الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

السيّد سامي البدري

الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-499-295-7
الصفحات: ٦١٤

انعكاسا للحالة القائمة في الجيل الذي قدر للحسن أن يتزعمه في خلافته ، بما كان قد طغى على هذا الجيل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس.

وأي غضاضة على «الزعيم» إذا فَسَدَ جيلُه ، أو خانته جنودُه ، أو فقد مجتمعُه وجدانه الاجتماعي. وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا إليه كألمع سياسي يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه ، فيضع الخطط ويقرر النتائج ، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها ، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبرا قبرا ، ويمر بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح ، المرفوع الرأس بالدعوة إلى الإصلاح. ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم ترى ، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟.

وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها ، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع ، أو هي الواقع نفسه ، مدلولا عليه بالمقاييس المنطقية ، وبالدراسات النفسية ، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب ، والقاعدة التي خرج منها إلى احكامه بسهولة ويسر ، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء ...

وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتابا في أحوال الامام الحسن عليه‌السلام ، بوجه عام ، وإنما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب.

وان موضوعا من العمق والعسر كموضوعنا ، وبحثا فقير المادة قصير المدة كبحثنا ـ ونحن نتطلع إليه بعد ١٣٢٨ من السنين ـ لحري بأن لا يدُرُّ على كاتبه بأكثر مما دَرَّت به هذه الفصول ، احرص ما تكون توفرا على استقصاء المواد ، وتنسيق عناصر الموضوع ، وتهذيبها من الزائف والدخيل.

ونحن إذ نومئ إلى «فقر المادة» وأثره على البحث ، لا نعني بالمادة الا هذه «الموسوعات» التي كان بإمكاننا التعاون معها على تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق.

اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤهم في معاجم المؤلفين الأولين ، مما كتب عن قضية الحسن عليه‌السلام فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا

٢١

القديم قيد المؤثرات الزمنية ، وطعمة الضياع والانقراض أخيرا. وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الإسلام ، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة أمثال قضيتنا ـ موضوع البحث ـ. فلم نجد ـ على هذا ـ من مصادر الموضوع : كتاب (صلح الحسن ومعاوية لأحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة ٣٣٣ هجري) ، ولا كتاب [(صلح الحسن عليه السالم لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم)] ، ولا كتاب (قيام الحسن عليه‌السلام لهشام بن محمد بن السائب) ، ولا كتاب (قيام الحسن عليه‌السلام ، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة ٢٨٣ هجري) ولا (كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في أمر الحسن عليه‌السلام) ، ولا كتاب (اخبار الحسن عليه‌السلام ووفاته ، للهيثم بن عدي الثعلبي المتوفى سنة ٢٠٧ هجري) ، ولا كتاب (اخبار الحسن بن علي عليه‌السلام ، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأصفهاني الثقفي) (١) ، ولا نظائرها.

اما هذه المصادر التي قُدِّرَ لنا ان لا نجد غيرها سندا ، فيما احتاجت به هذه البحوث إلى سند ما ، فقد كان أعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسن عليه‌السلام على ان لا تتفق في عرض حادثة ، أو رواية خطبة ، أو نقل تصريح ، أو الحكم على إحصاء ، بل لا يتفق سندان منها ـ على الأكثر ـ في تأريخ وقت الحادث أو الخطبة من تقديم أو تأخير ، ولا في تعيين اسم القائد مثلا ، أو ترتيب القيادة بين الاثنين أو الثلاثة ، ولا في رواية طرق النكاية التي أريدت بالحسن عليه‌السلام في ميادينه ، أو في التعبير عن صلحه ، أو في قتله أخيرا ، ولا في كل صغيرة أو كبيرة من اخبار الملحمة ، من ألفها إلى يائها. وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر ، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.

وإذا كان من أصعب مراحل هذا التأليف ، إرجاع هذه الحقائق إلى تسلسلها

__________________

(١) تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال ، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما. وستجد معها أسماء كتب أخرى تخص موضوع الحسن عليه‌السلام في صلحه وفي مقتله ، لا نريد الإطالة باستقصائها بعد ان أصبحت أسماء بلا مسميات.

٢٢

الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الأول ، فقد كان من أيسر الوسائل إلى تحقيق هذا الغرض ، الاستعانة عليه بقرائن الأحوال ، وتناسق الأحداث ، اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع. وكان من حسن الصدف ، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح ، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها ، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة ، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلى نقص كل منها ، أدلتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق ، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق. ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور ، التي لا تستلم للنقل أكثر مما تحتكم للعقل. ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه ، إلى التصريحات الشخصية التي جاءت أدل على الغرض من روايات كثير من المؤرخين». (١) انتهى كلام العلامة الحجة الشيخ راضي آل ياسين رحمه‌الله.

ثلاث ملاحظات أساسية حول الرؤية المشهورة :

أوردتُ من كلمات ذينك العَلَمين الجليلين ما يغنيني عن ذكر أهمية البحث وصعوبته وضرورته ، وما اودُّ التعليق عليه من الكلمات التي عبرت عن مفاصل الرؤية السائدة والمشهورة ثلاث تعليقات هي :

الأولى : انها لم تميز بين سنوات الصلح العشر زمن حياة الحسن عليه‌السلام التي كانت سنوات أمان وحركة نشيطة لشيعة علي عليه‌السلام في نشر أَخبار سيرته المشرقة وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أهل بيته عليهم‌السلام ، وسنوات المحنة بعد وفاته ، السنوات التي أَعاد فيها معاوية إِعلامه الكاذب ضد علي عليه‌السلام بأشد ما يكون ، وفرض على الناس في كل مكان لعنه ، ومعاقبة المخالف وكان اشدُّ الناس ابتلاءً أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي عليه‌السلام. وليس من شك فان اكتشاف هذه الحقيقة سوف يفرض على التحليلات التي كانت قد أغفلتها ان تغير من وجهتها. ومن ابرز هذه التحليلات ان الشروط لم يلتزم بها معاوية منذ اليوم الأول ، اما الرواية التي تقول ان معاوية خطب في الكوفة في اليوم الأول من الصلح ونال من علي عليه‌السلام وهو يسمع ، وأَعلن عن ردِّه للشروط فهي

__________________

(١) آل ياسين ، الشيخ راضي ، صلح الحسن عليه‌السلام ، المقدمة ص ٢٢.

٢٣

رواية موضوعة في العهد العباسي لتشويه العمل العظيم الذي قام به الحسن عليه‌السلام نكاية بالحسنيين الثائرين من ولده عليه‌السلام على العباسيين وقد بحثناها في كتابنا هذا ، وفي تقديرنا ان قول معاوية ان صحت الرواية قد قاله بعد وفاة الحسن عليه‌السلام وبعد تعقُّبِه شيعةَ علي عليه‌السلام سجنا ونفيا وقتلا. (١)

الثانية : انطلقت الرؤية المشهورة من فكرة مفادها : انَّ الموقف المطلوب أساسا هو الحرب ، ولمَّا لم يكن للحسن عليه‌السلام / كما تصور لنا الروايات الموضوعة / جيش كفوء يعتمد عليه لإيقاف خصمه المتستِّر بالإسلام اضطُرَّ إلى الصلح لفضحه ، ثم جعلت الرؤية السائدة الاستفادة من درس صلح الحديبية هو تأسي الحسن عليه‌السلام بجده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه أَمر الصلح ، كما أنكر على الحسن صلح «ساباط» بعض الخاصة من أوليائه.

وفي تقديرنا ان الاستفادة كانت أَعمق من ذلك : إذ أَنَّ الموقف الذي أَسَّسه صلح الحديبية هو إِفهام الناس أَنَّ الحرب ليست هي القاعدة العامة لحل المشكلات والأزمات ، بل قد يكون الموقف المطلوب الذي يفتح الطريق للهداية أو لحل الأزمة المستعصية هو الصلح والتنازل المحدود المشروط. وقد استهدف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلح الحديبية هذا الموقف لتحقيق الأمان في الجزيرة العربية المقرون بفضح إعلام قريش التي كانت تدَّعي انها تعمل على احترام البيت الحرام وزوّاره وان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يحترم البيت الحرام وما يرتبط به من قوافل أهله التجارية فقد تعرض لها في الطريق وأخافها ، وقد كانت العرب في ال جاهلية تحترمها وتحرسها احتراما للبيت الحرام ، مضافا إلى هذه المكسب فقد انطلقت الاخبار الصحيحة عن سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تشق طريقها إلى الناس الذين اكتشفوا انهم كانوا مخدوعين بالإعلام القرشي الكاذب. ومن هنا رأينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج في تظاهرة كبيرة هو وأصحابه مُحرِمين يسوقون الهديَ لزيارة البيت وعرض

__________________

(١) ولنا ان نقول أيضا وهو الأصوب ان معاوية لم يكن ليعلن ذلك في أول ملكه ولما يحل بعد المشكلات الأمنية الداخلية من الخوارج والخارجية من الروم ، ومعاوية قدير على ضبط اعصابه وإخفاء حقده لوقت استقرار ملكه وحينئذ لا يعلن عن ذلك تنفيذيا ، بل يلعنه إمامة دينية وخلافة إلهية وقد وضعت روايات في حقه من قبيل ما نسبوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه دعا له (اللهم اهد به واجعله هاديا مهديا) كما سيأتي في البحث.

٢٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قريش الصلحَ فقبلت بعد تردد ورفض واشترطت أَنْ يرجع عامَه ذاك وقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ، وعرفت العرب انَّ قريشا هي التي تصدُّ عن البيت الحرام وليس محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فافتضح إعلامها الكاذب ، واختلط المسلمون مع الناس ونقلوا اليهم صورا رائعة من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الهادية وبذلك تبدلت الصورة السيئة التي إشاعتها قريش المشركة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليحي من حيَّ عن بينة ، واستجابت القبائل ودخلت الإسلام أفواجا ومن ثم سمى القرآنُ الصلحَ مع ما يحفه من التنازل ب (الفتح المبين).

والأمر نفسه تكرر مع (قريش الأبناء) بقيادة معاوية لما تخندقوا في الشام واستطاعوا ان يعبثوا الشام بإعلام كاذب وإعطاء صورة سيئة عن علي عليه‌السلام ، وكونه يطلب الملك بالحرب وسفك الدماء وانه مفسد في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغير ذلك من التهم الباطلة ، ويجئ الصلح بشروط الحسن عليه‌السلام فاضحا لمعاوية وإعلامه وفاتحا الطريق لإمامة علي عليه‌السلام الإلهية يحمل أخبارها ونصوصها النبوية التاسيسية شيعة علي عليه‌السلام من الكوفيين وغيرهم يحدِّثون بها أهلَ الشام مدة عشر سنوات من الأمان. ومن ثم فان صلح الحسن لا تبعد عنه تسمية (الفتح المبين) لما حققه من فضح معاوية وإعلامه الكاذب وانتشار اخبار سيرة علي عليه‌السلام المشرقة ومعرفة موقعه من الرسالة عبر حديث الغدير والثقلين والكساء وغيرها التي لم يكن أهل الشام قد سمعوا بها آنذاك.

وهذا الفهم هو المناسب لقول الحسن عليه‌السلام (علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي لقريش) لان نتائج الصلح هنا هي نتائج الصلح هناك ، توحدت العلة وتوحد الأثر.

الثالثة : نجح المؤلف الحجة الشيخ راضي آل ياسين رحمة الله عليه في تجلية شخصية الحسن عليه‌السلام والدفاع عنه كما يليق به إماما من أئمة الهدى ، ولكنه فيما يتعلق بأهل الكوفة وقع / في تقديرنا / تحت ضغط الاخبار الموضوعة التي استهدفت تشويههم كما استهدفت نظائرها تشويه شخصية الحسن عليه‌السلام ، وكان المترقب من دراسة مستوعبة كالتي نهض بها العلم الكبير ان تصنف الاخبار بخصوص أهل الكوفة إلى مجموعتين ، ثم ترجح احدهما بالمرجحات العلمية المعروفة عند تعارض الاخبار. وقد شخصنا ثلاثة مرجحات للأخبار المادحة وإسقاط القادحة وهي :

١. ان المصادر التي عرضت الاخبار المادحة ورواتها هي مصادر الخاصة أعني

٢٥

المصادر الشيعية والرواة الشيعة ، اما المصادر التي عرضت الاخبار الطاعنة فهي عامية ورواتها عُرِف الكثير منهم بممالئتهم لخلفاء الجور من العباسيين.

٢. ان الاخبار الطاعنة تعارضها حقيقة الأمان في السنوات العشر الأولى من الصلح إذ لم يروَّع شيعي واحد في هذه الفترة وهي حقيقة كشف عنها بحثنا الجديد هذا.

٣. ان العباسيين بعد قضائهم على ثورة الأخوين محمد وإبراهيم ولدي عبد الله بن الحسن بن الحسن المثنى (رض) اتجهوا في إعلامهم العام وجهة تسقيط الحسنيين بتشويه سيرة جدهم الحسن المجتبى عليه‌السلام فوضعوا اخبارا من قبيل : انه باع الخلافة بدراهم من اجل شهواته ، ووضعوا اخبارا أخرى تشوه سيرة الكوفيين وانهم تفرقوا عن الحسن عليه‌السلام وتفرقوا عن أبيه من قبل ، ووضعوا على لسان الحسن أحاديث تؤكد ذلك.

٢٦

صلح الحسن عليه‌السلام في الاعلام الاموي والعباسي

وروايات اهل البيت عليهم‌السلام

وجدت من الناحية التاريخية ثلاثة اطروحات عرَّفت بالحسن عليه‌السلام ودوافع صلحه ونتائجه وهي :

اطروحة الاعلام الاموي : أنَّ تنازل الحسن عليه‌السلام عن السلطة بخطة من معاوية :

لا نملك مصادر اموية تتحدث عن صلح الامام الحسن عليه‌السلام ، وانما الذي بين ايدينا مصادر عباسية تنقل عن رواة مخضرمين عاشوا العهدين العباسي والاموي امثال معمر بن راشد اليماني (ت ١٥٤ هـ) ويونس الايلي (ت ١٦٠ هـ) وعبيد الله بن ابي زياد الرصافي (ت ١٥٨ هـ) وضمرة بن ربيعة القرشي الحمصي الفلسطيني (ت ٢٠٢ هـ) الذين رووا عن الزهري قصة الصلح ، وعوانة بن الحكم (ت ١٥٨ هـ) وعثمان الطرائفي (ت ٢٠٣ هـ) ومحمد بن عبيد (ت ٢٠٢ هـ) وسفيان بن عيينة (ت ١٩٨ هـ) ، وقد نصت كتب الرجال في ترجمة عوانة بن الحكم انه كان يضع الاخبار لبني امية. ومن المؤكد ان الزهري كان يضع الاخبار لبني امية وولاتهم وقد طلب منه والي العراق خالد القسري ان يكتب السيرة ولا يذكر فيها عليا الا ان يجده في قعر الجحيم! وقد روى معمر روايات السيرة عن الزهري واوردها كاملة عبد الرزاق الصنعاني وقد جاءت خالية من ذكر علي عليه‌السلام. وفي ضوء ذلك فان قصة صلح الحسن عليه‌السلام بروايات هؤلاء عن الزهري وغيره تعكس الرؤية الاموية لا محالة. والبادئ للصلح في روايتهم هو معاوية ، وهي قضية صحيحة اساسا ، ولكن ما الذي طلبه معاوية من الحسن عليه‌السلام؟

هل طلب معاوية من الحسن عليه‌السلام ان يتنازل عن السلطة مقابل اموال يغدقها عليه؟ كما في رواية البخاري عن ابن عيينة (اعرضا عليه) اي المال. واعتمدها المؤرخون

٢٧

السلفيون الذهبي وابن كثير وغهما ، والمحدثون ، ابن حجر والعيني وغيرهما في شرحهما للبخاري وقد استنبطوا منها رافة معاوية بالمسلمين وقدرته في تدبير الملك!

ام طلب معاوية من الحسن عليه‌السلام ان توقف الحرب وان يكون الحسن عليه‌السلام حاكما في العراق والبلاد التي بايعته وان يكون معاوية حاكما في الشام والبلاد التي بايعه؟ وهو الصحيح فقد طلب معاوية ذلك من علي بعد التحكيم ، ورفضه علي ، لان معاوية باغ وحكم البغاة هو قتالهم ولا يجوز الصلح معهم الا لمفاوضات املاً بان يرجع البغاة عن بغيهم. ثم كرر الطلب معاوية بعد علي عليه‌السلام وقد انقسمت الامة باختيارها فبايعت في الشام معاوية وبايعت في العراق الحسن عليه‌السلام ، وفي ظل هذه الوضع الجديد لا يمكن لمعاوية ان يعرض على الحسن عليه‌السلام غير ما عرضه على ابيه علي عليه‌السلام في حياته بان يبقى كل على بلده الذي بايعه واعتقد بامامته ، لانه يعلم حق العلم ان عليا عليه‌السلام / ومن بعده الحسن عليه‌السلام / له مشروعه في احياء سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي عطلها الخلفاء ، وقد تبناه اهل العراق كما تبنى اهل الشام معاوية في السير على نهج عثمان والشيخين.

وقد رفض الحسن طلب معاوية ذلك لانه يؤدي الى تكريس الانشقاق في الامة وتكريس جهل اهل الشام بمشروع علي عليه‌السلام ، وعرض عليه الحسن عليه‌السلام مشروعه الذي لم يخطر في باله ، ولا بال احد من رجالاته ، عرض عليه توحيد الامة وتوحيد حكومتها بنظام يحدده الحسن عليه‌السلام وهو الكتاب والسنة دون سيرة الشيخين وبشروط اضافية من قبيل امان شيعة علي عليه‌السلام في العراق ، وان يكون الامر للحسن عليه‌السلام بعد معاوية وان لا يذكر عليا عليه‌السلام الا بخير وغير ذلك وان يكون الحاكم هو معاوية وبعد موته يكون الحسن عليه‌السلام وهكذا كان الامر لعشر سنوات حيث عاشت الامة افضل ايامها من الامان والحرية في العبادة.

لقد غيب الاعلام الاموي الانجاز العظيم للحسن عليه‌السلام الذي بشر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ان ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. وجعلوه صلحا ، كان الداعي اليه معاوية الذي بذل الاموال لسد دين الحسن عليه‌السلام ومعالجة حالات كانت بحاجة الى المال! ومن هنا كان الحسن عليه‌السلام مرضيا لدى المحدثين والسلفيين قاطبة لانه اثر حقن الدماء على الحرب مستجيبا لمعاوية الرؤوف بالمسلمين!

٢٨

اطروحة الاعلام العباسي : أنَّ الحسن عليه‌السلام تنازل عن السلطة رغبة في المال والحياة المترفة :

ثار الحسنيون على العباسيين سنة ١٤٤ هـ بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن في المدينة ثم قتل وقام من بعده اخوه ابراهيم بن عبد الله بن الحسن في البصرة ثم قتل بسهم طائش في معركة بين البصرة والكوفة ووجد العباسيون انفسهم بحاجة الى توجيه الاعلام وجهة تسقيطية للحسنيين من خلال ترويج ما اسسه الاعلام الاموي في الحسن عليه‌السلام مع تطوير واضافات تقتضيها المرحلة وكانت هذه الاضافات هي تسقيط الكوفة بوصفها قلعة المؤيدين للحسنيين وللامام الصادق عليه‌السلام وقد وضع الخليفة الدوانيقي ابي جعفر الخطوط العريضة لهذا الاعلام فقال :

... ثمَّ قام بعدَهُ الحسن بن علي عليه‌السلام ، فو الله ما كان برجل ، عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسَّ إليه معاوية إنِّي أجعلك ولي عهدي ، فخلع نفسه وانسلخ له ممَّا كان فيه ، وسلَّمه إليه وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى ، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه.

وفيما يخص الكوفيين قال :

(ثمَّ قام من بعده الحسين بن علي عليهما‌السلام ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنِّفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المدرة السوء ، / وأشار إلى الكوفة / فو الله ما هي لي بحرب فأُحاربها ، ولا هي لي بسلم فأُسالمها ، فرَّق الله بيني وبينها فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قتل.

ثمَّ قام من بعده زيد بن علي ، فخدعه أهل الكوفة وغرّوه ، فلمَّا أظهروه وأخرجوه أسلموه ، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده الله في الخروج وقال له : لا تقبل أقاويل أهل الكوفة فإنّا نجد في علمنا أنَّ بعض أهل بيتنا يصلب بالكناسة ، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب ، وناشده الله بذلك عمّي داود وحذَّره رحمه‌الله غدر أهل الكوفة ، فلم يقبل ، وتمَّ على خروجه ، فقتل وصلب بالكناسة). (١)

__________________

(١) المسعودي ، مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١ ، وكانت بوادر التحسس من الكوفيين قبل ذلك روى

٢٩

ولما قتل ابراهيم بن عبد الله بن الحسن امر المنصور ان يطاف برأسه بالكوفة سنة ١٤٥ هجرية وخطب قائلا :

(يا أهل الكوفة عليكم لعنة الله وعلى بلد انتم فيه ... سبئية (١) ، خشبية (٢) ، قاتل يقول : جاءت الملائكة وقائل يقول جاء جبريل ...

لَلَعَجَب لبني امية وصبرهم عليكم ، كيف لم يقتُلوا مقاتلتَكم ويسبوا ذراريكم ، ويخربوا منازلكم.

أما والله يا اهلَ المَدَرَة الخبيثة لئن بقيت لكم لأذلنكم). (٣)

لقد انتج الاعلامان الاموي والعباسي كمية هائلة من الروايات الكذب في قضية الصلح لم تتسبب في ظلم الامام الحسن عليه‌السلام وظلم العراقيين حسب ، بل تسببت في تشويه الرؤية الاسلامية الصحيحة في مسالة (لو بايعت الامة لحاكمين) ، وتغييب اخبار تجربة وعهد هو من اروع العهود الاسلامية بعد عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعهد الامام علي عليه‌السلام امتاز بالامان التام والحوار الصادق والتعددية المذهبية المبنية على القناعة وظهور المرجعية الدينية المستقلة عن السلطة متفرغة الى عمل الخير وتعليم الناس ، وانصراف الدولة الى وظيفتها الاساسية من تحقيق الامان داخليا وخارجيا وتوزيع الحقوق على اهلها دون التدخل في الشؤون الدينية للافراد العهد الذي تتوق اليه وتتطلع نحوه كل شعوب العالم بلا استثناء.

__________________

البلاذري في انساب الاشراف ج ٣ ص ١٥٠ ، قال : قال المدائني : (كتب ابو مسلم الى ابي العباس : أن اهل الكوفة قد شاركوا شيعة امير المؤمنين في الاسم ، وخالفوهم في الفعل ، ورأيهم في آل علي الذي يعلمه امير المؤمنين ، يؤتى فسادهم من قبلهم باغوائهم اياهم واطماعهم فيما ليس لهم ، فالحظهم يا امير المؤمنين بلحظة بوار ، ولا تؤهلهم لجوارك ، فليست دارهم لك بدار. واشار عليه ايضا عبد الله بن علي بنحو من ذلك فابتنى مدينته بالانبار وتحول اليها وبها توفي).

(١) اي اتباع عبد الله بن سبأ الذي ادعي له انه مبتدع الوصية لعلي عليه‌السلام المشابهة لوصية موسى ليوشع عليه‌السلام الذي يترتب عليها البراءة ممن تجاوز على موقعه.

(٢) في النهاية لابن الاثير : الخشبية : هم أصحاب المختار بن أبي عبيد ، ويقال لضرب من الشيعة : الخشبية. وفي المشتبه للذهبي : الخشبي : هو الرافضي في عرف السلف. أقول : وسياتي في ترجمة المختار الروايات التي وضعوها في حقه للغض من شخصيته.

(٣) البلاذري ، أنساب الاشراف ج ٣ ص ٢٦٩.

٣٠

الحسن عليه‌السلام في روايات اهل البيت عليهم‌السلام امام هدى عالج الانشقاق وفتح الطريق لهداية اهل الشام ان ارادوا الهداية :

لا بد من التمييز بين روايات اهل البيت والمصادر الشيعية التي الفت للاحتجاج باحاديث العامة عليهم فما ورد في كتاب الارشاد للشيخ المفيد في قصة اساسه روايات ابي الفرج في كتابه مقاتل الطالبيين ، وما فيه من اخبار مقتل الحسين اساسه روايات ابي مخنف في كتابه مقتل الحسين الذي رواه الطبري ، فان هذه الروايات لا يغير من واقعها رواية الشيخ المفيد لها ، فهي تبقى روايات عامية ، والذي نريده بروايات اهل البيت عليهم‌السلام هو ورودها عنهم وفي مصادر امامية معتبرة ، وفي هذا الصدد فاننا نجد صلح الحسن عليه‌السلام وشخصيته واهل الكوفة في رواياتهم بصورة اخرى تغاير ما عليه الاعلام الاموي والعباسي.

فالحسن عليه‌السلام احد الائمة الهداة المعصومين الاثني عشر الذين عينهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهداية الامة من بعده في قصة المباهلة وحديث الكساء وغيرها ، اما سيرته الشخصية فقد تحدث عنها حفيده الامام الصادق عليه‌السلام يصفه كان أعبد الناس في زمانه ، وأزهدهم وأفضلهم ، وكان إذا حج حج ماشيا ، وربما مشى حافيا ، وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى ، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها. وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، ويسأل الله تعالى الجنة ، ويعوذ به من النار.

اما دوافع الصلح عند الحسن عليه‌السلام فقد بينها بوضوح تام حين ساله ابو سعيد وقد اوردنا الرواية في اول الكتاب مستقلة ، حين قال علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي لقريش ، وبذلك وضع مقياسا دقيقا لدراسة الصلح ودوافعه واهدافه وانجازاته.

وقد ذكر الامام الباقر عليه‌السلام صلح الحسن فقال فيه : (والله لَلذي صنعه الحسن بن علي كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس والقمر).

ان هذه الصيغة من الكلام تشير الى ان : نتائج الصلح هي من سنخ الهداية التي

٣١

يقول فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : (وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي). (١)

لقد حفظ الحسن عليه‌السلام بصلحه وحدة القبلة ووحدة الكتاب الى يوم القيامة ، ثم اوصل احاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في امامة علي واهل بيته عليهم‌السلام الالهية ، واخبار سيرة علي عليه‌السلام المشرقة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده وفي الكوفة ايام حكمه ، وفتح باب الاهتداء بعلي لمن اراد من اهل الشام الى يوم القيامة فاي خير اعظم من هذا الخير!

وقد انطلق البحث في هذا الكتاب من قول الامام الحسن عليه‌السلام نفسه وانتهى الى الخير الذي انتجه الصلح واشارت اليه رواية الامام الباقر عليه‌السلام.

__________________

(١) الكليني ، الكافي ، ج ٥ ص ٢٨. الطوسي ، تهذيب الاحكام ج ٦ ص ١٤١.

٣٢

الرؤية الجديدة

اما النتائج الجديدة فتتعلق بوضع أهل الكوفة في السنوات العشر من الصلح حيث كانوا امنين ولم يروع شيعي واحد منهم بسبب ولائه لعلي بل الفرصة متاحة لهم لينشروا ما وعوه وحملوه عن علي عليه‌السلام من علم وسيرة مشرقة بين أهل الشام ، هذا في قبال الرؤية السائدة التي تقول ان معاوية اعلن عن نقضه لشروط الحسن منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الكوفة وانه بدأ بترويعهم وملاحقتهم.

اما الرؤية الجديدة في مبررات الصلح فخلاصتها : ان الحسن كان قد صالح عن قوة وليس عن ضعف فهو أشبه بصلح الحديبية بل امتداد له في الهدف والأسلوب ، وتوضيح ذلك :

ان معاوية بعد ان بايعه أهل الشام بادر يطلب الصلح من الإمام الحسن الذي بايعه أهل العراق حاكما خلفا لابيه علي وهو ان يبقى الحسن عليه‌السلام على البلاد التي بايعه أهلها وهو النصف الشرقي للبلاد الإسلامية ، وان يبقى معاوية على النصف الغربي من البلاد الإسلامية حيث بايعه أهلها على الحكم.

ومبررات هذا الصلح واضحة لدى معاوية فهو بين ضغط حلقات الخوارج الخفية من الداخل التي تستهدف اغتياله وضغط الروم على الحدود الشمالية الشرقية وجيشهم على أهبة الاستعداد لغزو الشام ، ولم يكن معاوية ليجمد شن الغارات على أطراف علي دون مكسب سياسي يسجله لصالحه ، ومن هنا عرض على الحسن / وقد عبأ جيشه للقتال مضافا إلى تعبئة أبيه علي عليه‌السلام / لكي يؤمّن جهته بالمصالحة ويتفرغ للمشكلتين الآنفتي الذكر.

فكان امام الحسن عليه‌السلام احد خيارين :

٣٣

الأول : قبول أطروحة الصلح بالصيغة التي عرضها معاوية واهم مبررات قبولها بالنسبة للحسن عليه‌السلام هو تجميد الصراع مع معاوية ليتفرغ للإرهاب الداخلي هذا هو التفكير الباده لمن يهمه بناء دولة وحكم خاص به. ولكن هذا الخيار يكرس الانشقاق الأموي مع إعلامه الكاذب في علي عليه‌السلام إذ يعرضه رأس الفساد والإلحاد في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما هو رأس مشروع الهداية في المجتمع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثاني : رفض الصلح واللجوء إلى الحرب بصفته وارث مشروع أبيه علي مشروع إحياء السنة النبوية في مجتمع الفتوح الذي حرم منها ، المشروع الذي نجح في النصف الشرقي من البلاد الإسلامية وصارت الكوفة مركزا له ، وانغلقت البلاد الغربية عنه وتحولت الشام إلى مركز يعمل على تطويقه ووأده ، لإحياء المشروع القرشي بقيادة أموية فكانت معركة الجمل في البصرة بتخطيط أموي وتنفيذ قرشي ومعركة صفين في الشام التي اعد لها معاوية عدتها منذ سنين ، ثم نتجت عنها معركة النهروان في العراق ، وهذا نظير تحول مكة في بدء الإسلام إلى مركز يصد عن دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بقيادة أموية فكانت معركة بدر التي قادت إلى معركة احد وهي انتجت معركة الخندق.

ولكن الحسن عليه‌السلام وهو العارف بحكمة الحرب والصلح في دين جده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أدرك ان خيار الحرب ليس بصالح مشروع أبيه علي عليه‌السلام ، والسر في ذلك هو ان الحرب بين علي عليه‌السلام ومعاوية قد أفرزت إعلاما أمويا كاذبا في حق علي عليه‌السلام تحول إلى معتقد لدى أهل الشام ومن ثم فان خيار الحرب سوف لن يؤدي إلا إلى مزيد من الإعلام الكاذب في حق علي عليه‌السلام ثم إلى مزيد من التكريس لمعتقد أهل الشام الخاطئ فيه ، ومن ثم مزيد من الحجب عن مشروع علي الإحيائي للسنة النبوية.

تماما كما كان الأمر بين النبي وقريش فلم يكن خيار النبي ان تستمر الحرب مع قريش بعد معركة الخندق مع ان قريشا وحلفاءها قد انهزموا شر هزيمة ، وذلك لان الحرب بين النبي وقريش قد أفرزت إعلاما قرشيا كاذبا في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحول إلى معتقد لدى العرب المتحالفة مع قريش ومن ثم فان الحرب سوف لن تزيدهم إلا تكريسا لإعلامهم الكاذب ثم تكريسا لمعتقدهم الخاطئ في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالتالي لن تزيدهم الحرب الا بعدا عن الهداية التي بعث النبي لأجلها.

٣٤

وكما عدل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيار الصلح بوصفه الحل الوحيد لقلب المعادلة مع قريش وفتح الطريق أمام مشروع الهداية الذي جاء به كذلك لا بد للحسن عليه‌السلام ان يعدل من خيار الحرب إلى الصلح بوصفه الأسلوب الوحيد لقلب المعادلة مع معاوية وفتح الشام لمشروع الهداية الذي نهض به علي عليه‌السلام ، ولكنه صلحٌ بصيغة جديدة لا تمت إلى الصيغة التي عرضها معاوية بصلة ، بل هو صلح يستمد روحه وهدفه وفلسفته من صلح جده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش حين اوضح للقبائل المتحالفة مع قريش بما لا يقبل الشك ان قريشا هي التي تصد عن بيت الله وليس محمدا كما كانت تزعم في إعلامها الكاذب ، وان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعظم بيت الله ودين إبراهيم بما لم يعظمه به احد من العرب ولا من قريش آنذاك.

وكذلك الحسن عليه‌السلام في صلحه فانه يريد ان يوضح لأهل الشام بما لا يقبل التأويل ان معاوية ومن قبل الخلفاء الثلاثة كان يصدون عن سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو واضح في قصة حج التمتع ، بل ان معاوية وأباه كانا على رأس من يصد عن دعوة النبي ويقاتله وانَّ عليا هو الذي إحيا سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو واضح في قصة حج التمتع بل لعلي مواقف وتاريخ يكشف عن اتباعه للنبي ونصرته له بما لا يضاهيه احد من المسلمين.

وهكذا فاجأ الحسن عليه‌السلام خصمَه معاوية بصيغة صلح لم تدُر في خَلَدِه بل لم يكن تكوينه الجشع ورغبته الجامحة للسلطة وأصوله الجاهلية لتسمح له ان يفكر بها ، استمد الحسن روح صلحه المبتكر وشروطه من تجربة جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلح الحديبية مع قريش وهي تجربة مبتكرة أيضا إذ لم يكن يدر في خلد قريش / لحميتها الجاهلية / ان يقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لمصالحتها بعد ان سجل انتصارا ساحقا في معركة الخندق ، وحقق الحسن بذلك فتحا مبينا بكل معنى الكلمة كما حقق النبي (ص) في صلحه فتحا مبينا بكل معنى الكلمة ، وقد تمثل هذا الفتح المبين لعلي بالصلح الحسني كما تصوره الرؤية الجديدة :

ـ بفضح معاوية أمام أهل الشام / جنده المطيع له طاعة مطلقة / بانه كان ظالما لعلي في قتاله إياه وانه كان يقاتله من اجل الملك وليس من اجل مبدأ أو الأخذ بثار دم عثمان كما كان يزعم.

ـ اتضاح حقيقة علي عليه‌السلام انه لم يكن الذي كان منه منازعة في سلطان أو لالتماس

٣٥

شيء من فضول الحطام بل كان لأجل المظلومين من عباد الله وإحياء سنة النبي التي عطلتها وحرفتها سلطة قريش المسلمة قبل علي عليه‌السلام.

ـ توحيد شِقَّي البلاد الإسلامية واختلاط العراقيين مع الشاميين من موقع المحبة والشفافية.

ـ إرجاع هيبة الأمة في قلوب أعداءها / الروم الشرقيين على الجبهة الشمالية الشرقية / الذين كانوا قد اعدوا العدة للهجوم على الأمة بعد ان أكلتهم الحروب الداخلية.

ـ إنقاذ الكوفة عاصمة مشروع النهضة الإحيائية لعلي عليه‌السلام ومركز رجالاتها من إرهاب داخلي كانت على أبوابه يتبنى أسلوب الاغتيال قام به الخوارج التكفيريون وقد نفذوه أولاً في علي عليه‌السلام. ومن ثم انطلاقة الكوفيين لنشر أخبار هذه النهضة وموضوعها في أهل الشام.

وساد الأَمان في الأُمة كلِّها عشر سنوات بعد توقيع وثيقة الصلح ، وبرز الحسن عليه‌السلام مرجعا دينيا الهيا ومن قبله أبوه علي عليه‌السلام ومن بعده وأخوه الحسين نصت عليهم الأحاديث النبوية ، ليأخذ عنهم دين الله الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا ، وعرف الشاميون وغيرهم من عبادة الحسن وعلمه وحسن خلقه وكرمه واهتمامه بقضاء حوائج الناس ما جعلهم يذكرون به أباه عليه وجده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم غدر معاوية بالحسن عليه‌السلام بعد عشر سنوات غدراً مبيناً حين دشَّ له السم ونقض شروطه ولاحق شيعة العراق بما هو معروف وواضح في كتب التاريخ.

وخرجت الرؤية الجديدة بحقيقة أخرى وهي ان الروايات التي تسببت في تكوين الرؤية المشهورة هي روايات أصولها أموية وفروعها عباسية تبناها الإعلام العباسي ليواجه بها خصمين كبيرين للعباسيين كانا ينغصان عليهم رغبتهم في استمرار ملكهم وحفظ ولاء الأمة لهم ، هذا الخصمان هما :

ـ الحسنيون الثائرون الذين يملكون الشعبية في قبال بني العباس لكونهم ذرية المصلح الكبير الحسن صاحب الفتح المبين في إنقاذ الأمة من سفك الدماء بطريقة بارعة تكشف عن جدارة خاصة بحكم الأمة ورعايتها ، ويملكون الشرعية لان العباسيين كانوا قد اعطوا بيعة مسبقة لزعيم الحسنيين محمد بن

٣٦

عبد الله بن الحسن في مؤتمر عام لبني هاشم وقد انتشر خبر هذا المؤتمر والبيعة في المجتمع.

ـ مرجعية الإمام الصادق عليه‌السلام التي تقوم على فكرة إمامة علي عليه‌السلام وأهل بيته المعصومين بوصية من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذه المرجعية آخذة بالتوسع والنمو.

ـ وكانت الكوفة هي القاعدة الشعبية لكلا الخصمين.

وفي ضوء ذلك لم يكن أمام العباسيين الحاكمين / لضمان استمرار ملكهم / الا ان يحذوا حذوَ الأمويين بتحريف تاريخ خصومهم / الحسنيين ، الكوفة ، الشيعة / وتحويل حسناتهم وامتيازاتهم إلى عار يلاحقهم ابد الدهر بروايات كذب يضعونها فيهم ليربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير.

فهل هناك عار في تاريخ الحسنيين كعار أَبيهم الحسن عليه‌السلام / كما عرضه الإعلام الأموي والعباسي / تبايعه الأمة على الحكم ثم يبيعه إلى معاوية بدراهم يُغدِقُها فيما بعد على محظياته يتزوج واحدة ويطلق أخرى؟ وهل تكون ذريةُ مثل هذا الإنسان جديرة بحكم الأمة؟.

وهل هناك عارٌ كعارِ الكوفة / كما عرضه الإعلام العباسي / تدعو الحسين عليه‌السلام لنصرته ثم تخذِلُه ثم تقتُله ثم تحمل رأسه ورؤوس أصحابه هدية إلى يزيد مقرونة بسوق أُسرة الحسين سبايا ، الحال التي يرق لها يزيد فتدمع عيناه ويلعن الكوفة وأَميرَها ابنَ مرجانة؟ ويقول انه لو كان صاحبه أي الحسين ما صنع به ذلك!.

وهل هناك عارٌ كعارِ الشيعة الأوائل من صحابة وتابعين / كما عرضه الإعلام العباسي / استجابوا لعبد الله بن سبا يهودي مزعوم من أهل اليمن اسلم على عهد عثمان ليتلقوا منه عقيدتهم بعلي إماما الهيا شبيها بإمامة هارون ويوشع بن نون؟

ثم عالجوا مرجعية الإمام الصادق عليه‌السلام بأَمرين :

الأول : تبنّي مرجعية مالك بن انس وفرضها على الناس ، وتبنّي طلابه ليكونوا قضاة وأَئمة جمعة.

الثاني : إِشاعة الشك في مرويات الإمام الصادق عليه‌السلام وتضعيف شخصيته وسلب الوثاقة عنه.

٣٧

قال ابن سعد : (جعفر بن محمد كثير الحديث ويستضعف).

وقال يحيى بن سعيد القطان : (مجالد احب إلي منه (أي من الصادق) وقال الذهبي يعلق على كلام القطان وهذه زلقة من ابن القطان.

هذا مع ملاحقة أصحابه وسجن الإمام من بعده ولده الكاظم عليه‌السلام.

وفي ضوء ذلك كله فان ظهور هذا الكم الهائل من الروايات الطاعنة في الإمام الحسن وفي الكوفة وفي الشيعة يكون طبيعيا وكما تفرضه طبيعة الأشياء ولا نحتاج معه إلى بحث أسانيد هذه الروايات الطاعنة مع وجود الروايات المادحة وذلك لان هذا المبرر / وهو حقيقة تاريخية ثابتة / وحده كافٍ في إسقاطها جملة وتفصيلا. ومع ذلك فإننا لم نغفل بعض الأسانيد لأجل تقديم شاهد آخر على صحة الأطروحة.

٣٨

أبواب البحث وفصوله

قسمت البحث إلى أربعة أبواب واربعة وعشرين فصلا :

تناولت في الباب الأول :

الرؤية السائدة اليوم في تعليل الصلح وقد جعلتها في فصلين.

كرست الفصل الأول لأقوال المستشرقين ان الحسن شخصية منهارة كان هدفه من الصلح هو الحصول على مال يؤمِّن له حاجات حياته المترفة ويلبي طلبات زوجاته الكثيرات.

وكرست الفصل الثاني لأقوال الإسلاميين من القدامى والمحدثين ان الكوفيين ضعفاء متخاذلون مع وجود خط في الكوفة يفكر في تسليم الحسن لمعاوية فاضطر الحسن لمصالحة معاوية وتسليمه الحكم في العراق ليحافظ على حياته وانتهى البحث في هذا الباب إلى ان وجهة النظر بقسميها تستند إلى روايات في تاريخ الطبري وانساب الأشراف للبلاذري وطبقات ابن سعد وتاريخ دمشق لابن عساكر وغيرها من مصادر التاريخ الإسلامي المعتبرة وبعض هذه الروايات ينسب إلى الحسن عليه‌السلام نفسه.

وتناولت في الباب الثاني :

الرؤية الجديدة التي تنبهتُ إليها من خلال قول الامام الحسن عليه‌السلام نفسه حين قال : (ان علة مصالحته لمعاوية علة مصالحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقريش) وبالتالي فإنَّ السبب الوحيد للصلحين هو واحد ، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجبة له ثم وحدة الموقف إزاءه ثم وحدة النتائج المترتبة. ولم تنطلق الرؤية الجديدة من هذه الرواية حسب بل كانت لها شواهد وروايات كثيرة تؤكدها. وقد تم بحث ذلك من خلال ثمانية فصول.

٣٩

كرست الفصل الأول لبحث خلفيات الصلح وظرفه الموجب للصلح بالصياغة الحسنية.

وكرست الفصل الثاني للسنوات العشر من الصلح من سنة ٤١ هـ إلى سنة ٥١ هـ لبيان معالم الفتح المبين للصلح حيث عادت للامة وحدتها واختلط الناس بعضهم ببعض وانطلق العراقيون امنين يحدثون أهل الشام بأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام عن سيرته المشرقة وكيف عرف أهل الشام ان معاوية كان ظالما لعلي وان الحق مع علي في حروبه وان عليا امتداد للنبي في إمامته الهادية وعرضت نماذج من نشاطات أصحاب الحسن وحواراتهم مع معاوية.

وعقدت الفصل الثالث بمبحثين الأول تناول نشاطات الامام الحسن عليه‌السلام في سنوات الصلح والثاني يبحث عن مراحل سير الحسن منذ ولادته والى وفاته لاستكمال الصورة عن شخصية الحسن عليه‌السلام.

وكرست الفصل الرابع لبحث الغدر المبين الذي قام به معاوية وأهل الشام في السنوات العشر التالية بعد وفاة الحسن عليه‌السلام بدءا بدس السم للحسن عليه‌السلام.

وكرست الفصل الخامس لهوامش على موارد من كتاب صلح الامام الحسن عليه‌السلام للعلامة الحجة الشيخ راضي آل ياسين.

وكرست الفصل السادس لبحث مسار الإمامة الدينية التي أسس الحسن عليه‌السلام بصلحه فصلها عن السلطة الزمنية وكيف ان الله تعالى قد حصر الإمامة الدينية بأنبيائه وأوصياءه اما السلطة الزمنية ففي زمن النبي وأوصياءه تكون لهم ، وكيف ان قريش اغتصبت السلطة الزمنية ممن هي حقه بالنص ومارست إلى جانب ذلك الإمامة الدينية مما أدى إلى تعطيل السنة وتحريفها وكيف ان عليا عليه‌السلام نهض لإحياء السنة وفتح الطريق لإمامته الدينية التي أمر بها الله ورسوله.

وكرست الفصل السابع لدراسة ظرف صلح الحديبية ومقارنته مع ظرف صلح الحسن واكتشاف وحدتهما كما أشار الامام الحسن عليه‌السلام إلى ذلك ، ثم بيان وحدة الموقف المترتب على وحدة الظرف ووحدة الآثار التي ينتجها الموقف الموحد ثم وحدة التسمية بالفتح المبين.

٤٠