سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

لأهداف عليا.

وبعبارة اُخرى : إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

والخلاصة ؛ إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.

إنهم يقولون : إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز ، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد :

١ ـ لقد نقَلَ المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا تكفلَّت إرضاع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به ) ، وخافت ( حليمة ) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه

٢٢١

فادهش الجميع ذلك (١).

٢ ـ وتقول « حليمة » أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد ، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ، وأموالنا (٢).

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ، أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز :

ونحن نقول : لا نقاش في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو بطلانها شيء آخر.

وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته ( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول : « ... ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً » (٣).

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٣٤٥ و ٣٤٦.

٢ ـ المناقب لابن شهراشوب : ج ١ ، ص ٢٤.

٣ ـ مريم : ٢٤ و ٢٥.

٢٢٢

إنه وان كان الفرق بين « مريم » و « حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن منزلة « مريم » عليها‌السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم عليها‌السلام امور اُخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟ (١).

وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات ، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء :

أمضى وليدُ « عبد المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده.

وخلالَ هذه المدة اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.

وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب (٢).

وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى

__________________

١ ـ « ... وَكَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : ٣٧ ).

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٤٠١.

٢٢٣

الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليه‌السلام ، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره (١).

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال : « وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ » (٢).

ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر (٣).

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٢ ـ الصف : ٦.

٣ ـ « الذين يتَّبِعُونَ الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة والإنْجيل » ( الأعراف : ١٥٧ ).

٢٢٤

٧

العَوْدة

إلى اَحضان العائلة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة ، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا.

وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين : احدهما : أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني : ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً.

وقد قيل في المثل : لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها.

وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الاستاذ ينصح تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم

٢٢٥

بقطعة من الجص صورة على المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إن فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل ، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايامها وسنواتها الاولى.

٢٢٦

لقد حافظت مرضعةُ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ، حتّى انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول :

أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) ... وارضعت في بني سعد » (١).

ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة » ، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب » ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : « عبد اللّه » (٢).

سَفْرةٌ إلى يثرب :

منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى « يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن (٣) وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته إلى مكة فقد اُمّه

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٨٩.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٣ ـ كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه » عليه‌السلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

٢٢٧

العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب‍ « الابواء » (١).

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده « عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد » أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به (٢).

ان القرآن الكريم يُذكّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفترة يتمه ويقول : « ألمَ يجدْكَ يتيماً فآوى ».

إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا ، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه ، وإمام الإنسانية وهاديها ـ وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته ـ حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٠٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٨.

٢٢٨

وانه لم يكن لوالديه اي دخل فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب :

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه ، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة « عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!! (١).

كفالة أبي طالب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص (٢) وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

__________________

١ ـ كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ٢ ، ص ١٠ و ١١ من تاريخه حول سيرة عبد المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.

٢ ـ في حوادث السنة العاشرة.

٢٢٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لقد تكَفَّل أبو طالب ـ ولأَسباب خاصة ـ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقبل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب ـ مضافاً إلى العلل المشار إليها ـ كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً (١) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة.

يقولون : إن النبي شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب (٢) وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب.

سَفرةٌ إلى الشام :

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش إلى الشام كل سنة مرة واحدة.

فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد « محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث اضطرته إلى أن يرضى

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٧٩ ، وامهما هي فاطمة المخزومية.

٢ ـ لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ١ ، ص ١٥ طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.

٢٣٠

بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة (١).

لقد كانت سفرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ، من اجمل وأطرف اسفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى مكة.

واليك فيما يلي مجمل هذه القضية :

كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده.

وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من

__________________

١ ـ ويذكر « أبو طالب » في ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات :

إنَّ ابنَ آمِنة النبي محمَّداً

عِندي يفوقُ منازل الأولاد

لما تعَلّق بالزمام رحمتُه

والعيسُ قد قلَّصْنَ بالازواد

فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ

مثل الجمان مُفرّق الأفراد

راعيتُ فيه قرابة موصولة

وحفَظت فيه وصية الأجداد

وأمرتُه بالسير بين عمومة

بيض الوجوه مصالت أنجاد

حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا

لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردّ معاشر الحُسّاد

( تاريخ ابن عساكر : ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ وديوان ابي طالب : ص ٣٣ ـ ٣٥ ).

٢٣١

النظرات الفاحصة ، والتحديق في وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب » وقالوا : هذا وليّه.

فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ، سلني عمّا بدا لك.

فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه (١).

هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام (٢).

وربما قيل أنه تابع ـ بحذر شديد ـ سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ».

اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن :

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ، واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الّذي تم ـ في بصرى ـ بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

__________________

١ ـ روى تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٣٢ و ٣٣ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٠ ـ ١٨٣ هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

٢٣٢

ما أظهره رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعاليم رفيعة سامية بعد ٢٨ عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً » بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل وتكذبه الموازين العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا :

١ ـ لقد كان « محمَّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام ، ولقائه ب‍ « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ، فهل يصدق العقل ـ والحال هذه ـ أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و « الإنجيل » ، ثم يعرضها ـ في سن الاربعين ـ على الناس بعنوان الوحي الالهيّ والشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

٢ ـ إن مدة هذا اللقاء كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم القراءة والكتابة من احد.

٢٣٣

هذا مضافاً إلى أنه لم يكن يصاحب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

٣ ـ إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام ، ولم يكن مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟!

وعلى كل حال فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

٤ ـ إذا كان محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تلقى اُموراً ومعارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ، ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة وانت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع الإتهام إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته ، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرةْ عند

٢٣٤

« مروة » يجالس غلاماً نصرانياً استغلوا تلك الفرصة وقالوا : لقد أخذ « محمّد » كلامه من هذا الغلام ، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله : « ولَقدْ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحدْونَ إليْه أَعجَمِيَّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيّ مُبيْنٌ » (١).

ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا ، ومن نسج خيالهم!!

٥ ـ إن قصص الانبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والانجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام (٢).

٦ ـ إذا كان راهب « بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

٧ ـ يعتبرُ الكتاب المسيحيّون « محمّداً » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم مسبق

__________________

١ ـ النحل : ١٠٣.

٢ ـ تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.

٢٣٥

أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ، وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة « القصص » الآية (٤٤) هكذا : « وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».

وجاء في سورة « هود » الآية (٤٩) بعد نقل قصة نوح : « تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».

إن هذه الآيات توضح أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع.

وهكذا جاء في الآية (٤٤) من سورة « آل عمران » : « ذلِكَ مِنْ أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».

إن هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ».

واليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ).

* * *

٢٣٦

١ ـ داود عليه‌السلام :

جاء في التوراة : « إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة (١) ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ... فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!! (٢).

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داود عليه‌السلام بافضل الاوصاف إذ يقول ( في الآية ١٥ و ١٦ من سورة النمل ) : « وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ ... وَقالَ يا أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ».

٢ ـ النبيّ سليمان عليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن النبيّ العظيم سليمان عليه‌السلام :

١ ـ « وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا » (٣).

أي ان سليمان النبيّ الكريم ـ والعياذ باللّه ـ هو ابن زنا!!

__________________

١ ـ أي في مقدمة الجيش المحارب.

٢ ـ العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر ٣ إلى ٢٧.

٣ ـ إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول ٦.

٢٣٧

٢ ـ وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة ... مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!! (١).

إن سليمان ـ حسب هذه التعابير التوراتية ـ يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمان عليه‌السلام « ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ عِلماً » (٢).

ويقول : « وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين » (٣).

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

٣ ـ يعقوب عليه‌السلام :

إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوب عليه‌السلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة

__________________

١ ـ التوراة : الملوك الأول الاصحاح : ١١ ، العبارات ١ : ١١.

٢٣٨

زوجته الأخرى ) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!! (١).

هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!!

وأما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : « وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن » (٢).

ويقول تعالى أيضاً : « وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار » (٣).

٤ ـ إبْراهيم عليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن إبراهيم عليه‌السلام إنّه لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة : إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : ١ إلى ٤٦ ، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.

٢٣٩

بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ، وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون ـ في ما بعد ـ ان سارة زوجة ابراهيم ، وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب » (١).

إن ابراهيم الخليل عليه‌السلام في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :

١ ـ حنيف مُوحِّدٌ للّه : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٢ ـ إمامُ الناس : « إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً » ( البقرة : ١٣٤ ).

٣ ـ مُسْلِمٌ : « ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٤ ـ حَليمٌ : « إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٥ ـ امة كامِلَة بمفرده : « إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة » ( النحل : ١٢٠ ).

٦ ـ أواهٌ يَخشى اللّه : « إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٧ ـ مصطفى : « لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار » ( ص : ٤٨ ).

٨ ـ ذو قلب سَليم : « إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم » ( الصافات : ٤٨ ).

٥ ـ المسيح عليه‌السلام :

إن عيسى ـ حسب رواية الإنجيل ـ يحتقر اُمه ، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!! (٢)

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر ١ ـ ٢٠.

٢ ـ إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : ٣١ ـ ٣٥.

٢٤٠