحفظه ) ، فغفلت عنه يوماً فلم ادر الاّ بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول « يا بركة ».

قلت : لبيك.

قال : أتدرين اين وجدتُ إبني؟

قلت : لا ادري.

قال : وجدته مع غلمان قريباً من السدرة ، لا تغفلي عن ابني ، فان أهل الكتاب يزعمون انه نبيّ هذه الاُمة ، وأنا لا آمن عليه منهم (٢).

وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً الاّ يقول عليّ بابني ( اي احضروه ) ويجلسه بجنبه ، وربما اقعده على فخذه ، ويؤثره بأطيب طعامه.

ثم انه لما بلغ أجله اوصى إلى ابي طالب برسول اللّه وقال له : قد خلّفت في ايديكم الشرف العظيم الّذي تطؤون ، به رقاب الناس وقال له أيضاً :

اُوصيك يا عبد منافٍ بعدي

بمفرد بعد ابيه فرد

فارقهُ وهو ضجيع المهد

فكنت كالاُم له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد

فانت من أرجى بنيي بعدي

لدفع ضيم أو لشدّ عقدِ (٣)

هذا هو عبد المطلب ، وتعوذه ببيت اللّه الحرام ، ومواقفه بين قومه ، وكلماته في

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٩ في بعض ما عدّه المؤرخ المذكور نظر.

٢ ـ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦٤.

٣ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ١٠.

٢٨٩

المبدأ والمعاد وعطفه وحنانه على رسول الإسلام ، واهتمامه برسالة خاتم النبيين ، وهي بمجموعها من اقوى الشواهد على توحيده ، وايمانه باللّه ، واعترافه برسالة الرسول الكريم.

إيمان كفيله وعمه أبي طالب :

وهكذا كان حال كفيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثاني ابو طالب عليه‌السلام ، فان له مواقفَ بارزة وكثيرة قبل البعثة النبوية ، وبعدها تكشف عن عمق أيمان شيخ الاباطح ، وتوحيده.

ومن تلك المواقف استسقاؤه برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صباه :

فقد اصاب مكة قحطٌ شديدٌ في سنة من السنين فطلبت قريش من « أبي طالب » أن يستسقي لها فخرج ومعه غلامٌ ـ وهو رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها سحابة قتماء وحوله اُغيلمةٌ ، فأخذه « أبو طالب » فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ الغلام باصبعه ( أي أشاربها إلى السماء ) وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا ، وأغدق ، واغدودق وانفجر له الوادي ، واخصب البادي والنادي.

ففي ذلك يقول ابو طالب ـ في مدح رسول اللّه ـ :

وابيضُ يُستَسقى الغمامُ بوجهه

ثمالُ اليتامى عِصْمةٌ لِلأرامِلِ

يَلُوذُ بِهِ الهُلاكُ مِن آلِ هاشِم

فَهُمْ عِنْدهُ في نَعمة وَفَواضِل

وميزانُ عَدْل لا يَخيسُ شعيرة

ووَزّانُ صِدْق وزنُه غير هائل (١)

وكل هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالص ، وايمانهما باللّه تعالى ، ولو لم يكن لهما إلاّ هذين الموقفين لكفياهما دليلا وبرهاناً على كونهما مؤمنين موحدِين.

__________________

١ ـ شرح البخاري للقسطلاني : ج ٢ ، ص ٢٢٧ ، المواهب اللدنية : ج ١ ، ص ٤٨ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٢٥ ، وللتوسع راجع الغدير : ج ٧ ، ص ٣٤٥ و ٣٤٦ ، وقد ذكرنا مواقف ابي طالب الايمانية عند البحث عن شخصيته فراجع.

٢٩٠

كما ان ذلك يدل ايضاً على أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نشأ وترعرع ونما في بيت كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه ، وعبادته وحده ورفض الاصنام والاوثان.

إيمان والدَي النبي الاكرم :

لقد نقلت عن عبد اللّه والد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمات وابيات تدل على ايمانه ومن ذلك ما نقله اهل السير عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها :

أما الحرامُ فالمماتُ دونَه

والحِلّ لاحِلّ فاستبينُه

يحمي الكريمُ عرضَه ودينَه

فكيفَ بالأمر الّذي تبغينه (١)

وقد روي عن النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : « لم أزلْ اُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أحرام الطاهرات » ولعل فيه ايعازاً إلى طهارة آبائه وامهاته من كل دنس وشرك (٢)

واما الوالدة فيكفي في اثبات ايمانها ما رواه الحفاظ عنها عند وفاتها فانها ( رضي اللّه عنها ) خَرجت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن خمس أوست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جده وهم بنو عدي بن النجار ومعها ام ايمن « بركة » الحبشية ، فاقامت عندهم ، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر اموراً حدثت في مقامه ويقول : « ان اُمي نزلت في تلك الدار ، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ فنظر اليَّ رجلٌ من اليهود فقال : يا غلام ما اسمك؟ فقلت : أحمد ، فنظر إلى ظهري ، وسمعته يقول : هذا نبي هذه الاُمة ، ثم راح إلى اخوانه فاخبرهم فخافت اُمّي عليَّ فخرجنا من المدينة ، فلما كانت بالابواء توفيت ودُفنت فيها.

وروى ابو نعيم في دلائل النبوة عن اسماء بنت رهم قالت : شهدت آمنة اُمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علتها الّتي ماتت بها ، ومحمَّد عليه‌السلام غلام يفع

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤٦.

٢ ـ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥٨.

٢٩١

( اي يافع ) له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها :

إن صحَّ ما أبصرتُ في المنام

فانت مبعوثٌ إلى الانام

فاللّه انهاكَ عن الاصنام

ان لا تواليها مع الاقوام

ثمّ قالت : كل حي ميت وكل جديد بال ، وكل كبير يفنى ، وانا ميتة وذكري باق وولدتُ طهراً.

وقال الزرقاني في شرح المواهب نقلا عن جلال الدين السيوطي تعليقا على قولها : وهذا القول منها صريح في انها كانت موحِّدة إذ ذكرت دين ابراهيم عليه‌السلام ، وبشرت ابنها بالاسلام من عند اللّه ، وهل التوحيد شيء غير هذا ، فان التوحيد هو الاعتراف باللّه وانه لا شريك له ، والبراءة من عبادة الاصنام (١).

ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه « اوائل المقالات » في هذا الصدد :

اتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحدون له ، واحتجوا في ذلك بالقرآن والاخبار قال اللّه عزّ وجلّ : « الّذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين » (٢).

ثمَّ إنّ هنا سؤالين هما :

١ ـ هل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة مُوحِّداً؟

٢ ـ بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة؟

واليك الحديث في هاتين الجهتين :

ايمان النبي باللّه وتوحيده قبل البعثة :

إنَ الدلائل التاريخية ـ بالاضافة إلى البراهين العقلية والكلامية ـ تدل على انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قبل ان يبعثه اللّه بالإسلام ، مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، لم يعبد وثناً قط ، ولم يسجد لصنم أبداً ، وان ذلك من المسلمات.

____________

١ ـ الاتحاف للشبراوي : ص ١٤٤ ؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥٧.

٢ ـ اوائل المقالات : ص ١٢ و ١٣.

٢٩٢

وهذا الامر وان كان أمراً مسلماً وواضحاً كوضوح الشمس إلا اننا نذكر بعض ما جاء في التاريخ الثابت الصحيح ليقترن ذلك الاتفاق بأصحّ الدلائل التاريخية :

اما بغضه للأَصنام وتجنبه للاوثان وما يكون من هذا القبيل فإليك بعض ما ذكره التاريخ الصحيح في هذا المجال :

١ ـ جاء في حديث طويل : انَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تم له ثلاث سنين قال يوماً لوالدته ( لمرضعته ) حليمة السعدية : ما لي لا أرى أخَويَّ بالنهار ، قالت له : يا بُنيّ انّهما يرعَيان غُنَيْمات.

قال : فما لي لا أخرج معهما ، قالت له : أتحبُ ذلك؟ قال : نعم ، فلما اصبَحَ محمَّد دهّنته ( تقول حليمة ) وكحّلته وعلّقتُ في عنقه خيطاً فيه جِزعٌ يمانيّ ، فنزعه ثم قال لاُمّه :

« مَهْلا يا امّاهُ فَاِنَّ مَعِيَّ مَنْ يَحفظني » (١).

٢ ـ روي ان « بحيرا » الراهب قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفرته الاولى مع عمّه أبي طالب إلى الشام : يا غلام اسألك بحق اللات والعزى الا أخبَرْتَني عما اسألك ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لا تسأَلْنِي باللات والعُزّى فواللّه ما ابغَضتُ شَيئاً بغضَهُما » قال الراهب : باللّه الا أخْبَرْتني عما أسالك عنه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سَلْني عمّا بدالك (٢).

٣ ـ روي أنه قد وقع بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين رجل تلاح في سفرته الثانية إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها « ميسرة » بعد أن باع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلعته ، فقال له الرجل : إحلِفْ باللات والعزى ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

١ ـ المنتقى ، الباب الثاني من القسم الثاني ـ للكازروني كما في البحار : ج ١٥ ، ص ٣٩٢.

٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٥٤ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٢.

٢٩٣

« ما حلفتُ بهما قطُّ ، وإنّي لأمُرُّ فاُعرِضُ عنهما ».

وفي رواية اُخرى :

« إليكَ عَني ثكلتْكَ امُّكُ فما تكلمت العربُ بكلمة اثقلَ عليَّ من هذه الكلمة ».

فقال الرجل : القولُ قولك. ثم قال لميسرة : هذا واللّه نبيُّ (١).

واما عبادته للّه تعالى فقد أجمع المؤرخون على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخلو بحراء كل عام شهراً يعبد فيه اللّه تعالى.

وقد قال الامام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام في هذا المجال :

« وَلَقَدْ كانَ يُجاورُ في كلِّ سَنة بحراء ، فاراه وَلا يراهُ غيري » (٢).

حتّى أن جبرئيل وافاهُ بالرسالة في ذلك المكان ، وفي تلك الحال.

وقد صَرَّح بهذا أصحابُ الصحاح الستة أيضاً إذ قالوا :

« وَكانَ يخلو بحراء فيتحنّثُ فيه ، وهو التعبد في الليالي ذوات العدد » (٣).

كما ان الإمام اميرالمؤمنين عليه‌السلام وصف هذا المقطع من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

« ولقد قرَن اللّه به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدُنْ أنْ كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكته يسلكُ به طريق المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ، ليله ونهاره » (٤).

وجاء في الأخبار أنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّ قبل البعثة حجات عديدة وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين قريش.

قال الإمامُ الصادقُ عليه‌السلام : في حديث ابن أبي يعفور :

« حج رَسُولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر حجَّات مُستتراً في كُلِّها » (٥).

وفي رواية : عشرين حجة (٦).

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٥٦ ، بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ١٨.

٢ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة ١٩٢.

٣ ـ صحيح البخاري : ج ١ ، ص ٢ ، صحيح مسلم باب الايمان ، مسند أحمد : ج ٦ ، الحديث ٢٣٣.

٤ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم ١٩٢.

٥ و ٦ ـ وسائل الشيعة : ج ٨ ، ص ٨٨ أبواب وجوب الحج.

٢٩٤

والسبب في هذا الاستتار هو أن قريش كانت قد اسقطت بعض مناسك الحج ، والعمرة ، فكانت تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة وربما غيرت أشهر الحج احياناً لبعض الاعتبارات السياسية والمادية ، وهو ما سمي بالنسيء وقد مرّ بيانه (١).

ان هذه الوقائع وغيرها ـ وهي ليست بقليلة اصدق دليل على إيمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوحيده ، إذ كيف يمكن أن يتنكَّب مثل هذه الشخصية الّتي نشأت وترعرعت في ذلك البيت الطاهر ، وقرن اللّه به ملكاً يتولاه بالتربية والهداية عن جادة التوحيد.

ثم أن ممّا لا ريب فيه أن الرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو افضل من جميع الأنبياء والمرسلين بنص القرآن الكريم.

وقد صرح القرآن بان بعض الانبياء بلغوا درجة النبوة في الصغر ، أو الصبا ، ونزلت عليهم الكتب في تلك الفترات.

فَمثلا يقول القرآن الكريم عن يحيى بن زكريا : « يا يَحيى خُذ الكِتابَ بقوَّة وآتيْناهُ الحُكمَ صَبِي » (٢).

ثم يقول عن « عيسى بن مريم » عندما كان في المهد وكان وجوه القوم من بني اسرائيل قد استنكروا ولادته من غير اب ، وطلبوا من « مريم البتول » ان توضح لهم الامر ، وتبين لهم كيف حملت بعيسى؟!! فاشارت إلى المسيح عليه‌السلام أن كلِّموه وهو آنذاك في المهد لم يمض على ولادته سوى ايام معدودات ؛ فنطق المسيح بفصاحة كبيرة وقال : « إنّي عَبْدُ اللّه آتانيَ الكِتابَ وَجَعَلنِي نَبيّاً. وَجَعلنِي مُباركاً أين ما كُنْتُ وَأوصَاني بالصَلاة والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَي » (٣).

لقد بيَّن وليد « مريم » للناس اُصول دينه وفُروعه في فترة الطفولة والرضاعة ، وأعلن لهم عن توحيده وايمانه باللّه سبحانه.

__________________

١ ـ راجع الصفحة ٨٣ و ٨٤ من هذا الكتاب.

٢ ـ مريم : ١٢.

٣ ـ مريم : ٣٠ و ٣١.

٢٩٥

فهل يرضى ضميرك أيها القارئ الكريم أن يكون « يحيى » و « المسيح » عليهما‌السلام مؤمنين معلنين عن توحيدهما ، وإيمانهما منذ طفولتهما ، وصباهما ، ويكون أفضل الأنبياء والمرسلين ، وأشرف الخلق أجمعين إلى سِنّ الأربعين على غير إيمان ، وتوحيد ، مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشتغلا بالتعبّد في جبل « حراء » عند نزول ملاك الوحي عليه لأول مرة؟

واليك بعض ما قاله المؤرخون ، والعلماء في هذا المجال استكمالا لهذا المبحث : قال ابن هشام : كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فاذا قضى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره ، الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوفُ به سبعاً أو ما شاء اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته حتّى إذا كان الشهر الّذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة الّتي بعثه اللّه تعالى فيها ، وذلك الشهر شهر رمضان ، خرج رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى « حراء » كما كان يخرج لجواره ومعه اهله حتّى إذا كانت الليلة الّتي اكرمه اللّه فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبرئيل عليه‌السلام بامر اللّه تعالى (١).

وقال العلامة المجلسي : قد ورد أخبار كثيرة انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطوف ، وانه كان يعبد اللّه في حراء وانه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الاكل وغيره ، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى ان يهمل افضل انبيائه اربعين سنة بغير عبادة؟ والمكابرة في ذلك سفسطة (٢).

فايمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوحيده قبل البعثة ، اذن ، أمرٌ مسلمٌ لا شبهة فيه ، ولا غبار عليه.

ولكن بعض الكُتاب من المسيحيين ومن تبعهم ، من المستشرقين وغيرهم ، أبوا إلاّ أن ينتقصوا النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فادّعوا ضلالَهُ قبل البعثة ،

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٣٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٢٨٠.

٢٩٦

وإنه كان على غير إيمان ، أو توحيد ، واستدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنه يدلّ على دعواهم من الآيات القرآنية ، وأبرزها الآيات التالية :

١ ـ « ألم يَجدكَ يتيماً فآوى. وَوَجَدك ضالاّ فَهَدى » (١).

٢ ـ « وثيابَكَ فَطهِّر. وَالرُّجْزَ فاهْجُرْ » (٢).

٣ ـ « وكذلِكَ أوْحَينا إلَيْكَ رُوْحاً مِنْ أمْرنا ما كُنْتَ تَدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ وَلكِنْ جَعلَناهُ نُوراً نَهْدي بِه مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وإنَّكَ لَتهْدي إلى صِراط مستقيم » (٣).

٤ ـ « قُلْ لَوشاء اللّه مَا تَلَوتُه عَليْكُمْ وَلا أدريكُمْ بِهِ فَقدْ لَبِثْتُ فِيْكُمْ عُمراً مِنْ قَبلِه أفَلا تَعْقِلُون » (٤).

٥ ـ « وَما كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقى إلَيْكَ الْكِتابُ إلاّ رَحْمة مِنْ رَبِّك » (٥).

لقد استدل المستشرقون ومن لفّ لفهم ومن سبقهم أو لحقهم من المخطّئة بهذه الآيات على ضلال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ، وسلب الايمان عنه ، ولكنها لا تدل على ما يريدون ، ولاجل تسليط الضوء على مقاصدهم نبحث عنها واحدة واحدة.

الايةُ الاُولى : الهداية بعد الضلالة :

ذكرالمفسرون لقوله تعالى : « وَوَجدَكَ ضالا فهدى » الّذي يشعر بهداية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الضلالة احتمالات عديدة ، في معرض الاجابة على استدلال من استدل به لاثبات ضلال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ولكن الحق ان يقال : أنّ الضال يُستعمل في عرف اللغة في موارد :

١ ـ الضالّ : من الضلالة ضدّ الهداية والرشاد.

٢ ـ الضالّ : من ضلّ البعير إذا لم يعرف مكانه.

__________________

١ ـ الضحى : ٦ و ٧.

٢ ـ المدّثر : ٤ و ٥.

٣ ـ الشورى : ٥٢.

٤ ـ يونس : ١٦.

٥ ـ القصص : ٨٦.

٢٩٧

٣ ـ الضالّ : من ضلّ الشيء إذا ضؤل وخفى ذكره.

وتفسير الآية بأيّ واحدة من هذه المعاني لا يثبت ما يدعيه الذين يتمسكون بها لأثبات ضلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة.

أما المعنى الأول فهو المقصود في كثير من الآيات قال سبحانه : « غَيْر المَغضوب عَليهم وَلا الضالّين » (١).

لكن الضلالة على نوعين :

النوع الأول ما تكون الضلالة فيه أمراً وجودياً في النفس يوجب ظلمة النفس ومنقصتها ، مثل الكفر والشرك والنفاق ، والضلالة بهذا المعنى قابلة للزيادة والنقصان قال سبحانه : « إنّما النَسِيء زيادةٌ في الكُفْر » (٢).

النوع الثاني ما تكون الضلالة فيه أمراً عدَمياً ، وذلك عندما تكون النفس فاقدة للرشاد ، وعندئذ يكون الإنسان ضالا بمعنى أنه غيرُ واجد للهداية من عند نفسه ، وذلك كالطفل الّذي اشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير والشر ، ويميز بين الصلاح والفساد فهو آنذاك ضالٌّ بمعنى أنه غير واجد للنور الّذي يهتدي به في سبل الحياة لا بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في نفسه وروحه.

والمراد من الضالّ في قوله تعالى « وَوَجدكَ ضالا فَهَدى » لو كان ما يضادد الهداية فهو يهدف إلى النوع الثاني ، فيكون المعنى انك في ابان عمرك كنت غير واجد للهداية من عند نفسك فهداك اللّه إلى اسباب السعادة وعرفك عوامل الشقاء ، وهو اشارة إلى قانون الهي عام في حياة البشر انبياء واناساً ماديين ، وهو ان هداية كل إنسان بل كل ممكن مكتسبة من اللّه قال سبحانه : « قالَ رَبُّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خلْقَهُ ثمّ هَدى » (٣).

وعلى هذا الاساس فالآية تهدف إلى ذكر النعم الّتي انعم اللّه بها على نبيه الحبيب منذ ان استعد لها فآواه بعد ما صار يتيماً ، وافاض عليه الهداية بعد ما كان

__________________

١ ـ الفاتحة : ٧.

٢ ـ التوبة : ٣٧.

٣ ـ طه : ٥٠ ، وراجع الآيات : ٢ و ٣ من سورة الأعلى و ٤٣ من سورة الأعراف و ٧٨ من سورة الشعراء وغيرها.

٢٩٨

فاقداً لها بحسب ذاته ، وبحكم طبيعته ، ويعود زمن هذه العناية الربانية بنبيه إلى مطلع حياته ، واوليات عمره وايام صباه بقرينة ذكر ذلك بعد الايواء الّذي تحقق باليتم ، وتمّ بجده عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثمانية سنين ، ويؤيد ذلك قولُ امام المتقين علي بن ابي طالب عليه‌السلام : « ولقد قَرنَ اللّه به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لَدنْ أن كانَ فطيماً أعظمَ مَلك من ملائكته يسلكُ به طريقَ المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ليله ونهاره » (١).

وصفوة القول أن المراد بكونه ضالا هو أن لازم كون النبي ممكناً بالذات هو كونه فاقداً في ذاته لكل كمال وجمال ، مفاضاً عليه كل جميل من جانب اللّه تعالى وهذا هو اشارة إلى مقتضى التوحيد الافعالي واين هذا من الضلالة المساوقة للكفر أو الشرك أو الفسق والعصيان؟!

ثم ان من المحتمل ان تكون الضلالة في الآية مأخوذة من « ضلّ الشيء إذا لم يُعرف مكانه » وفي الحديث « الحكمة ضالّة المؤمن » اي مفقودته ، لا ضدّ الهداية والرشاد ، فيكون الضالّ بهذا المعنى منطبقاً على ما نقله أهلُ السير والتواريخ عن ما جرى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايام صباه يوم ضلّ في شعاب مكة ، وهو صغير فمنّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه ، وقصته معروفة في كتب السير والتاريخ (٢) ولو لا رحمة اللّه سبحانه لادركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً فشملتهُ العناية الالهية.

أو أن تكون الضلالة في الآية مأخوذة من « ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين » فالانسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره ، المسنيّ اسمُه لا يعرفه إلا القليل من الناس ، ولا يهتدي كثير منهم إليه.

ولو كان هذا هو المقصود ، كان معناه حينئذ انه سبحانه رفع ذكره ، وعرّفه

__________________

١ ـ نهج البلاغة : من الخطبة ١٧٨ والمسماة بالقاصعة : ص ١٨٢.

٢ ـ لاحظ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣١ وغيره ، وفي هذه القصة يروي عن حيدة بن معاوية العامري سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول :

ياربّ ردّ راكبي محمَّداً

أردده ربّي واصطنع عندي يدا

٢٩٩

للناس بعد ما كان خاملا ذكره منسياً اسمُه.

ويؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح الّتي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلا : « المْ نشرَح لَك صَدرَك. وَوَضْعْنا عَنْكَ وزرَك. الّذي أنقَضَ ظهرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكرَك » (١).

فرفع ذِكْره في العالم عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه ، وبينهم وعلى هذا فالمقصود من « الهداية » هو هداية الناس إليه لا هدايته بعد ضلال ، فكأنه قال : فوجدك ضالا ، اي خاملا ذكرك ، باهتا اسمُك ، فهدى الناس اليك ، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضا عليه‌السلام على ما في خبر ابن الجهم بقوله : « قال اللّه عزّ وجلّ لنبيه محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألم يجدك يتيماً فآوى » يقول « ألم يَجدْكَ » وحيداً فآوى إليك الناسَ « وَوَجَدكَ ضالاّ » يعني عند قومك « فَهَدى » أي هَداهُمْ إلى معرفَتِك » (٢). قال الاستاذ الشيخ محمَّد عبده في هذا المجال :

لقد بُغِّضتْ إليه ( أي إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) الوثنيّةُ من مبدأ عمره فعاجلته طهارةُ العقيدة ، كما بادره حسنُ الخليقة ، وما جاء في الكتاب من قوله : « وَوَجدَكَ ضالاّ فَهدى » لا يُفهَم منه أنه كان على وثنية قبلَ الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم ، قبل الخلق العظيم حاشَ للّه ، إنّ ذلكَ لهوَ الإفكُ المُبِين (٣).

الآية الثانية : الامر بهجر الرجز

استدلّوا بقول اللّه تعالى « والرُجْزَ فاهجُرْ » على وجود ارضية لعبادة الصنم

__________________

١ ـ الإنشراح : ١ ـ ٤.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ١٤٢.

٣ ـ رسالة التوحيد للشيخ محمَّد عبده : ص ١٣٥ و ١٣٦.

٣٠٠