بحوث في المعراج

السيد علي الحسيني الصدر

بحوث في المعراج

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-380-3
الصفحات: ١٦٠

وفي تفسير العياشي : في حديث سالم الحنّاط : ... عن رجل ، عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن المساجد التي لها الفضل؟ فقال :

المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله :

قلت : والمسجد الأقصى جُعلتُ فداك؟

فقال : ذاك في السماء ، إليه أُسرِيَ رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقلت : إن الناس يقولون إنه بيت المقدس؟

فقال : مسجد الكوفة أفضل منه ١.

ويستفاد من هذا أن المراد بالمسجد الأقصى هو الأقصى في السماء ، لا البيت المقدس الذي هو في الأرض.

و «الذي باركنا حوله» ، أي جعلنا البركة حوله.

فعلى تفسيرالمسجد الأقصى بما في السماء هو محل البركات القدسيَّة ، وعلى تفسيره بيت المقدس ، فهو محفوف ببركات الدين والدنيا ، فإنه مَهبط الوحى ومَعبَد الأنبياء ، من لدن النبي موسى عليه السلام. كما أنه مبارك بالثمار والأشجار ومجاري الأنهار.

و «لِنُريَهُ من آياتنا» ، أي من عجائب حججنا.

كالآيات العجيبة التي يأتي ذكرها وبيانها في الأحاديث الشريفة عند ذكر الدليل الروائي. فإنها آيات باهرات في الأرضين والسماوات ، وعِبرٌ وغُرَر من الأخبار والآثار ، خصَّ الله تعالى نبيَّه ، وأطلع عليها رسوله صلى الله عليه وآله.

قال في الكنز :

«وصَرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات» ٢.

و «إنه هو السميع البصير».

__________________

١. تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٧٩ ح ١٣.

٢. كنز الدقائق : ج ٧ ص ٢٩٩.

٤١

قال الشيخ الصدوق :

«السميع معناه أنه إذا وجد المسموع كان له سامعاً ... ، والباري عزَّ إسمه سميع لذاته.

البصير معناه إنه إذا كانت المبصرات كان لها مبصراً ... ، والله عز وجل بصير لذاته» ١.

وفًسِّر هنا بأنه هو السميع لأقوال محمد صلى الله عليه وآله ، والبصير بفعاله ، فيُكرمه ويُقرِّبه.

وفُسِّر أيضاً بأنه هو السميع لأقوال مَن صدَّق بذلك أو كذَّب ، والبصير بما فعل من الإسراء والمعراج.

فهذه الآية الشريفة صريحة في المعراج النبوي ، ودليل على هذا الإعجاز الإلهي.

الآية الثانية :

قوله جلَّ جلاله في سورة الزخرف : الآية ٤٥ :

(واسأل مَن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا أجعلنا مِن دون الرحمن آلهة يُعبَدون).

وهذه الآية الشريفة ، وإن فسَّرها بعضٌ بالسؤال من أهل الكتابَين أو مؤمنيهم ، إلا أنه يحتاج إلى تقدير وإضمار ؛ أي : واسأل أمم من أرسلنا ، أو مؤمني أمم من أرسلنا. والتقدير خلاف القاعدة ، إلا أن يقوم عليه دليل.

والتفسير المروي عن الفريقين ؛ الخاصة والعامة ، هو أن الآية الشريفة بمعنى السؤال من نفس الرسل ـ كما هو ظاهر الآية ـ ، وذلك في ليلة المعراج ، جُمع الأنبياء لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فأُمِر النبي صلى الله عليه وآله بالسؤال منهم.

وقد جاء هذا التفسير في أحاديث الفريقين وبيان مفسريهم ٢.

من ذلك في أحاديث الخاصة :

١. حديث أبي حمزة الثمالي ، عن أبي الربيع ، قال :

__________________

١. كتاب التوحيد : ص ١٩٧.

٢. لاحظ مجمع البيان : ج ٩ ص ٥٠.

٤٢

حججت مع أبي جعفر عليه السلام في السنة التي حجَّ فيها هشام بن عبد الملك ، وكان معه نافع بن الأزرق مولى عمر بن الخطاب. فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس ، فقال لهشام : يا أمير المؤمنين! مَن هذا الذي تتكافؤ عليه الناس؟

فقال : هذا نبي أهل الكوفة ، هذا محمد بن علي بن الحسين بن علي أبي طالب.

فقال نافع : لآتينَّه فلأسألنَّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي.

فقال هشام : فاذهب إليه فسَله فلعلك أن تخجله.

فجاء نافع واتكأ على الناس ، ثم أشرف على أبي جعفر عليه السلام فقال : يا محمد بن علي ، إني قد قرأتُ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن وصي نبي.

فرفع إليه ابو جعفر عليه السلام رأسه فقال : سَل.

فقال : إخبِرني كم بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله من سنة.

فقال : أُخبرك بقولي أو بقولك؟

قال : أخبِرني بالقولين جميعاً.

فقال : أما بقولي خمسمائة سنة ، وأما بقولك فستمائة سنة.

قال : فأخبِرني عن قول الله : (واسأل مَن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا أجعلنا مِن دون الرحمن آلهة يُعبَدون) ، من ذا الذي سأل محمد صلى الله عليه وآله وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟!

قال : فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية : (سبحان الذي أسرى بِعَبده ليلاً مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصَى الذي باركنا حَوله لِنُرِيَه مِن آياتنا). فكان من الآيات التي أراها الله محمداً صلى الله عليه وآله حين أسرى به إلى البيت المقدس أن حشر الله الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين. ثم أمر جبرئيل فأذَّن شَفعاً وأقام شَفعاً ، ثم قال في إقامته : حيِّ على خير العمل.

ثم تقدَّم محمد صلى الله عليه وآله وصلَّى بالقوم ، فأنزل الله عليه : (واسأل مَن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا أجعلنا مِن دون الرحمن آلهة يُعبَدون) الآية.

٤٣

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟

قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله صلى الله عليه وآله ، أُخِذَت على ذلك مواثيقنا وعهودنا.

قال نافع : صدقتَ يابن رسول الله يا أبا جعفر ، أنتم والله أوصياء رسول الله وخلفاؤه في التوراة. وأسماؤكم في الإنجيل وفي الزبور وفي القرآن ، وأنتم أحقُّ بالأمر من غيركم ١.

٢. حديث عبد الله بن مسعد ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث الإسراء :

... فإذاً ملك قد أتاني فقال : يا محمد ، سَل مَن أرسلنا من قبلك من رسلنا على ماذا بُعِثتُم؟

فقلت لهم : معاشر الرسل والنبيين ، علىماذا بَعَثكم الله قبلي؟

قالوا : على ولايتك يا محمد ، وولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ٢.

٣. حديث عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

فما عُرِج بي إلى السماء ، انتهى بي المسير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة : فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر.

فقال لي جبرئيل : يا محمد ، هذا البيت المعمور ، خلقه الله قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام ، فصلِّ فيه.

فقمت للصلاة وجمع الله النبيين والمرسلين ، فصفَّهم جبرئيل صفّاً ، فصلَّيت بهم.

فلمّا سلَّمت ، أتاني أتٍ من عند ربي فقال : يا محمد ، ربك يقرؤك السلام ويقول لك : سَل الرسل على ماذا أُرسِلتُم من قبل.

فقلت : معاشر الأنبياء والرسل ، على ماذا بعثكم ربي قبلي؟

قالوا : على ولايتك ، وولاية علي بن أبي طالب عليه السلام.

__________________

١. تفسير القمي : ج ٢ ص ٢٨٤.

٢. كنز الدقائق : ج ١٢ ص ٦٩.

٤٤

وذلك قوله : (واسأل مَن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا) ١.

٤. حديث الإحتجاج ، عن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب بعض الزنادقة المدَّعين لإختلاف القرآن وتناقضه ، قال عليه السلام :

وأما قوله : (واسأل مِن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا). فهذا من براهين نبينا التي آتاه الله إياها ، وأوجب به الحجة على سائر خلقه ، لأنه لمّا ختم به الأنبياء وجعله الله رسولاً إلى جميع الأمم وسائر الملل ، خصَّه الله بالإرتقاء إلى السماء عند المعراج. وجمع له يومئذ الأنبياء ، فعلم منهم ما أُرسِلوا به وحملوه من عزائم الله وآياته وبراهينه. وأقرُّوا أجمعون بفضله ، وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعده ، وفضل شيعة وصيه من المؤمنين والمؤمنات ، الذي سلموا لأهل الفضل فضلهم ، ولم يستكبروا عن أمرهم. وعرَّف من أطاعهم وعصاهم من أممهم وسائر من مضى ومن غَبر ، أو تقدم أو تأخَّر ٢.

ومن حديث العامة :

حديث الحاكم الحسكاني بأسانيده العديدة ، عن ابن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله لما أُسرِيَ بي إلى السماء ، إذاً ملك قد أتاني فقال لي : يا محمد ، سَل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بُعِثوا.

قلت : معاشر الرسل والنبيين ، على ما بعثكم الله؟

قالوا : على ولايتك يا محمد ، وولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ٣.

فهذه الآية الشريفة أيضاً تُفيد المعراج النبوي المبارك في هذا التفسير المأثور والمقبول عند الفريقين.

بل هو المعنى الظاهر الذي لا يحتاج إلى حذف أو اضمار أو تقدير ، كما أفاده شيخ الطائفة ، حيث قال :

__________________

١. كنز الدقائق : ج ١٢ ص ٦٩.

٢. الإحتجاج : ج ١ ص ٣٧٠.

٣. شواهد التنزيل : ج ٢ ص ١٥٨.

٤٥

«وقال ابن زيد : إنما يريد الأنبياء الذين جمعوا ليلة الإسراء. وهو الظاهر ، لأن من قال بالأول ـ يعني السؤال من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ـ يحتاج أن يقدِّر فيه محذوفاً ، وتقديره : واسأل أمم من أرسلنا من قبلك» ١.

الآية الثالثة :

قوله جلَّ شأنه في سورة النجم : الآيات ٥ ـ ١٨ :

(عَلَّمَه شديد القُوَى * ذو مِرّة فاستَوَى * وهو بالأُفُق الأعلى * ثم دَنا فَتَدَلَّى * فكان قابَ قَوسَين أو أدنَى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كَذَبَ الفؤاد ما رأى * أفَتُمارونَه على ما يَرَى * ولقد رآه نَزلَةً أخرى * عند سِدرَة المُنتَهى * عندها جنَّة المأوَى * إذ يَغشَى السِدرَة ما يَغشَى * ما زاغَ البصر وما طَغَى * لقد رأى مِن آيات ربه الكُبرى).

وهذه الآيات المباركة تُبيِّن المعراج بكلِّ وضوح وظهور؛ فإنها بعد القسم بتزكية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وتصديقه ، والتصريح في الآية السابقة بأن نطقه وكلامه ليس إلا من كلام الله ووحيه ، وأنه صلى الله عليه وآله ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، بيَّن بعد ذلك من فضائله أنه صلى الله عليه وآله «عَلَّمَه شديد القُوى» ، أي علَّم الرسول من هو شديد القُوى في نفسه وعلمه ، والقُوى جمع القوَّة وهي القدرة.

وقد فسَّر القمي «شديد القوى» بالله تعالى ٢ ، وفسَّره الآخرون بجبرئيل. قال في المقتنيات بعد تفسيره بملك شديد قواه وهو جبرئيل : «ويكفيك دليلاً على شدة قواه أنه قطع قُرى قوم لوط من الماء الأسود تحت الثرى ، وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلَّبها.

__________________

١. التبيان في تفسير القرآن : ج ٩ ص ٢٠٢.

٢. تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٣٤.

٤٦

وصاح بثمود صيحة ، فأصبحوا جاثمين.

ورأى جبرئيل إبليس يكلِّم عيسى عليه السلام في بعض عقبات الأرض المقدسة ، فنفخه بجناحه وألقاه في أقصى جبل في الهند.

وكان هبوطه وصعوده عليه السلام في أسرع من رَجعَة الطَرف» ١.

ثم وصف شديد القوى بقوله : «ذو مِرَّة فاستَوَى» ، أي ذو حصافة وإستحكام ، والمِرَّة هي قوة الخَلق والعقل.

واستوى أي استقام ، بمعنى أن جبرئيل إستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها ، التي ما رآها على تلك الصورة إلا رسول الله صلى الله عليه وآله.

قال في المقتنيات :

«فاستوى» عطف على علَّمه ، أي فاستقام واستقرَّ بصورته التي خلقه الله عليها ، وله ستمائة جناح ، دون الصورة التي كان يتمثَّل بها كلَّمه هبط إلى الأرض. كما كان يهبط بالوحي أحياناً بصورة دحية الكلبي ، وأتى إبراهيم في صورة الضيف ، ولداوود في صورة الخصم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله أحبَّ أن يراه في صورته التي جعل عليها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله بجبل حراء ـ وهو الجبل المسمَّى بجبل النور بقرب مكة ـ فقال جبرئيل : إن الأرض لا تًسَعُني ، ولكن انظُر إلى السماء. فطلع له جبرئيل من المشرق ، فسدَّ الأرض من المغرب وملأ الأُفق. فخرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله كما خرَّ موسى عليه السلام في جبل الطور. فنزل جبرئيل في صورة الآدميِّين ، فضمَّه إلى نفسه ، وجعل يَمسِح الغبار عن وجهه ....

وما رأى أحد من الأنبياء صورة جبرئيل بصورته غير نبيِّنا صلى الله عليه وآله ، فإنه رآه فيها مرَّتين ؛ مرة في الأرض وهي هذه، ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى.

ورُوِيَ أن حمزة بن عبد المطلب استدعى من الرسول صلى الله عليه وآله وقال : أرِني جبرئيل في صورته.

فقال : إنك لن تستطيع أن تَنظر إليه.

__________________

١. مُقتَنيات الدُرَر : ج ١٠ ص ٢٦١.

٤٧

قال : بلى يا رسول الله ، أرِنيه.

فقعد ، ونزل جبرئيل على خشبة في الكعبة كان المشركون يَضَعون ثيابهم عليها إذا طافوا. فقال صلى الله عليه وآله : ارفَع طرفك يا حمزة فانظُر. فرفع عينه ، فإذاً قدماه كالزبرجد. فخرَّ مغشيّاً عليه.

ورُوِيَ أنه رآه صلى الله عليه وآله مرَّتين ليكمل له الأمر ؛ مرة في عالم الكون والفساد ، وأخرى في المحلِّ الأعلى. وإنما قام بصورته ليؤكِّد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو ١.

وفسَّر القمي «ذو مِرَّة» برسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال :

حدثني ياسر ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال :

ما بعث الله نبياً إلا صاحب مرة سوداء صافية ٢.

كما فسَّر الآيات التالية أيضا ـ يعني قوله تعالى : «وهو بالأفق الأعلى». وكذلك : «ثم دنا فتدلَّى» ـ ، فسَّرها برسول الله صلى الله عليه وآله.

«وهو بالأُفُق الأعلى» ، أي أُفق السماء ، والضمير لجبرئيل كما فُسِّر.

«ثم دَنا» ، أي جبرئيل.

وقال القمي :

«يعني رسول الله صلى الله عليه وآله من ربه عز وجل».

«فَتَدلَّى» ، أي زاد في القُرب.

في المجمع :

«قال الزجّاج : معنى دنا وتدلَّى واحد ، لأن معنى دنا قَرُب ، وتدلَّى زاد في القُرب» ٣.

«فكان قاب قَوسَين أو أدنَى» ، أي قدر الوتر من القوس مرَّتين ، أو أدنى منه وأقرب. والمعنى المفسَّر به هو أنه كان ما بين جبرئيل وبين رسول الله صلى الله عليه وآله هذا المقدار.

__________________

١. مُقتَنيات الدُرَر : ج ١٠ ص ٢٦٠.

٢. تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٣٤.

٣. مجمع البيان : ج ٩ ص ١٧٣.

٤٨

لكن قال القمي : «كان بين لفظه وسماح محمد» ١.

والمستفاد من الأحاديث الشريفة هو الدنوُّ المعنوي لرسول الله صلى الله عليه وآله ، دُنوّاً من النور.

ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام :

أول من سبق من الرسل إلى «بلى» رسول الله صلى الله عليه وآله ، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله ، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أُسرِيَ بي إلى السماء : تقدَّم يا محمد ، فقد وطئتَ موطئاً لم يطؤه ملك مقرَّب ولا نبي مرسل.

ولو لا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه. وكان من الله عز وجل ، كما قال الله : «قاب قُوسَين أو أدنَى» ، أي بل أدنى ٢.

وفي حديث ثابت بن دينار ، قال : سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن الله جلَّ جلاله ، هل يوصَف بمكان؟

فقال : تعالى عن ذلك.

قلت : فلِمَ أسرى بنبيِّه محمد صلى الله عليه وآله إلى السماء؟

قال : ليُريَه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

قلت : فقول الله : «ثم دَنا فتَدلَّى * فكان قاب قَوسَين أو أدنى»؟

قال : ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله ، دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات. ثم تدلَّى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض ، حتى ظنَّ أنَّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى ٣.

«فأوحى إلى عبده ما أوحى» ، أي أوحى الله تعالى على لسان جبرئيل إلى عبده محمد صلى الله عليه وآله ما أوحى.

__________________

١. تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٣٤.

٢. كنز الدقائق : ج ١٢ ص ٤٧٧.

٣. كنز الدقائق : ج ١٢ ص ٤٧٧.

٤٩

قال في الصافي :

«وفي إبهام الموحَى به تفخيمٌ له» ١.

وسيأتي في دليل الأحاديث بيان بعض ما أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وآله.

قال في تفسير القمي :

سًئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك الوحي ، فقال :

أوحى إليَّ أن علياً عليه السلام سيد الوصيين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرِّ المحجَّلين ، وأول خليفة يستخلفه خاتم النبيين ... ٢.

«ما كذب الفؤاد ما رأى» ، بيَّن سبحانه بهذا ما رآه النبي صلى الله عليه وآله وحقَّق رؤيته ، أنه لم يكذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله ما رأى بعينه ، ولم يوهمه الفؤاد أنه رأى ولم يَرَ ، بل صدَّقه الفؤاد رؤيته صلى الله عليه وآله.

في حديث محمد بن الفضل ، قال : سألت أبا الحسن عليه السلام : هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ربَّه؟ قال :

نعم ، بقلبه رآه. أما سمعت الله تعالى يقول : (ما كذب الفؤاد ما رأى) ، أي لم يَرَه بالبصر ولكن رأه بالفؤاد ٣.

«أفَتُمارونَه على ما يَرى» ، من المراء بمعنى المجادلة بالباطل ؛ أي أفتُجادِلونَه وتُخاصمونه وتَجحَدون ما يراه معاينة.

قال في المجمع :

«وذلك أنهم جادلوه حين أُسرِيَ به ، فقالوا له : صِف لنا بيت المقدس ، وأخبِرنا عن عيرنا في طريق الشام ، وغير ذلك مما جادلوه به» ٤.

ويأتي تفصيل ذلك في الأحاديث الشريفة.

__________________

١. تفسير الصافي : ج ٥ ص ٨٨.

٢. تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٣٤.

٣. كتاب التوحيد : ص ١١٦ ح ١٧.

٤. مجمع البيان : ج ٩ ص ١٧٥.

٥٠

«ولقد رآه نَزلَة أُخرى» ، فُسِّر برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله جبرئيل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء نزلة أخرى. فيكون قد رأى صلى الله عليه وآله جبرئيل على صورته الأصلية في ليلة المعراج مرتين.

قال في المقتنيات :

«وذلك أنه كان للنبي صلى الله عليه وآله ليلة المعراج عَرَجات لمسألة التخفيف في أعداد الصلاة المفروضة. فيكون لكل عرجز نزلة ، فرأى جبرئيل بصورته الأصلية في بعض تلك النزلات» ١.

وفي القمي :

«رؤية الوحي مرة أُخرى» ٢.

والمستفاد من بعض الأحاديث الشريفة رؤية بعض آيات ربِّه مرة أُخرى.

ففي حديث صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرَّة أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه السلام. فاستأذنته في ذلك فأذن لي. فدخل عليه ، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام ... ، إلى قوله : فإنه يقول : (ولقد رآه نَزلَة أُخرى). فقال أبو الحسن عليه السلام :

إن بعد هذه الآية ما يدلُّ على ما رأى حيث قال : (ما كذب الفؤاد ما رأى). ثم أخبر بما رأى فقال : (لقد رأى مِن آيات ربه الكبرى) ، فآيات الله غير الله ٣.

«عند سِدرَة المُنتَهى» ، أي كانت رؤية جبرئيل ، أو الوحي ، أو بعض الآيات عند سِدرة المنتهى. وهي الشجرة اليت عن يمين العرش فوق السماء السابعة ، سُمِّيَت بالمنتهى لأنه ينتهي إليها علم كل ملك ، أو ينتهي إليها ما يعرج إلى السماء وما يهبط إليها من أمر الله تعالى كما فُسِّر.

في حديث حبيب السجستاني ، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير قوله عز وجل :

__________________

١. مُقتَنيات الدُرَر : ج ١٠ ص ٢٦٥.

٢. تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٣٥.

٣. الكافي : ج ١ (الأصول) ص ٩٦ ح ٢.

٥١

(ثم دَنا فَتدَلَّى * فكان قاب قَوسَين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى) ، جاء فيه :

يا حبيب ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله لمّا فتح مكة ، أتعب نفسه في عبادة الله تعالى والشكر لنِعَمه في الطواف بالبيت ، وكان علي عليه السلام معه.

قال : فلما غضيَهم الليل ، إنطَلِقا إلى الصفا والمروة يريدان السعي. فلما هبطا من الصفا إلى المروة وصارا في الوادي ، غشيَهما من السماء نور. فأضاءت جبال مكة وخشعت أبصارهما ، ففزعا لذلك فزعاً شديداً.

فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى ارتفع عن الوادي وتبعه علي عليه السلام. فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه إلى السماء ، فإذاً هو برمّانتَين على رأسه. فتناولهما رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأوحى الله عز وجل إلى محمد : يا محمد ، إنها من قطف الجنة ، فلا يأكل منهما إلا أنت ووصيك علي بن أبي طالب. فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله أحديهما ، وأكل علي عليه السلام الأخرى. ثم أوحى الله عزوجل محمداً صلى الله عليه وآله ما أوحى.

قال أبو جعفر عليه السلام :

يا حبيب ، ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى ؛ يعني عندها وافى به جبرئيل حين صعد إلى السماء. فلما انتهى إلى محل السدرة ، وقف جبرئيل دونها وقال : يا محمد ، إن هذا موقفي الذي وضعني الله عز وجل فيه ولن أقدر على أن أتقدَّمه ، ولكن امضِ أنت أمامك إلى السدرة فَقِف عندها. فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى السدرة وتخلف جبريل.

قال أبو جعفر عليه السلام :

إنما سُمِّيَت سِدرة المنتهى لأن أعمال أهل الأرض تَصعَد بها الملائكة الحَفَظة إلى محل السدرة. والحفظة الكرام البررة دون السدرة ، يكتبون ما ترفع إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض ، فينتهون بها إلى محل السدرة.

قال : فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله ، فرأى أغصانها تحت العرش وحوله. فتجلى محمد صلى الله عليه وآله نور الجبار عز وجل.

فلما غشى محمداً صلى الله عليه وآله النور ، شخص ببصره وارتعدَت فرائصه. فشدَّ الله تعالى

٥٢

لمحمد صلى الله عليه وآله قلبه وقوى له بصره ، حتى رأى من آيات ربه ما رأى. وذلك قول الله عز وجل : (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) ؛ يعني الموافاة. فرأى محمد صلى الله عليه وآله ما رأى ببصره من آيات ربه الكبرى ؛ يعني أكبر الآيات.

قال أبو جعفر عليه السلام :

وإن غُلظ السدرة بمسيرة مائة عام من أيام الدنيا ، وإن الورقة منها تغطي أهل الدنيا. وإن الله تعالى ملائكة وكَّلهم بنبات الأرض من الشجر والنخل. فليس من شجرة ولا نخلة إلا ومعها ملك من الله تعالى ، يحفظها وما كان فيها. ولو لا أن معها من يمنعها ، لأكلها السباع وهوام الأرض إذا كان فيها ثمرها.

قال : وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يضرب أحد من المسلمين خلاه تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت ، لمكان الملائكة الموكَّلين بها. ولذلك يكون للشجرة والنخل أنساً إذا كان فيه حمله ، لأن الملائكة تحضره ١.

«عندها جنة المأوى» ، أي عند سدرة المنتهى جنة المأوى ، التي يأوي إليها المتقون.

في التبيان :

«هي جنة الخُلد ، وهي في السماء السابعة» ٢.

وجاء في الحديث ذِكر جنة المأوى ، وأنها هي التي في وسطها جنة عَدن. فقد روى عبد الله بن علي ، عن بلال حديثاً مفصلاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، جاء في آخره وصف الجنة وبنائها. من ذلك أنه سأله عبد الله بن علي فقال :

قلت : يرحمك الله ، زِدني وتفضَّل عليَّ فإني فقير.

فقال : يا غلام ، لقد كلَّفتَني شططاً. أما الباب الأعظم ، فيدخل منه العباد الصالحون ، وهم أهل الزهد والورع والراغبون إلى الله عز وجل ، المستأنِسون به.

قلت : يرحمك الله ، فإذا دخلوا الجنة ، فماذا يَصنعون؟

__________________

١. علل الشرايع : ص ٢٧٧ ح ١.

٢. التبيان في تفسير القرآن : ج ٩ ص ٤٢٦.

٥٣

قال : يَسيرون على نهرين في ماء صاف في سفن الياقوت ، مجاذيفها اللؤلؤ ، فيها ملائكة من نور ، عليهم ثياب خُضر شديدة خضرتها.

قلت : يرحمك الله ، هل يكون من النور أخضر.

قال : إن الثياب هي خضر ، ولكن فيها نور من نور رب العالمين جلَّ جلاله ليَسيروا على حافَّتي ذلك النهر.

قلت : فما إسم ذلك النهر؟

قال : جنَّة المأوى.

قلت : هل وسطها غيرها؟

قال : نعم ، جنة عَدن وهي في وسط الجنان. وأما جنة عَدن ، فسورها ياقوت أحمر ، وحصاها اللؤلؤ.

فقلت : وهي فيها غيرها؟

قال : نعم ، جنة الفردوس.

قلت : فكيف سورها؟

قال : ويحك! كفَّ عنِّي ، جرحتَ عليَّ قلبي.

قلت : بل أنت الفاعل بي ذلك. ما أنا بكافٍّ عنك حتى تتمَّ لي الصفة وتخبرني عن سورها.

قال : سورها نور.

قلت : ما الغُرَف التي فيها؟

قال : هي من نور رب العالمين عز وجل ١.

«إذ يَغشَى السِدرَة ما يَغشى» ، أي يَغشى السدرة من النور والبهاء والحُسن والصفاء الذي يروق الأبصار ما ليس لوصفه منتهى.

قال في المجمع :

__________________

١. من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٩٦ ح ٩٠٥.

٥٤

«والمعنى أنه رأى جبرئيل على صورته في الحال التي يغشي فيها السدرة من أمر الله ، ومن العجائب المنبِّهة على كمال قدرة الله تعالى ما يغشاها. وإنما أبهم الأمر فيما يغشى لتعظيم ذلك وتفخيمه» ١.

«ما زاغ البصر» ، أي ما زاغ بصر رسول الله صلى الله عليه وآله عن الحق المطلوب.

«وما طَغى» ، أي وما تجاوز عنه ، بل أثبته إثباتاً صحيحاً مستقيماً.

«بل رأى مِن آيات ربه الكبرى» ، أي رأى رسول الله صلى الله عليه وآله من آيات ربه ودلائله الكبرى.

وهي الآيات التي رآها ليلة المعراج ، ويأتي ذكرها في الروايات الدالة على المعراج.

وعلى الجملة ، فالقرآن الكريم دليل دالٌ على معراج الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في هذه الآيات الثلاثة المباركة.

ودلالتها على المعراج النبوي صريحة فصيحة ، متَّفق عليها بين الخاصة والعامة ، حديثاً وتفسيراً ٢.

__________________

١. مجمعالبيان : ج ٩ ص ١٧٥.

٢. الدرر المنثور : ج ٩ ص ١٢١. الكشّاف : ج ٤ ص ٤١٦.

٥٥

المعراج في أحاديث المعصومين عليهم السلام

ورد معراج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في الأحاديث المتواترة عن أهل بيت العصمة عليهم السالم من طريق الفريقين.

ونذكر جملة منها تبرّكاً بها ، وتبييناً للآيات الكبرى فيها ، وتوضيحاً لهذه الرحلة المقدسة النبوية ، إلى المعالي والمعالم الإلهيَّة. فنَقتبس من تلك الأنوار التي زهَت من المعصومين الأطهار عليهم السلام ، فيما بيَّنَت المعراج من الأخبار.

منها أنوار الأحاديث الخمسين في معراج خاتم النبيين صلى الله عليه وآله :

الحديث الأول :

حديث هشام بن سالم المفصل ، عن الإمام الصادق عليه السلام ، أنه قال :

جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبُراق ١ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. فأخذ واحد باللجام

__________________

١. «البُراق» بضَمِّ الباء ، دابَّة من دوابِّ الجنة ، ركبها رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة المعراج. وجهها كوجه آدمي ، وحوافرها مثل حوافر الخيل. يأتي مزيد بيان خصوصيتها في الأحاديث الآنية. سُمِّيَت بالبُراق لنصوع لونها وشدة بريقها ، أو لسرعة حركتها تشبيهاً بالبرق. سفينة البحار : ج ١ ص ٢٧٢.

٥٦

وواحد بالركاب وسوّى الآخر عليه ثيابه. فتَضعضعَت البراق ، فلطمها جبرئيل ، ثم قال لها : اسكني يا براق ، فما ركبك نبي قبله ولا يركبك بعده مثله.

قال : فرَقَت به ورفعَته إرتفاعاً ليس بالكثير ، ومعه جبرئيل ، يُريه الآيات من السماء والأرض.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

فبينا أنا في مسيري ، إذ نادى مناد عن يميني : يا محمد. فلم أُجِبه ولم ألتفت إليه. ثم ناداني مناد عن يساري : يا محمد. فلم أُجِبه ولم ألتفت إليه. ثم استقبلَتني إمرأة كاشفة عن ذراعيها وعليها من كل زينة الدنيا ، فقالت : يا محمد ، انظُرني حتى أكلِّمك. فلم ألتفت إليها. ثم سِرتُ فسمعت صوت أفزعني ، فجاوزت به.

فنزل بي جبرئيل فقال : صلِّ. فصلَّيت فقال : أتدري أين صلَّيت؟

فقلت : لا.

فقال : صلَّيتَبطيبة واليها مهاجرتك.

ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ، ثم قال لي : إنزِل وصلِّ. فنزلتُ وصلَّيت ، فقال لي : أتَدري أين صلَّيت.

فقلت : لا.

فقال : صلَّيتَ بطور سيناء حيث كلَّم الله موسى عليه السلام تكليماً.

ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ، ثم قال لي : إنزِل فصلِّ. فنزلت وصلَّيت ، فقال لي : أتَدري أين صلَّيت.

فقلت : لا.

قال : صلَّيت في بيت لحم بناحية بيت المقدس ، حيث وُلِد عيسى بن مريم عليه السلام.

ثم ركبتُ فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس. فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها. فدخلت المسجد ومعي جبرئيل إلى جنبي. فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في مَن شاء الله من أنبياء الله قد جمعوا لي. وأقمت الصلاة ، ولا أَشُك إلا وجبرئيل يستقدمنا. فلما استووا ، أخذ جبرئيل بعَضُدي فقدَّمني، فأممتهم ولا فخر.

٥٧

ثم أتاني الخازن بثلاث أواني : إناء فيه لبن ، وأناء فيه ماء ، وإناء فيه خمر. فسمعت قائلاً يقول : إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته ، وإن أخذ اللبن هُدِي وهُدِيَت أمته. فأخذت اللبن فشربت منه ، فقال جبرئيل : هُديتَ وهُدِيَت أمتك.

ثم قال لي : ماذا رأيت في مسيرك؟

فقلت : ناداني مناد عن يميني.

فقال لي : أوَ أجَبتَه؟

فقلت : لا ، ولم ألتفت اليه.

فقال : ذاك داعي اليهود ، لو أجبتَه لَتَهَّدَت أمتك من بعدك.

ثم قال : ماذا رأيت؟

فقلت : ناداني مناد عن يساري.

فقال : أوَ أجَبتَه؟

فقلت: لا ، ولم ألتفت إليه.

فقال : ذاك داعي النصاري ، لو أجبتَه لَتَنَصَّرَت أمتك من بعدك.

ثم قال : ماذا استقبلك؟

فقلت : لقيتُ إمرأة كاشفة عن ذراعيها ، عليها من كل زينة ، فقالت : يا محمد ، أُنظرني حتى أكلِّمك.

فقال لي : أفَكلَّمتَها؟

فقلت : لم أكلِّمها ولم ألتفت إليها.

فقال : تلك الدنيا ، ولو كلَّمتَها لاختارَت أمتك الدنيا على الآخرة.

ثم سمعت صوتاً أفزَعني. فقال جبرئيل : أتَسمع يا محمد؟

قلت : نعم.

قال : هذه صخرة قذّفتُها عن شفير جهنم منذ سبعين عاماً ، فهذا حين استقرَّت.

قالوا : فما ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قُبِض.

٥٨

قال صلى الله عليه وآله : فصعد جبرئيل ، وصعدتُ معه إلى سماء الدنيا ، وعليها ملك يقال له إسماعيل ، وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل : (إلا مَن خَطِف الخَطفَة فأتبَعَه شِهاب ثاقِب) ١. وتحته سبعون ألف ملك ، تحت كل ملك سبعون ألف ملك. فقال : يا جبرئيل! من هذا معك؟

فقال : محمد صلى الله عليه وآله.

قال : أوَ قد بُعِث؟

قال : نعم. ففتح الباب ، فسلَّمتُ عليه وسلَّم عليَّ واستغفرتُ له واستغفر لي ، وقال : مرحباً بالأخ الناصح ، والنبي الصالح.

وتلقَّني الملائكة حتى دخلت سماء الدنيا. فما لقيَني ملك إلا كان ضاحكاً مستبشراً ، حتى لقيني ملك من الملائكة ، لم أرَ أعظم خلقاً منه كريه المنظر ؛ ظاهر الغضب. فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء ، إلا أنه لم يضحك ولم أرَ فيه من الإستبشار ، وما رأيت ممن ضحك من الملائكة.

فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فإني قد فزعت!

فقال : يجوز أن تَفرغ منه ، وكلُّنا نفزع منه. هذا مالك خازن النار ، لم يضحك قط ، ولم يزل منذ ولّاه الله جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله وأهل معصيته ، فينتقم الله به منهم. ولو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكاً لأحد بعدك لضحك إليك ، ولكنه لا يضحك. فردَّ عليَّ السلام وبشَّرني بالجنة.

فقلت لجبرئيل ـ وجبرئيل بالمكان الذي وصفه الله : (مُطاعٍ ثَمَّ أمين) ٢ : ألا تأمره أن يريني النار؟

فقال له جبرئيل : يا مالك ، أرِ محمداً النار. فكشف عنها غطاءها وفتح باباً منها. فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارَت ....

__________________

١. سورة الصافات : الآية ١٠.

٢. سورة التكوير : الآية ٢١.

٥٩

فقلت له : يا جبرئيل! قل له فليَردَّ عليها غطاءها ، فأمرها.

فقال لها : إرجِعي ، فرجعَت إلى مكانها الذي خرجت منه.

ثم مضيت فرأيت رجلاً أدماً جسيماً ، فقلت : من هذا يا جبرئيل.

فقال : هذا أبوك آدم. فإذاً هو يعرض عليه ذريته ، فيقول : روح طيب وريح طيبة من جسد طيب.

ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله سورة المطفِّفين على رأس سبعة عشر آية : (كَلّا إن كتاب الأبرار لَفي عِلِّيِّين * وما أدراك ما عِلِّيُّون * كتاب مرقوم) ١ ، إلى آخرها.

قال : فسلَّمت على أبي آدم وسلَّم عليَّ ، واستغفرتُ له واستغفر لي ، وقال : مرحباً بالإبن الصالح ، والنبي الصالح ، والمبعوث في الزمن الصالح.

ثم مررتُ بملك من الملائكة وهو جالس ، وإذاً جميع الدنيا بين ركبتيه ، وإذاً بيده لوح من نور ، فيه كتاب ينظر فيه ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً ؛ مقبلاً عليه كهيئة الحزين! فقلت : من هذا يا جبرئيل؟

فقال : هذا ملك الموت ، دائب في قبض الأرواح.

فقلت : يا جبرئيل أدنني منه حتى أكلِّمه. فأدناني منه فسلَّمتُ عليه ، وقال له جبرئيل : هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العباد. فرحَّب بي وحباني بالسلام ، وقال : إبشِر يا محمد ، فإني أرى الخير كله في أمتك.

فقلت : الحمد لله المنّان ذي النِعَم على عباده ، ذلك من فضل ربي ورحمته عليَّ.

فقال جبرئيل : هو أشدُّ الملائكة عملاً.

فقلت : أكلُّ من مات أو هو ميت فيما بعد هذا تَقبض روحه؟

قال : نعم.

قلت : تَراهم حيث كانوا وتشهدهم بنفسك؟

فقال : نعم ، ما الدنيا كلها عندي فيما سخَّرها الله لي ومكَّنني منها إلا كالدرهم في كفِّ

__________________

١. سورة المطففين : الآية ١٨ ـ ٢٠.

٦٠