الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

السيّد سامي البدري

الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-499-295-7
الصفحات: ٦١٤

كتابه (الأحداث) قال :

[كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمَّاله بعد عام الجماعة.

(أن برئت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أب تراب وأهل بيته).

فقالمت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليَّاً عليه‌السلام ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته.

وكان أشدَّ الناس بلاءً حينئذ أهلُ الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي عليه‌السلام فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي عليه‌السلام فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم وقَطَّع الأيدي والأرجل وسَمَّلَ العيون وصلَّبهم على جذوع النخل وطردهم وشرَّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاوية إلى عُمَّاله في جميع الآفاق :

(ألَّا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة).

وكتب إليهم : (أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكلِّ ما يروي كلَّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته).

ففعلوا ذلك حتَّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكِساء والحِباء والقَطائع ، ويفيضه في العرب مهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيءُ أحد مردود من الناس عاملاً من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلَّا كتب اسمه وقرَّبه وشفَّعه فلبثوا بذلك حيناً.

ثم كتب إلى عُمَّاله :

(إنَّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفَشا في كل مِصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلَّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ وأقرُّ لعيني وأدحض لِحُجَّة أبي تراب وشيعته وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله).

٣٦١

فقُرئت كتبه على الناس فرُويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.

وجَدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتَّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وأُلقِيَ إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتَّى رووه وتعلَّموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان :

(انظروا من قامت عليه البيِّنة أنَّه يحبُّ عليَّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه).

وشفع ذلك بنسخة أُخرى :

(من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به واهدموا داره).

فلم يكن البلاء أشدُّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيَّما بالكوفة ، حتَّى إنَّ الرجل من شيعة علي عليه‌السلام ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرَّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتَّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة لَيَكْتُمَنَّ عليه).

قال ابن ابي الحديد :

فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر.

ومضى على ذلك الفقهاء والقضا والولاة.

وكان أعظم الناس في ذلك بليَّةً القُرّاء المُراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرِّبوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل.

حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلُّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حق ولو علموا أنَّها باطلة لما رووها ولا تديَّنوا بها. (١)

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١١ ص ٤٥ ـ ٤٦. وتكملة الرواية قال : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه‌السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلَّا وهو خائف

٣٦٢

قال ابن أبي الحديد : وقد روي أنَّ أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام قال لبعض أصحابه : يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيَّانا وتظاهرهم علينا وما لَقِيَ شيعتنا ومحبونا من الناس ...

وكان عُظْمُ ذلك وكُبْرهُ زمنَ معاوية بعد موت الحسن عليه‌السلام.

فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطِّعت الأيدي والأرجل على الظِّنة.

وكان من يُذْكَر بحبِّنا والانقطاع إليه سُجِنَ أو نُهِب مالُه ، أو هُدِمَت دارهُ ، ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيد الله قاتل الحسين عليه‌السلام.

ثم جاء الحجَّاج فقتلهم كلَّقتلة وأخذهم بكلَّ ظنَّة وتهمة ، حتَّى إنَّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال له شيعة علي.

وحتَّى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنَّها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممَّن لم يُعرَف بكذب ولا بقلة ورع. (١)

أقول :

ومن الغريب أنَّ ابن أبي الحديد بعد أن يورد ذلك كله يعقِّب عليه بقوله :

(واعلم أنَّ أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة. فإنَّهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم ، حملهم على وضعها عداوة خصومهم ، نحو :

حديث (السطل). وحديث (الرمانة). وحديث (غزوة البئر) التي كان فيها

__________________

على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه‌السلام وولي عبد الملك بن مروان فاشتدَّ على الشيعة وولَّى عليهم الحجَّاج بن يوسف فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي عليه‌السلام وموالاة أعدائه وموالاة من يدَّعي من الناس أنَّهم أيضاً أعؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم وأكثروا من الغضِّ من علي عليه‌السلام وعيبه والطعن فيه والشنآن له حتى إنَّ إنساناً وقف للحجَّاج ويقال أنَّه جدُّ الأصمعي (عبد الملك بن قريب) فصاح به أيُّها الأمير إنَّ أهلي عقُّوني فسمُّوني عليَّاً وإنِّي فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجَّاج وقال : للطف ما توسَّلت به قد ولَّيتك موضع كذا. انظر أيضاً سليم بن قيس : كتاب سليم بن قيس ، تحقيق الانصاري قح ١٤٢٢ هـ ، ج ٢ / ٧٨١ ، ٧٨٤ ـ ٧٨٨.

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١٥ / ٤٣ ـ ٤٤.

٣٦٣

الشاطين وتعرف كما زعموا بـ (ذات العلم). وحديث (غسل سلمان الفارسي وطي الأرض). وحديث (الجمجمة) ، ونحو ذلك.

فلمَّا رأت البكرية ما صنعت الشيعة ، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث :

نحو (لو كنتُ متخذاً خليلاً) ، فإنَّهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء.

ونحو (سد الأبواب) فإنَّه كان لعلي عليه‌السلام فنقلته البكرية إلى أبي بكر.

ونحو (ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان). ثم قال : (يأبى الله تعالى والمسلمون إلَّا أبا بكر) ، فإنَّهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه : (آئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلُّون بعده أبداً) ، فاختلفوا عنده. وقال قوم منهم ، لقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله.

ونحو حديث : (أنا راض عنك فهل أنت عنِّي راض!). ونحو ذلك ...

فلمَّا رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث ، فوضعوا :

حديث (الطوق) ، الحديث الذي زعموا أنَّه جعله في عنق خالد.

وحديث (اللَّوح) ، الذي زعموا أنَّه كان في غدائر الحنفيَّة أُمِّ محمد.

وحديث (لا يفعلن خالد ما آمر به).

وحديث (الصحيفة) ، الَّتي علِّقت عام الفتح بالكعبة.

وحديث (الشيخ) ، الَّذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر ، فسبق الناس إلى بيعته.

وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأوَّلين وكفرهم.

فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في عليّ عليه‌السلام وفي ولديه.

ونسبوه تارةً إلى ضعف العقل ، وتارةً إلى ضعف السياسة ، وتارةً إلى حبِّ الدُّنيا والحرص عليها.

ولقد كان الفريقان في غنية عمَّا اكتسباه واجترحاه.

ولقد كان في فضائل علي عليه‌السلام الثابتة الصحيحة ، وفضائل أبي بكر المحقَّقة المعلومة ما يغني عن تكلُّف العصبية لهما ، فإنَّ العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل

٣٦٤

إلى ذكر الرذائل ، ومن تعديد المحاسن إلى تعديد المساوي والمقابح. ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى وحبِّ العصبيَّة ، وأن يجرينا على ما عوَّدنا من حبِّ الحقِّ أين وجد وحيث كان ، سخط ذلك من سخط ، ورضى به من رضى بمنَّه ولطفه. (١)

أقول :

ليس من شك أنَّ قول ابن أبي الحديد هذا مجانب للصواب ، إذ أنَّ البادئ بوضع الحديث وتشجيع الناس عليه هو معاوية كما مرَّت الأخبار التي رويناها عن ابن أبي الحديد نفسه. وذلك لما انتشر عند أهل الشام في السنوات العشر من صلح الحسن عليه‌السلام من حديث الغدير ، وحديث الثقلين ، والمباهلة ، والدار ، والكساء ، والمنزلة ، والمؤآخاة ، وخيبر ، وأُحد ، وحديث بريدة بن الحصيب لمَّا جاء برسالة خالد بن الوليد من اليمن ، يقع فيها في علي عليه‌السلام ، وغيرها وأيضا ما ورد في حقِّه من القرآن.

قال ابن أبي الحديد : قد روى ابن عرفة المعروف بابنِ (نفطويه) (٢) ، وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم في تاريخه ، قال : إنَّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة أُفتعلت في أيّام بني أُمية ، تقرُّباً إليهم بما يظنُّون أنَّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم. (٣)

وقال أبو جعفر الإسكافي (ت ٢٢٠ هـ) (٤) :

إنَّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جُعَلّا يُرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير. (٥)

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١١ ص ٤٩٥٠.

(٢) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٥ ص ٧٥ : هو الإمام الحافظ النحوي العلامة الإخباري إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان العتكي الأزدي الواسطي ولد سنة ٢٤٤ هـ وتوفي سنة ٣٢٣ هـ صاحب التصانيف وكان ذا سنَّة ودين من تصانيفه (تاريخ الخلفاء).

(٣) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج ١١ ص ٤٤.

(٤) قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج ٥ ص ٤١٦ : محمد بن عبد الله أبو جعفر الإسكافي أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين له تصانيف وكان الحسين بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلّم معه ويناظره.

(٥) ومرَّة الهمداني والأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع وأبو وائل شقيق بن سلمة وأبو عبد الرحمن

٣٦٥

نموذجان من حديث عروة في ذم عليّ عليه‌السلام :

روى الزهري أنَّ عروة بن الزبير حدَّثه قال : حدثتني عائشة قالت : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل العباسو علي فقال : يا عائشة إنَّ هذين يموتان على غير ملَّتي أو قال ديني.

وروى عبد الرزاق عن معمَّر قال : كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي عليه‌السلام فسألته عنهما يوماً ، فقال : ما تصنع بهما وبحديثهما الله أعلم بهما إنِّي لأتهمهما في بني هاشم.

قال ابن أبي الحديد : فأمَّا الحديث الأوّل فقد ذكرناه.

وأمَّا الحديث الثاني فهو : أنَّ عروة زعم أنَّ عائشة حدَّثته ، قالت : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل العباس وعلي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عائشة إن سَرَّكِ أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا ، فنظرتُ فإذا العباس وعلي بن أبي طالب. نموذج من حديث عمرو بن العاص في علي عليه‌السلام :

وأمَّا عمرو بن العاص فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : (إنَّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنَّما وليي الله وصالح المؤمنين). (١)

__________________

السُّلمي القاري وقيس بن حازم وسعيد بن المسيِّب والزُّهري ومكحول وحريز بن عثمان وغيرهم. (ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ٤ ص ٦٧ ـ ١١٠).

(١) احمد بن حنبل ، مسند احمد ج ٤ ص ٢٠٣ ، مسلم بن الحجاج ، صحيح مسلم ج ١ ص ١٩٧ والسند مسلم هو حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن عمرو بن العاص ، وفي صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٢٣٣ ، حدثنا عمرو بن عباس حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم ان عمرو بن العاص قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهارا غير سر يقول إن آل أبي قال عمر وفي كتاب محمد بن جعفر بياض ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين. زاد عنبسة بن عبد الواحد عن بيان عن قيس عن عمرو بن العاص قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن لهم رحم أبلها ببلاها يعني أصلها بصلتها. قال أبو عبد الله ببلاها كذا وقع وببلاها أجود وأصح وببلاها لا اعرف له وجها.

قال ابن حجر في فتح الباري ج ١٠ ص ٤٢٣ : قال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين : كان في أصل حديث عمرو بن العاص أنَّ آل أبي طالب فغيِّر إلى أبي فلان كذا جزم به .... وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الإنحراف عن

٣٦٦

نموذج من حديث أبي هريرة في ذم عليّ عليه‌السلام :

وأمَّا أبو هريرة فروي عنه الحديث الذي معناه أنَّ عليَّاً عليه‌السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأسخطه ، فخطب على المنبر وقال : لاها الله لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله أبي جهل ، إنَّ فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها فإنْ كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد أو كلاماً هذا معناه. (١)

قال ابن أبي الحديد : هذا الحديث مخرَّج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري. (٢)

٤. ما رواه سليم بن قيس في كتابه

قال سليم بن قيس :

إنَّ معاوية مرَّ بحلقة من قريش ، فلمَّا رأوه قاموا إليه غير عبد الله بن عباس فقال له : يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلَّا لموجدة عليَّ بقتالي إيَّاكم

__________________

علي وآل بيته ،

قال ابن حجر : أما قيس بن أبي حازم فقال : يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد حتى قال إبن معين : هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال : له أحاديث مناكير وأجاب من أطراه بأنَّها غرائب وإفراده لا يقدح فيه ومنهم من حمل عليه في مهبه وقال : كان يحمل على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين وأجاب من أطراه بأنَّه كان يقدِّم عثمان على علي فقط ، قلت : والمعتمد عليه أنَّه ثقةٌ ثبتٌ مقبولالرواية وهو من كبار التابعين سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه وقد روى عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما كوفيان ولم ينسبا إلى النصب ، لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب. أقول : لم يذكر هذه المعلومة في تهذيب التهذيب ولا في تقريبع ، قال أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل ٦ / ٤٠١ هو عنبسة بن عبد الواحد وهو ابن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص الأموي القرشي أبو خالد الأعور كوفي سمع بيانا وعبد الملك بن عمير. قال الخطيب في تاريخ بغداد ١٢ / ٢٧٨ : قدم بغداد وحدث بها عن عبد الملك بن عمير ، ويونس بن عبيد ، وهشام بن عروة ، ومالك بن مغول ، وأبي شيبة الخراساني ، وعوف الأعرابي ، وأمَّا عمرو بن العاص وإن كان بينه وبني علي ما كان فحاشاه أن يتهم. (انتهى كلام ابن حجر).

(١) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ج ٤ ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) البخاري ، صحيح البخاري ج ٤ ص ١٣٦٤ ، مسلم بن الحجاج الثقفي ، صحيحي مسلم ج ٤ ص ١٩٠٣.

٣٦٧

يوم صفين ، يا ابن عباس إنَّ ابن عمِّي عثمان قُتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فعمر بن الخطَّاب قد قتل مظلوماً فَسَلِّم الأمر إلى ولده ، وهذا أبنه؟!.

قال : أنَّ عمر قتله مشرك.

قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟

قال : قتله المسلمون!

قال : فذلك أدحض لحُجَّتك ، إنْ كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلَّا بحث.

قال : فإنَّا قد كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليَّ وأهل بيته ، فكُفّ لسانك يا ابن عباس واربَع على نفسك.

قال : أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال : لا.

قال : أفتنهانا عن تأويله؟ قال : نعم.

قال : فنقرأه ولا نسأل عمَّا عنى الله به؟ قال : نعم.

قال : فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال : العمل به.

قال : فكيف نعمل به حتَّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

قال سل عن ذلك من يتأوَّله على غير ما تتأوَّله أنت وأهل بيتك.

قال : إنَّما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟! ...

قال : فارقؤوا القرآن ولا ترووا شيئا ممَّا أنزل الله فيكم وممَّا قال رسول الله فيكم وارووا ما سوى ذلك!

قال ابن عباس : قال الله في قرآنه : (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢)) التوبة / ٣٢.

قال معاوية : يا ابن عباس اكفني نفسك وكُفَّ عنّي لسانك ، وإنْ كنت لابدَّ فاعلاً فليكن ذلك سرَّاً ولا يسمعه أحدٌ منك علانية (١)!

أقول : إنَّ هذه المحاورة قد جرت في المدينة سنة (٥٥ هجـ) بعد رجوع معاوية من

__________________

(١) سليم بن قيس الهلالي ، كتاب سليم ج ٢ ص ٧٨٣ ـ ٧٨٤.

٣٦٨

الحج الذي أقامه لتلك السنة؟

وقد جرت قبل ذلك في مكة محاورة أخرى بينه وبين سعد بن أبي وقاص رواها النسائي (ت ٣٠٣ هـ) صاحب السنن قال :

أخبرنا محمد بن المثنى قال : أخبرنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا بكر بن مسمار قال : سمعت عامربن سعد يقول :

قال معاوية لسعد بن أبي وقاص : ما يمنعك أنْ تسب ابن أبي طالب؟

قال : لا أسبُّه ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن يكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم.

ما أسبُّه : ما ذكرتُ حين نزلت (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال : رب هؤلاء أهل بيتي وأهلي.

ولا أسبُّه : ما ذكرت حين خلَّفه في غزوة غزاها قال علي : خلفتني مع الصبيان والنساء؟ قال : أولا ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبوة بعدي.

وما أسبُّه : ما ذكرت يوم خيبر حين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأعطينَّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويفتح الله بيده ، فتطاولنا ، فقال : أي علي؟ فقالوا : هو أرمد ، قال : ادعوه ، فبصق في عينيه ثم أعطاه الراية ، ففتح الله عليه.

فوالله ما ذكره معاوية بحرف حتَّى خرج من المدينة. (١)

أقول : وقد كانت هذه المحاورة قبل صدور قرار معاوية إلى ولاته بسبب علي على المنابر ، وكان هدفه من هذا الحوار حبس نبض سعد ولمَّا عرف موقفه دس له السم كما

__________________

(١) النسائي ، خصائص الامام علي عليه‌السلام بن أبي طالب الحديث رقم ٥١ تحقيق أبي إسحاق الجويني الأثري ورواه أيضاً مسلم في صحيحه والترمذي في سننه والحديث صحيح الاسناد. وفي مروج الذهب ج ٣ ص ١٤ قال : لمَّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلمَّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في علي وشرع في سبَّه فزحف سعد ثم قال : أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي والله لأن يكون في خصلة واحدة من خصال علي ...

٣٦٩

دس السم للحسن عليه‌السلام.

قال أبو الفرج الاصفهاني (ت ٣٥٦ هـ) : حدثني أحمد بن عبيد الله قال حدثني عيسى بن مهران قال حدثنا يحيى بن أبي بكر قال حدثنا شعبة عن أبي بكر بن حفص قال : توفي الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص في أيام بعد ما مضى من إمارة معاوية عشر سنين.

وقال أبو الفرج : كانوا يرون أنَّه سقاهما سُمّاً. (١)

__________________

(١) أبو الفرج الاصفهاني ، مقاتل الطالبين ، ص ٧٣. البخاري : التاريخ الصغير ج ١ ص ١٠٠ (بسنده عن أحمد بن سليمان قال حدثني يحيى بن أبي بكير عن شعبة عن أبي بكر بن حفص قال ..).

٣٧٠

الباب الثالث / الفص الثاني

انشقاق العباسيين عن العلويين

العباسيون وأطروحتهم الفكرية والسياسية

العباسيون هم ذرية عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم. وعبد الله بن عباس وإخوانه عبيد الله بن العباس وقثم وغيرهم كانوا منظوين تحت قيادة علي عليه‌السلام وكان جدهم عبد الله بن عباس واخوانه قد رباهم واعتمد عليهم في حكمه حيث ولى عبد الله البصرة وعبيد الله اليمن وقثم مكة.

وكان عميد اسرة العباس مخلصا لعلي عليه‌السلام وقد نهض لنشر العلم خاصة بعد شهادة الحسين عليه‌السلام ووقف في وجه حركة ابن الزبير التي استهدفت استرجاع المدرسة الفكرية التي اسستها قريش في حكمها وبخاصة تحريم المتعتين. وكان ابن عباس معظما للحسن والحسين تعظيما خاصا لما يعرف من فضلهما.

وقد روى ان مدرك بن زياد قال لابن عباس وقد امسك للحسن والحسين بالركاب وسوى عليهما ثيابهما (انت اسن منهما تمسك لهما بالركاب؟ فقال يا لكع وما تدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله اوليس مما انعم الله علي بن ان امسك لهما واسوي عليهما!.

كان وجه وُلد عبد الله بن عباس هو علي بن عبد الله بن عباس.

٣٧١

ثم وَلَدَ علي بن عبد الله ، محمدا بن علي بن عبد الله وقد عرف بالعبادة كابيه وجده ، وكان بينه وبين أبيه اربع عشر سنة واشهر ، فلما شابا خضب علي بالسواد وخضب محمد بن علي بالحنا فلم يكن يفرق بينهما الا بخضابهما لتشابهما وقرب سن بعضهما من بعض.

وكان علي بن عبد الله اثيرا عند عبد الملك حتى طلق عبد الملك أم ابيها بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فتزوجها علي فتغير له وثقل عليه ، فلما ولي ولده الوليد اقصاه وتحبنى عليه حتى ضربه وسيَّره. توفي سنة ١١٧ هجرية وله ثمان وسبعون أيام هشام بن عبد الملك.

ولد علي بن عبد الله بن عباس

وهم تسعة : محمد بن علي ، وداود بن علي ، وعيسى بن علي ، وسليمان بن علي ، وصالح بن علي ، وإسماعيل بن علي ، وعبد الصمد بن علي ، ويعقوب بن علي ، وعبد الله بن علي الاصغر.

فاما محمد بن علي فقد مات سنة ١٢٥ هجرية وكان عمره سبعون سنة. وهو مؤسس الدعوة العباسية ، وقد اختار مدينة خراسان لتكون مركزا لنشاط دعاته كما سيأتي.

واما داود بن علي : فكان لسِناً خطيبا ولي مكة والمدينة لابي العباس السفاح وكان المتكلم يوم استخلف ابو العباس.

واما عيسى بن علي فان أبا العباس ولاه فارس ، ونهر عيسى ينسب إليه.

واما سليمان بن علي فقد ولي البصرة وكور دجلة والاهواز والبحرين وعمان للمنصور بعد أبي العباس.

واما صالح بن علي فهو المتوجه إلى مصر لملاحقة مروان بن محمد فقتل مروان وفتح مصر.

واما عبد الله بن علي الاصغر فقد ولاه ابو العباس محاربة مروان وضم إليه وجوه قواد خراسان فلقي مروان بالزاب نحو الموصل ومروان في مائة ألف فقاتله وهزمه.

٣٧٢

واما عبد الصمد بن علي فكان مع عبد الله بن علي بالشام. وولي للمنصور وغيره وتوفي ببغداد سنة ١٨٥ هجرية.

ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس

وهم : إبراهيم الامام وامه جان أم ولد ، وعبد الله أبو العباس السفاح وامه ريطة الحارثية ، وعبد الله أبا جعفر المنصور وامه سلامة البربرية ، وهؤلاء الثلاثة هم الذين اعتمدهم ابوهم فامسكوا بقيادة الدعوة والدولة العباسية ، وموسى لام ولد ، ويحيى امه أم الحكم بنت عبد الله بن الحارث من ولد نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهوبيَّة ، والعباس لام ولد.

اما إبراهيم الامام فقد سجنه مروان لما وصلته معلومات عن نشاطه ثم مات في السجن بعد ان وضع راسه في جراب نورة. وكان قد أوصي إلى اخيه ابي العباس السفاح.

اما ابو العباس السفاح فقد بويع في الكوفة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة ١٣٢ هجرية.

واما أبو جعفر المنصور فقد وجهه أبوه إلى البصرة ليزورها ويدعو الى (الرضا من آل محمد) وقد تولى الخلافة بعد اخيه سنة ١٣٦ هجرية.

تغير ولاء العباسيين وتبدل أطروحتهم الفكرية

تغير موقف العباسيين بشكل واضح منذ ان أوصي ابو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ت سنة ٩٨ هجرية بقيادة التنظيم إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. (١)

__________________

(١) ذكر الباحثون : ان خمس مجموعات ادعت الوصية : المجموعة الأولى ادعت انه أوصى إلى اخيه علي بن محمد بن الحنفية ، المجموعة الثانية ادعت انه أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، المجموعة الثالثة ادعت انه أوصى إلى بيان بن سمعان التميمي الكوفي. المجموعة الرابعة ادعت انه أوصى إلى عبد الله بن عمرو بن حرب ، المجموعة الخامسة ادعت انه أوصى إلى عبد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. انظر فاروق عمر بحوث في التاريخ العباسي ص ٥٤ ـ ٥٦. غير اني أقول : كالبلاذري واليعقوبي والطبري وابن حبيب في أسماء المغتالين وابن سعد في الطبقات ابن عبد ربه وغيرهم يرون ان الوصية كانت لمحمد بن علي.

٣٧٣

وفي مرحلة لاحقة بدلوا الأطروحة الفكرية التي شيد عليها ابو هاشم تنظيمه السياسي من تبني إمامة علي ووراثته للنبي إلى أطروحة أخرى مفادها ان الاحق بالإمامة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو العباس وليس عليا عليه‌السلام.

وقد أشار محمد بن عبد الله بن الحسن في رسالته إلى أبي جعفر المنصور إلى هذه الحقيقة قائلا : (فان الحق حقنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا وان ابانا عليا كان الوصي وكان الامام فكيف ورثتم ولايته وولده إحياء؟ ،

وكتب المنصور يفنِّد هذه الدعوى قائلا : واما قولك انكم بنو رسول الله فان الله تعالى يقولفي كتابه (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم) الأحزاب / ٤٠ ولكنكم بنو ابنته وانها لقرابة قريبة ولكنها لا تحوز الميراث ولا ترث الولاية ولا تجوز لها الإمامة فكيف تورث بها ... (١)

جدَّ محمد بن علي في أمره وأعاد بناء التنظيم وشهدت بداية القرن الثاني الهجري وبخاصة أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز / حيث غَّرَ سياسة الحكم الاعلامية فيما يخص لعن علي عليه‌السلام / نشاطا ملحوظا ، وكرَّس جهده على منطقة خراسان بوصفها منطقة يحن أهلها إلى بلد ابائهم / الكوفة / منذ ان سيَّرهم زياد ، وأَمر الدعاة ان يحافظوا على الشعار العام الدعوة إلى الرضا من آل محمد دون ان يسموا أحدا.

روى المدائني ان محمد بن علي بعث رجلا إلى خراسان فامره ان يدعو الى (الرضا من آل محمد) ولا يسمي أحدا ، ومثَّل له مثالا يعمل به ، فأجابه ناس فلما صاروا سبعين جعل منهم اثني عشر نقيبا. (٢)

قال محمد بن علي يوصي دعاته :

لا أرى بلدا الا واهله يميلون عنا إلى غيرنا.

اما أهل الكوفة فميلهم إلى ولد علي بن أبي طالب ،

واما أهل البصرة فعثمانية.

واما أهل الشام فسفيانية مروانية.

__________________

(١) وهذا هو منطق الراوندية من أهل خراسان وكانوا يرون ان بيعة علي جائزة باجازة العباس لها.

(٢) البلاذري ، انساب الاشراف.

٣٧٤

واما أهل الجزيرة فخوارج.

واما أهل المدينة فقد غلب عليهم حب أبي بكر وعمر ومنهم من يميل إلى الطالبيين ، ولكن أهل خراسان قوم فيهم الكثرة والقوة والجلَد وفراغ القلوب من الاهواء فبعث إلى خراسان. (١)

وفي كلام له أيضا في حضور الدعاة لحلنزاع بينهم قال :

ان أهل الشام أعوان الظالمين ، وآفة هذا الدين ، وقد ابتعثوا بنصرة بني أمية ، وأغري أكثر أهل العراق بمشايعة بني أبي طالب ،

وقد خصنا الله بأهل خراسان ، فهم أنصارنا وأعواننا وذخائرنا ، وقد حلت عليهم من الله رحمة قد غشيتهم ، ويوشك أن تتبعهم ريح الحياة فتعز ذليلهم ، وتقوي ضعيفهم ، وتقتل من قاتلهم حتى يعز دين الله ويظهر الحق وأهله ، يقول الله عز وجل : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) فكأنكم بالاودية قد سالت برجل خراسان أشد في طاعتنا من زبر الحديد ، أسماؤهم الكنى ، وأنسابهم القرى ، يقدمهم النصر ، ويحوطهم العز ، فاله عن غير أهل خراسان ، فإنه ليس لكم بغيرها دعوة ولا من غير أهلها مجيب ... (٢)

وكشفت كلمات السفاح والمنصور والخلفاء من ذريته انهم كانوا يعتقدون ان المراد ب (آل محمد) هم ذرية العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

روى الطبري عن علي بن محمد أن جبلة بن فروخ وأبا السري وغيرهما قالا أن أبا العباس لما صعد المنبر حين بويع له بالخلافة قام في أعلاه وصعد داود بن علي فقام دونه فتكلم أبو العباس فقال :

(الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه والناصرين له وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها وخصنا برحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرابته وأنشأنا من آبائه وأنبتنا من شجرته واشتقنا من نبعته.

__________________

(١) البلاذري ، انساب الاشراف.

(٢) اخبار الدولة العباسية لمؤلف مجهول ص ٢٠٦.

٣٧٥

جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا حريصا علينا بالمؤمنين رؤفا رحيما ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القرآن (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) وقال : (قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى) وقال : (وأنذر عشيرتك الاقربين) وقال : (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى) وقال : فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا وأجزل من الفيء والغنيمةنصيبا تكرمة لنا وفضلا علينا والله ذو الفضل العظيم.

وزعمت السبائية (١) الضُّلّال أن غيرنا أحق بالرئاسة والسياسة والخلافة منا فشاهت وجوههم ، بمَ ولمَ أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم؟ وبصرهم بعد جهالتهم وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا ورفع بنا الخسيسة وتم بنا النقيصة وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دينهم ودنياهم وإخوانا على سرر متقابلين في آخرتهم فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم فحووا مواريث الامم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا خماصا منها.

ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها بينهم فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا وتدارك بنا أمتنا وولى نصرنا والقيام بأمرنا ليمنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا.

وإني لأرجو ان لا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير ولا الفساد من حيث

__________________

(١) أقول : يريد بالسبائية : اليمانية ، وليس اتباع عبد الله بن سبأ المذكور في رواية سيف بن عمر. وانا ارى ان هذا الموضوع لم يتناوله أبو العباس في خطبته التي افتتح بها حكمه إذ انَّ لحن الخطاب هو احتواء أهل الكوفة بذكر أهل البيت عليه‌السلام وليس من الحكمة ان يتحدّاهم بشكل سافر ، وإنما اضيف إليها ذلك بعد ان تحدد الموقف من الشيعة.

٣٧٦

جاءكم الصلاح وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.

يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم فاستعدوا.

فأنا السفاح المبيح والثائر المبير.

وكان موعوكا فاشتد به الوعك فجلس على المنبر.

وصعد داود بن علي فقام دونه على مراقي المنبر فقال :

الحمد لله شكرا شكرا شكرا الذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أيها الناس الآن أقشعت حنادس الدنيا وانكشف غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها وبزغ القمر من مبزغه وأخذ القوس باريها وعاد السهم إلى منزعه ورجع الحق ونصابه في أهل بيت نبيكم أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.

أيها الناس إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثرلجيناً ولا عقياناً ولا نحفر نهراً ولا نبني قصراً وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا والغضب لبني عمنا وما كَرَثَنا من أموركم وبهظنا من شؤونكم ، ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم وخرقهم بكم واستذلالهم لكم واستئثارهم وبفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم.

لكم ذمة الله تبارك وتعالى وذمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذمة العباس رحمه‌الله أن نحكم فيكم بما أنزل الله ونعمل فيكم بكتاب الله ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تباً تباً لبني حرب بن أمية وبني مروان آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة والدار الفانية على الدار الباقية فركبوا الآثام وظلموا الانام وانتهكوا المحارم وغشوا الجرائم وجاروا في سيرتهم في العباد وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الاوزار وتجلبب الآصار ومرحوا في أعنة المعاصي وركضوا في ميادين الغي جهلا

٣٧٧

باستدراج الله وأمناً لمكر الله فأتاهم الله بياتا وهم نائمون فأصبحوا أحاديث ، ومزقوا كل ممزق فبعدا للقوم الظالمين ، وأدالنا الله من مروان وقد غرَّه بالله الغرور ، ومحق ضلاله وجعل دائرة السوء به وأحيا وشرفنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا.

ثم قال : يا أهل الكوفة إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا ، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان فأحيا بهم حقنا ، وأفلج بهم حجتنا ، وأظهر بهم دولتنا ، وأراكم الله ما كنت به تنتظرون وإليه تشوفون ، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم ، وبيض به وجوهكم ، وأدالكم على أهل الشام ، ونقل إليكم السلطان وعز الإسلام ومن عليكم بإمام منحه العدالة وأعطاه حسن الايالة فخذوا ما آتاكم الله بشكر والزموا طاعتنا ولا تخدعوا عن أنفسكم فان الأمر أمركم فان لكل أهل بيت مصرا وإنكم مصرنا.

ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار بيده إلى أبي العباس فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حق نسلمه إلى عيسى ابن مريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا. (١)

محمد بن عبد الله بن الحسن رحمه‌الله :

لم تكن الساحة خالية لمحمد بن علي وإخوته وولده وابناء عمومته إذ كان أمامهم بيت عبد الله بن الحسن وولداه محمد وإبراهيم وإخوته. وبيت الامام الصادق عليه‌السلام. ولكل شيعته وانصاره.

فمحمد بن عبد الله بن الحسن صاحب حركة سياسية واسعة النطاق هي امتداد لحركة زيد بن علي الذي استشهد في صفر سنة ١٢٢ هجرية وحركة ولده يحيى واستشهاده سنة ١٢٥ هجرية كما يفهم ذلك من توريثهما نسخة الصحيفة السجادية (٢).

__________________

(١) الطبري ، تاريخ الطبري ج ٦ ص ٨٠. البلاذري ، انساب الاشراف ص ١٤٢.

(٢) أقول : جاء في مقدمة الصحيفة السجادية عن عمير بن متوكل الثقفي البلخي ، عن أبيه متوكل بن هارون قال : لقيت يحيى بن زيد بن علي عليه‌السلام وهو متوجه إلى خراسان ، فسلمت عليه فقال لي : من أين أقبلت؟ قلت : من الحج. فسألني عن أهله وبني عمه بالمدينة ، وأحفى السؤال عن جعفر بن محمد عليه‌السلام ، فأخبرته بخبره وخبرهم ، وحزنهم على أبيه زيد بن علي عليه

٣٧٨

وكانت القيادة السياسية البارزة للهاشميين في المجتمع بيد الحسنيين ، روى أبو الفرج الاصفهاني ان اجتماع بني هاشم في الابواء (١) انتهى ببيعة من حضر لمحمد بن عبد الله بن الحسن وكان ممن بايع آنذاك ابو العباس وابو جعفر المنصور وصالح بن علي عمهم (٢).

ولم يسلم بنو العباس بعد اسقاطهم بني أمية الحكم إلى الحسنيين وفاء ببيعتهم لهم بل احتكروا الأمر لانفسهم واختفى محمد بن عبد الله بن الحسن حين بويع لابي العباس السفاح واستمر على خفائه حى اعلن عن نفسه سنة ١٤٤ في عهد المنصور ، بقي يتحرك سرا ويعد العدة للثورة على العباسيين حيث يرى انهم خانوه وغدروا به.

وفشلت حركة الحسنيين حين قتل محمد في المدينة من قبل قائد الجيش العباسي وحين قتل إبراهيم القادم من البصرة مع جيشه في سهم طائش وانتهت اكبر عقبة كؤود وخصم يتمتع بشرعية اكبر.

__________________

السلام. فقال لي : قد كان عمي محمد بن علي أشار على أبي بترك الخروج ، وعرفه إن هو خرج وفارق المدينة ما يكون إليه مصير أمره ، فهل لقيت ابن عمي جعفر بن محمد عليه‌السلام؟ قلت : نعم. قال : فهل سمعته يذكر شيئا من أمري؟ قلت : نعم. قال : بم ذكرني؟ خبرني. قلت : جعلت فداك ما أحب أن أستقبلك بما سمعته منه. فقال : أبالموت تخوفني؟ هات ما سمعته. فقلت : سمعته يقول : إنك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصل. «فتغير وجهه» وقال «ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» يا متوكل إن الله عز وجل ، أيد هذا الأمر بنا ، وجعل لنا العلم والسيف ، فجمعا لنا ، وخص بنو عمنا بالعلم وحده ... فقلت : يا بن رسول الله أهم أعلم أم أنتم؟ فأطرق إلى الأرض مليا ثم رفع رأسه. وقال : كلنا له علم غير أنهم يعلمون كلما نعلم ، ولا نعلم كما يعلمون ... ثم دعا بعيبة فاستخرج منها صحيفة مقفلة مختومة ، فنظر إلى الخاتم وقبله وبكى ، ثم فضه وفتح القفل ، ثم نشر الصحيفة ووضعها على عينه ، وأمرها على وجهه. وقال : والله يا متوكل لولا ما ذكرت من قول ابن عمي إنني أقتل وأصلب لما دفعتها إليك ، ولكنت بها ضنينا ولكني أعلم أن قوله حق ، أخذه عن آبائه ، وأنه سيصح ، فخفت أن يقع مثل هذا العلم إلى بني أمية فيكتموه ويدخروه في خزائنهم لأنفسهم ، فاقبضها واكفنيها وتربص بها ، فإذا قضى الله من أمري وأمر هؤلاء القوم ما هو قاض ، فهي أمانة لي عندك حتى توصلها إلى ابني عمي محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليهما‌السلام فإنهما القائمان في هذا الأمر بعدي. (الصحيفة السجادية تحقيق الابطحي / ٦٢٠).

(١) انتهى الشيخ الكوراني في كتابه جوار التاريخ ٥ / ٢٧٢ إلى ان هذا الاجتماع كان سنة ١٢٦ هـ.

(٢) أبو الفرج الاصفهاني ، مقاتل الطالبيين / ١٤٠.

٣٧٩

الباب الثالث / الفصل الثالث

سياسة الاعلام العباسي

يمكننا ان نتعرف على بنود السياسة الاعلامية لبني العباس من بعد فشل ثورة الحنسين من خلال عدة وثائق ونصوص شعرية او محاورات وهي كما يلي :

اولا رسالة المنصور الجوابية إلى محمد ذي النفس الزكية قتل سنة ١٤٤ :

ثانيا : خطبة المنصور في الكوفة سنة ١٤٤ هجرية

ثالثا : حوار المنصور مع مالك بن انس :

رابعا : شعر مروان بن أبي حفصة

خامسا : منصور النمري :

سادسا : أبان بن عبد الحميد اللاحقي.

سابعا : شعر ابن المعتز ٢٤٧ ـ ٢٩٦ هجرية :

اولا : رسالة المنصور الجوابية إلى محمد

ذي النفس الزكية قتل سنة ١٤٤

جاء فيها :

١. اما بعد ، فقد بلغني كلامك ، وقرأت كتابك ، فإذا جلُّ فخرك بقرابة النساء ، لتضل به الجفاة والغوغاء ، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء ، ولا كالعصبة

٣٨٠