سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

أتاني جبرئيل عليه‌السلام فقال يا رسول اللّه هذه خديجة قد أتتك ومعها آنية فيها ادام أو طعام أو شراب ، فاذا هي أتتك فاقرأ عليها‌السلام من ربّها ومنّي ، وبَشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخَبَ فيه ولا نصَبِ » (١).

٢ ـ عن عائشة قالت : ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة ، ولقد هَلَكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين ، لما كنتُ اسمعه يذكرها ، ولقد أمره ربُه عزّ وجلّ ان يبشرها ببيت من قصب في الجنة ، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها ( اي خليلاتها وصديقاتها ) (٢).

٣ ـ وعن عائشة أيضاً قالت ما غِرت على نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا على خديجة ، واني لم أدركها ، ( قالت ) : وكان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ذبح الشاة فيقول : أرسلوا بها إلى اصدقاء خديجة قالت : « أي عائشة » فاغضبتُه يوماً فقلت : خديجة!! فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اني قد رزقت حبّها » (٣).

٤ ـ ومن هذا القبيل ما كان يقوم به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع صاحبات خديجة من الاحترام لهن والاحتفاء بهنّ :

فقد وقف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عجوز فجعل يسألها ، ويتحفاها ، وقال :

« ان حسن العهد من الايمان ، انها كانت تأتينا ايام خديجة » (٤).

٥ ـ وروي عن انس قال كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُتي بهدية قال : « إذهبوا بها إلى بيت فلانة فانها كانت صديقة لخديجة إنها كانت تحب خديجة » (٥).

__________________

١ ـ صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٣٣ ، مستدرك الحاكم : ج ٣ ، ص ١٨٤ و ١٨٥ بطرق متعددة صحيحة على شرط الشيخين.

٢ و ٣ ـ صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٣٤ ، ومثلها في صحيح البخاري : ج ٥ ، ص ٣٨ و ٣٩.

٤ ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٨ ، ص ١٠٨.

٥ ـ سفينة البحار : ج ١ ، ص ٣٨٠ ( خدج ).

٢٦١

٦ ـ روى مجاهد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الايام فادركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها ، فغضب حتّى أهتز مقدَمُ شعره من الغضب ، ثم قال : « لا واللّه ما أبْدلَني اللّه خيراً منها ، آمنَتْ بي إذْ كَفَر الناسُ ، وصدَّقتني وكذَّبني الناسُ وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء » قالت عائشة فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة ابداً (١).

٧ ـ عن يعلى بن المغيرة عن ابن ابي رواد قال : دخل رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خديجة في مرضها الّذي ماتت فيه ، فقال لها :

« يا خديجة أتكرهين ما أرى منك ، وقد يجعل اللّه في الكُره خيراً كثيراً ، أما علمت أن اللّه تعالى زوَّجني معك في الجنة مريم بنتَ عمران ، وكلثمَ اُخت موسى وآسية امرأة فرعون ... » (٢).

٨ ـ عن عكرمة عن ابن عباس قال خطَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربع خطط في الأَرض وقال : أتدرون ما هذا؟ قلنا : اللّه ورسولُه أعلم ، فقال رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل نساء الجنة أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمَّد ، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون » (٣).

٩ ـ عن أنس جاء جبرئيل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده خديجة فقال : إن اللّه يقرئ خديجة السلام فقالت : إن اللّه هو السلام ، وعليك السلام ، ورحمة اللّه وبركاته (٤).

١٠ ـ عن أبي الحسن الأول ( الكاظم ) عليه‌السلام قال قال رسول اللّه صلّى

__________________

١ ـ اسد الغابة : ج ٥ ، ص ٤٣٨ ، ورواها مسلم أيضاً : ج ٧ ، ص ١٣٤ ، وكذا البخاري : ج ٥ ، ص ٣٩ وقد حذفا آخرها من : فغضب حتّى ... إلى آخر الرواية.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٧ ، وأُسد الغابة : ج ٥ ، ص ٤٣٩.

٣ ـ الخصال للصدوق : ج ١ ، ص ٩٦ ، كما في بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢.

٤ ـ المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٨١٦.

٢٦٢

الله عليه وآله : « إنّ اللّه اختار من النساء اربعاً : مريم واسية وخديجة وفاطمة » (١).

١١ ـ عن ابي اليقظان عمران بن عبد اللّه عن ربيعة السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان وهو في مسجد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعتُه يقول : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

« خديجةُ بنتُ خويلد سابقةُ نساء العالمين إلى الايمان باللّه وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢).

١٢ ـ عن عروة قال قالت عائشة لفاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا ابشرك أني سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

« سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخديجة بنت خويلد واسية » (٣).

١٣ ـ عن أبي عبد اللّه ( الصادق ) عليه‌السلام قال : دخل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله ، فاذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول : واللّه يا بنت خديجة ، ما ترين إلا أن لاُمِكِ علينا فضلا ، وأىُ فضل كانَ لها علينا؟!

ما هي إلاّ كبعضنا ، فسمع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقالتها لفاطمة ، فلما رأت فاطمة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكت ، فقال : ما يبكيك يا بنت محمَّد؟! قالت : ذكرتْ اُمّي فتنقّصتْها فبكيتُ ، فغضب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم قال :

« مَهْ يا حميراء ، فان اللّه تبارك وتعالى بارك في الوَدُود الولود ، وأَن خديجة رحمها اللّه ولدَتْ مِنّي طاهِراً ، وهو عَبْدُ الله وهو المطهّر وَوَلدَتْ منّي القاسم ، وفاطمة ، ورقية ، واُم كلثوم ، وزينب ، وأنت ممن أعقم اللّهُ رحمه فلم تلدي

__________________

١ ـ الخصال : ج ١ ، ص ٩٦ ، كما في البحار : ج ١٦ ، ص ٢.

٢ و ٣ ـ المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٨٤ ـ ١٨٦ ووردت روايات بمضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٣٣.

٢٦٣

شيئاً » (١).

أجل هذه هي « خديجة بنت خويلد » شرفٌ وعقلٌ ، وحبٌ عميق لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووفاء وإخلاص ، وتضحية بالغالي والرخيص في سبيل الإسلام الحنيف.

هذه هي « خديجة » أول من آمنت باللّه ورسوله ، وصدّقت محمَّداً فيما جاء به عن ربه ، من النساء ، وآزره ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردّ عليه ، وتكذيب له الاّ فرّجَ اللّه عنه بخديجة الّتي كانت تخفف عنه (٢) ، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه ، بما تمنحه من لطفها ، وعطفها ، وعنايتها به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في غاية الاخلاص والودّ والتفاني.

ولهذا كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبُّها حباً شديداً ويجلّها ويقدرها حق قدرها (٣) ، ولم يفتأ يذكرها ، ولم يتزوج عليها غيرَها حتّى رحلت وفاء لها ، واحتراماً لشخصها ومشاعرها ، وكان يغضب إذا ذكرها احدٌ بسوء ، كيف وهي الّتي آمنت به إذ كفر به الناسُ ، وصدّقته إذ كذّبه الناسُ ، وواسته في مالها إذ حرمهُ الناسُ.

ولهذا أيضاً كانت وفاتها مصيبة عظيمة أحزنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودفعته إلى أن يسمّي ذلك العام الّذي توفي فيه ناصراه وحامياه ، ورفيقا آلامه ( زوجته هذه : خديجة بنت خويلد ، وعمه المؤمن الصامد الصابر ابو طالب عليهما‌السلام ) بعام الحداد ، أوعام الحزن (٤) وان يلزم بيته ويقلّ الخروج (٥) ،

__________________

١ ـ الخصال : ج ٢ ، ص ٣٧ و ٣٨ ، كما في بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٣.

٢ ـ اعلام النساء لعمر رضا كحالة : ج ١ ، ص ٣٢٨.

٣ ـ اعلام النساء : ج ١ ، ص ٣٣٠.

٤ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٣٥ ، وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال بهذه المناسبة : « اجمتعت على هذه الاُمة مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشدّ جزعاً » المصدر نفسه ، وراجع تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٣٠١ نقلا عن سيرة مغلطاي.

٥ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٧ ، المواهب اللدنية حسب نقل تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٣٠٢ وفيه إضافة : ونالت قريش منه ما لم تكن تنال.

٢٦٤

وأن ينزل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند دفنها في حفرتها ، ويدخلها القبر بيده ، في الحجون (١).

عن ابن عباس في حديث طويل في زواج فاطمة الزهراء عليها‌السلام بعلي عليه‌السلام اجتمعت نساء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يومئذ في بيت عائشة ليسألنّه أن يُدخلَ الزهراء على ( عليّ ) عليه‌السلام فاحدقْن به وقلت : فَديناك بآبائنا وأُمهاتنا يا رسول اللّه قد اجتمعنا لأمر لو أنّ « خديجة » في الأحياء لتقرّتْ بذلك عينُها.

قالت امُ سلمة : فلما ذكرنا « خديجة » بكى رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : « خديجة واين مثل خديجة ، صدَّقْتني حين كذَّبني الناس ووازرتني على دين اللّه وأعانتني عليه بمالها ، إنّ اللّه عزّ وجلّ أمرَني أنْ ابشر خديجة ببيت في الجنة من قصب ( الزمرّد ) لا صخَبَ فيهِ ولا نصَب » (٢).

لقد كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفاً ، واكثرهنّ مالا ، واحسنهن جمالا وأقواهنُّ عقلا وفهماً وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدَة عفافها وصيانتها (٣) ويقال لها : سيدة قريش (٤) ، وكان لها من المكانة والمنزلة بحيث كان كل قومها وسراة أبناء جلدتها حريصين على الاقتران بها (٥) ، وقد خطبها ـ كما يحدثنا التاريخ ـ عظماء قريش وبذلوا لها الأموال ، وممن خطبها « عقبة بن ابي معيط » و « الصلت بن ابي يهاب » و « ابو جهل » و « ابوسفيان » فرفضتهم جميعاً ، وأختارت رسول اللّه ـ وهي في سن الأربعين وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخامسة والعشرين ـ وهي تمتلك تلكم الثروة الطائلة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمتلك من حطام الدنيا إلاّ الشيء اليسير اليسير ، رغبة في الاقتران به ولما عرفت فيه من كرم الاخلاق ، وشرف النفس ، والسجايا الكريمة والصفات العالية ، وهي ما كانت تبحث عنه في حياتها وتتعشقه وإذا بتلك المرأة الغنية الثرية العائشة في

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٤٣ ، ص ١٣١ نقلا عن كشف اليقين.

٣ و ٤ و ٥ ـ السيرة الحلبيّة : ج ١ ، ص ١٣٧.

٢٦٥

أفضل عيش تصبح في بيت زوجها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الزوجة المطيعة الخاضعة ، الوفية المخلصة ، وتسارع إلى قبول دعوته ، واعتناق دينه بوعي وبصيرة وارادة منها واختيار ، وهي تعلم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومتاعب ، وتجعل كل ثروتها في خدمة العقيدة والمبدأ ، وتشاطر زوجها آلامه ، ومتاعبه ، وترضى بأن تذوق مرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات وفي سنّ الرابعة أو الخامسة والستين. وهي مع ذلك تواجه كل ذلك بصبر وثبات (١) ، ودون أن يذكر عنها تبرُّم أو توجع.

هذا مضافاً إلى أنها كانت تعامل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأدب تامّ يليق بمقام الرسالة والنبوة ، على العكس من غيرها من بعض نساء النبيّ اللائي كنّ ربما يثرن سخطه وغضبه ، ويؤذينه في نفسه وأهله.

واليك فيما يأتي بعض ما قاله عنها كبار الشخصيات ، والمؤرخين ممّا يكشف عن عظيم مكانتها عند المسلمين أيضاً ، قال اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام :

« كنتُ أولَ من أسلَم ، فمكَثْنا بِذلِكَ ثلاث حجَج وما عَلى الأَرض خَلْقٌ يُصلّي ويشهَد لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أتاهُ غيْري ، وغير ابنة خويلد رحمها اللّه وقد فعل » (٢).

وقال محمَّد بن اسحاق : كانت خديجة أولَ من آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه ، ووازرته على أمره فخفف اللّه بذلك عن رسول اللّه ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللّه ذلك عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها إذا رجع إليها تثبِّتُه ، وتخفّف عنه ، وتهوّن

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٤ ، ص ٥٩ قال : خديجة بنت خويلد وهي عند رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محاصَرة في الشِعب.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢ ومثله في روايات متعددة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٤ ، ص ١١٩ و ١٢٠.

٢٦٦

عليه امر الناس حتّى ماتت رحمها اللّه (١).

وعنه أيضاً : أن « خديجة بنت خويلد » و « ابا طالب » ماتا في عام واحد ، فتتابع على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هلاك خديجة وابي طالب وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، وكان رسول اللّه يسكن اليها (٢).

وقال أبو امامة ابن النقاش : ان سبق خديجة وتأثيرها في اول الإسلام ومؤازرتها ونصرتها وقيامها للّه بمالها ونفسها لم يشركها فيهُ احدٌ لا عائشة ولا غيرها من اُمهات المؤمنين (٣).

وقد جاء في المنتقى : ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما اُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا ، وأخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه ، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتّى أتى الجبل ، فسمع عليّ وخديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جائع عطشان مرهق ، ومضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي وهي تناديه بحرقة وألم ، وتبكي وتنحب ، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال : يا رسول اللّه الا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ اُدعُها اليك فاقرأها مني السلام وقل لها : إن اللّه يقرئك السلامَ ، ويبشّرها أن لها في الجنةِ بيتاً من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب فدعاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الارض وهو يمسحها ويردّها ، وبقي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي وخديجة هناك حتّى جَنَّ الليلُ فانْصرفوا جميعاً ودخلت به خديجةُ منزلها ، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة واظلّته بصخرة من فوق رأسه ، وقامت في وجهِه تستره ببُردها وأقبلَ المشركون يرمونه بالحجارة ، فاذا جاءتْ من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة ، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط ، وإذا رُميَ من بين يديه وقتْهُ خديجة رضي اللّه عنها بنفسها ، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش ترمى الحُرّةُ

__________________

١ ـ بحار الانوار : ج ١٦ ، ص ١٠ ـ ١٢.

٢ ـ نفس المصدر.

٣ ـ تاريخ الخمس في أحوال أنفس نفيس : ج ١ ، ص ٢٦٦.

٢٦٧

في منزلها؟ فلَمّا سمِعوا ذلك انصرفُوا عنه ، وأصبَحَ رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغدا إلى المسجد يُصلّي (١).

ولقد بَلَغ من خضوعها لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّها له أنها بعد أن تمَ عقدُ زواجها برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إلى بيتك ، فبيتي بيتك ، وأنا جاريتك » (٢).

وجاء في السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ولسبقها إلى الإسلام وحسن المعروف جزاها اللّه سبحانه فبعث جبرئيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بغار حراء وقال له : اقرأ عليها‌السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ؛ فقالت : هو السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام ، وعليك يا رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته ، وهذا من وفور فقهها رضي اللّه عنها حيث جعلت مكان ردّ السلام على اللّه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره ، قال ابن هشام والقصب هنا الؤلؤ المجوف ، وابدى السهيلي لنفي النصب لطيفة هي انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما دعاها إلى الايمان أجابت طوعاً ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب بل ازالت عنه كل تعب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوّنت عليه كل عسير فناسب ان تكون منزلتها الّتي بشرها بها ربُها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي اللّه عنها واقراء السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ، وتميزت أيضاً بأنها لم تسؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تغاضبه قط ، وقد جازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته (٣).

افتخار اهل البيت بخديجة عليها‌السلام :

وما يدل على سمو مقامها وعلو منزلتها أن اهل البيت عليهم‌السلام طالما

__________________

١ ـ بحار الانوار : ج ١٨ ، ص ٢٤٣.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٤ نقلا عن الخرائج والجرايح : ص ١٨٦ و ١٨٧.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٦٩ الهامش.

٢٦٨

افتخروا بأن خديجة منهم ، وانهم من خديجة وقد كانوا يعتزون بها ، ويشيدون بمكانتها :

فقد خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين عليهما‌السلام جالسان تحت المنبر فذكر علياً عليه‌السلام فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين عليه‌السلام ليردَّ عليه فأخذه الحسن بيده وأجلسه ثم قام فقال :

« أيُّها الذاكِرُ عَليّاً أنا الحَسن وأبي عليّ وأنت معاويةُ وأبوك صخرٌ واُمي فاطمة واُمُّك هند وجدي رسُول اللّه وجدُّك عُتبةُ بنْ رَبيعة وجدتي خديجة وجدتُك قتيلة فلعن اللّه أخْمَلَنا ذكراً والأَمُنا حَسَباً وشَرَّنا قديماً وحديثاً. فقال طوائفُ من أهل المسجد : آمين (١).

وقيل : ان « الحسين » عليه‌السلام ساير « أنس بن مالك » فاتى قبرَ خديجة فبكى ثم قال : إذْهَبْ عَنّي قال « أنس » ؛ فاستخفيتُ عنه فلما طال وقوفُه في الصلاة سمعته يقول :

يا رَبِّ يَا رَبِّ أنْتَ مَولاهُ

فَاْرحَمْ عُبيْداً إلَيْكَ مَلْجاهُ

يا ذا المَعالِي عَلَيْكَ مُعْتَمدي

طُوبْى لِمَنْ كُنْت اَنتَ مَوْلاهُ

طُوْبى لِمَنْ كانَ خادِماً أرقاً

يَشْكُوْ إلى ذِيْ الجَلالِ بَلْواهُ

إلى آخر الابيات (٢).

هكذا كان اهل البيت النبوي ـ اقتداءً برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحترمون خديجة ويكرمونها لما كان لها من شخصية عظيمة ولما اسدته إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام من خدمات لا تنسى على مرّ الدهور.

ان بيان ونقل الاحاديث والروايات ، وكذا الاقوال الّتي وردت في شأن خديجة والحديث عن شخصيتها ومكانتها ومدى إسهامها في انجاح ونصرة الدعوة المحمدية خارج عن امكانية هذه الدراسة ، ونطاقها ، لذلك نكتفي بهذه الالماعة

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : ج ١٦ ، ص ٤٦ و ٤٧.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ١٩٣ نقلا عن عيون المحاسن.

٢٦٩

العابرة تاركين الكلام باسهاب حولها إلى مجال آخر.

ولنَعُدْ إلى تبيّن الأسباب الظاهرية والباطنية لزواجها من رسول اللّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

العللُ الظاهرية والحقيقية وراء زواج خديجة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إن الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى كل ما يحيط به من خلال المنظار المادي ، ويفسره تفسيراً مادياً قد يتصور ( وبالاحرى يظن ) أن « خديجة » كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها ، وتنمية ثروتها ، ولأنها كانت بحاجة ماسة إلى رجل أمين قبل اي شيء ، لذلك وجدت ضالتها في محمَّد الصادق الامين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتزوجت منه ، بعد أن عرضت نفسها عليه ومحمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الآخر حيث انه كان يعلم بغناها وثروتها ، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه وبينها من فارق في السن كبير.

ولكن التاريخ يثبت أن ثمة أساباباً وعللا معنويّة لا مادية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش وفتاها الصادق الطاهر.

واليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الامر :

١ ـ عند ما سالت « خديجة » ميسرة عما رآه في رحلته من فتى قريش « محمَّد » فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من « محمَّد » في تلك السفرة ، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت « خديجة » في نفسها بشوق عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من اعجابها بمعنوية محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكريم خصاله ، وعظيم أخلاقه ، فقالت من دون إرادتها : « حسبُك يا ميسرة ؛ لقد زدتني شوقا إلى محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذهبْ فانت حرٌ لوجه اللّه ، وزوجتك وأولادك ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان » ثم خلعَت عليه خلعة سنية (١).

ثم إنها ذكرت ما سمعته من « ميسرة » لورقة بن نوفل وكان من حكماء

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٥٢.

٢٧٠

العرب : فقال ورقة : « لئنْ كانَ هذا حَقاً يا خديجة إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الامُّة » (١).

٢ ـ مرَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً بمنزل « خديجة بنت خويلد » وهي جالسة في ملأمن نسائها وجواريها وخدمها وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود ، فلما مرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة مري مَنْ يأتي بهذا الشاب ، فارسلت إليه من أتى به ، ودخل منزلَ « خديجة » ، فقال له الحبر : إكشفْ عَنْ ظهرك فلما كشف له قال الحبر : هذا واللّه خاتم النبوة فقالت له خديجة : لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء وان أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود.

فقال الحبر : ومن يقدر على « محمَّد » هذا بسوء ، هذا وحق الكليم رسولُ الملك العظيم في آخر الزمان ، فطوبى لمن يكون له بعلا ، وتكون له زوجة وأهلا فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.

فتعجَّبت « خديجة » ، وانصرف « محمَّد » وقد اشتغل قلبُ « خديجة » بنت خويلد بحبه فقالت : أيها الحبر بمَ عرفت محمَّداً انه نبي؟

قال : وجدتُ صفاته في التوراة انه المبعوثُ آخر الزمان يموت أبوه وامُّه ، ويكفله جدّه وعمه ، وسوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة فلما سمعت « خديجة » ما نطق به الحبر تعلق قلبُها بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما خرج من عندها قال : إجتهدي ان لا يفوتك « محمَّدٌ » فهو الشرف في الدنيا والآخرة (٢).

٣ ـ لقد كان ورقة بن نوفل ( وهو عم خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف « شيث » عليه‌السلام وصحف « إبراهيم » عليه‌السلام وقرأ التوراة والانجيل وزبور « داود » عليه‌السلام ) يقول دائماً : سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر

____________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٩١ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٠ و ٢١ نقلا عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.

٢٧١

الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها ( أو تكون سيدة قومها ، وأميرة عشيرتها ) ، ولهذا كان يقول لها : « يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء » (١).

هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخين ، وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية ، وهي بمجموعها تدل على العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن هذه الرغبة كانت ناشئة من اعجاب « خديجة » بأخلاق فتى قريش الأمين ، ونبله ، وطهارته ، وعظيم سجاياه وخصاله وحبها لهذه الاُمور ، وليس هناك أي اثر في علل هذا الزواج لامانة « محمَّد » وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة « خديجة ».

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟

من المسلّم به أن اقتراح الزواج جاء من جانب « خديجة » نفسها أولاً ، حتّى أن ابن هشام (٢) نقل في سيرته : ان « خديجة » لما أخبرها ميسرة بما اخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت له : « يا ابْنَ عم إبي قد رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك [ اي شرفك ومكانتك ] في قومك ، وأمانتك وحُسن خلقك ، وصدق حديثك » ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوج به.

ويعتقدُ اكثرُ المؤرّخين أن « نفيسة بنت عليّة » بَلّغتْ رسالة « خديجة » إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النحو التالي :

قالت لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوج ... ولو دُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة الاّ تجيب؟

فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن هي؟

فقالت : خديجة ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وكيف لي بذلك ، فقالت : عليَّ فذهبت إلى خديجة فأخبرتها ، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلّى

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢١.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٩ و ١٩٠.

٢٧٢

الله عليه وآله بوكيلها « عمرو بن اسد » (١) لتحديد ساعة من اجل مراسم الخطبة في محضر من الاقارب (٢).

فشاور النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعمامه وفي مقدمتهم « أبو طالب » ، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش ، ورؤساؤها فخطبَ « أبو طالب » ، وبعد انَ حَمداللّه واثنى عليه وصفَ إبن أخيه محمَّداً بقوله :

« ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبد اللّه لا يوزَنُ به رجلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونُبلا وفضلا وعقلا ، وإن كان في المال فإنَ المالَ ظِلُّ زائلٌ ، وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرجعَة ، وَلَهُ في خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي ، ومحمَّدٌ من قد عرَفتُمْ قرابتَه ».

وحيث أن « ابا طالب » تعرَّض في خطبته لذكر قريش ، وبني هاشم وفضيلتهم ، ومنزلتهم بين العرب ، لذلك تكلّم « ورقة بن نوفل بن اسد » الّذي كان من أقارب خديجة (٣) وقال في خطبة له : « لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكُمْ وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكُمْ » (٤).

ثم اُجري عقد النكاح ومهرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة (٥).

__________________

١ ـ المعروف انّ والد خديجة توفي في حرب الفجار ولهذا قام بالايجاب من قبلها عمها عمرو بن اسد ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد ( والد خديجة ) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بداية الأمر ، ثم رضي بذلك نزولا عند رغبة خديجة.

٢ ـ تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٣ ـ المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ « خديجة بنت خويلد بن اسد » وورقة بن نوفل بن اسد فيكونان اولاد عمومة أي أنّه ابن عم خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب‍ « ابن عمّها » ( تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٨٢ ) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ، ص ٢٠٣.

٤ ـ بحار الانوار : ج ١٦ ، ص ١٦ ، مناقب آل أبي طالب : ج ١ ، ص ٣٠ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٩ ، تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٥ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٩.

٢٧٣

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

المعروف المشهور أن خديجة عليها‌السلام تزوجت من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في سنّ الأربعين وأنها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً.

وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً.

وذكَرَ أنها تزوجت قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجلين أوّلهما « عتيقُ بن عائذ » ثمَ من بعده ابو هالة التميمي اللّذين توفي كلٌ منهما بُعيد زواجه بخديجة (١).

__________________

١ ـ ربما يُشكَّك في أن تكون خديجة عليها‌السلام قد تزوجت قبل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحد وهي الّتي امتنعت عن كل من خطبها ورام تزويجها من سادات قريش واشرافها. راجع الاستغاثة : ج ١ ، ص ٧٠.

٢٧٤

١٠

من الزواج

إلى البعثة

تُعتَبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها ، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل ، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير ، وتشتد حاكمية الغرائز المادية ، وتتضاءل شعلة العقل ، وتترائى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر ، وصباح مساء صروح عظيمة من الآمال الخيالية.

ولو مَلك الإنسانُ ـ في مثل هذه الفترة ـ شيئاً من الثروة ، لتحوَّلتْ حياته إلى مسألة في غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية ، وصحة المزاج من جهة والامكانات المادية والمالية من جهة اُخرى تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات ، والنزوات ، وتهيِّئان له عالماً بعيداً عن التفكير في المستقبل.

ومن هنا يصف المربّون العلماء تلك الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء والسعادة ، والفترة الّتي قلما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولا ، ويختار لنفسه طريقاً واضحاً على امل الحصول على الملكات الفاضلة ، والنفسية الرفيعة الطاهرة الّتي تحفظه عن أي خطر متوقَع (١). حقاً إن كبح جماح

__________________

١ ـ وإلى هذه الحقيقة اشار الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام بقوله :

إنّ الفراغ والشباب والجدة

مَفسدة للمرء اي مفسدة

٢٧٥

النفس ، وزمَّها وحفظها مِنَ الإنزلاق في مهاوي الشهوات ، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر جدّ عسير ، ولو أن الانسانَ حُرمَ من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيراً سيّئاً ، ومستقبلا في غاية البؤس والشقاء.

فَترةُ الشَبابِ في حياة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ليس من شك في ان فتى قريش « محمَّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتمتع في أيام شبابه بصحة جيدة ، وقوة بدنية عالية ، وكان شجاعاً قوياً ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء الحياة ، وفتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها واعضائها بالشجاعة والفروسية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة « خديجة » الطائلة فكانت ظروفُ الترف ، والعيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل ، ولكن كيف ترى استفاد من هذه الامكانات المادية هل مدَّ موائد العيش واللذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب. واطلق العنان لشهوته ، وفكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر ، وتلك البيئة الفاسدة.

أم أنَّه اختار لنفسه منهجاً آخر في حياته ، واستفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية ، الأمر الّذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة الحساسة من تاريخه.

ان التاريخ ليشهد بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعيش كما يعيش أي رجل ، رجل عاقل لبيب وفاضل رشيد ، وأنه طوى تلك السنوات الحساسة من حياته كأحسن ما يكون ، بعيداً عن العبث والترف والضياع والانزلاق إلى الشهوات والانسياق وراء التوافه.

بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما يكون نفوراً من اللهو ، والعبث ، والترف والمجون فقد كانت تلوح على محيّاه دائماً آثار التفكّر والتأمل ، وكثيراً مّا كان يلجأ إلى سفوح الجبال أو الكهوف والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في مكة ، يلبث هناك أياماً يتأمل فيها في آثار القدرة الآلهية ،

٢٧٦

وفي عظمة الصنع الالهي ، الرائع البديع.

أحاسيسه ومشاعره الإنسانية في فترة الشَّباب :

ولقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الإنسانية وحركت عواطفه واحاسيسه ، فقد رأى مقامراً قد خسر بعيره وبيته ، بل بلغ الأمر به أن استرقهُ منافسُه عشرة أعوام.

وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش « محمَّد » بشدة ، إلى درجة أنّه لم يَعُد يحتمل البقاء في « مكة » ذلك اليوم فغادرها من فوره وذهب إلى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد بعد هزيع من الليل.

لقد كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والاوضاع المأساوية ، وكان يتعجب من ضعف عقول قومه ، وانحطاط مداركهم.

ولقد كان بيت « خديجة » قبل زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ملاذاً للفقراء وكعبة لآمال المساكين والمحرومين ، وبعد أن تزوج النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها لم يطرأ على وضع ذلك البيت أيُ تغيير من جهة الانفاق والبذل.

ففي سنين الجدب والقحط الّتي كانت تضرب مكة وضواحيها بين الحين والآخر ربما قدمت « حليمة السعدية » مكة لتزور ولدها الرضاعي « محمَّد » فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرمها ويحترمها ، ويفرش رداءه تحت أقدامها ، ويصغي لكلامها بعناية ولطف ، وفاء لجميلها ، وعرفاناً لعواطفها واُمومتها.

فقد روي أن « حليمة » قدِمت على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة بعد تزوّجه خديجة ، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَم رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « خديجة » فأعطتها بعيراً واربعين شاة ، وانصرفت إلى أهلها موفورة ، مسرورة.

وروي أيضاً انه استأذنت « حليمة » عليه ذات مرة فلما دخلت عليه قال : « اُمّي اُمّي » وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (١).

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٠٣.

٢٧٧

أولادُ خديجة :

لا ريب في أنَّ وجودَ الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية ، ويعمّق جُذُورها ، ويمنح الجوَّ العائليّ بهاء ، ورَوْنقاً ، وجمالا خاصاً.

ولقد أنجبت « خديجةُ » لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستة من الأولاد اثنين من الذكور ، أكبرُهما « القاسم » ثم « عبدُ اللّه » اللَّذان كانا يُدعَيان ب‍ : « الطاهر » و « الطيّب » واربعة من الإناث.

كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد : اكبرُ بناته رُقيَّة ثم زيْنَبْ ثم اُمُّ كلثوم ، ثم فاطمة.

فأما الذكور من أولاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فماتوا قبل البعثة ، وأما بناته فكلُّهن أدركنَ الإسلام (١).

ورغم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عُرفَ بصبره وجَلده في الحوادث والنوائب فربَما انعكست احزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خَدَّيه الشريفين في موت أولاده.

ولقد بلغ به الحزنُ والغمُ لموت ولده « إبراهيم » من زوجته ماريّة القبطية حداً لم يحدثْ لغيره من أولاده ، إلاّ أنّه رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر لسانه عن حمد اللّه وشكره حتّى أن اعرابياً اعترض عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما وجده يبكي على ولده قائلا : أولم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله :

« انما هذا رحمة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم (٢) ».

حَدْسٌ لا أساس له من الواقع!!

لقد كتبَ الدكتور هيكل في كتابه : « حياة محمَّد » يقول : « لا ريب أن

__________________

١ ـ مناقب ابن شهرآشوب : ج ١ ، ص ١٤٠ ، قرب الأسناد : ٦ و ٧ ، الخصال : ج ٢ ، ص ٣٧ ، بحار الأنوار : ج ٢٢ ، ص ١٥ ـ ١٥٢. وقد ذكر البعض للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من ولدين ، يراجع تاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٣٥ ، بحار الأنوار : ج ٢٢ ، ص ١٦٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٢٢ ، ص ١٥١.

٢٧٨

خديجة عند موت كل واحد منهما ( اي ولدي النبي : القاسم وعبد اللّه ) في الجاهلية توجَّهت إلى آلهتها الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها » (١).

إنَّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي ، وليس هو بالتالي إلا حَدْسٌ باطل ، وإدعاء فارغ ليس له من منشأ إلاّ أن أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبَدة أوثان ، فلابُدّ ان خديجة كانت على منوالهم!!

في حين ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية شبابه ، وقد اتضح موقفُه منها أكثر في سفرته إلى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن استحلفه باللات والعزى : « اليك عني ، فما تكلَّمت العربُ بكلمة أثقل عليَّ من هذه ».

مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأنَ امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدةُ حبها وشغفها بزوجها موضعَ شك ، أن تتوجَّه عند موت وَلديها إلى الاصنام التي كانت ابغض الأَشياء عند زوجها ، وخاصة أن حبها لزوجها « محمَّد » وبل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان يتحلى به من ايمان ومعنوية ، وصفات فاضلة ، وملكات اخلاقية عالية ، فهي قد سمعت عنه بأنه آخر نبيّ ، وأنه خاتم المرسلين ، فكيف والحال هذه يمكن ان يحتمل احد انها ـ مع هذا الاعتقاد ـ بثت شكواها وحزنها إلى الاوثان والاصنام؟؟!

دَعِيُّ رسول اللّه : زيد بن حارثة :

عند الحَجَر الاسود أعلن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبنيه له ... ذلك هو زيد بن حارثة.

وكان « زيدٌ » ممّن سباهُ العرب من حدود الشام ، وباعُوه في أسواق مكة رقيقاً لأحد أقرباء « خديجة » يُدعى « حكيم بن حزام » ، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى « خديجة » في ما بعد؟

__________________

١ ـ حياة محمَّد : ص ١٢٨.

٢٧٩

يقول هيكل في كتابه « حياة محمَّد » في هذا الصدد « لقد ترك موتُ ولدَيْ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفس النبي اثراً عميقاً حتّى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ طلب إلى « خديجة » أن تبتاعه ففعلت ثم اعتقه وتبناه » (١).

ولكن اكثر المؤرخين يقولون : ان « حكيم بن حزام » قد اشتراه لعمته « خديجة بنت خويلد » ، وقد أحبَّه رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذكائه وطهره ، فوهبته « خديجة » له عند زواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها.

ففتش عنه والدُه « حارثة » حتّى عرف بمكانه في مكة ، فقدمها ، ودخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه ، فدعاه رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخيّره بين المقام معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرحيل إلى موطنه مع أبيه ، فاختار المقام مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما وجد من خلقه ، وحنانه ، ولطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اخرجه إلى الحجر واعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس ومسمع قائلا : « يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني » (٢).

بدايةُ الخِلاف بَين الوثنيّين :

لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقْت صفوفهم ، غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت أسبابُه وعواملُه ، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل البعثة المباركة.

فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب وانكروا عقائدهم الباطلة ، وطالما كانوا يتحدثون عن قرب ظهور النبيّ العربيّ الّذي يتمُّ على يديه إحياء التوحيد.

وكان اليهود يتوعدون أهل الاصنام بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون :

__________________

١ ـ حياة محمَّد : ص ١٢٨.

٢ ـ الاصابة : ج ١ ، ص ٥٤٥ و ٤٥٦ ، اُسد الغابة : ج ٢ ، ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

٢٨٠