الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

السيّد سامي البدري

الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-499-295-7
الصفحات: ٦١٤

ثم يرجعهم إلى بلادهم مع عطاء وفير ليقترب من قلوبهم ، وكان يتحمل منهم خشونة كلامهم أحيانا.

لقد كان معاوية في هذه السنوات العشر يبدي حلما خاصا تشبُّها بسياسة علي عليه‌السلام وأخلاقه في تحمله جهل الجاهلين الذين استغلوا سماحة علي عليه‌السلام.

قال معاوية لصعصعة بن صوحان وزملائه بعد محاورة جرت بينه وبينهم : لو لا اني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول :

قابلتُ جهلَهمُ حلماً ومغفرةً

والعفو عن قدرةِ ضرب من الكرم

لقتلتكم. (١)

وعن جعدة بن هبيرة المخزومي ، قال : استأذنت أم البراء بنت صفوان بن هلال على معاوية ، فأذن لها ، فدخلت في ثلاثة دروع تسحبها قد كارت على رأسها كورا كهيئة المنسف ، فسلمت ثم جلست ، فقال : كيف أنت يا بنت صفوان؟ قالت : بخير يا أمير المؤمنين ، قال : فكيف حالك؟ قالت : ضعفت بعد جلد وكسلت بعد نشاط.

قال : سيان بينك اليوم وحين تقولين :

يا عمرو دونك صارما ذا رونق

عضب المهزة ليس بالخوار

أسرج وادك مسرعا ومشمرا

للحرب غير معرد لفرار

أجب الإمام ودب تحت لوائه

وافر العدو بصارم بتار

يا ليتني أصبحت ليس بعورة

فأذب عنه عساكر الفجار

قالت : قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ومثلك عفا ، والله تعالى يقول : «عفا الله عما سلف» قال : هيهات! أما إنه لو عاد لعدت ، لكنه اخترم دونك ، ثم ذكر له قولها في رثاء علي عليه‌السلام اذكري حاجتك. قالت : هيهات بعد هذا! والله لا سألتك شيئا. ثم قامت فعثرت ، فقالت : تعس شانئ علي ، فقال : يا بنت صفوان زعمت إلا ، قالت : هو ما علمت.

فلما كان من الغد بعث إليها بكسوة فاخرة ودراهم كثيرة وقال : إذا أنا ضيعت الحلم فمن يحفظه؟ (٢)

__________________

(١) المسعودي ، مروج الذهب ، ج ٣ ص ٤١.

(٢) ابن طيفور ، بلاغات النساء ، بصيرتي قم ، ص ٧٦.

١٢١

(وكان معاوية يقول : إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. فقيل له : كيف؟ قال : إذا مدوها خليتها ، وإذا خلوها مددتها.

وأغلظ له رجل فحلم عنه ، فقيل له : أتحلم عن هذا؟ قال : إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. وعن احمد عن علي عن عبد الله وهشام بن سعد عن عبد الملك بن عمير قال : اني لا احول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا). (١)

وروى البلاذري قال حدثني أبو مسعود عن عليّ بن صالح عن عيسى بن يزيد المدني قال ، قالت فاختة بنت قرظة امرأة معاوية : يا أمير المؤمنين ، لم تصانع الناس وترى أنّهم منصفون منك ، فلو أخذتهم من عل كانوا الأذلَّين وكنت لهم قاهرا ، فقال : ويحك إنّ في العرب بقيّة بعد ، ولو لا ذلك لجعلت عاليها سافلها ، فقالت : والله ما بقي أحد إلَّا وأنت عليه قادر ، قال : فهل لك في أن أريك بعض ذلك منهم؟ قالت : نعم ، فأدخلها بيتا وأسبل عليها ستره ، ثمّ أمر حاجبه أن يدخل عليه رجلا من أشراف من بالباب ، فأدخل عليه رجلا من قيس يقال له الحارث ، فقال له معاوية : يا حويرث ، إيه أنت الذي طعنت في الخلافة وتنقّصت أهلها؟ والله لقد هممت أن أجعلك نكالا ، فقال : يا معاوية إنّما دعوتني لهذا؟ والله إنّ ساعدي لشديد ، وإنّ رمحي لمديد ، وإنّ سيفي لحديد ، وإنّ جوابي لعتيد ، ولئن لم تأخذ ما أعطيت بشكر لتنزعنّ عمّا نكره بصغر ، فقال : أخرجوه عنّي ، فأخرج ، فقالت فاختة : ما أجرأ هذا وأقوى قلبه!! فقال معاوية : ما ذاك إلَّا لإدلاله بطاعة قومه له ، ثمّ أمر الحاجب فأدخل عليه رجلا من ربيعة يقال له جارية ، فقال له معاوية : إيه يا جويرية ، أنت الذي بلغني عنك تخبيب للجند وقلَّة من الشكر؟ فقال : وعلام نشكر؟ ما تعطي إلَّا مداراة ولا تحلم

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج ٥١ ص ١٠٢ ، والمسعودي ، مروج الذهب ، ج ٣ ص ٤١ ، البلاذري ، انساب الاشراف ، ج ٥ ص ٢٠ ، ٨٥ ، ابن قتيبة الدينوري ، عيون الاخبار ، دار الكتب العلمية ٢٠٠٣ م ، ١ / ٦٢٦٣ ، ٣٩٧ ، تاريخ الطبري ٤ / ٢٤٩ ، الفاضل للمبرد / ٨٧ ، نهاية الارب ٦ / ١٦.

١٢٢

الَّا مصانعة ، فاجهد جهدك ، فإنّ ورائي من ربيعة ركنا شديدا لم تصدأ أدرعهم مذ جلوها ، ولا كلَّت سيوفهم مذ شحذوها ، فقال : أخرجوه ، ثمّ أمر معاوية حاجبه فأدخل إليه رجلا من أهل اليمن يقال له عبد الله ، فقال له : إيه يا عبيد السوء ، ألحقتك بالأقوام وأطلقت لسانك بالكلام ، ثمّ يبلغني عنك ما يبلغني من سوء الإرجاف؟! لقد هممت أن أخرجك وأنت عبرة لأهل الشام ، فقال : أيا معاوية ألهذا دعوتني ، ثم صغّرت اسمي ولم تنسبني إلى أبي؟ وإنّما سمّيت معاوية باسم كلبة عاوت الكلاب ، فأربع على ظلعك فذلك خير لك ، فقال لحاجبه : أخرجه ، فقالت فاختة : صانع الناس بجهدك ، وسسهم برفقك وحلمك ، فأخزى الله من لامك. (١)

وروى العُتبي عن أبيه قال قال معاوية لقريش : الا اخبركم عني وعنكم؟ قالوا بلى قال : فانا أطير إذا وقعتم واقع إذا طرتم ولو وافق طيراني طيرانكم سقطنا جميعا. (٢)

وروى ابو الفرج لما تم الصلح بين الحسن ومعاوية ارسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة ، فجاءه وكان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان في الأرض وما وجهه طاقه شعر ، وكان يسمى خصي الأنصار ، فلما أرادوا إدخاله إليه قال سعد اني حلفت الا ألقاه الا وبيني وبينه الرمح أو السيف ، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه ليبر (قيس) يمينه.

وكان معاوية جالسا على سرير فقال له معاوية : أتبايع يا قيس؟ قال : نعم ، ووضع يده على فخذه ، ولم يمدها إلى معاوية ، فجاء معاوية من سريره ، وأكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع إليه قيس يده. (٣)

أقول : والشاهد في الروايات الآنفة الذكر هو المرونة التي أبداها معاوية مع قيس بن سعد في الموردين الأخيرين ومع غيره في الموارد السابقة فانه يكشف عن سياسة معاوية في السنوات العشر أيام الحسن عليه‌السلام.

__________________

(١) البلاذري ، انساب الاشراف ، ج ٥ ص ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، ج ٥ ص ١١٣.

(٣) أبو الفرج الاصبهاني ، مقاتل الطالبيين ، ص ٧٠.

١٢٣

طرف من اخبار شيعة علي عليه‌السلام في سنوات الصلح

عكرشة بنت الأطش :

دخلت عِكرِشة بنت الأطش على معاوية وهي متوكئة على عكاز لها فسلمت عليه بالخلافة ، فقال لها معاوية : هية يا عكرشة الآن صرت أمير المؤمنين؟

قالت : نعم إذ لا عليَّ حيٌّ.

فقال لها معاوية : ألستِ صاحبة الكور المسدول ، والوسط المشدود والمتقلدة بالسيف ذي الحمائل ، وأنت واقفة بين الصفين يوم صفين تقولين :

أيها الناس عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذ اهتديتم ... إنَّ معاوية دلف إليكم بعجم العرب ، غلف القلوب ، لا يعرفون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة ، دعاهم بالدنيا فأجابوه ، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه. فالله ، الله عباد الله في دين الله وإياكم والتواكل فإن ذلك نقض عرى الإٍلام وإطفاء نور الحق ، وإظهار الباطل ، وذهاب للسنة.

هذه بدر الصغرى ، والعقبة الأخرى ...

ثم قال : ما حملك على ذلك؟

قالت : يا أمير المؤمنين ، يقول الله ، عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) المائدة / ١٠١ ، إنَّ اللبيب إذا كره شيئاً لا يحب إعادته.

قال : صدقت ، اذكري حاجتك.

قالت يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى جعل صدقاتنا على فقرائنا ومساكيننا ، وردَّ أموالنا فينا إلا بحقها ، وإنّا فقدنا ذلك ، فما ينتعش لنا فقير ولا ينجبر لنا كسير ، فإن كان ذلك من رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة ، وراجع العقل وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ، واستعمل الظلمة.

قال معاوية : يا هذه ، إنه تنوبنا النوائب هي أولى بنا منكم ، من بحور تنبثق ، وثغور تنفتق.

١٢٤

قالت : يا سبحان الله ما فرض الله لنا حقاً جعل فيه ضرراً على غيرنا ولو علم جل ثناؤه أنَّ في ما جعل لنا ضرراً على غيرنا لما جعله لنا ، هو علام الغيوب.

قال معاوية :

هيهات يا أهل العراق قد فقهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا.

ثم أمر لها برد صدقاتها ، وإنصافها ، وضيَّفها ، وأطرفها ، وردها إلى أهلها مكرَّمة. (١)

دارمية الحجونية (٢) :

بعث إليها فجيء بها ، فلما رآها قال لها :

كيف حالك يا بنت حام؟ قالت : بخير ، ولست لحام ، ولكني ابنة أبيك ، ولن يضر المرء نسب أمه.

قال : صدقت ، فهل تعلمين لِمَ بعثتُ إليك؟

قالت : يا سبحان الله العظيم ، لا يعلم الغيب إلا الله.

قال : بعثت إليك أسألك علام أحببت علياً وأبغضتني ، وعلام واليته وعاديتني؟

قالت : أو تعفيني يا أمير المؤمنين من ذلك؟!

قال : ما كنت بفاعل ، ولا أعفيك!

قالت : أما إذا أبيتَ عليَّ :

فإني أحببت عليّاً على عدله في الرعية وقسمته بالسوية ،

وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك ، وطلبك ما ليس لك ،

وواليت علياً على حبه المساكين وإعطائه أهل السبيل وفقهه في الدين وبذله الحق من نفسه ، وما عقد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الولاية ،

__________________

(١) ابن طيفور ، بلاغات النساء ص ٨٦. ابن عبد ربه ، العقد الفريد ج ١ ص ٢٢٢ ، ابن بكار الضبي ، اخبار الوافدات من النساء ، مؤسسة الرسالة ١٩٨٣ م ، ص ٣٧ ، ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٧٣ ص ٢١٥.

(٢) نسبة إلى داروم قلعة بعد غزة للقاص إلى مصر على ساحل البحر نزل بها بنو حام كما يظهر من قول معاوية يا بنت حام والحجون مكان معروف بمكة. كانت دارمية تنزل بها فنسبت إليها. هامش الغدير ج ٢ ص ٤١٥.

١٢٥

وعاديتك على إرادتك الدنيا ، وسفكك الدماء ، وشقك العصا ...

ثم قال لها معاوية : هل رأيتِ علياً قط؟

قالت : إي والله لقد رأيتُه.

قال : كيف رأيتِه؟

قالت : رأيته شَثِنَ القدم والكف ، لم يعبَ بالملك ، ولم تشغله النعمة.

قال : فهل سمعتِ كلامه؟

قالت : نعم.

قال : كيف سمعتِه؟

قالت : كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطست من الصدأ.

قالت : صدقت ، هل لك من حاجة؟

قالت : أو تفعل ذلك إذا سألتك؟

قال : نعم.

قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء ، وألف راعية من رواعي فحولها وغلمانها.

قال لها معاوية : ما تصنعين بها؟

قالت : اغذوا بألبانها الصغار ، وأُتحِف بها الكبار ، وأُصلح بها بين العرب.

قال : فإن أعطيتِك هل أحلُّ منكِ محلَّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟

قالت : يا سبحان الله! أو دونه قليلاً؟

فأنشأ معاوية يقول :

إذا لم اجُدْ بالحلم مني عليكم

فمن ذا الذي بعدي يؤمَّل للحلم

خذيها هنيئاً ، واذكري فعل ماجد

حباكِ على حين العداوةِ بالسلم

ثم قال لها : والله لو كان علياً ما أعطاكِ شيئاً.

قالت : لا والله ، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين يعطيني.

ثم أمر لها بما سألت ، وردها إلى منزلها مكرمة. (١)

__________________

(١) ابن طيفور ، بلاغات النساء ص ٨٨. وابن عبد ربه ، العقد الفريد ج ١ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣. وابن بكار الضبي ، اخبار الوافدات من النساء ص ٤٠.

١٢٦

سودة بنت عمارة الهمدانية :

لما دخلت على معاوية قال لها :

هيه يا ابنة الأشل ، ألست القائلة لأخيك يوم صفين :

شمر كفعل أبيك يا بن عمارة

يم الطعان وملتقى الأقران

وانصر علياً والحسين ورهطه

واقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام أخا النبي محمدٍ

علم الهدى ومنارة الإيمان

فَقِهِ الحتوفَ وسِرْ أمام لوائه

قُدُما بأبيضَ صارم وسنان؟

قالت : بلى يا أمير المؤمنين وما مثلي رغب عن الحق ، واعتذر بالكذب.

قال : فما حملك على ذلك؟

قالت : حب عليّ عليه‌السلام ، واتباع الحق.

قال : والله ما أرى عليك من عليِّ أثرا!

قالت : أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى وتذكار ما نُسِي.

قال : هيهات ما مثل مقام أخيك يُنسى ، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك.

قالت : صدق فوكَ يا أمير المؤمنين ، لم يكن أخي والله ذميم المقام ، ولا خفيَّ المكان هو والله كقول الخنساء :

وإن صخراً لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فأطرقت ، ثم قالت : وأنا أسأل يا أمير المؤمنين إِعفائي مما استعفيته.

قال : قد فعلت ، فما حاجتك؟

قالت : يا أمير المؤمنين ، إنك أصبحت للناس سيداً ، ولأمورهم متقلداً والله سائلك عن أمرنا ، وما افترض عليك من حقنا ، ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزك ، يبطش بسلطانك ، فيحصدنا حصاد السنبل ، ويدوسنا دياس البقر ، ويسومنا الخسف ، ويسألنا الجليلة. هذا ابن أرطاة قدم ، فقتل رجالنا ، وأخذ أموالنا ، يقول لي. فوهى بما استعصم بالله منه وألجأ إليه فيه ولولا الطاعة لكان فينا عِز ومِنعَة. فأما عزلته فشكرناك ، وأما لافعرفناك.

١٢٧

فقال معاوية : أبقومك تهددين؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس ، فأدركك إليه فينفد فيك حكمه.

فبكت. ثم رفعت رأسها وهي تقول :

صلى الإله على روح تضمَّنَها

فبرٌ فأصبح فيها العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا

فصار بالحق والإيمان مقرونا

قال : ومن ذلك؟

قالت : علي ابن أبي طالب.

قال : وما علمك به؟

قالت : أتيته في رجل ولاه صدقاتنا ، لم يكن بيننا وبينه إلا ما بين الغث والسمين ، فوجدته قائماً يصلي ، فلما نظر إليّ انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطف : ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر. فبكى ثم قال : اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم ، إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك.

ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب ، ثم كتب فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم

(قد جاءكم بينة من ربكم :

(أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (٨٦)) هود / ٨٥ ـ ٨٦.

إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك م عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام.

فأخذته والله ، وما خزمه بخزام ، ولا ختمه بطين.

فقال : رحم الله أبا الحسن. أكتبوا لها بالعدل.

قالت : لي خاصة ، أم لقومي عامةً.

قال : ما أنتِ وغيركِ؟

١٢٨

قالت : هي والله إذاً الفحشاء واللؤم إن كان عدلاً شاملاً ، وإلا فأنا كسائر قومي.

فقال :

هيهات يا أهل العراق ، لقد لمظكم علي بن أبي طالب الجرأة على السلطان فبكيء ما تفطمون.

أكتبوا لها ولقومها. (١)

الزرقاء بنت عدي بنت غالب بن قيس الهمدانية :

كتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء بنت عدي الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها ... فلما دخلت على معاوية قال : مرحبا وأهلا! قدمت خير مقدم قدمه وافد ، كيف حالك؟

قالت : بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لك النعمة ، قال : كيف كنت في مسيرك؟ قالت : ربيبة بيت أو طفلا ممهدا ، قال : بذلك أمرناهم ، أتدرين فيم بعثت إليك؟

قالت : أنى لي بعلم ما لم أعلم؟ قال : ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين الصفين [يوم صفين] تحضين على القتال وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ قالت : يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ، ولم يعد ما ذهب ، والدهر ذو غير ، ومن تفكر أبصر ، والأمر يحدث بعد الأمر ،

قال لها معاوية : [صدقتِ] أتحفظين كلامك؟ [يوم صفين] قالت : لا والله! لا أحفظه ، ولقد أنسيته ،

قال : لكني أحفظه ، لله أبوك! حين تقولين :

أيها الناس! ارعووا وارجعوا ، ... إن المصباح لا يضئ في الشمس ، ولا تنير الكواكب مع القمر ، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها ، فصبرا يا معشر المهاجرين [والأنصار] على الغصص ، ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء ، ولهذا اليوم ما بعده ، والصبر خير في الأمور عواقبا ، إيها في

__________________

(١) ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٧٣ ص ١٦٨ ـ ١٦٩. وابن بكار الضبي ، اخبار الوافدات من النساء ص ٦٧. وابن عبد ربه ، العقد الفريد ، ج ١ ص ٢١٨.

١٢٩

الحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين.

ثم قال لها : والله يا زرقاء! لقد شركت عليا في كل دم سفكه.

قالت : أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك! فمثلك بشر بخير وسر جليسه ،

قال لها : أو يسرك ذلك؟ قالت : نعم والله لقد سررت بالخير ، فأنى لي بتصديق الفعل؟

فضحك معاوية ،

وقال : والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته!

اذكري حاجتك.

قالت : يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا ، ومثلك أعطى عن غير مسألة وجاد من غير طلبة ،

قال : صدقت! وأمر لها وللذين جاؤوا معها بجوائز وكُسا. (١)

أم سنان بنت خيثمة :

روى أحمد بن أبي طاهر : أن مروان حبس غلاما من بني ليث ، فخرجت أم سنان جدته لأبيه إلى معاوية ،

فقال لها : ما أقدمك أرضي وقد عهدتك تشنأينني وتحضين علي عدوي؟

قالت : إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة وأعلاما زاهرة ، لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا يتعقبون بعد عفو ، فأولى الناس باتباع سنن آبائه أنت ،

قال : صدقت نحن كذلك ، فكيف قولك :

عزب الرقاد فمقلتي ما ترقد

والليل يصدر بالهموم ويورد

يا آل مذحج لا مقام فشردوا

إن العدو لآل أحممد يقصد

__________________

(١) ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، ج ١ ص ٢٢٠. وابن طيفور ، بلاغات النساء : ص ٤٩ وأكملناه من البلاغات. انظر ايضا محمد تقي التستري ، قاموس الرجال ، مؤسسة النشر الإسلامي جامعة مدرسين قم ١٤١٩ هـ ، ج ١٢ ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠. وابن بكار الضبي ، اخبار الوافدات من النساء ص ٦٣ ، وابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٧٣ ص ١٢٤.

١٣٠

هذا علي كالهلال يحفه

وسط السماء من الكواكب أسعد

هير الخلائق وابن عم محمد

وكفى بذاك لمن شناه تهدد

ما زال مذ عرف الحروب مظفرا

والنصر فوق لوائه ما يفقد

قالت : كان ذلك وأنا لنطمع بك خلفا.

فقال رجل من جلسائه : كيف؟ وهي القائلة :

أما هلكت أبا الحسين فلم تزل

بالحق تعرف هاديا مهديا

فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت

فوق الغصون حمامة قمريا

قد كنت بعد محمد خلفا لنا

أوصى إليك بنا فكنت وفيا (١)

قالت يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق ولئن تحقق فيك ما ظنناه لحظك الأوفر والله ما أورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المؤمنين حبا.

قال وإنك لتقولين ذلك.

قالت يا سبحان الله والله ما مثلك من مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا كان والله علي أحب إلينا منك وأنت أحب إلينا من غيرك.

قال ممن :

قالت من مروان ابن الحكم وسعيد بن العاص.

قال وبم استحققت ذلك عندك.

قالت بسعة حلمك وكريم عفوك.

قال وإنهما يطمعان في ذلك.

قالت هما والله لك من الرأي علي مثل ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله تعالى.

__________________

(١) ابن طيفور ، بلاغات النساء ص ٧٩. ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، ج ١ ص ٢٢١. ومحمد تقي التستري ، قاموس الرجال ج ١٢ ص ٢١٠. وابن بكار الضبي ، اخبار الوافدات من النساء ص ٢٣. وابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٧٤ ص ١٨٢.

١٣١

قال والله لقد قاربت فما حاجتك؟

قالت يا أمير المؤمنين إن مروان تبنَّك (١) بالمدينة تبنك من لا يريد منهما البراح لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنة يتتبع عثرات المسلمين ويكشف عورات المؤمنين حبس ابن ابني فأتيتته فقال كيت وكيف فألقمه أخشن من الحجر وألعقته أمر من الصبر ثم رجعت إلي نفسي باللائمة وقلت لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولي بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرا وعليه معديا.

قال صدقت لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته اكتبوا لها بإطلاقه.

قالت يا أمير المؤمنين وأنى لي بالرجعة وقد نفذ زادي وكلت راحلتي فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم. (٢)

أروى بنت الحارث :

قال ابن أبي طاهر طيفور روى ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن انس بن مالك قال دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة.

فلما رآها معاوية قال : مرحبا بك يا خالة! كيف كنت بعدي؟

قالت : كيف أنت يا ابن أختي؟ لقد كفرت النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك وأخذت غير حقك ، بلا بلاء كان منك ولا من آبائك في ديننا ولا سابقة كانت لكم ، بل كفرتم بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتعس الله منكم الجدود وأصغر منكم الخدود ، ورد الحق إلى أهله ، فكانت كلمتنا هي العليا ، ونبينا هو المنصور على من ناواه ، فوثبت قريش علينا من بعده حسدا لنا وبغيا ، فكنا بحمد الله ونعمته أهل بيت فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، وكان سيدنا فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى ، وغايتنا الجنة وغايتكم النار ...

__________________

(١) تبنك : أي تمكن.

(٢) أحمد زكي صفوت ، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ط ١ ، ١٣٥٢ هـ / ١٩٢٣ م ، ج ٢ ص ٣٧٩.

١٣٢

ثم قال : يا خالة اقصدي لحاجتك ودعي أساطير النساء عنك.

قالت : تعطيني ألفي دينار وألفي دينار وألفي دينار. قال : ما تصنعين بألفي دينار؟

قالت : أزوج بها فقراء بني الحارث بن عبد المطلب.

قال : هي كذلك ، فما تصنعين بألفي دينار؟

قالت : استعين بها على شدة الزمان وزيارة بيت الله الحرام.

قالت : قد أمرت بها لك ، فما تصنعين بألفي دينار؟

قالت : أشتري بها عينا خرارة في أرض حوارة تكون لفقراء بني الحارث بن عبد المطلب.

قال : هي لك يا خالة ، أما والله لو كان ابن عمك علي ما أمر بها لك!

قالت : تذكر عليا فضل الله فاك وأجهد بلاك! ثم علا نحيبها وبكاؤها ، وجعلت تقول :

ألا يا عين ويحك فاسعدينا

ألا فابكي أمير المؤمنينا

رزئنا خير من ركب المطايا

وجال بها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال ومن حذاها

ومن قرأ المثاني والمئينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين

رأيت البدر راق الناظرينا

 ...

كأن الناس إذ فقدوا عليا

نعام جال في بلد سنينا

فلا والله لا أنسى عليا

وحسن صلاته في الراكعينا

لقد علمت قريش حيث كانت

بأنه خيرها حسبا ودينا

قال : فبكى معاوية! ثم قال : يا خالة لقد كان كما قلت وأفضل. (١)

أم الخير بنت الحريش بن سراقة :

لما قدمت على معاوية قالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين.

__________________

(١) ابن بكار الضبي ، اخبار الوافدات من النساء ص ٤٧. وابن عبد ربه ، العقد الفريد ج ١ ص ٢٢٥. وابن طيفور ، بلاغات النساء ص ٢٧. ومحمد تقي التستري ، قاموس الرجال ، ج ١٢ ص ١٨١.

١٣٣

فقال : وعليكِ السلام ، وبالرغم منكِ والله دعوتِني أمير المؤمنين.

قالت : يام أمير المؤمنين مَهْ ، فإنَّ بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه.

قال : صدقت. كيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟

قالت : بخير لم أزل في عافية ، وسلامة حتى أدتني إليك الرِّكاب.

قال : أخبريني كيف كان كلامُك يوم قتل عمار بن ياسر؟

قالت : لم أكن رويته قبل ، ولا درسته بعد ، وإنها كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة ، فإن أحببت أن أحدث لك مقالاً غيره فعلت.

قال : لا.

ثم التفت إلى أصحابه فقال : أيكم يحفظ كلامها؟

فقال رجل من القوم : يا أمير المؤمنين ، أنا أحفظه كحفظي سورة الحمد.

قال : هاته. قال : نعم ، كأني بها في ذلك اليوم وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية ، وهي على جمل ، وبيدها سوط ، وهي كالفحل يهدر في شقشقته ، وهي تقول :

... هلموا ، رحمكم الله إلى الإمام العدل ، والتقيِّ الوفي ، والصدِّيق الوصي إنها إحَن بدرية ، وضغائن جاهلية ، وأحقاد أحدية ، وثب بها معاوية عند الغفلة ، ليدرك بها الفرصة من ثارات بني عبد شمس ثم قالت : (وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) التوبة / ١٢.

... أيها الناس أفراراً عن ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزوج إبنته ، وأبي سبطيه. خُلق والله من طينته ، وتفرع من نبعته ، وخصه بسره وجعله باب مدينته ، و (علم) بحبه (المؤمنين) ، وأبان ببغضه المنافقين. (١)

__________________

(١) ابن طيفور ، بلاغات النساء ص ٥٢. أقول : في النص (وعلم بحبه المسلمين) ولكنني اخترت لفظة (المؤمنين) حيث ورد في الحديث النبوي (لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن) ابن الاثير ، ، جامع الأصول ، مكتبة الحلواني ـ مطبعة الملاح ـ مكتبة دار البيان ١٩٧٢ م ، ج ٨ ص ٤٩٤. محمد تقي التستري ، قاموس الرجال ج ١٢ ص ٢٠٢. ابن بكار الضبي ، اخبار الوافدات من النساء ص ٢٧. ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، ج ١ ص ٢٢٣. ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٧٤ ص ١٧٢.

١٣٤

أم البراء بنت صفوان بن هلال :

عن جعدة بن هبيرة المخزومي ، قال : استأذنت أم البراء بنت صفوان بن هلال على معاوية ، فأذن لها ، فدخلت في ثلاثة دروع تسحبها قد كارت على رأسها كورا كهيئة المنسف ، فسلمت ثم جلت ، فقال : كيف أنت يا بنت صفوان؟ قالت : بخير يا أمير المؤمنين ، قال : فكيف حالك؟ قالت : ضعفت بعد جلد وكسلت بعد نشاط ،

قال : سيان بينك اليوم وحين تقولين :

يا عمرو دونك صارما ذا رونق

عضب المهزة ليس بالخوار

أسرج جوادك مسرعا ومشمرا

للحرب غير معرد لفرار

أجب الإمام ودب تحت لوائه

وافر العدو بصارم بتار

يا ليتني أصبحت لست بعورة (١)

فأذب عنه عساكر الفجار

قالت : قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ومثلك عفا ، والله تعالى يقول : عفا الله عما سلف.

قال : هيهات! أما إنه لو عاد لعدت ، لكنه اخترم دونك ، فكيف قولك حين قتل؟

قالت : نسيته يا أمير المؤمنين.

فقال بعض جلسائه : هو والله حين تقول يا أمير المؤمنين :

يا للرجال لعظم هول مصيبة

فدحت فليس مصابها بالهازل

الشمس كاسفة لفقد إمامنا

خير الخلائق والإمام العادل

يا خير من ركب المطي ومن مشى

فوق التراب لمحتف أو ناعل

حاشا النبي لقد هددت قواءنا

فالحق أصبح خاضعا للباطل

فقال معاوية : قاتلك الله يا بنت صفوان! ما تركت لقائل فقال مقالا ، اذكري حاجتك.

قالت : هيهات بعد هذا! والله لا سألتك شيئا. ثم قامت فعثرت ،

__________________

(١) في كتاب القشلندي ، صبح الاعشى في صناعة الانشا ، دار الكتب العلمية بيروت ، ج ١ ص ٣٠٨ «لست قعيدة».

١٣٥

فقالت : تعس شانئ علي ، فقال : يا بنت صفوان (زعمت ان لا تعودي إلى ما كنت عليه في أيام علي فما هذا الكلام) (١).

قالت : هو ما علمت.

فلما كان من الغد بعث إليها بكسوة فاخرة ودراهم كثيرة وقال : إذا أنا ضيعت الحلم فمن يحفظه؟. (٢)

ضرار بن ضمرة :

ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب (٣) قال : قال معاوية لضرار الصدائي : يا ضرار صف لي عليا ، قال : اعفني يا أمير المؤمنين ، قال : لتصفنه ، قال : أما إذ لابد من وصفه :

فكان والله بعيد المدى ، شديد القوى ،

يقول فصلا ، ويحكم عدلا ،

يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ،

ويستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته ،

وكان غزير العبرة ، طويل الفكرة ،

يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن.

كان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، وينبئنا إذا استنبأناه ، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبه له.

يعظم أهل الدين ويقرب المساكين.

لا يطمع القوي في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله.

وأشهد اني لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا

__________________

(١) ما بين القوسين من كتاب جواهر المطالب في فضائل الامام علي لاحمد بن علي الدمشقي الباعوني الشافعي ، دانش قم ١٤١٥ هـ ، ص ٢٥٧.

(٢) ابن طيفور ، بلاغات النساء : ص ٧٦ ، الباعوني ، جواهر المطالب ، ٢٥٧ ، القشلندي ، صبح الاعشى ت ٨٧١ ج ١ / ٣٠٨.

(٣) ابن عبد البر ، الاستيعاب ، ج ٢ ص ٥٢.

١٣٦

على لحيته يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم إلي تشوفت.

هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعمرك قصير وخطرك قليل.

آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فبكى معاوية وقال رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

قال حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها. (١)

عدي بن حاتم الطائي :

روى ابن عساكر :

قال : دخل عدي بن حاتم على معاوية وكانت عينه أصيبت يوم الجمل ،

فلما دخل قال له ابن الزبير متى أصيبت عينك يا أبا طريف ،

قال يوم قتل أبوك وضُرِبتَ على قفاك وأنت مولي ،

فضحك معاوية ، وقال له ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟

قال : قُتِلوا.

قال ما أنصفك ابن أبي طالب أن قُتل بنوك معه وبقي له بنوه؟

قال : إن كان ذلك لقد قتل وبقيت أنا من بعده. (٢)

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٣٣١ : بعد ان أورد وصف ضرار : إن الرياشي روى خبره ، ونقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في «التذييل على نهج البلاغة ، ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٢٧٨. أبو نعيم ، حلية الأولياء ، ج ١ ص ١٢٦ ، المسعودي ، مروج الذهب ج ٢ ص ٥٤٦ ، ذكر أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره من الأخباريين أن الأمر لما أفضى إلى معاوية أتاه أبو الطفيل الكناني فقال له معاوية : كيف وَجدُك على خليلك أبي الحسن. قال : كوجد أم موسى على موسى ، وأشكو إلى الله التقصير. المسعودي ، مروج الذهب ج ٣ ص ١٤ ، قال مُعاوية لأبي الطُّفيل : كيف وَجْدُك على عليّ؟ قال : وَجدُ ثمانين مُثْكِلا ؛ قال : فكيف حُبُّك له؟ قال : حُبّ أم موسى ، وإلى الله أشْكو التَقْصير. ابن عبد ربه ، العقد الفريد ج ٣ ص ٢١٦.

(٢) ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٧٨ ، البلاذري ، انساب الاشراف ج ٥ ص ١٢٧ ، المسعودي ، مروج الذهب ج ٣ ص ٧ ، ابن عبد ربه ، العقد الفريد ج ٣ ص ٢١٥.

١٣٧

وقد روى ابن قتيبة كلام عدي في صفين : قال قام عدي بن حاتم ، فقال : أيها الناس ، إنه والله لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه ، ولا وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان ، وفي يديه من الله سبب ...

وقاتل أهل الجمل على النكث ، وأهل الشام على البغي ،

فانظروا في أموركم وأمره ، فإن كان له عليكم فضل ، فليس لكم مثله ، فسلموا له ، وإلا فنازعوا عليه ،

والله لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنة إنه لأعلم الناس بهما ،

ولئن كان إلى الإسلام إنه لأخو نبي الله ، والرأس في الإسلام ،

ولئن كان إلى الزهد والعبادة ، إنه لأظهر الناس زهدا ، وأنهكهم عبادة ،

ولئن كان إلى العقول والنحائز إنه لأشد الناس عقلا ، وأكرمهم نحيزة ،

ولئن كان إلى الشرف والنجدة إنه لأعظم الناس شرفا ونجدة. (١)

الأحنف بن قيس :

قال الأحنف بن قيس دخلت على معاوية فقدم لي من الحار والبارد والحلو والحامض ما كثر تعجبي منه ثم قدم لونا لم اعرف ما هو.

فقلت ما هذا؟

فقال مصارين البط محشوة بالمخ قد قلي بدهن الفستق وذر عليه بالطبرزد.

فبكيت فقال ما يبكيك؟

قلت ذكرت عليا بينا أنا عنده وحضر وقت الطعام وإفطاره وسألني المقام فجئ له بجراب مختوم

فقلت ما في هذا الجراب؟

قال سويق شعير.

قلت خفت عليه ان يؤخذ؟ أم بخلت به؟

__________________

(١) ابن قتيبة ، الامام والسياسة ، الشريف الرضي قم ١٤١٣ ، ج ١ ص ١٤١.

١٣٨

فقال لا ولا احدهما ولكني خفت ان يلته الحسن والحسين بسمن أو زيت.

فقلت محرم هو يا أمير المؤمنين؟

فقال لا ولكن يجب على أئمة الحق ان يعدوا انفسهم من ضعفة الناس لئلا يطغي الفقير فقره.

فقال معاوية ذكرت ما لا ينكر فضله. (١)

معاوية يطلب من ابن عباس ان يخبره عن علي عليه‌السلام

روى ابن شاذان عن عبد الملك بن عمير ، عن أبيه ، عن ربعي ، عن خراش قال : سأل معاوية ابن عباس قال : فما تقول في علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال : أبو الحسن عليه‌السلام علي ، كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى ، ومحتد الندا ، وطود النهى ، وعلم الورى ، ونورا في ظلمة الدجى ، وداعيا إلى المحجة العظمى ، ومستمسكا بالعروة الوثقى ، وساميا إلى المجد والعلا ، وقائد الدين والتقى وسيد من تقمص وارتدى ، بعل بنت المصطفى ، وأفضل من صام وصلى ، وأفخر من ضحك وبكى ، صاحب القبلتين ، فهل يساويه مخلوق كان أو يكون.

كان والله كالأسد مقاتلا ولهم في الحروب حاملا على مبغضيه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم التناد.

إيضاح : المحتد بالكسر الأصل ، والندا : العطاء ، والطود الجبل العظيم. (٢)

حوار بين معاوية وقيس بن سعد بن عبادة

وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة.

قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء ، وتعيبه بذلك!

__________________

(١) المرعشي ، شرح إحقاق الحق ، مكتبة المرعشي النجفي قم ، ج ٣٢ ص ٢٦١ ، نقلا عن التذكرة الحمدونية للعلامة ابن حمدون ص ٦٩.

(٢) شاذان بن جبرئيل القمي ، الروضة في فضائل أمير المؤمنين ، ١٤٢٣ هـ ، ٧٤.

١٣٩

أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام! (١)

نماذج من أحاديث حملة الحديث من الكوفيين

الذين دخلوا الشام

يعلى بن مرة الثقفي :

يعلى بن مرة بن وهب بن جابر بن عتاب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي وهو ثقيف أبو المرازم الثقفي ، له صحبة عداده في أهل الكوفة وقيل في أهل البصرة وله بها دار شهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديبية وخيبر والفتح وحنينا والطائف وروى عنه أحاديث ت س ق وعن علي بن أبي طالب.

روى عنه أبو قابت أيمن بن ثابت وراشد بن سعد بخ وسعيد بن راشد ت ق ويقال بن أبي راشد مولى آل معاوية وعبد الله بن حفص بن أبي عقيل الثقفي س وابناه عبد الله بن يعلى بن مرة وعثمان بن يعلى بن مرة ت وعطاء بن السائب قد مرسل وعياض أبو أشرس السلمي ومحمد ويقال محمود بن أبي جبيرة والمنهال بن عمرو الأسدي ق مرسل ويونس بن خباب ق كذلك وأبو البختري قد وأبو حفص بن عمرو ت س على خلاف فيه ذكره محمد بن سعد في الطبقة الثالثة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثقيف وقال أسلم وشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديبية وبيعة الرضوان وخيبر وفتح مكة والطائف وحنينا وكان فاضلا. (٢)

قال البخاري قال لنا أبو صالح نا معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي قاضي الاندلس ت (١٥٨) (٣) عن راشد بن سعد الحمصي (ت ١١٤) عن يعلى بن مرة قال خرجنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعينا لطعام قال فإذا الحسين يلعب في الطريق فأسرع

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج ١ ص ٢٥.

(٢) المزي ، تهذيب الكمال ، مؤسسة الرسالة بيروت ١٩٨٥ م ، ج ٣٢ ص ٣٩٨.

(٣) كان معاوية بن صالح قد انهزم الى الاندلس من (حمص) مع عبد الرحمن بن معاوية والي الأندلس ، وثقه أحمد بن حنبل وقال ابن عدي هو عندي صدوق. قال الذهبي : قلت لم يحتج به البخاري ، توفي سنة ثمان وخمسين ومائة وكان من أوعية العلم ومن معادن الصدق رحمه الله تعالى.

١٤٠