مغنى اللبيب - ج ١

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

(أم) ـ على أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون متصلة ، وهي منحصرة فى نوعين ، وذلك لأنها إما أن تتقدم عليها همزة التسوية نحو (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) وليس منه قول زهير :

٥١ ـ وما أدرى وسوف إخال أدرى

أقوم آل حصن أم نساء

[ص ١٣٩ ، ٣٩٣ ، ٣٩٨]

لما سيأتى ، أو تتقدم عليها همزة يطلب بها وبأم التعيين نحو «أزيد فى الدار أم عمرو» وإنما سميت فى النوعين متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر ، وتسمى أيضا معادلة ؛ لمعادلتها للهمزة فى إفادة التسوية فى النوع الأول والاستفهام فى النوع الثانى.

ويفترق النوعان من أربعة أوجه :

أولها وثانيها : أنّ الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحقّ جوابا ؛ لأن المعنى معها ليس على الاستفهام ، وأن الكلام معها قابل للتصديق والتكذيب لأنه خبر ، وليست تلك كذلك ؛ لأن الاستفهام معها على حقيقته.

والثالث والرابع : أنّ الواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلا بين جملتين ، ولا تكون الجملتان معها إلا فى تأويل المفردين ، وتكونان فعليتين كما تقدم ، واسميتين كقوله :

٥٢ ـ ولست أبالى بعد فقدى مالكا

أموتى ناء أم هو الآن وقع

ومختلفتين نحو (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وأم الأخرى تقع بين المفردين ، وذلك هو الغالب فيها ، نحو (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) وبين جملتين ليستا فى تأويل المفردين وتكونان أيضا فعليتين كقوله :

٥٣ ـ فقمت للطيف مرتاعا فأرّقنى

فقلت : أهى سرت أم عادنى حلم

[ص ٣٧٨]

وذلك على الأرجح فى «هى» من أنها فاعل بمحذوف يفسره سرت ، واسميتين كقوله :

٤١

٥٤ ـ لعمرك ما أدرى ، وإن كنت داريا ،

شعيث ابن سهم أم شعيث ابن منقر

الأصل «أشعيث» بالهمز فى أوله والتنوين فى آخره ، فحذفهما للضرورة ، والمعنى : ما أدرى أىّ النّسبين هو الصحيح ، ومثله بيت زهير السابق (١).

والذى غلّط ابن الشّجرى حتى جعله من النوع الأول توهّمه أن معنى الاستفهام فيه غير مقصود البتّة ، لمنافاته لفعل الدّراية.

وجوابه أن معنى قولك «علمت أزيد قائم» علمت جواب أزيد قائم ، وكذلك «ما علمت».

وبين لمختلفتين ، نحو (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) وذلك أيضا على الأرجح من كون «أنتم» فاعلا.

مسألة ـ أم المتصلة التى تستحق الجواب إنما تجاب بالتعيين ، لأنها سؤال عنه ، فإذا قيل «أزيد عندك أم عمرو» قيل فى الجواب : زيد ، أو قيل : عمرو ، ولا يقال «لا» ولا «نعم».

فإن قلت : فقد قال ذو الرّمّة :

٥٥ ـ كقول عجوز مدرجى متروّحا

على بابها من عند أهلى وغاديا :

أذو زوجة بالمصر ، أم ذو خصومة

أراك لها بالبصرة العام ثاويا؟

فقلت لها : لا ، إنّ أهلى جيرة

لأكثبة الدّهنا جميعا وماليا

وما كنت مذ أبصرتنى فى خصومة

أراجع فيها ـ يا ابنة القوم ـ قاضيا

__________________

(١) هو الشاهد رقم ٥١

٤٢

قلت : ليس قوله «لا» جوابا لسؤالها ، بل رد لما توهمته من وقوع أحد الأمرين : كونه ذا زوجة ، وكونه ذا خصومة ، ولهذا لم يكتف بقوله «لا» ، إذ كان ردّ ما لم تلفظ به إنما يكون بالكلام التامّ ، فلهذا قال : «إن أهلى جيرة ـ البيت» و «وما كنت مذ أبصرتنى ـ البيت».

مسألة ـ إذا عطفت بعد الهمزة بأو ، فإن كانت همزة التسوية لم تجز قياسا ، وقد أولع الفقهاء وغيرهم بأن يقولوا «سواء كان كذا أو كذا» وهو نظير قولهم «يجب أقلّ الأمرين من كذا أو كذا» والصواب العطف فى الأول بأم ، وفى الثانى بالواو ، وفى الصحاح «تقول : سواء علىّ قمت أو قعدت» انتهى. ولم يذكر غير ذلك ، وهو سهو ، وفى كامل الهذلى أن ابن محيصن قرأ من طريق الزعفرانى (سواء عليهم أنذرتهم أولم تنذرهم) وهذا من الشذوذ بمكان ، وإن كانت همزة الاستفهام جاز قياسا ، وكان الجواب بنعم أو بلا ، وذلك أنه إذا قيل «أزيد عندك أو عمرو» فالمعنى أأحدهما عندك أم لا ، فإن أجبت بالتعيين صح ، لأنه جواب وزيادة ، ويقال «ألحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفيّة؟» فتعطف الأول بأو ، والثانى بأم ، ويجاب عندنا بقولك : أحدهما ، وعند الكيسانية بابن الحنفيّة ، ولا يجوز أن تجيب بقولك الحسن أو بقولك الحسين ، لأنه لم يسأل عن الأفضل من الحسن وابن الحنفية ولا من الحسين وابن الحنفيّة ، وإنما جعل واحدا منهما لا بعينه قرينا لابن الحنفية ، فكأنه قال : «أأحدهما أفضل أم ابن الحنفية؟».

مسألة ـ سمع حذف أم المتصلة ومعطوفها كقول الهذلى :

دعانى إليها القلب إنّى لأمره

سميع ، فما أدرى أرشد طلابها [ه]

تقديره أم غى ، كذا قالوا ، وفيه بحث كما مر (١) ، وأجاز بعضهم حذف معطوفها بدونها ، فقال في قوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ) : إنّ الوقف هنا ، وإن التقدير : أم تبصرون ، ثم يبتدأ (أَنَا خَيْرٌ) وهذا باطل ، إذ لم يسمع حذف معطوف

__________________

(١) انظر ص ١٤

٤٣

بدون عاطفه (١) ، وإنما المعطوف جملة (أَنَا خَيْرٌ) ووجه المعادلة بينها وبين الجملة قبلها أن الأصل : أم تبصرون ، ثم أقيمت الأسمية مقام الفعلية والسبب مقام المسبب ، لأنهم إذا قالوا له أنت خير كانوا عند بصراء ، وهذا معنى كلام سيبويه.

فإن قلت : فإنهم يقولون : أتفعل هذا أم لا ، والأصل أم لا تفعل.

قلت : إنما وقع الحذف بعد لا ، ولم يقع بعد العاطف ، وأحرف الجواب تحذف الجمل بعدها كثيرا ، وتقوم هى فى اللفظ مقام تلك الجمل ، فكأن الجملة هنا مذكورة ، لوجود ما يغنى عنها.

وأجاز الزمخشرى وحده حذف ما عطفت عليه أم ، فقال فى (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) يجوز كون أم متصلة على أن الخطاب لليهود ، وحذف معادلها ، أى أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء؟ وجوّز ذلك الواحدىّ أيضا ، وقدر : أبلغكم ما تنسبون إلى يعقوب من إيصائه بنيه باليهودية أم كنتم شهداء ، انتهى.

الوجه الثانى : أن تكون منقطعة ، وهى ثلاثة أنواع : مسبوقة بالخبر المحض ، نحو (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ومسبوقة بهمزة لغير استفهام ، نحو (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) إذ الهمزة فى ذلك للإنكار ، فهى بمنزلة النفى ، والمتصلة لا تقع بعده ، ومسبوقة باستفهام بغير الهمزة ، نحو (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ])

ومعنى أم المنقطعة الذى لا يفارقها الإضراب ، ثم تارة تكون له مجردا ، وتارة تتضمن مع ذلك استفهاما إنكاريا ، أو استفهاما طلبيا.

فمن الأول (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أما الأولى فلأن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام ،

__________________

(١) فى نسخة «إذ لم يسمع حذف معطوفها» وهى أحسن.

٤٤

وأما الثانية فلأنّ المعنى على الإخبار عنهم باعتقاد الشركاء ، قال الفراء : يقولون «هل لك قبلنا حقّ أم أنت رجل ظالم» يريدون بل أنت.

ومن الثانى (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) تقديره : بل أله البنات ولكم البنون ؛ إذ لو قدرت للاضراب المحض لزم المحال.

ومن الثالث قولهم «إنّها لإبل أم شاء» التقدير : بل أهى شاء.

وزعم أبو عبيدة أنها قد تأتى بمعنى الاستفهام المجرد ، فقال فى قول الأخطل :

٥٦ ـ كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا

إن المعنى هل رأيت.

ونقل ابن الشّجرى عن جميع البصريين أنها أبدا بمعنى بل والهمزة جميعا ، وأن الكوفيين خالفوهم فى ذلك ، والذى يظهر لى قولهم ؛ إذ المعنى فى نحو (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) ليس على الاستفهام ، ولأنه يلزم البصريين دعوى التوكيد فى نحو (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ) ونحو (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) وقوله :

٥٧ ـ أنّى جزوا عامرا سوأ بفعلهم

أم كيف يجزوننى السّوأى من الحسن؟

أم كيف ينفع ما تعطى العلوق به

رئمان أنف إذا ماضنّ باللّبن؟

العلوق ـ بفتح العين المهملة ـ الناقة التى علق قلبها بولدها ، وذلك أنه ينحر ثم يحشى جلده تبنا ويجعل بين يديها لتشمه فتدرّ عليه ؛ فهى نسكن إليه مرة ، وتنفر عنه أخرى.

٤٥

وهذا البيت ينشد لمن يعد بالجميل ولا يفعله ؛ لانطواء قلبه على ضده ، وقد أنشد الكسائىّ فى مجلس الرشيد بحضرة الأصمعى ؛ فرفع «رئمان» فردّه عليه الأصمعى ، وقال : إنه بالنصب ، فقال له الكسائى : اسكت ، ما أنت وهذا؟ يجوز الرفع والنصب والجر ، فسكت. ووجهه أن الرفع على الإبدال من «ما» والنصب بنعطى ، والخفض بدل من الهاء ، وصوّب ابن الشّجرى إنكار الأصمعى ، فقال : لأن رئمانها للبوّ بأنفها هو عطيتها إياه لا عطيّة لها غيره ؛ فإذا رفع لم يبق لها عطية فى البيت ؛ لأن فى رفعه إخلاء تعطى من مفعوله لفظا وتقديرا ، والجر أقرب إلى الصواب قليلا ، وإنما حقّ الإعراب والمعنى النصب ، وعلى الرفع فيحتاج إلى تقدير ضمير راجع إلى المبدل منه ، أى رئمان أنف له.

والضمير فى «بفعلهم» لعامر ؛ لأن المراد به القبيلة ، ومن بمعنى البدل مثلها فى (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) وأنكر ذلك بعضهم ، وزعم أن من متعلقة بكلمة البدل محذوفة.

ونظير هذه الحكاية أن ثعلبا كان يأتى الرّياشىّ ليسمع منه الشعر ، فقال له الرياشى يوما : كيف تروى «بازل» من قوله :

٥٨ ـ ما تنقم الحرب العوان منّى

بازل عامين حديث سنّى

*لمثل هذا ولدتنى أمّى* [ص ٦٨٢]

فقال ثعلب : ألمثلى تقول هذا؟ إنما أسير (١) إليك لهذه المقطّعات والخرافات يروى البيت بالرفع على الاستئناف ، وبالخفض على الإتباع ، وبالنصب على الحال.

ولا تدخل «أم» المنقطعة على مفرد ، ولهذا قدروا المبتدأ فى «إنها لإبل أم شاء» وخرق ابن مالك فى بعض كتبه إجماع النحويين ؛ فقال : لا حاجة إلى تقدير مبتدأ ، وزعم أنها تعطف المفردات كبل ، وقدرها [ها] هنا ببل دون الهمزة ،

__________________

(١) فى نسخة «أصير إليك» بالصاد بدل السين ، ولا بأس بها.

٤٦

واستدل بقول بعضهم «إن هناك لإبلا أم شاء» بالنصب ، فإن صحت روايته فالأولى أن يقدر لشاء ناصب ، أى أم أرى شاء.

تنبيه ـ قد ترد أم محتملة للاتصال والانقطاع : فمن ذلك قوله تعالى (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) قال الزمخشرى : يجوز فى أم أن تكون معادلة بمعنى أى الأمرين كائن ، على سبيل التقرير ؛ لحصول العلم بكون أحدهما ، ويجوز أن تكون منقطعة ، انتهى.

ومن ذلك قول المتنبى :

٥٩ ـ أحاد أم سداس فى أحاد

لييلتنا المنوطة بالتّناد؟ [ص ٦٥٤]

فإن قدّرتها فيه متصلة فالمعنى أنه استطال الليلة فشكّ أواحدة هى أم ست اجتمعت فى واحدة فطلب التعيين ، وهذا من تجاهل العارف كقوله :

٦٠ ـ أيا شجر الخابور مالك مورقا؟

كأنّك لم تجزع على ابن طريف

وعلى هذا فيكون قد حذف الهمزة قبل «أحاد» ويكون تقديم الخبر وهو أحاد على المبتدأ وهو لييلتنا تقديما واجبا ؛ لكونه المقصود بالاستفهام مع سداس ؛ إذ شرط الهمزة المعادلة لأم أن يليها أحد الأمرين المطلوب تعيين أحدهما ، ويلى أم المعادل الآخر ؛ ليفهم السامع من أول الأمر الشىء المطلوب تعيينه ، تقول إذا استفهمت عن تعيين المبتدأ «أزيد قائم أم عمرو» وإن شئت «أزيد أم عمرو قائم» وإذا استفهمت عن تعيين الخبر «أقائم زيد أم قاعد» وإن شئت «أقائم أم قاعد ريد» وإن قدرتها منقطعة فالمعنى أنه أخبر عن ليلته بأنها ليلة واحدة ، ثم نظر إلى طولها فشك فجزم بأنها ست فى ليلة فأضرب! أو شك هل هى ست فى ليلة أم لا فأضرب واستفهم ، وعلى هذا فلا همزة مقدرة ، ويكون تقديم «أحاد» ليس على الوجوب ؛ إذ الكلام خبر ، وأظهر الوجهين الاتصال ؛ لسلامته من الاحتياج إلى تقدير مبتدأ يكون سداس خبرا عنه فى وجه الانقطاع ، كما لزم عند الجمهور فى «إنها لإبل أم شاء» ومن الاعتراض بجملة «أم هى

٤٧

سداس» بين الخبر وهو أحاد والمبتدأ وهو لييلتنا ، ومن الإخبار عن الليلة الواحدة بأنها ليلة ، فإن ذلك معلوم لا فائدة فيه ؛ ولك أن تعارض الأول بأنه يلزم فى الاتصال حذف همزة الاستفهام وهو قليل ، بخلاف حذف المبتدأ.

واعلم أن هذا البيت اشتمل على لحنات : استعمال أحاد وسداس بمعنى واحدة وست ، وإنما هما بمعنى واحدة واحدة وست ست ؛ واستعمال سداس وأكثرهم يأباه ويخص العدد المعدول بما دون الخمسة ، وتصغير ليلة على لييلة ، وإنما صغرتها العرب على لييلية بزيادة الياء على غير قياس ، حتى قيل : إنها مبنية على ليلاة فى نحو قول الشاعر :

٦١ ـ *فى كلّ ما يوم وكلّ ليلاه*

ومما قد يستشكل فيه أنه جمع بين متنافيين استطالة الليلة وتصغيرها ، وبعضهم يثبت مجىء التصغير للتعظيم كقوله :

٦٢ ـ [وكلّ أناس سوف تدخل بينهم]

دويهية تصفرّ منها الأنامل

[ص ١٣٦ ، ١٩٧ ، ٦٢٦]

الثالث : أن تقع زائدة. ذكره أبو زيد ، وقال فى قوله تعالى (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) : إن التقدير أفلا تبصرون أنا خير ، والزيادة ظاهرة فى قول ساعدة ابن جؤيّة.

٦٣ ـ يا ليت شعرى ولا منجى من الهرم

أم هل على العيش بعد الشّيب من ندم

الرابع : أن تكون للتعريف ، نقلت عن طيىء ، وعن حمير ، وأنشدوا :

٦٤ ـ ذاك خليلى وذ يواصلنى

يرمى ورائى بامسهم وامسلمه

وفى الحديث «ليس من امبرّ امصيام فى امسفر» كذا رواه النمر بن تولب

٤٨

رضى الله عنه ، وقيل : إن هذه اللغة مختصة بالأسماء التى لا تدغم لام التعريف فى أولها نحو غلام وكتاب ، بخلاف رجل وناس ولباس ، وحكى لنا بعض طلبة اليمن أنه سمع فى بلادهم من يقول : خذ الرّمح ، واركب امفرس ، ولعل ذلك لغة لبعضهم. لا لجميعهم ، ألا ترى إلى البيت السابق وأنها فى الحديث دخلت على النوعين.

(أل) ـ على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون اسما موصولا بمعنى الذى وفروعه ، وهى الداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين ، قيل : والصفات المشبّهة ، وليس بشيء ؛ لأن الصفة المشبهة للثبوت فلا تؤوّل بالفعل ، ولهذا كانت الداخلة على اسم التفضيل ليست موصولة باتفاق ، وقيل : هى فى الجميع حرف تعريف ، ولو صح ذلك لمنعت من إعمال اسمى الفاعل والمفعول ، كما منع منه التصغير والوصف ، وقيل : موصول حرفى ، وليس بشىء ؛ لأنها لا تؤول بالمصدر ، وربما وصلت بظرف ، أو جملة اسمية (١) أو فعلية فعلها مضارع ، وذلك دليل على أنها ليست حرف تعريف ؛ فالأول كقوله :

٦٥ ـ من لا يزال شاكرا على المعه

فهو حر بعيشة ذات سعه

والثانى كقوله :

٦٦ ـ من القوم الرّسول الله منهم

لهم دانت رقاب بنى معدّ

والثالث كقوله :

٦٧ ـ [يقول الخنى وأبغض العجم ناطقا

إلى ربّنا] صوت الحمار اليجدّع

والجميع خاص بالشعر ، خلافا للأخفش وابن مالك فى الأخير.

والثانى : أن تكون حرف تعريف ، وهى نوعان : عهدية ، وجنسية ، وكل منهما ثلاثة أقسام :

__________________

(١) فى نسخة «أو بجملة اسمية ـ إلخ»

٤٩

فالعهدية إما أن يكون مصحوبها معهودا ذكريا ، نحو (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ونحو (فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) ونحو «اشتريت فرسا ثم بعت الفرس» وعبرة هذه أن يسدّ الضمير مسدّها مع مصحوبها ، أو معهودا ذهنيّا ، نحو (إِذْ هُما فِي الْغارِ) ونحو (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ، أو معهودا حضوريا ، قال ابن عصفور : ولا تقع هذه إلا بعد أسماء الإشارة ، نحو «جاءنى هذا الرجل» أو أىّ فى النداء نحو «يا أيّها الرّجل» أو إذا الفجائية نحو «خرجت فإذا الأسد» أو فى اسم الزمان الحاضر نحو «الآن» انتهى. وفيه نظر ؛ لأنك تقول لشاتم رجل بحضرتك «لا تشتم الرّجل» فهذه للحضور فى غير ما ذكر ، ولأن التى بعد إذا ليست لتعريف شىء حاضر حالة التكلم ؛ فلا تشبه ما الكلام فيه ، ولأن الصحيح فى الداخلة على الآن أنها زائدة ؛ لأنها لازمة ، ولا يعرف أن التى للتعريف وردت لازمة ، بخلاف الزائدة ، والمثال الجيد للمسألة قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

والجنسية إما لاستغراق الأفراد ، وهى التى تخلفها كلّ حقيقة ، نحو (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ونحو (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أو لاستغراق خصائص الأفراد ، وهى التى تخلفها كل مجازا ، نحو «زيد الرّجل علما» أى الكامل فى هذه الصفة ، ومنه (ذلِكَ الْكِتابُ) أو لتعريف الماهية ، وهى التى لا تخلفها كل لا حقيقة ولا مجازا ، نحو (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وقولك «والله لا أتزوج النساء» ، أو «لا ألبس الثياب» ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما ، وبعضهم يقول فى هذه : إنها لتعريف العهد ؛ فإن الأجناس أمور معهودة فى الأذهان متميز بعضها عن بعض ، ويقسم المعهود إلى شخص وجنس.

والفرق بين المعرف بأل هذه وبين اسم الجنس النكرة هو الفرق بين المقيد

٥٠

والمطلق ، وذلك لأن ذا الألف واللام يدلّ على الحقيقة بقيد حضورها فى الذهن واسم الجنس النكرة يدل على مطلق الحقيقة ، لا باعتبار قيد.

تنبيه ـ قال ابن عصفور : أجازوا فى نحو «مررت بهذا الرّجل» كون الرجل نعتا وكونه بيانا ، مع اشتراطهم فى البيان أن يكون أعرف من المبيّن ، وفى النعت أن لا يكون أعرف من المنعوت ، فكيف يكون الشىء أعرف وغير أعرف؟.

وأجاب بأنه إذا قدّر بيانا قدرت أل فيه لتعريف الحضور ؛ فهو يفيد الجنس بذاته ؛ والحضور بدخول أل ، والإشارة إنما تدل على الحضور دون الجنس ، وإذا قدّر نعتا قدرت أل فيه للعهد ، والمعنى مررت بهذا وهو الرجل المعهود بيننا ؛ فلا دلالة فيه على الحضور ، والإشارة تدل عليه ، فكانت أعرف. قال : وهذا معنى كلام سيبويه.

الوجه الثالث : أن تكون زائدة ، وهى نوعان : لازمة وغير لازمة.

فالأولى كالتى فى الأسماء الموصولة ، على القول بأنّ تعريفها بالصلة ، وكالواقعة فى الأعلام ، بشرط مقارنتها لنقلها كالنّضر والنّعمان واللّات والعزّى ، أو لارتجالها كالسّموأل ، أو لغلبتها على بعض من هى له فى الأصل كالبيت للكعبة والمدينة لطيبة والنّجم للثريا ، وهذه فى الأصل لتعريف العهد.

والثانية نوعان : كثيرة واقعة فى الفصيح ، وغيرها.

فالأولى الداخلة على علم منقول من مجرد صالح لها ملموح أصله كحارث وعبّاس وضحّاك ، فتقول فيها : الحرث ، والعبّاس ، والضّحّاك ، ويتوقّف هذا النوع على السماع ، ألا ترى أنه لا يقال مثل ذلك فى نحو محمد ومعروف وأحمد؟.

والثانية نوعان : واقعة فى الشعر ، وواقعة فى شذوذ [من] النثر.

فالأولى كالداخلة على يزيد وعمرو فى قوله :

٥١

٦٨ ـ باعد أمّ العمرو من أسيرها

حرّاس أبواب على قصورها

وفى قوله :

٦٩ ـ رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

فأما الداخلة على وليد فى البيت فللمح الأصل ، وقيل : أل فى اليزيد والعمرو للتعريف ، وإنهما نكّرا ثم أدخلت عليهما أل ، كما ينكر العلم إذا أضيف كقوله :

٧٠ ـ علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم

[بأبيض ماضى الشّفرتين يمان]

واختلف فى الداخلة على «بنات أوبر» فى قوله :

٧١ ـ ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

[ص ٢٢٠]

فقيل : زائدة للضرورة ؛ لأن «ابن أوبر» علم على نوع من الكمأة ، ثم جمع على «بنات أوبر» كما يقال فى جمع ابن عرس «بنات عرس» ولا يقال «بنو عرس» لأنه لما لا يعقل ؛ وردّه السّخاوى بأنها لو كانت زائدة لكان وجودها كالعدم ؛ فكان يخفضه بالفتحة ؛ لأن فيه العلمية والوزن ، وهذا سهو منه ؛ لأن أل تقتضى أن ينجرّ الاسم بالكسرة ولو كانت زائدة [فيه] ؛ لأنه قد أمن فيه التنوين ، وقيل : أل فيه للمح الأصل ؛ لأن «أوبر» صفة كحسن وحسين وأحمر ، وقيل : للتعريف ، وإن «ابن أوبر» نكرة كابن لبون ؛ فأل فيه مثلها فى قوله :

٧٢ ـ وابن اللّبون إذا مالزّ فى قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

قاله المبرد ، ويردّه أنا لم يسمع ابن أوبر إلا ممنوع الصرف.

والثانية كالواقعة فى قولهم : «ادخلوا الأوّل فالأول» و «جاؤوا الجمّاء الغفير» وقراءة بعضهم (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) بفتح الياء ؛ لأن الحال

٥٢

واجبة التنكير ، فإن قدرت الأذلّ مفعولا مطلقا على حذف مضاف ، أى خروج الأذل كما قدره الزمخشرى لم يحتج إلى دعوى زيادة أل.

تنبيه ـ كتب الرشيد ليلة إلى القاضى أبى يوسف يسأله عن قول القائل :

٧٣ ـ فإن ترفقى يا هند فالرّفق أيمن

وإن تخرقى يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطّلاق عزيمة

ثلاث ، ومن يخرق أعقّ وأظلم

فقال : ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث وإذا نصبها؟ قال أبو يوسف : فقلت : هذه مسألة نحوية فقهية ، ولا آمن الخطأ إن قلت فيها برأيى ، فأتيت الكسائى وهو فى فراشه ، فسألته ، فقال : إن رفع ثلاثا طلقت واحدة ، لأنه قال «أنت طلاق» ثم أخبر أن الطلاق التام ثلاث ، وإن نصبها طلقت ثلاثا ، لأن معناه أنت طالق ثلاثا ، وما بينهما جملة معترضة ، فكتبت بذلك إلى الرشيد ، فأرسل إلىّ بجوائز ، فوجهت بها إلى الكسائى ، انتهى ملخصا.

وأقول : إن الصواب أن كلا من الرفع والنصب محتمل لوقوع الثلاث ولوقوع الواحدة ، أما الرفع فلأن أل فى الطلاق إما لمجاز الجنس كما تقول «زيد الرّجل» أى هو الرّجل المعتدّ به ، وإما للعهد الذكرى مثلها فى (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) أى وهذا الطلاق المذكور عزيمة ثلاث ، ولا تكون للجنس الحقيقى ؛ لئلا يلزم الإخبار عن العام بالخاص كما يقال «الحيوان إنسان» وذلك باطل ، إذ ليس كل حيوان إنسانا ، ولا كل طلاق عزيمة ولا ثلاثا ؛ فعلى العهدية يقع الثلاث ، وعلى الجنسية يقع واحدة كما قال الكسائى ، وأما النصب فلأنه محتمل لأن يكون على المفعول المطلق ، وحينئذ يقتضى وقوع الطلاق الثلاث ، إذ المعنى فأنت طالق ثلاثا ، ثم اعترض بينهما بقوله : والطلاق عزيمة ، ولأن يكون حالا

٥٣

من الضمير المستتر فى عزيمة ، وحينئذ لا يلزم وقوع الثلاث ، لأن المعنى : والطلاق عزيمة إذا كان ثلاثا ، فإنما يقع ما نواه ، هذا ما يقتضيه معنى هذا اللفظ مع قطع النظر عن شىء آخر ، وأما الذى أراده هذا الشاعر المعين فهو الثلاث لقوله بعد :

فبينى بها إن كنت غير رفيقة

وما لامرئ بعد الثّلاث مقدّم

مسألة ـ أجاز الكوفيون وبعض البصريين وكثير من المتأخرين نيابة أل عن الضمير المضاف إليه ، وخرّجوا على ذلك (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) و «مررت برجل حسن الوجه» و «ضرب زيد الظّهر والبطن» إذا رفع الوجه والظهر والبطن ، والمانعون يقدرون هى المأوى له ، والوجه منه ، والظهر والبطن منه [فى الأمثلة] وقيد ابن مالك الجواز بغير الصلة. وقال الزمخشرى فى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) : إن الأصل أسماء المسميات ، وقال أبو شامة فى قوله :

٧٤ ـ *بدأت ببسم الله فى النّظم أولا*

إن الأصل فى نظمى ؛ فجوزا نيابتها عن الظاهر وعن ضمير الحاضر ، والمعروف من كلامهم إنما هو التمثيل بضمير الغائب.

مسألة ـ من الغريب أن أل تأتى للاستفهام ، وذلك فى حكاية قطرب «أل فعلت؟» بمعنى هل فعلت ، وهو من إبدال الخفيف ثقيلا كما فى الآل عند سيبويه ، لكن ذلك سهل ؛ لأنه جعل وسيلة إلى الألف التى هى أخف الحروف

(أما) بالفتح والتخفيف ـ على وجهين :

أحدهما : أن تكون حرف استفتاح بمنزلة ألا ، وتكثر قبل القسم كقوله :

٧٥ ـ أما والّذى أبكى وأضحك ، والّذى

أمات وأحيا ، والّذى أمره الأمر [ص ٦٨]

٥٤

وقد تبدل همزتها هاء أو عينا قبل القسم ، وكلاهما مع ثبوت الألف وحذفها ، أو تحذف الألف مع ترك الإبدال ؛ وإذا وقعت أنّ بعد أما هذه كسرت كما تكسر بعد ألا الاستفتاحية.

والثانى : أن تكون بمعنى حقّا أو أحقّا ، على خلاف فى ذلك سيأتى ، وهذه تفتح أنّ بعدها كما تفتح بعد حقا ، وهى حرف عند ابن خروف ، وجعلها مع أنّ ومعموليها كلاما تركّب من حرف واسم كما قاله الفارسى فى «يا زيد» وقال بعضهم : [هى] اسم بمعنى حقّا ، وقال آخرون : هى كلمتان ، الهمزة للاستفهام. و «ما» اسم بمعنى شىء ، وذلك الشىء حق ، فالمعنى أحقا ، وهذا هو الصواب ، وموضع «ما» النصب على الظرفية كما انتصب «حقا» على ذلك فى نحو قوله :

٧٦ ـ أحقّا أن جيرتنا استقلّوا

[فنيّتنا ونيّتهم فريق]

وهو قول سيبويه ، وهو الصحيح ، بدليل قوله :

٧٧ ـ أفى الحقّ أنّى مغرم بك هائم

[وأنّك لا خلّ هواك ولا خمر]

فأدخل عليها فى ، وأنّ وصلتها مبتدأ ، والظرف خبره ، وقال المبرد : حقا مصدر لحقّ محذوفا ، وأن وصلتها فاعل.

وزاد المالقى لأما معنى ثالثا ، وهو أن تكون حرف عرض بمنزلة ألا ، فتختص بالفعل ، نحو «أما تقوم» و «أما تقعد» وقد يدّعى فى ذلك أن الهمزة للاستفهام التقريرىّ مثلها فى ألم وألا ، وأنّ ما نافية ، وقد تحذف هذه الهمزة كقوله :

٧٨ ـ ما ترى الدّهر قد أباد معدّا

وأباد السّراة من عدنان

«أمّا» بالفتح والتشديد ـ وقد تبدل ميمها الأولى ياء ، استثقالا للتضعيف ، كقول عمر بن أبى ربيعة.

٥٥

٧٩ ـ رأت رجلا أيما إذا الشّمس عارضت

فيضحى ، وأيما بالعشىّ فيخصر

وهو حرف شرط وتفصيل وتوكيد.

أما أنها شرط فيدل لها لزوم الفاء (١) بعدها ، نحو (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ) الآية ، ولو كانت الفاء للعطف لم تدخل على الخبر ، إذ لا يعطف الخبر على مبتدئه ، ولو كانت زائدة لصح الاستغناء عنها ، ولما لم يصح ذلك وقد امتنع كونها للعطف تعين أنها فاء الجزاء فإن قلت : قد استغنى عنها فى قوله :

٨٠ ـ فأمّا القتال لا قتال لديكم

[ولكنّ سيرا فى عراض المواكب]

قلت : هو ضرورة ، كقول عبد الرحمن بن حسّان :

٨١ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

[والشّرّ بالشّر عند الله مثلان]

[ص ٩٨ ، ١٣٩ ، ١٦٥ ، ٢٣٦ ، ٤٢٢ ، ٤٢٣ ، ٥١٧ ، ٦٣٦ ، ٦٤٧]

فإن قلت : قد حذفت (٢) فى التنزيل فى قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ).

قلت : الأصل : فيقال لهم أكفرتم ، فحذف القول استغناء عنه بالمقول فتبعته الفاء فى الحذف ، وربّ شىء يصح تبعا ولا يصح استقلالا ، كالحاج عن غيره يصلّى عنه ركعتى الطواف ، ولو صلى أحد عن غيره ابتداء لم يصح على الصحيح ، هذا قول الجمهور.

وزعم بعض المتأخّرين أن فاء جواب «أمّا» لا تحذف فى غير الضرورة أصلا ، وأن الجواب فى الآية (فَذُوقُوا الْعَذابَ) والأصل : فيقال لهم ذوقوا ، فحذف القول وانتقلت الفاء إلى المقول ، وأن ما بينهما اعتراض ، وكذا قال فى آية الجاثية (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) الآية ، قال :

__________________

(١) فى نسخة «فبدليل لزوم الفاء بعدها»

(٢) فى نسخة «فقد حذفت»

٥٦

أصله فيقال لهم ألم تكن آياتى ، ثم حذف القول وتأخرت الفاء عن الهمزة.

وأما التفصيل فهو غالب أحوالها كما تقدم فى آية البقرة ، ومن ذلك (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) (وَأَمَّا الْغُلامُ) (وَأَمَّا الْجِدارُ) الآيات ، وقد يترك تكرارها استغناء بذكر أحد القسمين عن الآخر ، أو بكلام يذكر بعدها فى موضع ذلك القسم ؛ فالأول نحو (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) أى وأما الذين كفروا بالله فلهم كذا وكذا ، والثانى نحو (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أى وأما غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربهم ، ويدل على ذلك (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أى كلّ من المتشابه والمحكم من عند الله ، والإيمان بهما واجب ، وكأنه قيل : وأما الراسخون فى العلم فيقولون ؛ وهذه الآية فى أمّا المفتوحة نظير قولك فى إما المكسورة «إمّا أن تنطق بخير وإلّا فاسكت» وسيأتى ذلك ، كذا ظهر لى ، وعلى هذا فالوقف على (إِلَّا اللهُ) وهذا المعنى هو المشار إليه فى آية البقرة السابقة فتأملها.

وقد تأتى لغير تفصيل أصلا ، نحو «أما زيد فمنطلق».

وأما التوكيد فقلّ من ذكره ، ولم أر من أحكم شرحه غير الزمخشرى ؛ فإنه قال : فائدة أمّا فى الكلام أن تعطيه فضل توكيد ، تقول : زيد ذاهب ، فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت «أمّا زيد فذهب» ولذلك قال سيبويه فى تفسيره : مهما يكن من شىء فزيد ذاهب ، وهذا التفسير مدل بفائدتين. بيان كونه توكيدا ، وأنه فى معنى الشرط ، انتهى.

ويفصل بين «أمّا» وبين الفاء بواحد من أمور ستة ، أحدها : المبتدأ كالآيات

٥٧

السابقة ، والثانى : الخبر ، نحو «أما فى الدار فزيد» وزعم الصفار أن الفصل به قليل ، والثالث : جملة الشرط ، نحو (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ) الآيات ، والرابع : اسم منصوب لفظا أو محلا بالجواب ، نحو (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) الآيات والخامس : اسم كذلك معمول لمحذوف يفسره ما بعد الفاء ، نحو «أما زيدا فاضربه» وقراءة بعضهم (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) بالنصب ، ويجب تقدير العامل بعد الفاء وقبل ما دخلت عليه ؛ لأن أما نائبة عن الفعل ؛ فكأنها فعل ، والفعل لا يلى الفعل وأما نحو «زيد كان يفعل» ففى كان ضمير فاصل فى التقدير ، وأما «ليس خلق الله مثله» ففى ليس أيضا ضمير [لكنه ضمير] الشأن والحديث ، وإذا قيل بأنّ ليس حرف فلا إشكال ، وكذا إذا قيل فعل يشبه الحرف ، ولهذا أهملها بنو تميم ؛ إذ قالوا «ليس الطّيب إلا المسك» بالرفع. والسادس : ظرف معمول لأما لما فيها من معنى الفعل الذى نابت عنه أو للفعل المحذوف ، نحو «أما اليوم فإنى ذاهب ، وأما فى الدار فإنّ زيدا جالس» ولا يكون العامل ما بعد الفاء ؛ لأن خبر إنّ لا يتقدم عليها فكذلك معموله ، هذا قولى سيبويه والمازنى والجمهور ، وخالفهم المبرد وابن درستويه والفراء ، فجعلوا العامل نفس الخبر ، وتوسّع الفراء فجوزه فى بقية أخوات إنّ ؛ فإن قلت «أمّا اليوم فأنا جالس» احتمل كون العامل أمّا وكونه الخبر لعدم المانع ، وإن قلت «أما زيدا فإنى ضارب» لم يجز أن يكون العامل واحدا منهما ، وامتنعت المسألة عند الجمهور ؛ لأن أما لا تنصب المفعول ، ومعمول خبر إنّ لا يتقدم عليها ، وأجاز ذلك المبرد ومن وافقه على تقدير إعمال الخبر.

تنبيهان ـ الأول : أنه سمع «أما العبيد فذو عبيد» بالنصب ، «وأمّا قريشا فأنا أفضلها» وفيه عندى دليل على أمور ؛ أحدها : أنه لا يلزم أن يقدر مهما يكن من شىء ، بل يجوز أن يقدر غيره مما يليق بالمحل ؛ إذ التقدير هنا مهما ذكرت ، وعلى ذلك يتخرج قولهم «أما العلم فعالم» و «أمّا علما فعالم» فهذا أحسن (١) مما قيل إنه مفعول مطلق

__________________

(١) فى نسخة «فهو أحسن ـ إلخ».

٥٨

معمول لما بعد الفاء ، أو مفعول لأجله إن كان معرفا وحال إن كان منكرا ، والثانى أن أمّا ليست العاملة ؛ إذ لا يعمل الحرف فى المفعول به ، والثالث أنه يجوز «أما زيدا فإنى أكرم» على تقدير العمل للمحذوف.

التنبيه الثانى : أنه ليس من أقسام أمّا التى فى قوله تعالى (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ولا التى فى قول الشاعر :

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومى لم تأكلهم الضّبع

[ق ٤٤ ص ٤٣٧ ، ٦٩٤]

بل هى فيهما كلمتان ؛ فالتى فى الآية هى أم المنقطعة وما الاستفهامية ، وأدغمت الميم فى الميم للتماثل ، والتى فى البيت هى أن المصدرية وما المزيدة (١) ، والأصل لأن كنت ، فحذف الجار وكان للاختصار ؛ فانفصل الضمير ؛ لعدم ما يتصل به ، وجىء بما عوضا عن كان ، وأدغمت النون فى الميم للتقارب.

(إمّا) المكسورة المشددة ـ قد تفتح همزتها ، وقد تبدل ميمها الأولى ياء ، وهى مركبة عند سيبويه من إن وما ، وقد تحذف ما كقوله :

٨٢ ـ سقته الرّواعد من صيّف

وإن من خريف فلن يعدما [ص ٦١]

أى إما من صيف وإما من خريف ، وقال المبرد والأصمعى : إن فى هذا البيت شرطية ، والفاء فاء الجواب ، والمعنى : وإن سقته من خريف فلن يعدم الرىّ ، وليس بشىء ؛ لأن المراد وصف هذا الوعل بالرىّ على كل حال ، ومع الشرط لا يلزم ذلك ، وقال أبو عبيدة : إن فى البيت زائدة.

وإمّا عاطفة عند أكثرهم ، أعنى إمّا الثانية فى نحو قولك «جاءنى إما زيد وإمّا عمرو» وزعم يونس والفارسىّ وابن كيسان أنها غير عاطفة كالأولى ، ووافقهم ابن مالك ؛ لملازمتها غالبا الواو العاطفة ، ومن غير الغالب قوله :

٨٣ ـ يا ليتما أمّنا شالت نعامتها

أيما إلى جنّة أيما إلى نار

__________________

(١) فى نسخة «وما الزائدة».

٥٩

وفيه شاهد ثان ، وهو فتح الهمزة ، وثالث وهو الإبدال ، ونقل ابن عصفور الإجماع على أن إمّا الثانية غير عاطفة كالأولى ، قال : وإنما ذكروها فى باب العطف لمصاحبتها لحرفه ، وزعم بعضهم أن إمّا عطفت الاسم على الاسم ، والواو عطفت إمّا على إمّا ، وعطف الحرف على الحرف غريب ، ولا خلاف أن إمّا الأولى غير عاطفة ؛ لاعتراضها بين العامل والمعمول فى نحو «قام إمّا زيد وإمّا عمرو» وبين أحد معمولى العامل ومعموله الآخر فى نحو «رأيت إمّا زيدا وإمّا عمرا» وبين المبدل منه وبدله نحو قوله تعالى (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) فإن ما بعد الأولى بدل مما قبلها.

ولإمّا خمسة معان :

أحدها : الشك ، نحو «جاءنى إمّا زيد وإمّا عمرو» إذا لم تعلم الجائى منهما.

والثانى : الإبهام ، نحو (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).

والثالث : التخيير ، نحو (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) ووهم ابن الشّجرى ؛ فجعل من ذلك (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).

والرابع : الإباحة ، نحو «تعلّم إما فقها وإما نحوا» و «جالس إما الحسن وإما ابن سيرين» ونازع فى ثبوت هذا المعنى لإمّا جماعة مع إثباتهم إياه لأو.

والخامس : التفصيل ، نحو (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) وانتصابهما على هذا على الحال المقدّرة ، وأجاز الكوفيون كون إمّا هذه هى إن الشرطية وما الزائدة ، قال مكى : ولا يجيز البصريون أن يلى الاسم أداة الشرط حتى يكون بعده فعل يفسّره ، نحو (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) وردّ عليه ابن الشجرى بأنّ المضمر هنا كان ؛ فهو بمنزلة قوله :

٦٠