الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

السيّد سامي البدري

الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-499-295-7
الصفحات: ٦١٤

وأمامَ وضع معقد كهذا لا يصبح خيار مواصلة الحرب في صالح مشروع علي عليه‌السلام وبخاصة حين يكون قد طوقه الاعلام الأموي بصفة الإفساد ثم اللعن والبراءة والعمل على قتله بكل وسيلة.

ثم أن الصلح المحدود وإيقاف القتال بالطريقة التي طرحها معاوية بان يبقى العراق وما والاه للحسن عليه‌السلام والشام وما والاه لمعاوية كما هي طبيعة الأشياء وطبيعة طريقة تفكير معاوية تكرس الانشقاق والثقافة العدائية لعلي عليه‌السلام ومن ثم بقاء الطريق مسدوداً أمام انفتاح أهل الشام على مشروع علي عليه‌السلام مضافاً إلى ما ينطوي عليه من خطر محتمل أشرنا إليه آنفاُ.

خصائص أطروحة الصلح المطلوبة

لإن أطروحة الصلح التي يحتاجها مشروع علي عليه‌السلام لينطلق في الشام لابد لها من أن تكون أطروحة تمتلك أن تحقق ما يلي :

١. تعالج الانشقاق وما ينطوي عليه من مخاطر فكرية وسياسية.

٢. تعرف الشاميين أنَّهم كانوا ضحية إعلام كاذب ، وأنَّ معاوية كان يطلب الملك وراء قتاله علياً عليه‌السلام ليس إلا ، وأنَّ قتلة عثمان هم قريش أنفسهم ثارت عليه بقيادة طلحة والزبير وعائشة لما آثر بني أبيه بالملك وزواه عنهم. وأن علياً عليه‌السلام كان أبعد الناس عن دم عثمان ، وأنه كان مصيباً في رفضه للخلافة المشروطة بالعمل بسيرة الشيخين يوم عرضها عليه عبد الرحمن بن عوف لاعتقاده أنها مخالفة لسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان حج التمتع ابرز مثال على ذلك ، وان حرب الجمل وصفين ونهروان ليست من اجل الملك بل من اجل إحقاق الحق ومعاقبة المعتدين ، وأن معاوية كان ظالماً لعلي عليه‌السلام حين رفع شعار لعنه وقتاله. وأنَّ العراقيين كانوا مصيبين في نصرتهم علياً عليه‌السلام وفي بيعتهم للحسن بن علي عليه‌السلام.

__________________

الله بن محمد حدثنا سفيان عن أبي موسى قال سمعت الحسن يقول استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ... فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز فقال اذهبا إلى هذا الرجل فارعضا عليه وقولا له واطلبا إليه ...

١٠١

٣. تفرض على معاوية ان يتعامل / ولو ظاهريا ولمدة محدودة / بإيجابية مع ذكر علي عليه‌السلام بخير.

٤. تضمن اختلاط العراقيين مع الشاميين في أجواء المحبة والأمان ليتمكَّن العراقيون من نقل أخبار الإمامة الإلهية في علي عليه‌السلام وأخبار سيرته المشرقة.

٥. تحقق أجواء الأمان في الأمة كلها وتطوق الفكر التكفيري حلقات الاغتيال التي نشأت عنه.

٦. تدفع التهديد الخارجي الذي يلوح به الروم البزنطيين.

وليس من شك أن الصيغة الوحيدة التي تحقق كل الأمور الآنفة الذكر هي التنازل المشروط عن السلطة المدنية لمعاوية من قبل الحسن عليه‌السلام.

وهي أطروحة ليست صعبة على الحسن عليه‌السلام فهو أساساً إمامٌ هادٍ تهمُّه قضية الهداية والرسالة ومصلحة الأمة العامة قبل كل شيء ، والحكم القائم على بيعة الناس بالنسبة إليه / على الرغم أنه من حقه ويجب على الأمة أن تبايعه / لا يزيد من إمامته الإلهية شيئاً ولا ينقص منها شيئا.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعد الحسن عليه‌السلام لهذه المهمة الإلهية بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين سبطان من الأسباط) (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إن ابنيي هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). (٣)

__________________

(١) المفيد ، الإرشاد ، ص ١٩٩ ، الطبرسي ، اعلام الورى ، ص ٢١٦.

(٢) الطبراني ، المعجم الكبير ، ج ٣ ص ٣٢.

(٣) الحديث مروي بطرق مختلفة وأسانيد متعددة في كتب الحديث : قال ابن كثير في البداية والنهايةي ج ٦ ص ٢١٤ ـ ٢١٥ ما خلاصته : (وقد روى هذا الحديث البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والصنعاني في المصنف والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهم كلهم عن الحسن بن أبي بكرة الثقفي ، وقال المزي في أطرافه : وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة ، وروي أيضا من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي‌الله‌عنه) أقول : رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج ٣ ص ٤٣٣ ، وج ٨ ص ٢٦ بسنده عن جابر. وفي الاستيعاب لابن عبد البر ج ١ ص ٢٣٠ قال : وتواترت الآثار الصحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لحسن بن علي : (إن ابني هذا سيد وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) رواه جماعة من الصحابة. وقد كتب الأستاذ حسن فرحان المالكي في كتابه (نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي ص ٢٤٣) يقول : (ومثلما حارب الرافضة حديث (صلح الحسن) فقد حارب النواصب (حديث عمار) ، إما بتضعيفه (رغم أنه متواتر ...) أقول : ان عمل

١٠٢

وكذلك هي ليس صعبة على العراقيين شيعة علي عليه‌السلام المؤمنين بمشروعه ، فهم على نهجه يحملون همَّ هداية الأمة ومؤازرة القائد الإلهي المذخور لها. وليسوا طلّاب سلطة ودنيا وقد شهد لهم علي عليه‌السلام بذلك.

قال عليه‌السلام : (وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة). (١)

وقال عليه‌السلام مخاطبا لهم : أنتم الأنصار على الحق ، والأخوان في الدين والجنن يوم البأس والبطانة دون الناس. (٢)

وقال عليه‌السلام : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرنَّ الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجار. (٣)

ولا زالت الكلمة الرائعة التي تمثل بها الحسن عليه‌السلام حين رحل عن الكوفة بعد الصلح في حُسن ثقته بالعراقيين يحفظها التاريخ وهي قوله :

__________________

الحسن عليه‌السلام كان صحيحا لأنه معصوم ، وكان إصلاحا حقيقيا في الأمة سواء بالتحليل الذي تبنته هذه الدراسة أو بالتحليل السائد إذ ان الأمة قد توحد شقاها وساد الأمان فيها عشر سنوات واختلط العراقيون بالشاميين وتعرفوا على سيرة علي عليه‌السلام وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أهل بيته ، ولم يروَّع شيعي واحد خلال هذه الفترة وإنما نكث معاوية عهده مع الحسن عليه‌السلام وغدر به سنة خمسين حيث دس له السم ونقض كل شرط اشترطه. والحديث النبوي الآنف الذكر فيه نبوءة تحققت وهداية للنصف الغربي من البلاد الإسلامية جرت على يد الحسن عليه‌السلام. نعم هناك بعض الكتاب المحدثين من الشيعة حاول تضعيف الحديث ولعل مراد ذلك إلى تركيز بعض الكتاب السنة على صلح الحسن عليه‌السلام ومحاولتهم تخطئة قتال علي عليه‌السلام لأهل الشام من خلاله ، مضافا إلى الغفلة عن كلمة الامام الحسن وكلمة الامام الباقر في الصلح. غير ان كلا الموقفين لا يمثلان الموقف العام لدى المدرستين.

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج ١٥ ص ٨١. الدينوري ، الاخبار الطوال ، ص ٢٧٨. نصر بن مزاحم ، وقعة صفين ، مكتبة المرعشي النجفي ١٤٠٣ ، ص ٤٧١.

(٢) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٩٣. قال ابن أبي الحديد : الجَنَن : جمع جُنة ، وهي ما يستر به. وبطانة الرجل : خواصه وخالصته الذين لا يطوى عنهم سره.

(٣) ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، دار إحياء التراث ١٩٧٩ م ، ج ٧ ص ١٦٠. وعن سعيد بن الوليد الهجري عن أبيه قال قال علي وهو بالكوفة ما أشد بلايا الكوفة لا تسبوا أهل الكوفة فوالله إن فيهم لمصابيح الهدى وأوتاد ذكر ومتاع إلى حين والله ليدقن الله بهم جناح كفر لا ينجبر أبدا إن مكة حرم إبراهيم والمدينة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكوفة حرمي ما من مؤمن إلا وهو من أهل الكوفة أو هواه لينزع إليها ألا إن الأوتاد من أبناء الكوفة وفي مصر من الأمصار وفي أهل الشام أبدال. ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ، ج ١ ص ٢١٩.

١٠٣

ولا عن قِلىً فارقتُ دارَ معاشري

همُ المانعونَ حوزتي وذماري (١)

وقد عَرَفَ ذلك للعراقيين أيضا خصمهم عبد الله بن الزبير حين قال له معاوية متشكياً : أنَّ الحسن عليه‌السلام لم يزره في المدينة إلا مرة واحدة ، وكان يتوقع أن يزوره أكثر من مرة ، قال له : والله لو شاء الحسن أن يضربك بمئة ألف سيف لفعل ، ولأهلُ العراق أبرُّ به من أمِّ الحُوار بحُوارها. (٢)

وعَرَفَ هذه الصفة لهم أيضا معاوية نفسه خلال سنوات الصلح حين انطلق أخيارهم ورموزهم من الرجال والنساء بفقه في الدين وجرأة في الحوار مع الحاكم ووفاء لعلي عليه‌السلام منقطع النَّظير يروون لأهل الشام ولغيرهم سيرة علي عليه‌السلام المشرقة وسوابقه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد شهد لهم معاوية بوفائهم لعلي ومنهجه حين قال : (هيهات يا أهل العراق لقد فقهكم علي فلن تطاقوا!)

وحين قال : (لقد لمظكم علي الجرأة على السلطان).

وحين قال : (واللهِ لوفاؤكم له بعد موته أعجب إلي من حبِّكم له في حياته!). (٣)

ان مشروع الهداية وحل المشكلات لا يحتاج فقط إلى قائد رسالي إلهي تسمح له نفسه بالتنازل عن حق بمستوى ملك العراق والبلاد التابعة له لأجل الرسالة والهداية والمصلحة العامة للأمة ، بل هو بحاجة أيضا إلى قناعة العراقيين بذلك وأهليتهم لحمل

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢١٥ ، البلاذري ، انساب الاشراف ج ٣ ص ٣٦٤.

أقول : وذمار الرجل هو ما يلزمه حفظه وحياطته وحمايته وعدم تضييعه بان يقاتل عنه ويقتل من اجله والا لزمه اللوم. وقد وضع الاعلام العباسي في قبال حسن ظن الامام الحسن عليه‌السلام بأهل الكوفة الرواية التي تقول : ان الحسن قال لأهل الكوفة : والله لو لم تذهل نفسي عنكم إلا لثلاث لذهلت انتهابكم ثقلي وقتلكم أبي وطعنكم في فخذي) (ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ، ج ٤ ص ٩٦) (الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج ١ ص ١٤٩).

(٢) انظر الاصبهاني ، أبو الفرج ، الاغاني ، دار إحياء التراث العربي ، ج ٩ ص ١١٩ ، والحُوار : ولد الناقة من وقت ولادته إلى ان يفطم ويفصل.

(٣) انظر هذه الكلمات في رسالة الوافدات على معاوية تحقيق سكينة الشهابي وقد اوردناها في الفصل الثاني من هذا الباب.

١٠٤

ثقافة الولاء لعلي إلى غيرهم ، وقد أثبت العراقيون أنهم كذلك حيث استجابوا (١) للحسن عليه‌السلام وقاموا بمهمة الهداية معه كما سيأتي.

العمق الاستراتيجي للحسن عليه‌السلام والتفكير المحدود لمعاوية

المعادلة التي صنعها الحسن عليه‌السلام مع معاوية هي أن يسلم السلطة المدنية في العراق لمعاوية لتكون الحكومة واحدة في البلاد الإسلامية بشروط يشترطها على معاوية منها : ان يكون الحكم بعد معاوية للحسن وان حدث به حدث فللحسين لتكافؤ مكانتهما قيمتهما المعنوية في الإسلام وليس له ان يعهد إلى احد من بعده وأن يتقيد معاوية في حكمه بالكتاب والسنة ، وأن لا يذكر علياً عليه‌السلام إلّا بخير ، وأن يأمن شيعة علي عليه‌السلام أينما كانوا ، وأن يفضل بني هاشم في العطاء على بني شمس وشروط أخرى.

ومن الواضح أن الطرف الأول من المعادلة / وهو تسليم الحكم / يسد الباب على معاوية أن يشترط أي شرط ويفتح الباب للحسن عليه‌السلام أن يشترط شروطه بكل حرية. ويجعل معاوية أمام خيارين لا ثالث لهما أما قبول المعادلة كلها وأما رفضها كلها :

أما قبول شروط الحسن عليه‌السلام ليحصل على ملك العراق الذي لم يكن يحلم به.

أو رفض الملك لأجل مبادئه التي انطلق منها في حربه مع علي عليه‌السلام التي خلاصتها : أن معاوية كان يقاتل علياً عليه‌السلام من أجل دم الخليفة المظلوم عثمان وأن علياً خالف سيرة الشيخية في حج التمتع وغيره. ولكن هذا الفرض الأخير غير وارد في طريقة تفكير معاوية لان الملك عنده هو الأَهم من كل شيء ، وبالتالي فليس لديه مانع من ان يعطي عهدا ثم ينقضه بعد فترة من الزمن ، ولم تغب هذه الحقيقة عن الحسن عليه‌السلام الذي يهمه معالجة الانشقاق وكسر الطوق الاعلامي الكاذب ضد علي في الشام والمعرفة بحديث الغدير وحديث الثقلين وغيرها من الأحاديث التي تؤسس الإمامة الإلهية الهادية لأهل البيت ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، وهذا الأمر يحتاج إلى سنوات

__________________

(١) أقول : هناك روايات تذكر ان حجر بن عدي خاطب الحسن بكلمات غير لائقة بعد الصلح ولكننا نرى انها جزء من ذلك الكم الموضوع من روايات الاعلام العباسي الذي اشرنا إليه ، راجع البلاذري ، انساب الاشراف ، ج ٣ ص ٣٦٥.

١٠٥

لا غير ، وحين ينقض معاوية عهده بعد ذلك فانها قضية ان حصلت فقد اعد لها المشروع النبوي الحسين قائدها الإلهي الخاص سلفا لمواجهتها.

ان أطروحة الحسن للصلح تدفع معاوية دفعا لان يستقبلها ولا يرفضها ولو رفضها لكان الملوم عند شعبه. وفي الوقت نفسه فان معاوية يعلن ان قبوله للشروط معناه ظهور أمر الإمامة الإلهية لعلي في الشام وانه امتداد لرسول الله في سيرته ، وأنَّه في مخالفته لسيرة الشيخين في حج التمتع وغيرها كان مصيبا (١) وان كل من خالف عليا في صغيرة أو كبيرة كان على الباطل ، ولكنه افتضاح كان معاوية قد استبطن الخطة لعلاجه كما اشرنا انفا.

إنَّ الحسن عليه‌السلام بتنازله المشروط عن السلطة يكون قد حقق فتحاً عظيماً لقلوب أهل الشام إزاء أبيه علي عليه‌السلام ، وهيأها لاستقبال نصوص ولايته الإلهية التأسيسية من الكتاب والسنة ، كما حقق صلح الحديبية من قبل فتحاً مبيناً لقلوب سكان أهل الحجاز ونَجْد إزاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهيأها لاستقبال الإسلام والاعتراف بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويتبيَّن بذلك سرُّ قول الإمام الحسن عليه‌السلام لأحد أصحابه : (إن علة مصالحته لمعاوية هي علة مصالحة النبي لقريش). (٢)

وسرُّ قول الإمام الباقر : (والله لَلذي صنعه الحسن بن علي عليه‌السلام كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس والقمر). (٣)

وبذلك يتضح أيضا العمق الاستراتيجي عند الحسن عليه‌السلام إذ أنه كان يفكر أساسا بفتح قلوب أهل الشام لمشروع علي عليه‌السلام ، ومعالجة الانشقاق لتستعيد الأمة قوتها في مواجهة التهديد الخارجي للروم والتهديد الداخلي من حملة الفكر التكفيري الخوارج.

أما معاوية فهو يفكر بحدود موضع قدميه أنه يرغب في الملك ولو على أساس يفضحه ، وإن تطلّعت نفسه إلى رغبة أعمق فيما بعد فإنه يُقيمها على أساس نقض العهد والكذب وليس على أساس الالتزام بالعهود والصدق مع الله والنفس والمجتمع.

__________________

(١) انظر قصة حج التمتع مفصلة في كتابنا شبهات وردود ص ٢١١.

(٢) المجلسي ، بحار الأنوار ، ج ٤٤ ص ٢٧٣ نقلا عن علل الشرائع للشيخ الصدوق.

(٣) الكليني ، الفي ، دار الكتب الإسلامية طهران ١٣٦٣ ش ، ج ٨ ص ٢٥٨.

١٠٦

وفي ضوء هذا البيان يتضح :

أنَّ مبرر الصلح بشكل تنازل مشروط عن السلطة الذي تبلور عند الإمام الحسن عليه‌السلام ليس مرده إلى طبيعة التخاذل والضعف في شخصية الحسن كما تبنى المستشرقون ذلك اعتماداً على روايات موضوعة. (١)

ولا إلى الخيانات والضَّعف والشك الذي عاشه جيش الحسن عليه‌السلام أو شَعبه كما تصوره لنا روايات أخرى كلها من وضع الإعلام العباسي.

بل مرده إلى تفكير موضوعي في الظرف الذي تمر به الرسالة والأمة ليحفظ مصالحهما.

اما مصلحة الرسالة فقد نهض بها علي عليه‌السلام ليكون الكتاب والسنة دون إضافة رأي احد هي الدستور الحاكم في البلاد وليكون رأي الحاكم في المسائل الدينية العملية الشخصية مذهبا من المذاهب يترك فيه الخيار للامة ان شاءت أخذت به وان شاءت تركته وأخذت براي آخر.

اما مصلحة الأمة في زمن الحسن عليه‌السلام فهي معالجة الانشقاق الذي استحكم فيها ، وملاحقة الارهابيين الذين نغصوا العيش الآمن ، والاستعداد لمواجهة تهديد الروم على الجبهة الشمالية الشرقية.

__________________

(١) روى المدائني ، قال : لقي عمرو بن العاص الحسن عليه‌السلام في الطواف ، فقال له : يا حسن ، زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك ، فقد رأيت الله أقامه بمعاوية ، فجعله راسيا بعد ميله ، وبينا بعد خفائه ، أفرضي الله بقتل عثمان ، أو من الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالطحين ، عليك ثياب كفرقئ البيض ، وأنت قاتل عثمان ، والله إنه لألم للشعث ، وأسهل للوعث ، أن يوردك معاوية حياض أبيك ، فقال الحسن عليه‌السلام : إن لأهل النار علامات يعرفون بها ، إلحادا لأولياء الله ، وموالاة لأعداء الله ، والله إنك لتعلم أن عليا عليه‌السلام لم يرتب في الدين ، ولا يشك في الله ساعة ولا طرفة عين قط ، وأيم الله لتنتهين يا بن أم عمرو أو لانفذن حضنيك بنوافذ أشد من القعضبية : فإياك والتهجم عليَّ ، فإني من قد عرفت ، لست بضعيف الغمزة ، ولا هش المشاشة ، ولا مرئ المأكلة ، وإني من قريش كواسطة القلادة ، يعرف حسبي ، ولا أدعى لغير أبي ، وأنت من تعلم يعلم الناس تحاكمت فيك رجال قريش ، فغلب عليك جزاروها ، ألأمهم حسبا ، وأعظمهم لؤما ، فإياك عني ، فإنك رجس ، ونحن أهل بيت الطهارة ، أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا ، فأفحم عمرو وانصرف كئيبا. (ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢٢٢).

١٠٧

وهكذا عالج الحسن عليه‌السلام الانشقاق المستعصي بأطروحة التنازل المشروط : بان تكون الدولة واحدة وان يكون معاوية أول رئيس لمبايعة أهل الشام له ثم يكون الحسن بعده لمبايعة أهل العراق بشروط يضعها الحسن لضمان مصالح شيعته دون المساس بمصالح أهل الشام.

ويتضح من ذلك ان الحسن يهمه ان تتوحد الأمة على حاكم وان يتقيد هذا الحاكم بشروط تضمن مصلحة شعبه الذي بايعه من دون المساس بمصلحة أهل الشام ولا يهمه ان يلي الحكم بعد معاوية ، اما معاوية فيهمه ان يحكم سواء على الشام وحدها بسيرة الشيخين أو على الأمة كلها من دون سيرة الشيخين.

ويتضح من ذلك أيضا ان الحسن يريد المبدأ وليس الملك فهو مستعد ان يسلم الملك لخصمه بشرط العمل بالكتاب والسنة (١) فهو على سر أبيه علي حين رفض الملك المشروط بسيرة الشيخين لأنها اجتهاد مخالف للكتاب والسنة كلاهما لا يهمهما الحصول على الملك كيفما اتفق ولا يهمهما التمسك بالملك بأي صورة.

وان معاوية يريد الملك وليس المبدأ نظير سلفه عثمان من قبل حين قبل الملك بشرط العمل بسيرة الشيخين مع انها اجتهاد مخالف للكتاب والسنة.

والحسن عليه‌السلام بطريقة التفكير هذه كان واثقا كل الثقة أنَّ أهل الشام فضلا عن شيعة أبيه سوف يستقبلون صيغته للصلح لما يرون فيها من حفظ مصالح واختيارات الجميع ونكران للذات من الحسن عليه‌السلام يشهده الجميع.

وهكذا كان الأمر.

وطار معاوية فرحاً حين بلغته أطروحة الحسن عليه‌السلام وهي : ان تكون دولة واحدة

__________________

(١) أقول : لابد من الإشارة إلى ان للحسن عليه‌السلام ولكل الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام صفتان ؛ الأولى كونه إماما هاديا معصوما وهذه الصفة تنتقل اليهم بالوصية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الثانية كونه حاكما على الأمة ببيعتها له وهذه الصفة الأخيرة من لوازم الصفة الأولى وهي ذات مستويين : الأهلية ولا تنفك عنه بحال أيضا وعلى الأمة ان تقدم على بيعته على الحكم ولا تبايع غيره ، وللإمام ان يقبل البيعة وله ان يرفضها تبعا للظرف وقدرة المبايعين ، الثاني الفعلية وللإمام ان يتنازل عن الحكم أو يجمده لوقت ما تبعا للمصلحة العامة التي يقدرها وعلى الأمة ان تستجيب له لعصمته اما في عصر الغيبة فالمؤهل للحكم هو كل فقيه عادل تراه الأمة كفوءا والتفصيل في موضع آخر.

١٠٨

يحكمها حاكم واحد هو معاوية ومن بعده الحسن ، وان يتقيد معاوية في حكمه بشروط يمليها الحسن ، وسال لعابه ولابد انه أدرك بداهة ماذا ستكون شروط الحسن وأولها شرط العمل بالكتاب والسنة دون إضافة سيرة الشيخين وثانيها ان يترك سب علي وثالثها أمان كل شيعة علي وكلها حق فلم لا يستجيب للحق حين يدر عليه مصلحته ولكل حادث حديث.

فبعث للحسن عليه‌السلام أوراقاً بيضاء موقعة يكتب فيها الحسن عليه‌السلام ما شاء من الشروط.

وكتب الحسن عليه‌السلام شروطه لأطروحته وهي :

١. أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمر الذي قامت عليه دولة النبي في المدينة. (١)

٢. وأن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة (والسنة تنهى عنه) وأن لا يذكر علياً إلا بخير (وهو مما تامر به السنة). (٢)

٣. وأمان شيعة علي حيث كانوا ما داموا لم يرتكبوا ما يوجب العقوبة (وهو مما يأمر به الكتاب والسنة).

٤. وأن يفضِّل بني هاشم في العطاء والصِّلات على بني عبد شمس (٣) (وهي سيرة النبي).

٥. وان يعطي للحسن عليه‌السلام مليوني دينار سنويا. (نحن نشك في هذا الشرط انظر الباب الرابع الفصل الثالث الصفحة ٥٦٥).

٦. وأن لا يسميه أمير المؤمنين (لان هذه التسمية ابتدعت لعمر في زمنه وهي أساسا لقب خاص لعلي عليه‌السلام). (٤)

__________________

(١) المدائني فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ١٦ ص ٢١٩ ، انساب الاشراف ج ٣ ص ٢٨٧.

(٢) الأصفهاني ، مقاتل الطالبيين ، المكتبة الحيدرية النجف ١٩٦٥ م ، ص ٦٦ ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة : ج ١٦ ص ٢٣٣.

(٣) الدينوري ، الأخبار الطوال ص ٣٢١.

(٤) قال السيوطي في شرح شواهد المغني ص ٥٧ : «روينا بسند صحيح إن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم هما اللذان سميا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين حين قدما عليه من العراق». وذكر القصة في تاريخ الخلفاء ص ٩٤. وأخرج الطبري في تاريخه ٥ : ٢٢ بالإسناد عن حسان الكوفي قال : لما ولى عمر

١٠٩

٧. وان لا يقيم عنده شهادة (وتعني ان ولايته تنفيذية فقد فليس له صلاحية ان يقضي أو يشرع). (١)

الوفاء بالشروط مدة عشر سنوات

وعادت للأمة إلفتها وودها.

وقُطِع الطريق على الانشقاق أن يستمر وتستمر معه لوازمه بالظهور.

وتفرغت الدولة لملاحقة التكفيريين الخوارج.

وعاد الأمان لكل المسلمين في بلادهم شرقاً وغرباً. كما تفرغت لمواجهة تهديد ملك الروم في الجبهة الشمالية الشرقية للشام.

وكُسِر الطوق الاعلامي الكاذب ضد علي عليه‌السلام. وعرفه أهل الشام وغيرهم مظلوماً ظلمته قريش المسلمة حقه وهو الإمام الهادي الذي شهدت له آيات الكتاب وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما شهد له من عاشره بذلك.

ووصلهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه يوم الغدير : من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.

وحديث المنزلة.

وحديث الكساء.

ووصلتهم أخبار حج التمتع التي حاولت السلطات القرشية والإعلام الأموي الكاذب التعتيم عليها ووصف حركة علي عليه‌السلام باتجاه إحياء حج التمتع بالإفساد في الدين ، وعرفوا أنَّ علياً قد أحيا الحج الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو حج التمتع.

ووصلتهم أخبار أخرى كثيرة تتصل بسنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي عملت قريش المسلمة على تغييرها أو التعتيم عليها.

ووصلهم وصفُ ضرار له بل سمعوه منه في بلاط معاوية حين طلب منه أن يصفه قائلاً :

__________________

قيل : يا خليفة خليفة رسول الله ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : هذا أمر يطول كل ما جاء خليفة قالوا : يا خليفة خليفة خليفة رسول الله ، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم فسمي أمير المؤمنين.

(١) ستأتي مصادر هذه المواد في الفصل الخامس من هذا الباب ان شاء الله.

١١٠

(كان واللهِ بعيدَ المدى ، شديدَ القِوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلا ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانِبِه ، وتنطِقُ الحِكمَةُ من نواحيه ، يستوحشُ من الدنيا وزَخرتها ، ويأنسُ بالليلِ ووحشتِه ، غزيرَ العَبرة ، طويلَ الفكرة ، يُعجِبُه من اللِّباس ما قَصُر ، ومن الطعام ما خَشُن. كان فينا كأحَدِنا ، يجيبُنا إذا سألناه ، وينبئُنا إذا استفتيناه ، ونحن واللهِ مع تقريبِه إيانا وقُربِه منّا لا نكاد نكلِّمه هيبةً له. يعظِّم أهلَ الدين ويُقرِّب المساكين. لا يطمع القَويُّ في باطله ، ولا ييأَسُ الضعيفُ من عدله ، وأشهدُ لقد رأيتُه في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليلُ سدولَه ، وغارت نجومُه ، قابضاً على لحيته ، يتململُ تململَ السَّليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا غُرِّي غيري ، أبي تَعرَّضتِ أمْ إليَّ تَشوَّفتِ.

هيهات هيهات قد باينتُك ثلاثاً لا رجعة لي فيها ، فعُمرك قصير وخطرك حقير.

آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

وشهدوا من معاوية بعد هذا الوصف نزف دموعه على لحيته وقوله : رحم الله أبا حسن كان والله كذلك.

مسمعوا جواب ضرار حين سأله معاوية : عن حزنه على علي.

قال : حزب من ذبح ولدها في حجرها. (١)

ووصلهم وعي مالك الاشتر ونظرائه من أبطال العراق مع علي عليه‌السلام للمعركة الأساسية مع قريش في الجمل وصفين وهدفهم من تمردهم ، فقد قال رحمه‌الله في صفين : (إن هؤلاء القوم والله لن يقارعوكم إلا عن دينكم ، ليطفئوا السنة ، ويحيوا البدعة ، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة) (٢) ، وستأتي كلمات أخرى نطق

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٣٣١ : بعد ان أورد وصف ضرار : إن الرياشي روى خبره ، ونقلته أنا من كتب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة. ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب ، ج ٢ ص ٥٢. وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٢٧٨ ، والمحب الطبري في الرياض النضرة في مناقب العشرة ، دار الكتب العلمية بيروت ، ج ٣ ص ١٨٧. وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، ج ١ ص ١٢٦.

(٢) ابن مزاحم المنقري ، وقعة صفين ، ص ٢٥١ ، أقول : وقول مالك رضوان الله عليه (ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة) هذا الأمر هو اعتقادهم إمامة علي بالنص. فهو يحتاج إلى حسن بصيرة من الإنسان ليفارق عقيدته بإمامة قريش المسلمة ويدخل في إمامة علي. اما من

١١١

بها أصحاب علي عليه‌السلام في بلاط معاوية في سنوات الصلح.

وشهدوا الناس الحسن عليه‌السلام في سيرته الشخصية إماماً أيضا على سمت أبيه.

وشهدوا منه الحج ماشيا خلال هذه السنوات العشر والنجائب تقاد بين يديه. (١) قد حج قبل ذلك خمسا او عشرا زمن ابيه عليه‌السلام.

وهذا حفيده من ابنته الإمام الصادق عليه‌السلام يصف عبادة جده الحسن عليه‌السلام قال حدثني أبي عن أبيه عليهما‌السلام أن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام :

كان أعبد الناس في زمانه ، وأزهدهم وأفضلهم ،

وكان إذا حج حج ماشيا ، وربما يمشي حافيا ،

وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى ، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها.

وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل ،

وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، ويسأل الله تعالى الجنة ، ويعوذ به من النار ،

وكان لا يقرأ من كتاب الله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا) إلا قال : لبيك اللهم لبيك ، ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكرا لله سبحانه ،

وكان أصدق الناس لهجة ، وأفصحهم منطقا. (٢)

__________________

ليس له حسن بصيرة فهو مصداق لقوله تعالى (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) يوسف / ١٠٥ ، وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام بمناسبة الغدير وغيره آيات إلهية لأنه لا ينطق عن الهوى.

(١) قال عبد الله بن العباس : ما ندمت على شيء فاتني في شبابي إلا أني لم أحج ماشيا ، ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا وإن النجائب لتقاد معه. (الذهبي ، سير اعلام النبلاء ج ٤ ص ٣٨٧) أو في رواية علي بن زيد بن جدعان قال حج الحسن خمس عشرة حجة ماشيا. (ابن عساكر ، تاريخ مدينة دمشق ، ج ١٤ ص ٧٢). والحاكم النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين ، تحقيق المرعشلي ، ج ٣ ص ١٨٥ ، البلاذري ، انساب الاشراف ج ٣ ص ٢٦٨.

(٢) الشيخ الطوسي ، الأمالي ، دار الثقافة قم ١٤١٤ هـ ، ص ١٤٠.

١١٢

انتشار سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى أهل البلاد المفتوة شرقاً

وغرباً بفضل مشروع علي عليه‌السلام وصلح الحسن عليه‌السلام

وهكذا انتشرت ثقافة الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام التي أسسها الكتاب والسنة وانفتح أهل البلاد شرقاً وغرباً بعضهم على بعض وصاروا أمة واحدة وعلى مستوى واحد من المعرفة بحديث الغدير وحديث الثقلين وحديث المنزلة وغيرها من النصوص التي تؤسس الإمامة الإلهية لأهل البيت عليهم‌السلام وأولهم علي عليه‌السلام أخذ بها من شاء وتركها من شاء ، شأنهم شأن المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. عملاً بقاعدة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) البقرة / ٢٥٦ التي أسسها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المعتقد.

وكانت الفترة التي استغرقتها نهضة علي عليه‌السلام من أيام الحج سنة ٢٧ هجرية إلى وفاة ولده الحسن عليه‌السلام مسموماً نهاية سنة ٥٠ هـ لإحياء سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونشرها كثقافة في الأمة الإسلامية ثلاث وعشرين سنة ، وهي نظير الفترة التي استغرقتها مهمة نشر أحكام الإسلام منذ بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم الثامن عشر من ذي الحجة يوم بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمته في غدير خم بولاية علي عليه‌السلام الإلهية.

وفي الفصل الآتي نذكر طرفا من اخبار نشاط أصحاب علي في الشام أيام الصلح وطرف من أحاديث النبي في حق علي عليه‌السلام وطرف من سيرة علي عليه‌السلام.

١١٣

الباب الثاني / الفصل الثاني

السنوات العشر الاولى من الصلح (سنوات الفتح المبين لمشروع علي عليه‌السلام)

رؤيتان للسنوات العشر قبل وفاة الحسن عليه‌السلام

هناك جملة من الروايات التاريخية وهي التي استندت إليها الرؤية السائدة والمشهورة ، تصور لنا ان معاوية دخل الكوفة وأخذ البيعة من الناس ثم خطب فيهم بحضور الحسن والحسين ووجوه أصحابهم واعلن لهم ان كل شرط اشترطه الحسن فهو مردون ، ثم تناول عليا بالطعن وأمر ولاته بذلك ... ثم تتابعت سياسة ترويع الشيعة وتهجيرهم وسجنهم. (١)

__________________

(١) عمدتها روايات أبي الفرج وقد ساقها بثلاثة أسانيد :

سندان منها عن أبي عبيد احدهما فيه عبد الرحمن بن شريك ت ١٧٧ هـ ولي قضاء الكوفة للمنصور وابنه ، والآخر عن عثمان بن أبي شيبة وقد رواه في مسنده عن أبي معاوية الضرير وهو من جلساء هارون ووضع له أحاديث في ذم الرافضة وكلاهما يرويانها عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد وهو مجهول.

والسند الثالث عن المقانعي عن جعفر بن محمد بن الحسين الزهري عن حسن بن الحسين العرني عن عمرو بن ثابت (ابن أبي المقدام) عن أبي إسحاق السبيعي وهي أساسا رواية عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد ولكن السبيعي دلس فيها وتدليسه لا يضر بوثاقته وبخاصة وقد وقع منه في أخريات عمره مضافا إلى ان تخلف معاوية عن الشروط وغدره بالحسن عليه‌السلام مسالة مفروغ منها وانما الكلام هل كان هذا النقض في أول الصلح أو بعد عشر سنوات عقده.

ويضيف ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج ٥٢ ص ٣٣ ـ ٦٠ رواه آخر قال عن محمد بن خالد

١١٤

غير ان هذه الروايات على فرض صحة سندها تواجهها عدة قضايا :

١. ان تهجير خمس وعشرين ألف من الكوفة ومثلهم من البصرة انما كان بعد سنة خمسين أي بعد عشر سنوات من الصلح أي بعد وفاة الحسن عليه‌السلام. (١)

٢. قتل حجر بن عدي وأصحابه انما تم بعد عشر سنوات من الصلح أي بعد وفاة الحسن عليه‌السلام. (٢)

٣. إعادة لعن علي إلى المجتمع انما تم بعد عشر سنوات من الصلح أي بعد وفاة الحسن عليه‌السلام كما تفيد روايات امتناع سعد عن لعن علي وتهديده بان يقاطع المسجد إذا لعن علي فيه.

روى ابن عبد ربه قال : لما مات الحسنُ بن عليّ حَجّ معاوية ، فدخل المدينة وأراد أن يَلْعن عليَّا على مِنبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقيل له : إن هاهنا سعدَ بن أبي وقاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخَذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرُجن من المسجد ، ثم لا أعود إليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد. (٣)

__________________

يعني القرشي الدمشقي حدثني محمد بن سعيد بن المغيرة الشيباني عن عبد الملك بن عمير ان معاوية خطب عند دخوله الكوفة ومحمد بن خالد قال عنه أبو حاتم الرازي كذاب والشيباني مجهول.

(١) كتب زياد إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان ثم بعث الربيع بن زياد الحارثي إلى خراسان في خمسين ألف من البصرة (خمسة وعشرين ألفا ومن الكوفة خمسة وعشرين ألفا) على أهل البصرة الربيع وعلى أهل الكوفة عبد الله بن أبي عقيل وعلى الجماعة الربيع بن زياد ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٦٣ ، وفي رواية البلاذري زيادة في الايضاح حيث قال : ثم ولى زياد الربيع بن زياد الحارثي سنة إحدى وخمسين خراسان ، وحول معه من أهل المصرين زهاء خمسين ألفا بعيالاتهم. وكان فيهم بريدة بن الحصيب الاسلمي أبو عبد الله ، وبمرو توفى في أيام يزيد بن معاوية. وكان فيهم أيضا أبو برزة الاسلمي عبد الله بن نضلة وبها مات. وأسكنهم دون النهر. البلاذري ، فتوح البلدان ، مكتبة النهضة المصرية ١٩٥٦ م ، ص ٣٩٦.

(٢) الحاكم النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين ، تحقيق المرعشلي ، ج ٣ ص ٥٣١. وابن الاثير ، اسد الغابة ج ١ ص ٥٢٥. وابن عبد البر ، الاستيعاب ، ج ١ ص ١٩٧. وابن حجر ، الاصابة ، ج ١ ص ٤٧١ ، وابن سعد ، الطبقات الكبرى ، ج ٦ ص ٤٦٨ ، ويراجع كل من ترجم لحجر بن عدي وفي تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٨٩ عن أبي إسحاق قال ادركت الناس يقولون : ان أول ذل دخل الكوفة موت الحسن ابن علي وقتل حجر ودعوة زياد ، وفي شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢١١ عن ابن العباس قال أول ذل دخل على العرب موت الحسن عليه‌السلام.

(٣) ابن عبد ربه الاندلسي ، العقد الفريد ، دار الكتب العلمية بيروت ١٤٠٤ ، ج ٤ ص ١٥٩.

١١٥

فلما مات لَعنه عَلَى المنبر ،

وكتب إلى عماله أن يَلعنوه على المنابر ، ففعلوا.

فكتبتْ أم سَلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى معاوية : إنكم تلعن الله ورسولَه على منابركم ، وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه ، وأنا أشهد أن الله أحبَّه ورسولَه ، فلم يلتفت إلى كلامها.

ومن المعلوم ان وفاة سعد كانت بعد وفاة الامام الحسن عليه‌السلام وفي السنة نفسها سنة ٥١ هـ.

ويؤيد ذلك روية المسعودي ان زيادا جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لعن علي فمن أبى ذلك عرضه على السيف. (١) ومن المعلوم ان ولاية زيادا على الكوفة كانت سنة ٥١ بعد موت المغيرة بن شعبة.

٤. ان استضافة معاوية للشخصيات العراقية وحواراته معهم وموضوعه الأساس سيرة علي وقد ترحم عليه مرارا أمر لا ينسجم مع حالة الاعلام السلبي ضده الا بافتراض انه قد تم في سنوات الصلح قبل وفاة الحسن عليه‌السلام ، وان إعادة الاعلام السلبي انما كان بعد موت الحسن عليه‌السلام.

٥. ان معاوية ما كان يحلم ان يتسلم ملك العراق ، بل كان قصارى ما يفكر فيه هو ان يترك علي عليه‌السلام في زمانه ثم الحسن من بعده الشام له يحكمها كما يرغب ، وحين عرض عليه الحسن كانت أمامه مهمة قبول العرض وتحقيق طموح جديد باللين وإظهار الانفتاح على علي وشيعته والوفاء بالعهود ليتم له حكم البلاد كلها ، وبغير ذلك فان مع الحسن كل شيعته وهم قادرون على عن الدفاع عن انفسهم وإعادة سلطانهم في العراق. (٢)

__________________

(١) المسعودي ، مروج الذهب ، دار الهجرة ايران ١٩٨٤ م ، ج ٣ ص ٢٠.

(٢) روى ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج ١٤ ص ١٠٤ بسنده عن جبير ابن نفير يحدث عن أبيه قال قلت لحسن بن علي ان الناس يزعموا انك تريد الخلاف؟ فقال كانت جماجم العرب بيدي يسلمون من سالمت ويحربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجهه الله تعالى ثم اثيرها باتياس أهل الحجاز.

١١٦

قال مُعاوية لجارية بن قُدَامة : ما كان أهْونَك على أهْلِك إذ سَمِّوْك جارية! قال : ما كان أهونَك على أهلك إذ سَمِّوْك مُعاوية! وهي الأنثى من الكلاب ، قال : لا أمَّ لك! قال : أمِّي وَلَدتْنِي للسيوف التي لَقِيناكَ بها في أيْدِينا ؛ قال : إنك لتُهَدِّدني ؛ قال : إنك لم تَفْتَتِحْنا قَسْراً ، ولم تَمْلِكنا عَنْوةً ، ولكنَّك أعْطَيتنا عَهْداً وَمِيثاقاً ، وأعطيناك سَمْعاً وطاعةً ، فإن وَفَّيت لنا وَفَّينا لك ، وإن فَزِعْت إلى غير ذلك ، فإنّا تَركنا وراءَنا رجالاً شِدَاداً ، وأَلْسِنَةً حِدَاداً قال له مُعاوية : لا كَثّر الله في النَاس أمثالَك ؛ قال جارية : قُلْ مَعْرُوفاً ورَاعِنا ، فإن شَرَّ الدّعاء المُحْتَطب. (١)

روى ابن عبد ربه وابن كثير قالا : قدم معاوية المدينة أول حجة حجها (سنة ٤٤ هجرية) بعد عام الصلح ، فتوجه إلى دار عثمان ، فلمادنا إلى باب الدار. صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها. فقال لها : يا بنت أخي ان الناس قد اعطونا سلطاننا ، فاظهرنا لهم حلما تحته غضب ، واظهروا لنا طاعة تحتها حقد ، فبعناهم هذا بهذا وباعونا هذا بهذا ، فان اعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم ، ومع كل إنسان منهم سيفه وهو يرى مكان شيعته (وفي الرواية وهو يرى انصاره) ، فان نكثناهم نكثوا بنا ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا؟ وان تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من ان تكوني امرأة من عُرُوض الناس. (وفي رواية ابن كثير : وان تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين احب إلي ان تكوني أمة من إماء المسلمين ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك. (٢)

أقول : والشاهد في الرواية هو صيحة ابنة عثمان بوجه معاوية وتذكيرها له بابيها تريد منه ان ينفذ الشعار الذي كان يرفعه وهو الأخذ بثار عثمان واستطاع معاوية ان يقنع عائشة بجوابه انها ابنة عم رئيس الدولة وهذا لا يتم الا إذا عطى الأمان للناس بما فيهم قتلة عثمان بزعم الاعلام الأموي.

أقول : وفي هذه السنة كان مع معاوية في حجه معاوية بن حديج وكان من أسب

__________________

(١) ابن عبد ربه الاندلسي ، العقد الفريد ، ج ٣ ص ٢١٤.

(٢) ابن عبد ربه الاندلسي ، العقد الفريد ، ج ٤ ص ١٥٨ ، ابن كثير ، البداية والنهاية ج ٨ ص ١٢٠. والبلاذري ، انساب الاشراف ج ٢ ص ١٢.

١١٧

الناس لعلي فمر في المدينة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحسن بن علي جالس في نفر من أصحابه فقيل له هذا معاوية بن حديج الساب لعلي رضي عنه فقال علي بالرجل فأتاه الرسول فقال أجب قال من قال الحسن بن علي يدعوك فأتاه فسلم عليه فقال له الحسن بن علي رضي‌الله‌عنه أنت معاوية بن حديج قال نعم فرد عليه ثلاثا فقال له الحسن الساب لعلي فكأنه استحيى فقال له الحسن رضي‌الله‌عنه أم والله إذا وردت عليه الحوض وما أراك ان ترده لتجدنه مشمر الإزار على ساق يذود المنافقين ذود غريبة الإبل قول الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خاب من افترى. (١)

أقول :

والشاهد في الرواية هو ملاحقة الحسن لمعاوية بن حديج لسبه عليا فلو كان السب قد مضى عليه اربع سنوات لكان الأجدر هو محاسبة معاوية بن أبي سفيان الذي أمر بسب علي على المنابر وليس متابعة معاوية بن حديج.

وكذلك ما رواه البلاذري قال حدثني أبو مسعود ، عن ابن عون عن أبيه قال : لمّا ادّعى معاوية زيادا وولَّاه ، طلب زياد رجلا كان دخل في صلح الحسن وأمانه ، فكتب الحسن فيه إلى زياد ، ولم ينسبه إلى أب فكتب إليه زياد : أما بعد فقد أتاني كتابك في فاسق تؤوي مثله الفسّاق من شيعتك وشيعة أبيك! فأيم الله لأطلبنّه ولو بين جلدك ولحمك ، فإن أحبّ لحم إليّ أن آكله للحم أنت منه! فلما قرأ الحسن الكتاب قال : كفر زياد ، وبعث بالكتاب إلى معاوية ، فلما قرأه غضب فكتب إليه : أما بعد يا زياد ، فإن لك رأيين : رأي من أبي سفيان ، ورأي من سميّة ، فأمّا رأيك من أبي سفيان فحزم وحلم ، وأما رأيك من سميّة فما يشبهها فلا تعرض لصاحب الحسن ، فإني لم أجعل لك عليه سبيلا ، وليس الحسن مما يرمى به الرجوان وقد عجبت من تركك نسبته إلى أبيه أو إلى أمّه فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالآن حين اخترت له

__________________

(١) الطبراني ، المعجم الكبير ، ج ٣ ص ٩١ ـ ٩٢ ح ٢٧٥٨ حدثنا علي بن إسحاق الوزير الأصبهاني ثنا إسماعيل بن موسى السدوسي ثنا سعيد بن خيثم الهلالي عن الوليد بن يسار الهمداني عن علي بن أبي طلحة مولى بني أمية.

١١٨

والسلام. (١)

__________________

(١) البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٣ ص ٥٢ ـ ٥٣. أقول : وقد روى ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق : ج ١٨ ص ١٨٧ عن عبد الله بن الضحاك قال : أنبأنا هشام بن محمد ، عن أبيه قال : كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس لعلي بن أبي طالب ، فلما قدم زياد الكوفة واليا عليها ، أخافه وطلبه زياد ، فأتى (سعيد الإمام) الحسن بن علي ، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره! فكتب (الإمام) الحسن إلى زياد : من الحسن بن علي إلى زياد ، أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم فهدمت داره وأخذت ماله وعياله فحبستهم. فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد علهي عياله وماله فإني قد أجرته فشفعني فيه. فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان ، الى الحسن بن فاطمة ، أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة؟! وأنا سلطان وأنت سوقة! كتبت إلي في فاسق لا يؤويه إلا مثله! وشر من ذلك توليه أباك وإياك! وقد علمت أنك أدنيته إقامة منك على سوء الرأي ورضى منك بذلك! وأيم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن فلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليه ، فإن أحب لحم إلي (أن) آكله للحم الذي أنت منه! فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى منك؟! فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه ، وإن قتلته لم أقتله إلا بحبه إياك! فلما قرأ الحسن عليه‌السلام الكتاب تبسم وكتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح ، وكتابه إلى زياد فيه وإجابة زياد إياه ، ولف كتابه وبعث به إلى معاوية ، فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية ، وقرأ معاوية الكتاب ضاقت به الشام وكتب إلى زياد : أما بعد فإن الحسن بن علي بعث بكتابك إلي جواب كتابه إليك في ابن سرح ، فأكثرت التعجب منك ، وعلمت أن لك رأيين : أحدهما من أبي سفيان ، والآخر من سمية ، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم ، وأما رأيك من سمية فما يكون (من) رأي مثلها؟! ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه وتعرض له بالفسق ، ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسن ، ولأبوك إذ كنت تنسب إلى عبيد أولى بالفسق من أبيه ، وإن الحسن بدء بنفسه إلى من هو أول به منك ، فإذا أتاك كتابي فخل ما في يدك لسعيد بن سرح ، وابن له داره ولا تعرض له ، واردد علهي ما له فقد كتبت إلى الحسن أن يخير صاحبه إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده. وليس لك عليه سلطان بيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسن باسم أمه ولا تنسبه إلى أبيه ، فإن الحسن ـ ويلك ـ من لا يرمى به الرجوان ، أفإلى أمه وكلته لا أم لك؟ (و) هي فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلك أفخر له إن كنت تعقل. وكتب في أسفل الكتاب :

تدارك ما ضيعت من خيرة

وأنت أريب بالأمور خبير

أما حسن فابن الذي كان قبله (كذا)

إذا سار سار الموت حيث يسير

وهل يلد الرئبال إلا نظيره

فذا حسن شبه له ونظير

ولكنه لو يوزن الحلم والحجى

برأي لقالوا فاعلمن ثبير

قال العلاء قرأت هذا الخبر على ابن عائشة فقال : ان قول (فلما قدم زياد الكوفة واليا عليها ، أخافه وطلبه زياد ، فأتى (سعيد الإمام الحسن بن علي) اشتباه من الراوي فان زياد لم يول على الكوفة الا بعد وفاة الحسن ووفاة المغيرة بن شعبة.

١١٩

وبرواية الجاحظ قال : حدثني سليمان بن أحمد الخرشي قال حدثني عبد الله بن محمد بن حبيب قال طلب زياد رجلا كان في الأمان الذي سأله الحسن بن علي لأصحابه فكتب فيه الحسن رضي الله تعالى عنه إلى زياد مم الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا لأصحابنا وقد ذكر لي فلان أنك عرضت له فأحب ان لا تعرض له إلا بخير.

فلما أتاه الكتاب ولم ينسب الحسن إلى أبي سفيان غضب فكتب من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد أتاني كتابك في فاسق يؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك وأيم الله لأطلبنهم ولو بين جلدك ولحمك وان أحب لحم إلي آكله للحم أنت منه ، فلما وصل الكتاب الحسن وجه به ألى معاوية فلما قرأه معاوية غضب وكتب من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فان لك رأيين رأيا من أبي سفيان ورأيا من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم محزم وأما رأيك من سمية فكما يكون رأي مثلها وقد كتب إلي الحسن بن علي انك عرضت لصاحبه فلا تعرض له فاني لم أجعل لك إليه سبيلا وان الحسن ابن علي ممن لا يرمي به الرجوان والعجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أفإلى أمه وكلته وهو ابن فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالآن حين اخترت له والسلام. (١)

تحقق الأمان داخل البلاد الإسلامية عشر سنوات وانفتح الشاميون على العراقيين في جو من الحب والتقدير لتأييدهم الحسن عليه‌السلام في تنازله المشروط عن السلطة المدنية وان تكون في بلاد الشام بدلا من العراق وان يكون العراق تابعا بدلا من ان يكون متبوعا عن قدرة وليس عن عجز أو تخاذل ، وتهيأت نفوسهم للاستماع من العراقيين رواياتهم عن علي عليه‌السلام وسيرته المشرقة وعن أحاديث النبي التي لم يسمعوها من قبل في علي وأهل بيته.

وخطط معاوية لكسب ثقة وجوه العراقيين حين كان يستقدمهم مكرمين معززين يستمع إلى أحاديثهم وفي كثير من الأحيان كان يستثيرهم ويسألهم عن سيرة علي عليه‌السلام

__________________

(١) الجاحظ ، البيان والتبيين ، المكتبة التجارية الكبرى ١٩٢٦ م ، ص ٣٦١ ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ١٩ عن أبي الحسن المدائني.

١٢٠