الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

السيّد سامي البدري

الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-499-295-7
الصفحات: ٦١٤

من مكة الى المدينة / امام مائة الف او يزيدون وهم عظم المسلمين الذين استنفرهم للحج معه. وقد امتلأت الفترة الزمنية بين حديث الدار وحديث الغدير وهي فترة عشرين سنة باحاديث في هذه المناسبة او تلك تؤكد ذلك بشكل واخر ،

وقد اقترن ذلك بتربي علي في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ ولادته في بيت ابيه يوم كان النبي يعيش هناك بكفالة عمه ، ثم اصطحبه معه في بيته بعمر ست سنوات لما تزوج واستقل عن عمه ثم اصحبه في هذا العمر الى غار حراء يرفع له في كل يوم من اخلاقه علما ، وعندما كلفه الله نبيه بارسالة كان علي الى جنبه وقد سمع رنة الشيطان وسأل النبي عنها فأجابه انه الشيطان قد يئس من عبادته واخبره انه منه بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعده ،

وكان علي في مكة يكتب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن وبهامشه تفسيره وفي المدينة كان بيته مع امه فاطمة بنت اسد في المسجد بجوار بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ابنته فاطمة عليها‌السلام ، وله مع النبي لقاءان يوميا احدهما بعد صلاة الفجر والاخر بعد المغرب يواصل فيه املاءه في تفسير القرآن ويضيف اليه املاءه في الاحكام والسيرة والملاحم وقد عرف المسلمون جميعا خبر هذه اللقاءات يوم عقد النبي بعضها مع علي في ايام حصار الطائف وعرفت يومذاك بالمناجاة قال جابر : انتجى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً يوم الطائف فطالت مناجاتُه إيّاه. فقيل له : لقد طالت مناجاتك اليوم عليّاً؟ فقال : ما أنا ناجيتُه ولكنّ الله انتجاه (١) أي الله تعالى امرني ان انتجيه وليس هو عمل من تلقاء نفسي والمعنى امرني الله تعالى ان انفرد بعلي واسر اليه بالحديث امامكم.

وقد كتب علي في هذه اللقاءات : الصحيفة الجامعة طولها سبعون ذراعا فيها كل شيء مما يحتاج اليه من الاحكام وصحفا اخرى كتب فيها الملاحم والتفسير ثم صارت ميراثا له وللائمة من ولده عليه‌السلام.

وهذا اللصوق لعلي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل سيرة علي عليه‌السلام مدمجة مع سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الا والى جانبه علي كما هو حال سيرة موسى لا يذكر فيها موسى الا

__________________

(١) ابن الأثير ، جامع الأصول ج ٩ ص ٤٧٤ والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح ٥٦٤ ، وابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية ج ٧ ص ٣٥٦. والنجوى في الحديث : الاسرار به لفرد او لجماعة.

٥٤١

والى جانبه هارون وقد تواتر الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال لعلي (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي).

وانقلبت قريش المسلمة بعد وفاة النبي على علي عليه‌السلام وكاندوا يقتلونه ، نظير انقلاب امة موسى على هارون بعد طول غيبة موسى وكادوا يقتلونه. وادعت قريش المسلمة الامامة الدينية واقصت عليا عليه‌السلام عن موقعه الذي عينه النبي فيه بأمر الله ، وابتدعت في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فحرمت متعة الحج واخرت مقام ابراهيم عن البيت الى المكان الذي كان علي في الجاهلية ، لتكرس امامتها الدينية وفسحت المجال لكعب الاحبار عالم يهود اليمن وتميم الداري راهب النصارى في الحجاز ان ينشرا اساطيرهم حول الخلق والانبياء وغاب تنزيه التوحيد وتنزيه الانبياء الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وفتحت البلدان على ذلك وانتهى الامر الى قيام حكم بني امية زمن عثمان على تكريس تلك السيرة فصاروا ائمة الدين وولاته.

حالة المسلمين الفكرية والدينية والسياسية زمن خلافة عثمان سنة ٢٦ هجرية :

اما الحالة السياسية فتعرف من شخصية رئيس الدولة وولاته على الامصار :

١. كان رئيس الدولة عثمان بن عفان بن ين ابي العاصي بن امية بن عبد شمس.

٢. وكان سكرتيره الخاص مروان بن الحكم بن العاص بن امية بن عبد شمس (ابن عم عثمان).

٣. وكنا والي الشام الكبرى معاوية بن ابي سفيان بن حرب بن امية بن عبد شمس. (ابن عم عثمان)

٤. وكان والي الكوفة الوليد بن عقبة بن ابي معيط بن عمرو بن امية بن عبد شمس ، ثم خالد بن سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن امية بن عبد شمس والد عمرو بن سعيد الاشدق. (اولاد عمه)

٥. وكان والي البصرة : عامار بن ربيعة من حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان وحبيب بن عبد شمس هو اخو امية بن عبد شمس. (فهو ابن عمه)

٥٤٢

٦. وكان والي مصر عبد الله بن ابي سرح اخو عثمان من الرضاعة وهو من بني عامر احدى بطون قريش.

وفي ضوء ذلك فان دولة عثمان هي الدولة الاموية الاولى. وقد تذمرت منها بطون قريش حيث حرمت من امتيازات السلطة التي كانت لهم ايام ابي بكر وعمر ، واخذوا يحثون الناس على العمل للاطاحة بالخليفة عثمان.

اما الحالة الفكرية والدينية : فهي ما تبنته الدولة من اعتبار سيرة الشيخية جزءا اساسيا من قانون الدولة وتتمثل هذه السيرة بامور هي :

١. المنع من نشر احاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق اهل بيته واولهم علي عليه‌السلام. كحديث الثقلين وحديث الغدير وحديث المنزلة وغيرها.

٢. تحريم متعة الحج التمتع / وقد جعلها الاسلام رخصة للحاج / وعقوبة المخالف.

٣. تحريم متعة النساء / وقد جعلها الاسلام علاجا للزنا /.

٤. اسناد الوعظ وبيان قصص الانبياء الى كعب الاحبار ومصدره فيها التوراة المحرفة التي طرحت في المجتمع بصفتها كتاب الله الاول ، الامر الذي افقد عقيدة التوحيدَ وسيرةَالانبياء التنزيهَ الذي جاء به القرآن فيها ..

٥. ايجاد الطبقية في المجتمع ، على مستوى العطاء الذي توزعه الدولة في قبال التسوية التي سنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتفضيل ازواج النبي على المسلمين ثم اهل بدر على غيرهم ثم اهل الحديبية على غيرهم ، وفي الفروج في قبال كفاءة المؤمن للمؤمنة بمنع غير العربي من التزوج بالعربية ،

٦. ارجاع مقام ابراهيم الى مكانه في الجاهلية.

٧. ارجاع لقب (ال الله) التي انتحلته قريش في الجاهلية اليها ومعاقبة صحابي فاضل لانه عين مولاه عليها في غيابه. (١)

__________________

(١) جاء في تهذيب الكمال للمزي ج ٢٩ ص ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، وفي أسد الغابة لابن الأثير ج ٥ ص ٧ ـ ٨ ، وعن الاستيعاب لابن عبد البر ج ص ١٤٩٠ في ترجمة نافع بنعبد الحارث الخزاعي ، قال أبو عمر بن عبد البر استعمله عمر بن الخطاب على مكة وفيهم سادة قريش ، فخرج نافع إلى عمر ، واستخلف مولاه عبد الرحمان بن أبزى فقال له عمر : استخلفت على آل الله مولاك؟ فعزله ، وولى

٥٤٣

ان المسلمين في الحجاز واليمن والجزيرة العربية من عمر ١٥ سنة الى عمر ٣٠ سنة ومن غيرهم ممن دخل الاسلام من اهل العراق والبلاد الشرقية واهل الشام وافريقيا والبلاد الغربية لا يعرفون خلفاء للنبي وامامة دينية تقودهم الى الله تعالى الا الخلفاء من قريش وقد انتهت الى بني امية ولا يعرفون من الاسلام الا سيرة الشيخين التي رفعها الحاكمون شعارا الى جانب كتاب الله وصار دين الله الذي بعث به محمدا هو كتاب الله وسيرة الشيخين ، بل سيرة الخليفة من قريش.

اما علي عليه‌السلام وموقعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وولايته التي امر بها الله تعالى وولاية اهل بيته الذي قال عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (اني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي اهل بيتي) ، فانهم جاهلون بها الا اذا سمعها احدهم من ابي ذر او سلمان او حذيفة سرا.

وهكذا فان بني امية قد كرسوا جهل مسلمة الفتوح بسنة النبي وامامة اهل بيته وفتحت اعينهم على امامة العمل بالرأي الممزوج برواسب الجاهلية وثقافة اهل الكتاب المحرفة قدمت اليهم باسم الاسلام وخلافة الرسول.

٢. هدف نهضة علي عليه‌السلام اعادة التنزيه الى التوحيد وسيرة الانبياء وتحرير دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من بدع قريش :

حذَّر النبي امَّته من الفتن المقبلة عليهم بعد موته (اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع اولها اخرهم) واخبرهم انه ادخر صلى‌الله‌عليه‌وآله اهل بيته وعليٌّ اولهم لإنقاذهم منها وارجاعهم الى المحجة التي تركهم عليها (يا علي انت الهادي بك يهتدي المؤمنون بعدي) (١) (علي

__________________

خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي. وكان نافع بن عبد الحارث من كبار الصحابة وفضلائهم. والشاهد هو ان عمر بعد ان شاهد كيف هدم النبي مكانة قريش الدينية وبدعها في الحج نجده يسمي قريشا ال الله ويرجع بعض بدعها تكريسا لإمامتها الدينية.

(١) قال ابن الجوزي في زاد المسير ج ٤ ص ٢٢٨ وقد روى المفسرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (إنّما أنت منذر ولكلّ قومٍ هاد) ، وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على صدره. فقال : «أنا المنذر» ، وأومأ بيده إلى منكب علي ، فقال : «أنت الهادي يا علي بك يهتدي من بعدي». قال المصنف : وهذا من موضوعات الرافضة.

٥٤٤

مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) (١) فما هو مشروع علي لإحياء سنة النبي وانقاذ الامة من ضلالة بني امية ايام عثمان؟

كان علي عليه‌السلام يترقب الفرصة السانحة لنهضته ولم تكن هناك فرصة افضل من فرصة انشقاق بطون من قريش على الحكم الاموي الاول / عثمان وولاته من بني امية / ، اذ رات هذه البطون انها حرمت من امتيازات السلطة وصارت حكرا على بني امية فأخذت تبدي تذمرها من عثمان وتحرِّش عليه اهل الامصار مستغلة اخطاء (٢) ولاته من شباب بني امية وتاريخهم السيء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستحكم انشقاق قريش على عثمان سنة ٢٧ هـ حين كان اخر من سجلتهم المصادر التاريخية من المتمذمرين والمنشقين على عثمان هو عبد الرحمن بن عوف وكان اول من شد الملك لعثمان في الشورى السداسية.

وقرر علي عليه‌السلام في موسم حج سنة ٢٧ هـ ان يعلن عن احيائه لحج التمتع بصفته افضل مدخل لتعريف مسلمة الفتوح وصغار الصحابة الذين لم يسمعوا من النبي بمخالفة الحكم الاموي لسنة النبي ثم يتحرك اصحابه في موسم الحج لنشر حديث النبي في اهل بيته كحديث الثقلين وحديث الغدير وغيرهما.

وهكذا كان الامر وانطلق ابو ذر والمقداد واخرون من اصحاب النبي ازروا عليا عليه‌السلام

__________________

أقول : قال ابن حجر في فتح الباري ج ٨ ص ٢٨٥ أخرج الطبري ج ١٣ ص ١٤٢ بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدع على صدره وقال أنا المنذر وأومأ إلى علي وقال أنت الهادي بك يهتدي المهتدون بعدي.

(١) المرعشي ، شرح احقاق الحق ج ٥ ص ٦٣٣. والخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ج ١٤ ص ٣٢١ ، اخرجه عن ام سلمة ، وأخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٣٦ وقال : رواه البزار وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. قال العلامة الأميني رحمه‌الله في الغدير ٣ / ١٧٧ الرجل الذي لم يعرفه الهيثمي هو سعيد بن شعيب الحضرمي قد خفي عليه لمكان التصحيف ، ترجمه غير واحد بما قال شمس الدين إبراهيم الجوزجاني : إنه كان شيخا صالحا صدوقا. كما في خلاصة الكمال ٣١٨ ، وتهذيب التهذيب ٤ ص ٤٨. أقول : وأخرج الحاكم في مستدركه ج ٣ / ١٢٤ عن أُمّ سلمة عن النبي ص بلفظ : «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». قال الحاكم : هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وأورده الذهبي في تلخيصه مصرّحاً بصحته ...

(٢) ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٣٩ ص ٤٢٦ قال عمرو بن العاص لما قتل عثمان وكان في فلسطين قد علمت العرب أني إذا حككت قرحة أدميتها. ايضا الطبري ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٩٢.

٥٤٥

في نهضته يحدِّثون باحاديث النبي فيه وفي اهل بيته ، واضطهدتهم السلطة نفيا وسجنا.

وفوجئ المتذمرون من قريش بنهضة علي عليه‌السلام ، ولكنهم آثروا السكوت لانهم مشغولون بالتحريش ضد عثمان ،

ثم استطاع الثائرون من قريش ان يقتلوا عثمان بعد حصاره ، ولكن الجماهير المسلمة بدلا من ان تبايع احد ابرز قادة الثورة على عثمان وهما طلحة او الزبير هرعت الى بيت علي عليه‌السلام تطلب منه ان تبايعه ، ورفض علي عليه‌السلام في بادئ الامر ثم استجاب لهم في المسجد وبويع في اروع مشهد يصفه : قال عليه‌السلام :

(وبسطتم يدي فكففتُها ، ومددتموها فقبضتُها ، ثم تداككتم علي تداكَّ الإبل الهِيم على حياضها يوم وِردِها ، حتى انقطعت النعلُ ، وسقط الرداء ، ووُطِئَ الضعيف ...).

ثمقال في كلام آخر : (وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيايَ أن ابتهجَ بها الصغيرُ ، وهدَج إليها الكبير ، وتحاملَ نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب) (١) ، انه سرور كسرور دخول النبي الى المدينة.

وانطلق علي عليه‌السلام يواصل مشروعه الاحيائي لسنة النبي وقد ازره ثلة من الانصار والمهاجرين من اصحابالنبي والتابعين عبر الاجراءات التالية.

١. الغى الطبقية في العطاء ، والتفضيل في المناكحات وارجعهما الى ما كان على عهد رسول الله.

٢. الغي سيرة الشيخين كقانون تحكم به الدولة وحوَّلها الى مذهب / بعد بيان بطلانه / وترك الخيار للمجتمع ان يعمل بها مع وضوح بطلانها او يتركها.

٣. منع من تداول القصص الاسرائيلي التي تشوه سيرة الانبياء وتسئ الى تنزيههم (٢) وتنزيه التوحيد.

__________________

(١) التداك الازدحام الشديد. والإبل الهِيم : العطاش. وهدج إليها الكبير : مشى مشياً ضعيفاً مرتعشا ، والمضارع يهدج بالكسر ، وتحامل نحوها العليل تكلف المشي على مشقة. وحسرت إليها الكعاب : كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة ، والكعاب : الجارية التي قد نهد ثديها ، (ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١٣ ص ٣).

(٢) جاء في مجمع البيان ج ٤ ص ٤٧٢. عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : لا أُوتي برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أُوريا إلّا جلدته حدّين : حدّاً للنبوة وحدّاً للاسلام وفي تفسير البيان للشيط الطوسي

٥٤٦

٤. رفد المجتمع بخطب احيت تنزيه الله تعالى وانبيائه كما احيا مواعظ الله ورسوله في قبال كعب الاحبار واحاديثه في التجسيم وتشويه سيرة الانبياء وخرافية مواعظه.

٥. شجع المسلمين على نشر حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٦. شجع الناس على السؤال عن تفسير القرآن.

٧. شجع المسلمين على تدوين العلم.

وفي ضوء ذلك :

صار المسلمون في النصف الشرقي من البلاد الاسلامية ومركزهم الكوفة سواء من مسلمة الفتوح او من غيرهم على فئتين في الفكر والتعبد :

فئة تتعبد بسيرة الشيخين في صلاتها وحجها وصلاة التراويح على الرغم من معرفتها ان صلاة التراويح وغيرها كانت رايا واجتهادا للخليفة وليست سنة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فئة تتعبد بسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاتها وحجها يقودهم قدوتهم وقيادتهم علي عليه‌السلام واهل بيته وهم اهل بيت النبي.

مشروع معاوية :

رأى معاوية في مشروع علي عليه‌السلام لو استمر انهاء لدولة بني امية بل استئصال لمشروعيتها وتأسيس دولة بني هاشم وال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعميق لمشروعيتها ،

ومن هنا خطط للوقوف امام مشروع علي عليه‌السلام ووأده واعادة دولة بني امية الاولى التي مهَّد لها واسس مضمونها الفكري الخليفتان ابو بكر وعمر. وليس له الا أن يدوس على جراحه فيغض الطرف عن قَتَلَة عثمان من قريش ويجمع بطونها على موقف موحد لمواجهة علي عليه‌السلام على ثلاث مراحل :

__________________

ج ٨ ص ٥٥٥ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : لا أُوتي برجل يقول إن داود ارتكب فاحشة إلّا ضربته حدّين : أحدهما للمقذف ، والآخر لأجل النبوة وفي تفسير الرازي ج ٢٦ ص ١٩٢ عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : من حدثكم بحديث داود على ما يريد القصاص ، جلدته مائة وستين ، وهو حدّ الفرية على الأنبياء.

٥٤٧

الاولى : اقناع طلحة والزبير على نكث البيعة والذهاب الى البصرة ثم الى الكوفة واقتطاعها عن علي عليه‌السلام وبذلك يضمن قطع الموارد العسكرية والمالية العراقية عن علي عليه‌السلام.

الثانية : قطع الطريق على علي عليه‌السلام ان يعين واليا جديدا على الشام من خلال اعلان شعار الطلب بدم عثمان قبل بيعة علي عليه‌السلام وبذلك تقطع الموارد العسكرية والمالية الشامية عن علي عليه‌السلام.

الثالثة : الحركة من العراق والشام الى المدينة لقتال علي عليه‌السلام فيها ولن يصمد جيش المدينة طويلا امام اهل العراق والشام ، وليس لعلي عليه‌السلام آنذاك الا القتل او الاستسلام ، ولا يترقب منه ان يستسلم فيقتل ولن يقتل حتى يقتل ولده واهل بيته وكل بني هاشم وهو المطلوب.

اقتنعت وجوه قريش المسلمة بالخطة واقدم طلحة والزبير وعائشة على تنفيذ المرحلة الاولى واستلما البصرة بعد ان غدرا بسهل بن حنيف والي علي عليه‌السلام عليها.

موقف علي عليه‌السلام من خطة قريش :

ادرك علي عليه‌السلام خطة قريش واعلن عنها في كلامه لاخيه عقيل (دع عنك قريشاً وتَرْكاضَهم في الضلال ، وتَجوالهم في الشقاق ، وجِماحَهم في التِّيْه ؛ فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلي). (١)

وكان موقفه من خطة قريش هو الخروج من المدينة ودعوة اهل الكوفة الى نصرته واسترداد البصرة من قريش ثم اتخاذ الكوفة مركزا لمواجهة معاوية في الشام وهكذا كان الامر واستجابت الكوفة لعلي عليه‌السلام وارتبطت مصيريا بنصرة اهل بيت النبي كما ارتبط اهل الشام مصيريا بنصرة بني امية

خرج اكثر من عشرة الاف من اهل الكوفة مع علي واسترد البصرة من عائشة وطلحة والزبير بساعات في اول معركة بين المسلمين انفسهم طرف تقوده قريش المسلمة وطرق يقوده علي عليه‌السلام وكان نصرا مؤزرا كما كانت بدر نصرا مؤزرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٣٦.

٥٤٨

ورجع علي عليه‌السلام الى الكوفة واتخذها مقرا لمشروعه ودولته ، وانطلق منها الى الشام ليستردها من معاوية وكادت المعركة في صفين وهي اعظم معركة في تاريخ الاسلام ان تحسم الامور لصالح علي عليه‌السلام لولا اعلان نصف جيش علي تجاوبهم مع الشعار الذي اعلنه معاوية بالاحتكام الى القرآن وكان هذا النصف لم يستجب لمشروع علي ولم يقاتل معه على اساس العقيدة بإمامته المنصوصة ولا البصيرة بمعاوية ومكرة ودهائه.

بخلاف النصف الاخر الذي كان يقوده مالك الاشتر ونظراؤه ممن كانوا على بصيرة بخطة معاوية وايمان بعلي وصيا للنبي ، فقد كان مالك يخطب في اصحابه ويقول :

(إن هؤلاء القوم لن يقارعوكم إلا عن دينكم ، ليطفئوا السنة ، ويحيوا البدعة ، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة). (١)

واسترد معاوية بشعار (الاحتكام الى القرآن) (٢) انفاسه وحافظ على وجوده ورجع الى الشام وقد قوي امله بتأسيس الدولة الاموية الثانية امتدادا للدولة الاموية الاولى واطروحتها الفكرية واستطاع ان ينطلق من امرين الاول جهل اهل الشام بموقع علي عليه‌السلام من النبي وتاريخ معاوية وابيه في بدر واحد والخندق ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الثاني : ثقتهم التفصيلية بمعاوية بصفته وليا عليهم وممثلا للخلافة القرشية مدة ثلاثين سنة ، ومن ثم اسس اعلاما كاذبا في حق علي عليه‌السلام اعطى خطوطه للقصاصين الذين اصطحبهم معه يقصون بعد كل صلاة ، تمثل هذا الاعلام الكاذب بإلقاء التبعة في قتل عثمان على علي واصحابه وهو الذي اعلنه قادة قريش في الجمل ، وان عليا يقاتل من اجل الملك الذي كان يطمع به بعد وفاة النبي ولم يوله المسلمون اياه وانتهاء بوصفه ملحدا في الدين وكونه نهض لتغيير سنن الخليفة عمر في الصلاة والحج وفي ضوء ذلك فانه يجب البراءة منه

__________________

(١) ابن مزاحم ، وقعة صفين ص ٢٥١ ، وقوله رضي‌الله‌عنه (ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة) هذا الامر هو اعتقادهم امامة علي بالنص. فهو يحتاج الى حسن بصيرة من الانسان ليفارق العقيدة بإمامة قريش ويعتقد بإمامة علي عليه‌السلام. ومن ليس له حسن بصيرة يكون مصداقا لقوله تعالى (وكأين من آية في السماوات والارض يمرّون عليها وهم عنها معرضون) يوسف / ١٠٥ ، واحاديث النبي يفي علي بمناسبة الغدير وغيره آيات الهية لأنه لا ينطق عن الهوى.

(٢) أقول : لم يكن ليؤثر هذا الشعار في جيش علي واغلبهم من مسلمة الفتوح لولا التربية التي نشأوا عليها زمن الخلافةمدة ربع قرن تقريبا وقد حمل الخوارج فيما بعد هذا الشعار (لا حكم الا لله) ،

٥٤٩

والعمل على قتله وارجاع الامور الى ما كانت عليه زمن الخليفة عمر وبين ايديهم قيادة وثق بها عمر خلفته عثمان ثلاثون سنة.

٣. حروب قريش مع علي عليه‌السلام واعلامها الكاذب :

وكما ان قريشا المشركة بقيادة ابي سفيان فرضت على النبيحربين ظالمتين (١) هما بدر وأحد كذلك فرضت قريش المسلمة بتخطيط بني امية اشعلت حربين ظالمتين على علي عليه‌السلام :

كانت الحرب الاولى ضد علي عليه‌السلام في البصرة بقيادة طلحة والزبير وعائشة وكان النصر المؤزر فيها لعلي عليه‌السلام وكان حجر بن عدي يقول في هذه الحرب :

وقال حج بن عدي الكندي في يوم الجميل أيضاً :

يا ربنا سلم لنا عليا

سلم لنا المهذب التقيا

المؤمن المسترشد الرضيّا

واجعله هادي أمة مهدياً

احفظه رب حفظك النبيّا

لا خطل الرأي ولا غبياً

فإنه كان لنا ولياً

ثم ارتضاه بعده وصياً (٢)

وكانت الحرب الثانية ضد علي عليه‌السلام في الشام بقيادة معاوية بن ابي سفيان وقد خسر علي عليه‌السلام فيها لانصر بسبب مخالفة قسم من جيشه لأمره في استمرار القتال حين رفع معاوية المصاحف وطلب توقيف القتال.

٤. تحصين الشام من التأثر بعلي عليه‌السلام بالحرب والاعلام الكاذب :

افرزت الحربان اعلاما امويا طوَّق عليا عليه‌السلام بتهمة طلب الملك من وراء تلك الحربين وانه اوى قتلة عثمان واستعان بهم وانه افسد في الدين وانه لا يصلي وغير ذلك من

__________________

(١) أقول : اعتدى اهل الجمل على والى علي على البصرة عثمان بن حنيف وغدروا به واحتلوا البصرة ، فلم يكن امام علي الا ان يدعوهم الى التراجع والتحاكم الى القرآن فلم يتراجعوا فقاتلوهم واسترد البصرة منهم. وهكذا في صفين فان معاوية تمرد على علي واقتطع الشام منه ولم يسلمها لمن ولاه علي عليها ، فما كان امامه الا مقاتلته.

(٢) ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ٤ ص ٢٢٨.

٥٥٠

الشبهات التي كان قصاصوه يقصونها على الناس بعد الصلاة. واستطاع بذلك ان يحصن اهل الشام من التأثر بمشروع علي عليه‌السلام.

كما استطاع معاوية بن ابي سفيان انيحول جيش الشام الى سرايا تغيرعلى اطرفا علي لتنهب وتقتل شيعة علي ليتخلوا عنه كما استطاع ان يقتطع مصر عن علي عليه‌السلام وصمد اهل العراق مع علي عليه‌السلام. واقترن ذلك / ولا يبعد انه كان ذلك بدفع منه من خلال بعض رؤوس النفاق كالأشعث بن قيس / بحركة الخوارج من داخل الكوفة.

كيانان فكريا وسياسيان في الامة الاسلامية سنة ٣٩ هجرية :

انقسمت الامة الاسلامية سنة ٣٩ هجرية الى كيانين فكريين وسياسيين :

الاول : يمثل مشروع النبوة ما عدى ان شخص محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله غير موجود وانما بديله شخص هو كنفسه وهو علي عليه‌السلام وهو وصيه.

مركز هذا المشروع العراق ـ الكوفة ويدين بهذا المشروع اغلب سكان النصف الشرقي من مسلمة الفتوح والانصار مع خمسة افراد من قريش فقط (١). شعاره العمل

__________________

(١) روى الكشي عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله يقول : كان مع أمير المؤمنين خمسة نفر من قريش ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية. فأما الخمسة فمحمد بن أبي بكر رحمة الله عليه أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس ، وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال. وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام خاله وهو الذي قال له عتبة بن أي سفيان انما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك فقال له جعدة لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك ، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سلف أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو الربيع) (اختيار معرفة الرجال الكشي ص ٦٠ ط النجف). أقول : جاء في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٤٦٩ : عن أبي جحيفة قال عتبة لجعدة : يا جعدة ، إنه والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك ابن أبي سلمة عامل البحرين ، وإنا والله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان ، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها ، فوالله ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجدّ من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جد على [في الحرب]. وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس ، حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب.

فقال جعدة : أما حبي لخالي فوالله أن لو كان لك خال مثله لنسيت أباك.

وأما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه [اثنان].

وأما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس [فلم نقبل].

٥٥١

بكتاب الله وسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعوة النصف الغربي للعودة اليها. يقود هذا المشروع اهل بيت النبي اولهم وعظيمهم علي عليه‌السلام ومعه ولداه الحسن عليه‌السلام والحسين عليه‌السلام.

الثاني : يمثل مشروع قريش المسلمة التي حكمت اربعا وعشرين سنة وانتجت مضمونا فكريا وتشريعيا خليطا من الاسلام ورواسب الجاهلية والإسرائيليات في قصص الخلق والانبياء ، ارتبط بعنوان سيرة الشيخين

راس المشروع ووريثه هو معاوية ومركزه الشام ويتدين بهذا المشروع اغلب سكان النصف الغربي من مسلمة الفتوح وقبائل قريش كلها الا خمسة نفر. شعاره العمل بسيرة الشيخين المؤسسين وقتال علي وشيعته بتهمة دم عثمان وهو برئ منه براءة الذئب من دم يوسف.

شهادة علي عليه‌السلام وبيعة اهل العراق الحسن عليه‌السلام وبيعة اهل الشام معاوية :

استشهد امير المؤمنين هو يعبئ جيشه لمحاربة معاوية ،

وبايع العراقيون الحسن عليه‌السلام حاكما وهو قبل ذلك رأس في مشروع ابيه ووصيه عليه اماما هاديا بنص من جده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبايع اهل الشام معاوية حاكما وهو من الرؤوس في مشروع قريش المسلمة وقد عُني به الخليفة الثاني عناية خاصة وكان يحاسب عماله الا معاوية فانه كان يقول فيه هذا كسرى العرب فكان زعيما في الشام عشرين عاما منذ وفاة اخيه يزيد بن ابي سفيان في الشام فعينه عمر مكانه ثم ضم اليه عثمان في خلافته بقية بلاد الشام. ومن هنا فان جيلين من الشاميين فتحا اعينهم على امارة معاوية التي اسسها عمر وعثمان بصفته ممثلا للإسلام الامر الذي جعلهم يثقون بتقديره للأمور ويقبلون منه وقوفه ضد

__________________

وأما قولك إنه ليس بالشام من رجل إلا وهو أجدُّ من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جِدِّ عليّ ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعلي يقينُه ، وقصر بمعاوية شكه ، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل ..

وأما قتل العرب فإن الله كتب [القتل و] القتال ، فمن قتله الحق فإلى الله (وفي فتوح اعثم ٣ / ١٠٨ فمن قتله الحق فإلى الله والجنة ، ومن قتله الباطل فإلى النار).

فغضب عتبة وفحش على جعدة ، فلم يجبه وأعرض عنه وانصرفا جميعا مغضبين.

٥٥٢

علي عليه‌السلام ، ساعده على ذلك جهلهم بموقع علي في الاسلام.

مبادرة معاوية بالصلح واهدافها :

١. كان معاوية يطمح الى ان يستقل بملك الشام وقد نجح وانتهى نجاحه بإقدام اهل الشام على بيعته حاكما على نهج سلفه عثمان ، وبيده ورقة ضغط على الحسن عليه‌السلام وهي الغارات التي كان يشنها على اطراف الكوفة ، وفي الوقت نفسه يتخوف من خطرين قائمين الاول حلقات الخوارج الارهابية الثاني جيش الروم الذي يتحين فرصة الهجوم على الشام لاستردادها ومن هنا بادر بطلب الصلح من الامام الحسن عليه‌السلام : ليحقق احد امرين :

٢. ربح المعركة الاعلامية عند موافقة الحسن عليه‌السلام على الصلح فان الحسن عليه‌السلام سيكون ملوما لمخالفته الآية الكريمة (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) عند قسم من جيشه فضلا عن المنافقين في الكوفة فضلا عن تأكيد العقيدة عند اهل الشام ان معاوية يرغب في الصلح وان الطرف الاخر هو طالب الحرب.

ـ تحقيق عدة مكاسب عند استجابة الحسن للطلب ، منها :

ـ راحة جيشه المتعب.

ـ ملاحقة الحلقات الارهابية الوافدة عليه من العراق ،

ـ دفع خطر الروم بالمصالحة ايضا ،

ـ واخيرا رد الكرَّة على العراق بعد ذلك لتصفية الحساب مع مشروع علي وحملته.

المفاجأة الكبرى في جواب الحسن عليه‌السلام على مبادرة معاوية :

من الضروري جدا ان نتعرف على طريقة تفكير الحسن عليه‌السلام بقضية الصلح التي عرضها معاوية فما هي الاصول التي يستحضرها الحسن في فكره بل ويستحضرها ايضا أي رجل مخلص من رجالات جيشه وهم كثر.

الحسن بعبارة موجزة هو احد منظومة الامامة الهادية بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مهمتها

٥٥٣

المحافظة على الشريعة وهداية الناس (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين (٨٩) أُولئك الّذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا اسئلكم عليه أجراً إن هو إلّا ذكرى للعالمين (٩٠)) الأنعام / ٨٩ ـ ٩٠ ، وقد نهض ابوه علي عليه‌السلام بمشروع الهداية بعد النبي واسسه في قبال قريش المسلمة التي اضلت الامة وكفرت بالتأويل. كما كفرت قريش المشركة بالتنزيل. وهو الان على راس هذا المشروع ، ان مهمة الحسن الاساسية هي كيف يوصل مشروع ابيه الى النصف الثاني من الامة التي لم تقف عند حالة كونها جاهلة بعلي وهو الهادي بعد النبي بل تعتقد به في ضوء اعلام معاوية انه مفسد في الدين تجب البراءة منه ، ولم تقف عند العقيدة فقط بل تحولت الى جيش يهمه قتل من هو على دين علي بل من يتصل بعلي بنسب الم يقتل بسر طفلين لعبيد الله بن عباس!

يفكر الحسن كيف يفتح قلوب اهل الشام على الحقيقة ليعرفوا معاوية على حقيقته مفسدا في الدين ويعرفوا عليا هاديا الى دين الله بأمر الله ورسوله ،

وكانت أهم عقبتين بل عقدتين أمام انطلاقة المشروع هما :

العقبة الاولى انشقاق الشام : هذا الانشقاق الذي استحكم ببيعة الشاميين لمعاوية على الحكم على ما بويع عليه عثمان ، على كتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخية ، وهذه العقبة خلقت عدة مشكلات بعضها فِعلي والآخر تحت الرماد :

الأولى : مشكلة فقدان الأمان في الطرق الخارجية بني ولايات الدولة الإسلامية حيث انعدمت بفعل غارات جيش معاوية على الأطراف الآمنة التابعة لعلي عليه‌السلام. وهذه مشكلة فعلية قائمة.

الثانية : مشكلة ثقافة العداء لعلي عليه‌السلام عند أهل الشام ، فهم يعتقدون أن علياً عليه‌السلام مشترك في قتل عثمان مفسد في الدين مخالف لسيرة الشيخين ، يستحق أن يُلعن ويُتبرأ منه ومن شيعته بل يستحقون أن يُستأصَلوا جميعا وهذه المشكلة فعلية ايضا.

الثالثة : مشكلة تهديد الروم البزنطيين على الجبهة الشمالية الشرقية للشام وهذه المشكلة فعلية ايضا.

الرابعة : مشكلة تحت الرماد تتمثل باحتمال أن يتبنى المنشقُّون الامويون إحياء

٥٥٤

القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس لتجريد الحسن عليه‌السلام من سلاح الكعبة / القبلة العامة لكل المسلمين / ولإحكام عُزلة أهل الشام عن العراقيين حتى لا ينفتحوا على الحقائق التي قد تغيِّر من ولائهم لمعاوية. وقد حصل مثل هذا في عهد بني إسرائيل في الاشم وتعددت القبلة والكتاب الإلهي عندهم وبقيت امتدادات القبلتين والكتابين إلى زمن معاوية وإلى اليوم ، وقد نفَّذ عبد الملك بن مروان جزءا من هذا المخطط في زمانه لما كان خصمه عبد الله بن الزبير مسيطراً على مكة.

العقبة الثانية الخوارج : حمل الخوارج شعار التكفير لعلي عليه‌السلام ومعاوية وتحولوا بعد معركة النهروان الى خلايا اغتيال ومجموعات تغير على الابرياء وتقتلهم لانهم يسالمون السلطة ، وقد تسببت هذه النشاطات ان تفتقد الامة وبخاصة البلاد الشرقية الأمان داخليا. وهي وان كانت مشكلة مشتركة بين الشام والعراق ولكنها في الكوفة اكثر خطورة لانها مركز الخوارج.

وأمامَ وضع معقد كهذا لا يصبح خيار الحرب في صالح مشروع علي عليه‌السلام. إذ هو بحاجة الى انفتاح القلوب عليه باختيارها والحرب ليست اداة صالحة لذلك.

ثم أن الصلح المحدود وإيقاف القتال بالطريقة التي اقترحها معاوية بان يبقى العراق وما والاه للحسن عليه‌السلام والشام وما والاه لمعاوية كما هي طبيعة الاشياء وطبيعة طريقة تفكير معاوية تكرس الانشقاق والثقافة العدائية لعلي عليه‌السلام ومن ثم بقاء الطريق مسدوداً أمام انفتاح أهل الشام على مشروع علي عليه‌السلام مضافاً إلى ما ينطوي عليه من خطر محتمل أشرنا إليه آنفاً.

خصائص أطروحة الصلح المطلوبة :

إن أطروحة الصلح التي يحتاجها مشروع علي عليه‌السلام لينطلق في الشام لابد لها من أن تكون أطروحة تمتلك أن تحقق ما يلي :

١. تعالج الانشقاق وما ينطوي عليه من مخاطر فكرية وسياسية.

٢. تحفظ لاهل العراق واهل الشام اختيارهم وبيعتهم.

٣. تعرِّف الشاميين أنَّهم كانوا ضحية إعلام كاذب.

٥٥٥

٤. تفرض على معاوية ان يتعامل / ولو ظاهريا ولمدة محدودة / بإيجابية مع ذكر علي عليه‌السلام بخير.

٥. تضمن اختلاط العراقيين مع الشاميين في أجواء الشفافية والمحبة والأمان ليتمكَّن العراقيون من نقل أخبار الإمامة الإلهية في علي عليه‌السلام وأخبار سيرته المشرقة وليستقبلها الشاميون دون تحسس منها مسبقا ..

٦. تحقق أجواء الأمان في الامة كلها وتطوق الفكر التكفيري وتلاحق حلقات الاغتيال التي نشات عنه.

٧. تدفع التهديد الخارجي الذي يلوح به الروم البزنطيين.

وليس من شك أن الصيغة الوحيدة للصلح التي تحقق كل الأمور الآنفة الذكر هي التنازل المشروط عن السلطة المدنية من قبل الحسن عليه‌السلام وتكوين الدولة الموحدة.

وهي أطروحة ليست صعبة على الحسن عليه‌السلام فهو أساساً إمامٌ هادٍ تهمُّه قضية الهداية والرسالة ومصلحة الأمة العامة قبل كل شيء ، والحكم القائم على بيعة الناس بالنسبة إليه / على الرغم أنه من حقه ويجبعلى الأمة أن تبايعه / لا يزيد من إمامته الإلهية شيئاً ولا ينقص منها شيئا /.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعد الحسن عليه‌السلام لهذه المهمة الإلهية بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين سبطان من الأسباط) (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). (٣)

__________________

(١) الشيخ المفيد ، الارشاد ص ١٩٩ ، الطبرسي ، اعلام الورى ص ٢١٦.

(٢) الطبراني ، المعجم الكبير ، ج ٣ ص ٣٢.

(٣) الحديث مروي بطرق مختلفة واسانيد متعددة في كتب الحديث : قال ابن كثير في البداية والنهاية ج ٦ ص ٢١٤ ـ ٢١٥ ما خلاصته : (وقد روى هذا الحديث البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والصنعانيفي المصنف والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهم كلهم عن الحسن بن ابي بكرة الثقفي ، وقال المزي في أطرافه : وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة ، وروي ايضا من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي‌الله‌عنه ،) أقول : رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج ٣ ص ٤٣٣ ، وج ٨ ص ٢٦ بسنده عن جابر. وفي الاستيعاب لابن عبد البر ج ١ ص ٢٣٠ قال : وتواترت الآثار الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في الحسن بن علي إن ابني هذا سيد وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وراه جماعه من الصحابة. وقد كتب الاستاذ حسن فرحان

٥٥٦

وكذلك هي ليس صعبة على العراقيين شيعة علي عليه‌السلام المؤمنين بمشروعه ، فهم على نهجه يحملون همَّ هداية الأمة ومؤازرة القائد الإلهي المذخور لها. وليسوا طلّاب سلطة ودنيا وقد شهد لهم علي عليه‌السلام بذلك.

قال عليه‌السلام : (وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخرة). (١)

وقال عليه‌السلام مخاطبا لهم : أنتم الأنصار على الحق ، والإخوان في الدين والجنن يوم الباس والبطانة دون الناس. (٢)

وقال عليه‌السلام : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرنَّ الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز. (٣)

ولا زالت الكلمة الرائعة التي تمثل بها الحسن عليه‌السلام حينرحل عن الكوفة بعد الصلح في حُسن ثقته بالعراقيين يحفظها التاريخ وهي قوله :

__________________

المالكي في كتابه (نحو انقاذ التاريخ الاسلامي ص ٢٤٣) يقول : (ومثلما حارب الرافضة حديث (صلح الحسن) فقد حارب النواصب (حديث عمار) ، إما بتضعيفه (رغم أنه متواتر ...) : أقول : ان عمل الحسن كان صحيحا لانه معصوم ، وكان اصلاحا حقيقتا في الامة سواء بالتحليل الذي تبنته هذه الدراسة او بالتحليل السائد اذ ان الامة قد توحد شقاها وساد الامان فيها عشر سنوات واختلط العراقيون بالشاميين وتعرفوا على سيرة علي واحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي اهل بيته ، ولم يروَّع شيعي واحد خلال هذه الفترة وانما نكث معاوية عهده مع الحسن وغدر به سنة خمسين حيث دس له السم ونقض كل شرط اشترطه. والحديث النبوي فيه نبوءة تتحققت وهداية للنصف الغربي من البلاد الاسلامية جرت على يد الحسن عليه‌السلام. نعم هناك بعض الكتاب المحدثين من الشيعة حاول تضعيف الحديث ولعل مرد ذلك الى تركيز بعض الكتاب السنة على صلح الحسن ومحاولتهم تخطئة قتال علي عليه‌السلام لاهل الشام من خلاله ، مضافا الى الغفلة عن كلمة الامام الحسن وكلمة الامام الباقر في الصلح. غير ان كلا الموفقين لا يمثلان الموقف العام لدى المدرستين.

(١) ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١٥ ص ٨١. والدينوري ، الاخبار الطوال ص ٢٧٨. ونصر بن مزاحم ، وقعة صفين ، ٤٧١.

(٢) ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٩٣. (قال ابن ابي الحديد : الجَنَن : جمع جُنة ، وهي ما يستر به. وبطانة الرجل : خواصه وخالصته الذين لا يطوى عنهم سره.).

(٣) الحموي ، معجم البلدان ج ٧ ص ١٦٠ وعن سعيد بن الوليد الهجري عن أبيه قال قال علي وهوبالكوفة ما أشد بلايا الكوفة لا تسبوا أهل الكوفة فوالله إن فيهم لمصابيح الهدى وأوتاد ذكر ومتاع إلى حين والله ليدقن الله بهم جناح كفر لا ينجبر أبدا إن مكة حرم إبراهيم والمدينة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكوفة حرمي ما من مؤمن إلا وهو من أهل الكوفة أو هوواه لينزع إليها ألا إن الأوتاد من أبناء الكوفة وفي مصر من الأمصار وفي أهل الشام أبدال تاريخ مدينة دمشق ج ١ ص ٢١٩.

٥٥٧

ولا عن قِلىً فارقتُ دارَ معاشري

همُ المانعونَ حوزتي وذماري (١)

وقد عَرَفَ ذلك للعراقيين ايضا خصمهم عبد الله بن الزبير حين قال له معاوية متشكياً : أنَّ الحسن عليه‌السلام لم يزره في المدينة إلا مرة واحدة ، وكان يتوقع أن يزوره أكثر من مرة ، قال له : والله لو شاء الحسن أن يضربك بمئة ألف سيف لفعل ، ولأهلُ العراق أبرُّ به من أمِّ الحُوار بحُوارها. (٢)

وعَرَفَ هذه الصفة لهم أيضا معاوية نفسه خلال سنوات الصلح حين انطلق أخيارهم ورموزهم من الرجال والنساء بفقه في الدين وجرأة في الحوار مع الحاكم ووفاء لعلي عليه‌السلام منقطع النَّظير يروون لأهل الشام ولغيرهم سيرة علي عليه‌السلام المشرقة وسوابقه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد شهد لهم معاوية بوفائهم لعلي ومنهجه حين قال : (هيهات يا أهل لاعراق لقد فقهكم علي فلن تطاقوا!)

وحين قال : (لقد لمظكم علي الجرأة على السلطان).

وحين قال : (واللهِ لوفاؤكم له بعد موته أعجب إلي من حبِّكم له في حياته!). (٣)

ان مشروع الهداية وحل المشكلات لا يحتاج فقط إلى قائد رسالي إلهي تسمح له نفسه بالتنازل عن حقه في الملك بمستوى ملك العراق والبلاد التابعة له لأجل الرسالة والهداية والمصلحة العامة للأمة ، بل هو بحاجة أيضا الى قناعة العراقيين بذلك واهليتهم لحمل ثقافة الولاء لعلي الى غيرهم ، وقد أثبت العراقيون أنهم كذلك حيث استجابوا (٤)

__________________

(١) ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢١٥ ، البلاذري ، انساب الاشراف ج ٣ ص ٣٦٤ وذمار الرجل هو ما يلزمه حفظه وحياطته وحمايته وعدم تضييعه بان يقاتل عنه ويقتل من اجله والا لزمه اللوم. وقد وضع الاعلام العباسي في قبال حسن ظن الحسن باهل الكوفة الرواية التي تقول : ان الحسن قال لاهل الكوفة : والله لو لم تذهل نفسي عنكم إلا لثلاث لذهلت انتهابكم ثقلي وقتلكم أبي وطعنكم في فخذي) (ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ، ج ٤ ص ٩٦) (الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ج ١ ص ١٤٩).

(٢) ابو الفرج الاصفهاني ، الاغاني ج ٩ ص ١١٩. والحُوار : ولد الناقة من وقت ولادته الى ان يفطم ويفصل.

(٣) انظر هذه الكلمات في رسالة الوافدات على معاوية تحقيق سكينة الشهابي.

(٤) هناك روايات تذكر أن حجر بن عدي خاطب الحسن بكلمات غير لائقة بعد الصلح ولكننا نرى انها

٥٥٨

للحسن عليه‌السلام وقاموا بمهمة الهداية معه كما سيأتي.

العمق الاستراتيجي للحسن عليه‌السلام والتفكير المحدود لمعاوية :

وفي ضوء ذلك يتضح الفرق الكبير بين طريقتين في التفكير :

الاولى تربط نفسها مصيريا بالسلطة ولا يهمها مصلحة الرسالة والامة في شيء ،

الثاني تربط نفسها مصيريا بمصلحة الرسالة والامة في كل شيء.

وفي قضية معالجة الانشقاق فان مثل الحسن عليه‌السلام ومعاوية ازاء ملك الامة مثل تينك المرأتين اللتين تنازعتا في ولد واصرتا فدعا علي عليه‌السلام بمنشار وقال لهما اقسمه نصفين بينكما فسكتت إحداهما قالت الأخرى : الله الله يا بالحسن إن كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها. فقال : الله أكبر هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت. فاعترفت المرأة الأخرى بأن الحق مع صاحبتها والولد لها دونها (١) ،

لقد اراد معاوية بطلبه للصلح ان يكرس انشقاق الامة لرغبته في الملك وهو غير مشروع له ،

واراد الحسن عليه‌السلام بالصيغة التي اختارها ان يعالج الانشقاق بالتنازل عن الملك وهو مشروع له ، ومنه يتضح للناس ان الحريص على مصلحة الامة هو الحسن وليس معاوية.

ومنه يتضح ايضا :

__________________

جزء من ذلك الكم الموضوع من روايات الاعلام العباسي الذي اشرنا اليه راجع البلاذري ، انساب الاشراف ج ٣ ص ٣٦٥.

(١) قال الشيخ المفيد : أن امرأتينتنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغيربينة ، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفزع فيه إلى علي عليه‌السلام ، فاستدعىالمرأتين ووعظهما وخوفهما فأقامتا على النزاع والاختلاف. فقال عليه‌السلام عند ذلك : ائتوني بمنشار. فقالت له الامرأتان ما تصنع به؟ فقال : أقده نصفين لكل واحدة منكما نصفه. فسكتت إحداهما وقالت الأخرى : الله الله يا بالحسن إن كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها. فقال : الله أكبر هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت. فاعترفت المرأة الأخرى بأن الحق مع صاحبتها والولد لها دونها. (الارشاد ص ١١٠). أقول : وهذه القضية ترويها ايضا التوراة مما قضى به النبي سليمان وانتشرت حكمته في الدنيا.

٥٥٩

أنَّ مبرر الصلح بشكل تنازل مشروط عن السلطة الذي تبلور عند الإمام الحسن عليه‌السلام ليس مرده إلى طبيعة التخاذل والضعف في شخصية الحسن عليه‌السلام كما تبنى المستشرقون ذلك اعتماداً على روايات موضوعة.

ولا إلى الخيانات والضَّعف والشك الذي عاشه جيش الحسن عليه‌السلام أو شَعبه كما تصوره لنا روايات أخرى كلها من وضع الإعلام العباسي.

بل مرده إلى تفكير موضوعي في الظرف الذي تمر به الرسالة والامة ليحفظ مصالحهما ،

اما مصلحة الرسالة فقد نهض بها علي عليه‌السلام ليكون الكتاب والسنة دون اضافة راي احد هي الدستور الحاكم في البلاد وليكون راي الحاكم في المسائل الدينية العملية الشخصية مذهبا من المذاهب يترك فيه الخيار للامة ان شاءت اخذت به وان شاءت تركته واخذت براي اخر ،

اما مصلحة الامة في زمن الحسن عليه‌السلام فهي معالجة الانشقاق الذي استحكم فيها ، وملاحقة الارهابيين الذين نغصوا العيش الامن للناس ، ومواجهة تهديد الروم على الجبهة الشمالية الشرقية.

مضافا الى ذلك ان التنازل من الحسن عليه‌السلام كان بحدود (السلطة المدنية) التي كانت له في العراق وقد جاءته ببيعة مشروعة ، اما (الامامة الدينية) التي جعلها الله تعالى له فهي غير قابلة للتنازل لانها لم تأته على اساس بيعة الناس بل جاءته بالوصية من النبي قبل ان يبايعه الناس على الحكم هذه الامامة الدينية التي يشترط فيها عصمة صاحبها لانها تترتب عليها مسؤولية حفظ الرسالة وقيادة الناس الى الله تعالى كما في قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠)) الأنعام / ٨٩ ـ ٩٠. ويترتب على الناس ان ينصروه ليقوم بمهمة حفظ الرسالة واحيائها المهمة التي نهض بها امير المؤمنين ، نظير بيعة اهل المدينة للنبي نصروه ليبلغ رسالة الله التي منعته من تبليغها قريش ، والصلح الذي قام به الحسن انما هو معالجة الانشقاق وفضح قريش معاوية الذي صد عليا عليه‌السلام عن مشروع احياء السنة في الشام ، نظير الصلح الذي قام به

٥٦٠